التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

في الآية الأولى سؤال تقريري بقصد لفت النظر إلى أحد النواميس الكونية في سير المراكب فوق البحار ، وما في ذلك من نفع للناس ، وفرص لمشاهدتهم آثار الله وآياته في كونه. فإن ذلك هو من نعم الله ، وفيه دلائل راهنة على عظمته وقدرته ، يدركها الصابرون الثابتون عند حدود الله ، الشاكرون لنعمه وأفضاله.

وفي الآية الثانية حكاية تنطوي على التعجب والتقريع لحال بعض الناس الذين يركبون البحر ، فإذا تعاظمت أمواجه حتى أصبحت كالظلل من فوقهم ، وأحدق بهم الخطر ذكروا الله وحده ودعوه وحده مخلصين له الدين. فإذا ما نجاهم إلى البرّ فمنهم من يكفّ عن غلوائه ويبقى على إخلاصه الذي عاهد الله عليه ، ومنهم من ينكث ويغدر ، وهذا دأب الختار الجحود.

والمتبادر أن الآيتين متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع وأسلوب. ولقد روي (١) أنهما نزلتا في عكرمة بن أبي جهل الذي فرّ من مكة حينما فتحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وركب البحر فأحدق به الخطر فعاهد الله لئن نجاه ليؤمنن فنجاه فآمن. ويلحظ أن الآيتين مكيتان ولم نقع على رواية لمدنيتهما أولا. وأنهما منسجمتان مع السياق أسلوبا وموضوعا ثانيا. وأن مثل هذا قد تكرر في آيات مكية كما جاء في آيات سورة يونس [٢٢ ـ ٢٣] التي سبق تفسيرها ثالثا. ومع ذلك فقد يلمح فيهما صورة جديدة في حادث واقعي. ولا يبعد أن يكون بعض المكيين قاموا برحلة بحرية فأحاق بهم الخطر فدعوا الله وحده وعاهدوه على البقاء على ذلك أو الإيمان برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما نجوا وعادوا إلى مكة وفّى بعضهم بعهده ، فكفّ عن موقفه الجحودي واعتدل أو آمن ، في حين نكث الآخرون عهدهم وغدروا وعادوا إلى مواقف الجحود والعناد. وهذا لا يعني فيما نرى أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن السياق ، فنحن نرجح أنهما جزء منه. وأن الإشارة إلى الحادث جاءت للاستطراد والإفحام.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي.

٢٦١

جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)) [٣٣ ـ ٣٤]

(١) لا يجزي : بمعنى لا ينوب ولا يسد.

في الآية الأولى هتاف بالناس ودعوة لهم إلى تقوى الله والخوف من يوم القيامة ، حيث لا يسد فيه والد مسد ولد ، ولا ولد مسد والد ، وحيث يكون كل امرئ مسؤولا عن عمله ومشغولا بنفسه عن غيره ، وإن كان أقرب الناس إليه وألصقهم به ، وتوكيد لهم بأن وعد الله هذا حق ، وتحذير لهم من الاغترار بالحياة الدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان وإغراءاته.

وفي الثانية تقرير بأن علم موعد يوم القيامة هو عند الله الذي ينزل الغيث ، ويعلم ما تحمل الأرحام ، وبأنه ليس من أحد يستطيع أن يعرف ماذا يفعل غدا وماذا يكسب ، وفي أي أرض يموت ، فالله وحده هو العليم بكل شيء ، الخبير بحقائق الأمور وسيرها ونتائجها.

ولقد روى الطبري (١) أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة سؤال رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : «إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد ، وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت. فأنزل الله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى آخر الآية». وروى البغوي أنها نزلت في الحارث بن عمرو من أهل البادية الذي جاء إلى النبي فسأله هذه الأسئلة. وروح الآيتين تلهم وجود ترابط قوي بينهما أولا وبينهما وبين الآيات السابقة لهما ثانيا. وتلهم كون الآية الثانية جاءت لتدعيم ما احتوته الآية الأولى من إنذار وتحذير ، هذا فضلا عن تساوق الفاصلة في الآيتين وتساوقها كذلك في الآيات السابقة. وكل هذا يجعلنا نرى أن

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.

٢٦٢

الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وسبكا وموضوعا ، وأنهما جاءتا خاتمة للسورة وما احتوته من فصول المناظرة أو مشاهدها معا. وقد تضمنتا هتافا قويا للناس محذرا منذرا داعيا إلى الله وتقواه.

وما قلناه لا يمنع أن يكون بعض الناس قد وجهوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض الأسئلة وأن الآية الأخيرة قد احتوت إجابات عليها.

تعليق على آية

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)

إلخ وحديث مفاتيح الغيب

ولقد أورد المفسرون (١) في مناسبة الآية الأخيرة حديثا نبويا عن ابن عمر جاء فيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مفاتيح الغيب خمس ثم تلا الآية. وأوردوا (٢) كذلك حديثا آخر عن ابن عمر أيضا جاء فيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله ، فلا يعلم ما في غد إلّا الله ، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلّا الله ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلّا الله ، ولا يعلم ما في الأرحام إلّا الله ، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت.

والحديث الأول مما أخرجه البخاري (٣) ، ونحن في حيرة من ذلك. لأن بدء كل من الحديثين يفيد الحصر ويعني أن الأمور الخمسة هن مفاتح الغيب مع أنهن لسن كل ما يغيب عن الناس علمه ، ثم إن جملة (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في الآية لا تعني أنه لا يعلم وقت نزول الغيث إلّا الله ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. وفي هذه الكتب صيغ لأحاديث أخرى من هذا الباب أيضا لم ترد في كتب الصحاح.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ٤ ص ١٨١.

٢٦٣

سورة سبأ

في السورة حكاية لأقوال وعقائد الكفار ، وفصول مناظرة بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإشارة إلى جهود الزعماء في التعطيل والصدّ واعتدادهم بالأولاد والأموال. وتنويه بالمؤمنين المخلصين. وإشارة إلى داوود وسليمان وما كان من إسباغ الله عليهما نعمه وشكرهما إيّاه. وإلى سبأ وما كان من رغدها وعدم شكرها ونقمة الله عليها ، وفيها صور لما كان عليه الموقف في مكة بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وزعماء الكفار وسوادهم ومعتدليهم ومتطرفيهم.

وفصول السورة مترابطة مما يسوّغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية [٦] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآية الوثيق في السياق.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)) [١ ـ ٢]

(١) يلج : يدخل.

(٢) يعرج : يصعد.

الآيتان مطلع بارز للسورة ، ومقدمة لما بعدهما. وقد احتوتا تقرير الحمد لله في كل وقت والتنويه بحكمته ورحمته وإحاطته ومطلق تصرفه في السموات

٢٦٤

والأرض وما فيهما وشامل علمه بما يقع فيهما مما هو من موجبات استحقاقه للعبادة والحمد والثناء.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)) [٣ ـ ٥]

(١) لا يعزب : لا يبتعد ولا يختفي.

(٢) كتاب مبين : كناية عن علم الله وشموله.

(٣) رجز : صفة لشدة العذاب وسوئه.

في الآيات حكاية لإنكار الكفار لمجيء الساعة ، أي البعث والحياة الأخروية. وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوكيد بمجيئها مقسما على ذلك بالله الذي يعلم الغيب والذي لا يخفي عليه ولا يخرج عن شمول علمه وتصرفه مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أكبر ولا أصغر من ذلك. وقد اقتضت حكمته وعدله أن تأتي الساعة ويبعث الناس للحساب ليجزي المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة بما يستحقون من المغفرة والرزق الكريم. والكافرين الذين يسعون في تعطيل دعوة الله وإطفاء نورها بما يستحقون من العذاب الشديد الموجع.

ومن المحتمل أن تكون الآيات ترديدا لقول قاله الكفار في موقف وجاهي ، وهي على كل حال تحتوي مشهدا من مشاهد الجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار ومواقفهم منه. وتلهم أن مطلع السورة جاء كما قلنا مقدمة لحكاية هذا المشهد أو الموقف وما بعده من مشاهد ومواقف. وقد تكررت حكاية مثل هذا المشهد وحكاية إنكار الكفار للبعث وتوكيد القرآن له كثيرا حيث يدل كما قلنا قبل على أن

٢٦٥

هذا الأمر من أهم ما كان يثور الجدل والحجاج حوله بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين مختلف فئات الكفار.

والتوكيد بالقسم نافذ والحجة على قدرة الله على تحقيق الوعد قوية. فعلم الله وقدرته وتصرفه المطلق في الكون ، كل هذا مما يعترف به الكفار ، وكل هذا مما يجعل تحقيق الوعد في نطاق قدرة الله تعالى. وحكمة ذلك ظاهرة لأنه مقتضى صفة العدل في الله عزوجل حتى ينال كل من المحسنين والمسيئين جزاء أعمالهم.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)) [٦]

(١) يرى : هنا بمعنى يعلم أو يدرك.

الآية معطوفة على سابقاتها ، وقد احتوت تقرير كون ما احتوته الآيات القرآنية من توكيد البعث الأخروي وقدرة الله تعالى عليه وحكمته فيه ، شأنه أن يجعل الذين أوتوا العلم يتأكدون من أن ما أنزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربّه هو الحق الهادي إلى صراط الله العزيز المستحق للحمد وحده.

تعليق على جملة

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)

وعلى رواية مدينة الآية [٦]

التي جاءت فيها

وقد تعددت أقوال المفسرين للمقصود في جملة (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) حيث قال بعضهم : إنها عنت أهل الكتاب أو بعض مسلمي اليهود منهم ، وبعضهم إنها عنت أولي العلم من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعضهم إنها عنت أولي العلم والفهم

٢٦٦

إطلاقا (١). ونحن نرجح القول الأخير حيث يكون معنى الآية : «إن كل ذي علم وفهم وإذعان يدرك صدق ما أكدته الآيات القرآنية من حكمة البعث وقدرة الله عليه ويتأكد من أن القرآن لا بدّ من أن يكون حقا منزلا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله عزوجل ليهدي الناس إلى صراط الله القويم. ومع هذا فالأقوال الثانية لا تخلو من وجاهة ، وقد ورد في بعض آيات السور المفسرة السابقة حكاية اعتراف أهل العلم والكتاب بصحة نزول القرآن من الله هاديا للناس مثل آيات سورة الأنعام [١١٤] وآيات سورة الإسراء [١٠٧ ـ ١٠٩] والقصص [٥٢ ـ ٥٥].

وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية مدنية ، وروى بعض المفسرين (٢) أنها نزلت في عبد الله بن سلام أو غيره من مسلمة يهود المدينة الذين شهدوا بصدق القرآن ونبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والروايات غير موثقة ، والآية إلى ذلك منسجمة أشد الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وفي حالة انفرادها في النزول لا تؤدي المعنى الذي شرحناه شرحا نرجو أن يكون الصواب والحق. وحتى على فرض أن يكون المقصود من جملة (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أهل الكتاب ، فإن هذا لا يقتضي أن يكون المقصودون هم مسلمة يهود المدينة. فقد كان في مكة يهود ونصارى ، وقد أسلموا وشهدوا بصحة الرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله على ما ذكرته آيات مكية عديدة مرّ بعضها في السور المفسرة السابقة المذكورة آنفا.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والكشاف والطبرسي.

(٢) انظر تفسير الطبري.

٢٦٧

نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)) [٧ ـ ٩]

(١) مزقتم كل ممزق : كناية عما يصير إليه الناس بعد الموت من البلى والتفتت والانتثار.

(٢) جنة : الجن والجنون وهنا بمعنى الجنون.

في الآيات حكاية لأقوال أخرى للكفار حول البعث حيث كانوا حينما يكرر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار الآخرة وأهوالها وينذر بها ويؤكد حقيقية البعث يستنفرون الناس استنفار تشويش واستنكار وهزء قائلين لهم تعالوا ندلكم على الرجل الذي ينبىء الناس أنهم سيخلقون خلقا جديدا بعد أن يموتوا وتبلى أجسادهم وعظامهم وتتفتت وتنتثر في الأرض. وكانوا يتساءلون على سبيل التهويش والاستنكار عما إذا لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يقوله يفتري على الله الكذب أو أنه اعتراه الجنون. ورد عليهم بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين في حقيقة الأمر في ضلال وأن لهم من أجل ضلالهم هذا العذاب الشديد. ثم انتقل الكلام في الآيات إلى البرهنة على قدرة الله وعظمته ، فكيف يشكون في ذلك وهم يرون مشاهد عظمة الله تعالى وقدرته ماثلة في السماء والأرض وبين أيديهم وخلفهم. ثم أنذرتهم الآية الأخيرة إنذارا رهيبا فلو شاء الله لعجل عليهم بلاءه القاصم فخسف بهم الأرض أو أسقط عليهم كسفا من السماء ، وأهابت بأصحاب النوايا الحسنة ففي الكون من الآيات الدالة على قدرة الله براهين يدركها كل من حسنت نيته فأناب إلى الله واعترف بالعبودية له.

وصلة الآيات بسابقاتها واضحة من حيث إنها استمرار في حكاية إنكار المشركين للبعث أو استمرار في حكاية المشهد الجدلي والحجاجي حوله بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم.

وأسلوب الآيات إجمالا يدل بصراحة أكثر من المناسبات السابقة على أن تساؤلهم هو تساؤل المستغرب المندهش وأن نسبتهم الجنون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت

٢٦٨

تعبيرا عما يخالجهم في أنه يقول ما لا يصدق وما لا يعقل. كما أن أسلوبها ومضمونها يدلان أكثر من المناسبات السابقة على أن البعث الأخروي كان من الأسباب الرئيسية لكفر الكفار ووقوفهم من الدعوة موقف الإنكار والعناد.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)) [١٠ ـ ١٤]

(١) أوّبي : رجّعي. والقصد رجّعي التسبيح مع داود.

(٢) سابغات : دروع وافية كاملة لجميع الجسم.

(٣) قدر في السرد : التقدير بمعنى الحساب وحسن التدبير. والسرد صفة لنسج الحديد وقيل صفة للمسمار ، والمقصود من الجملة أمر بإتقان عمل الدرع ونسجه. والدرع زرد وحلقات ، ومن هنا يكون معنى النسج.

(٤) غدوّها شهر ورواحها شهر : الغدوّ من الصباح إلى منتصف النهار والرواح من بعد منتصف النهار إلى المساء. والغدوّ هو الذهاب في الصباح ، والرواح هو العودة في المساء أيضا. ومعنى الجملة أن ما كان يسار في وقت الغدوّ على الريح من المسافة ذهابا يعدل مسيرة شهر وما كان يسار في وقت الرواح يعدل مسيرة شهر آخر.

(٥) عين القطر : قال المفسرون : إنها نبع نحاس ذائب أجراه الله لسليمان.

٢٦٩

والذي نرجحه أنها تعني نبعا من النفط أو عينا من النفط. حيث يكون أسود كثيفا ، وأن هذا كان يسمى القطر ، ومنه القطران أو الزفت. وقد ذكر القطر في آية في سورة الكهف بما يلهم أنه الزفت الذي يزفت به البناء وهي : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦)) وقد ذكر القطران في آية في سورة إبراهيم وهي : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)) وكان العرب يعرفون القطر والقطران ويستعملونها بدليل وجود اللفظين في لغتهم من قبل البعثة.

(٦) يزغ : يحيد ويتهرب.

(٧) محاريب : قيل إنها جمع محراب مكان العبادة ، وقيل إنها القصور والمساكن عامة.

(٨) تماثيل : الهياكل المخلقة.

(٩) جفان : جمع جفنة وهي طبق الطعام الكبير.

(١٠) الجواب : جمع جابية وهي الحوض. وشبهت الجفان بالجواب للدلالة على عظمها.

(١١) قدور : جمع قدر. وهي آنية الطبخ.

(١٢) راسيات : ثابتات.

(١٣) دابة الأرض : اسم الدودة المعروفة بالسوس والتي تنخر الخشب وهي الأرضة.

(١٤) منسأته : عصاه.

(١٥) خرّ : وقع.

احتوت الآيات إشارة إلى ما كان من أفضال الله على داود وسليمان عليهما‌السلام حيث آتى الأول فضلا فأمر الجبال والطير بترجيع تسابيحه وترانيمه. وألان في يده الحديد وألهمه عمل الدروع السابغة أو أمره بإتقان صنعها ، وبفعل الأعمال الصالحة ، ونبهه إلى أنه بصير بما يعمله رقيب عليه فيه ؛ وحيث سخر للثاني الريح فكانت تقطع مسيرة شهر في الغدو ومسيرة شهر في الرواح. وأسال له عين القطر

٢٧٠

لينتفع بها شتى الانتفاعات. وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان واسعة كأنها الأحواض وقدور عظيمة ثابتة. وأمرهم بالائتمار بأمره وأنذر من يحاول التملص والتفلت بالعذاب الشديد. وقد أمر الله آل داود أي داود وسليمان شكر نعمة الله وفضله عليهم ، والشاكرون من عباده قليلون. ولما قضى الله الموت على سليمان لم يعرف الجن ذلك إلا بعد أن خرّ على الأرض بسبب انقصاف عصاه التي كان يتكىء عليها من نخر السوس. وجاء ذلك برهانا على أن الجن لم يكونوا يعلمون الغيب ، إذ لو كانوا يعلمونه لعلموا بموت سليمان حينما مات ، ولما ظلوا يقاسون العذاب المهين فيما كانوا يقومون به من الخدمات الشاقة مدة طويلة بعد موته.

تعليق على قصة داود وسليمان في السورة

والمتبادر الذي تلهمه روح الآيات أنها بسبيل التذكير بما كان من إخلاص داود وسليمان واعترافهما بفضل الله وشكرهما له مع ما كان لهما من سعة ملك وسلطان ، وضرب المثل بهما للكفار الذين يقفون من آيات الله ونعمه موقف العناد والمكابرة والجحود والتكذيب. وعلى ذلك تكون الآيات استطرادية متصلة من ناحية التمثيل والتذكير بالآيات السابقة لها التي احتوت ذكر مواقف الكفار وجحودهم شأن القصص القرآنية عامة.

ولعله أريد بالآيات تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا كان الكفار يقفون من دعوته إلى الله ذلك الموقف فإن من عباده من يشكره على نعمه ويقف منه موقف العابد الأواب المسبح دائما بحمده وهم من أعظم الناس شأنا وسلطانا كداود وسليمان عليهما‌السلام.

ولقد جاء في سورتي «ص» و «النمل» اللتين سبق تفسيرهما فصلان طويلان عن داود وسليمان في أعقاب ذكر ما كان من مواقف تكذيب الكفار ومكابرتهم وعنادهم. ولمحنا فيهما هذا القصد حيث تكون حكمة التنزيل اقتضت أن ينزل مثل ذلك مرة أخرى في مناسبة مماثلة متجددة.

٢٧١

ولقد علقنا بما فيه الكفاية على قصص داود وسليمان في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا نرى ضرورة لإعادة ما قلناه ، غير أننا ننبه إلى أن في الآيات هنا أشياء لم ترد في السورتين مثل : إلانة الحديد لداود وصنعه الدروع ، وإسالة عين القطر لسليمان ، ومثل تعيين المسافة التي كان يقطعها الريح المسخر لسليمان في الغدوّ والروح ، وتفصيل ما كان يصنعه الجن لسليمان من منشآت عظيمة.

وهذه الزيادات أيضا لم ترد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي تقص سيرة داود وسليمان عليهما‌السلام ، غير أن هذا لا يعني أنها لم ترد في أسفار أخرى كانت متداولة وفقدت بل نحن نعتقد ذلك كما هو الأمر فيما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم على ما ذكرناه في المناسبات السابقة.

ولقد أورد المفسرون (١) في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة في صدد هذه الزيادات منسوبة إلى علماء السير والأخبار. ولسنا نرى طائلا في إيرادها هنا لأن ذلك لا يتصل بأهداف القصص القرآنية فضلا عما فيها من تزيد ومفارقات ، مع التنبيه إلى أن ذلك مما يدل على أن هذه الزيادات ليست غريبة عن سامعي القرآن ، ومما كان متداولا بينهم ، ومصدره على الأرجح بنو إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانيهم.

ولقد كان من جملة ما أوردوه حديث أورده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان سليمان نبيّ الله إذا صلّى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول كذا فيقول لأيّ شيء أنت فإن كانت تغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها : ما اسمك؟ قالت : الخروب. قال : لأيّ شيء أنت؟ قالت : لخراب هذا البيت. فقال سليمان :

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي مثلا ، وانظر أيضا تاريخ الطبري ج ١ ص ٣٣٦ ـ ٣٥٠.

٢٧٢

اللهمّ عمّ على الجنّ موتي حتّى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكّأ عليها حولا ميتا والجنّ تعمل فأكلتها الأرضة فسقط فتبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين». وقد أورد الطبري أحاديث من باب هذا الحديث معزوة إلى ابن مسعود وأناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون عزو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذه الأحاديث غير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة ، فإذا كانت صحيحة فيكون فيها توضيح لأمور مغيبة وردت الإشارة إليها في الآيات فيوقف عندها. والله أعلم.

ولقد سبقت تقريرات قرآنية متنوعة عن الجنّ وعلقنا عليها بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة لزيادة شيء هنا إلّا تقرير واجب الإيمان بما يخبر به القرآن عنهم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته المغيبة عنا. وقد يكون في ذكر حالتهم بالأسلوب الذي ورد في الآيات وتقرير جهلهم ما غاب عنهم وتسخيرهم هذه السخرة وتكليفهم هذه الخدمات وإجبارهم عليها مع ما فيها لهم من عذاب مهين هدفا استهدفته الآيات للتنبيه إلى هوان شأن هذه المخلوقات التي كان لها صورة فخمة مفزعة في أذهان العرب حتى وصل أمرهم منها إلى عبادتها والاستعاذة بها والتقرب إليها مما مرّت أمثلة لها في السور المفسرة السابقة ، وتقرير كونها ليست إلّا من عباد الله يسخرها لعباده المخلصين ، وليس من شأنها أن تعلم الغيب أو تجرا على ملكوت الله ، أو تطلع على أسراره أو تستحق عبادة وتزلفا والله أعلم.

هذا ، ومما يجدر التنبيه إليه التناظر بين أوائل سورة لقمان السابقة وبين أوائل هذه السورة ، وما يلهمه من وحدة الأهداف من جهة ، ومن صحة ترتيب السورتين في النزول واحدة بعد أخرى من جهة ثانية.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ

٢٧٣

بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)) [١٥ ـ ١٩]

(١) العرم : قيل إنه اسم واد كانت تتجمع فيه المياه ، وقيل إنه المطر الشديد. وقيل إنه اسم سدّ كان يحبس فيه الماء.

(٢) الخمط والأثل والسدر : أشجار طبيعية تنبت في الصحارى ذات شوك. وثمرها غير صالح تعافه النفس.

(٣) القرى التي باركنا فيها : قيل إنها بلاد الشام التي كان موسعا عليها برزقها ومناخها ، وقيل إنها بلاد المقدس التي باركها الله كما جاء في سورة الإسراء ، والعجيب ألّا يذكر القائلون بلاد الحجاز التي كانت هي الأخرى مباركة. فهي أقرب إلى بلاد سبأ أي اليمن من بلاد الشام ، وبينها وبين سبأ قرى ومدن عديدة. ونحن نرجح أنها هي المقصودة.

(٤) ظلموا أنفسهم : جنوا عليها بانحرافهم وكفرهم.

في الآيات إشارة إلى سبأ وما كان من أمر أهلها.

فقد يسّر الله لهم رغد العيش في مسكنهم ، وكانت لهم جنات عن اليمين وعن الشمال ليأكلوا من رزق ربهم ويشكروا له نعمه ، فبلدتهم طيبة الرزق وربهم غفور. ولكنهم أهملوا واجب الشكر وكفروا بنعمة الله فعاقبهم الله على جري عادته فأرسل عليهم سيل العرم فاجتاح جناتهم وخربها وبدلها بجنات من أشجار كريهة المنظر كثيرة الشوك مرة الطعم من الخمط والأثل والسدر. ولقد كان من نعمة الله عليهم أن جعل العمران متصلا بين بلادهم والبلاد التي بارك فيها بقرى ظاهرة متتابعة بحيث يستطيعون أن يسيروا ليالي وأياما آمنين شر أخطار الأسفار ومشاقها ،

٢٧٤

فلم يقدروا هذه النعمة أيضا حق قدرها وتحدوا الله بأقوامهم أو أفعالهم أن يباعد بين أسفارهم فظلموا بذلك أنفسهم وآذوها إذ سببوا انصباب نقمة الله وغضبه عليهم ، فمزقهم في الأرض كل ممزق وجعلهم أحاديث الناس وموضوع نقدهم وتثريبهم ومضرب مثلهم.

وقد انتهت الآيات بتقرير رباني بأن في كل ذلك آيات وعبرا لا يدرك مغزاها ولا ينتفع بها إلّا كل صبار ثابت على الإخلاص لله ، شاكر لنعمه وأفضاله قولا وعملا.

تعليق على قصة سبأ وسيل العرم

والآيات كما هو المتبادر تحتوي مثلا ثانيا مضروبا لمشركي العرب وجاحدي النبوة المحمدية تعقيبا على المثل الأول ، فداود وسليمان شكرا الله وعملا الصالحات على ما كان لهما من ملك وعظمة شأن ، فأسبغ الله عليهما نعمه وأفضاله وسخر لهما قوى الكون المتنوعة.

وأهل سبأ انحرفوا عن جادة الحق وكفروا بنعمة الله فعاقبهم ومزقهم وجعلهم أحاديث للناس.

ومن هنا يظل الاتصال قائما مستمرا بين هذه الآيات والآيات السابقة. وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن ما كان من أمر سبأ وما صاروا إليه ليس غريبا على السامعين ، وهذا ما يجعل العبرة والمثل قويين وملزمين هنا أيضا.

وسيل العرم من الحوادث التي أطنبت فيها الكتب العربية القديمة بناء على الروايات المتداولة من عهد الجاهلية (١). وقد ذكرت فيما ذكرته أن السيل اقتلع السدّ وطغى على القرى والجنات فخربها فأدى ذلك إلى هجرة كثير من قبائل اليمن إلى شمال جزيرة العرب وسواحلها الشرقية وبلاد الشام والعراق ، منهم الأوس والخزرج الذين نزلوا في يثرب «المدينة المنورة» ، ومنهم الغساسنة الذين أنشئوا

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي والزمخشري ، انظر أيضا بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي ج ٣ ص ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

٢٧٥

دولة في بلاد الشام ، ومنهم اللخميون الذين أنشئوا دولة في بلاد العراق ، ومنهم بنو عبد القيس الذين أنشئوا دولة في عمان. وقد قدر المؤرخون أنه حدث قبل البعثة النبوية بنحو أربعمائة عام.

ولقد سبق تعريف لسبأ في سياق آيات في سورة النمل ذكر فيها هذا الاسم ، وإذا كان من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو أن النقوش اليمنية ذكرت خبر وقوع خراب وعطب على سد مأرب العظيم مرة بعد مرة خلال القرون الخمسة التي سبقت البعثة النبوية. إن اسم سبأ ظل على ما تلهم الآيات إلى حادث سيل العرم يطلق على البلاد التي كان يطلق عليها من القديم وإن هذه البلاد ظلت مزدهرة عامرة إلى ذلك الوقت يتصل عمرانها بالبلاد المباركة التي رجحنا أنها الحجاز أكثر من بلاد الشام إلى أن أحدث السيل فيها ما أحدثه من تخريب وتدمير.

ولقد أورد المفسرون (١) بيانات كثيرة في سياق الآيات عن بلاد سبأ وسدها وجناتها وقراها وعمرانها وسيل عرمها وما أحدثه من خراب وما أدى إلى ذلك من هجرة أهلها وتفرقهم في أنحاء الأرض وما نبت في أرض جناتها من أشجار الأثل والخمط والسدر معزوة إلى علماء التابعين فيها الغث والسمين لم نر ضرورة إلى إيرادها ، وفيها دلالة على أن أخبار سبأ وسيل العرم مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره في نطاق ما ورد في الآيات ، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بذلك على سبيل العبرة والتمثيل.

هذا ، ولقد أورد ابن كثير في مناسبة جملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم / ٥] في الآية الأخيرة من الآيات حديثين أحدهما رواه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن ، إن أصابه خير حمد ربّه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربّه وصبر ، يؤجر المؤمن في كلّ شيء حتّى في اللّقمة يرفعها إلى في امرأته». وثانيهما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عجبا

__________________

(١) انظر الهامش السابق.

٢٧٦

للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلّا كان خيرا له. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء صبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن». حيث ينطوي في هذا توضيح نبوي للجملة القرآنية وحثّ للمسلمين على أن يكونوا من الصابرين على الضرّاء الشكورين للسرّاء.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)) [٢٠ ـ ٢١]

(١) حفيظ : هنا بمعنى رقيب.

جاءت الآيتان معقبتين على الآيات السابقة حيث قررتا أن إبليس قد توسم فيهم قابلية الانحراف فوسوس لهم فتحقق ظنه وتوسمه فيهم فاتبعوه باستثناء فريق منهم كانوا مؤمنين فلم يؤثر عليهم. وأن إبليس لم يكن في الحقيقة له عليهم أي سلطان نافذ ، وإنما كان امتحانا ربانيا ليظهر من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. وأن الله رقيب على كل شيء من أعمال الناس.

وقد قال بعض المفسرين (١) : إن الضمير في «عليهم» عائد إلى أهل سبأ. ومنهم من قال إنه عائد إلى الناس إطلاقا ، ونحن نرجح أنه عائد إلى كفار مكة بقرينة الآيات التي جاءت بعدها وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بتوجيه الخطاب إلى كفار مكة ومشركيهم متحديا منددا ، وعلى هذا فإن الآيتين تكونان بمثابة انتقال من حكاية الماضي وعظته إلى حكاية موقف الكفار وواقع أمرهم وتعليل لذلك بعد ما جاءهم من الموعظة ما جاءهم.

والتعليل والاستدراك في شأن إبليس وتسلطه على الناس وعدم استطاعته

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير وغيرهما.

٢٧٧

التأثير إلّا على الذين فيهم قابلية الغواية قويان محكمان. فالناس بإبليس ووسوسته أمام امتحان يميز طيبهم من خبيثهم وصالحهم من فاسدهم. وفي كل مرة ذكرت فيها قصة إبليس أو وسوسته أو وسوسة الشيطان ورد هذا التعليل والاستدراك مما يمكن أن يسوغ القول إنه أريد بذلك توكيد مبدأ قرآني عام بأن الفاسدين في قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم هم الذين يتأثرون بالوساوس ولا يؤمنون بالآخرة ولا يستجيبون إلى دعوة رسل الله.

وقد توهم الآية الثانية بأن الله لم يكن يعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك قبل امتحان الناس بإبليس ، ولما كان علم الله شاملا لكل ما كان ويكون فالوجه في العبارة أن تؤول بأن المراد منها هو إظهار نتائج الوسوسة عيانا حتى تسقط حجة المحتج. وقد تكرر هذا في القرآن كثيرا. وهو من التعابير الأسلوبية المعتادة بين الناس في التخاطب أيضا ، والفقرة الأخيرة من الآية نفسها من شأنها أن تزيل الوهم أيضا وتؤيد هذا التأويل.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)) [٢٢ ـ ٢٨]

(١) شرك : بمعنى شركة وشراكة.

(٢) ظهير : معين ومظاهر.

٢٧٨

(٣) حتى إذا فزع عن قلوبهم : التفزيع هو إزالة الفزع وكشفه. ومعنى الجملة : حتى إذا زال أثر الدهشة والفزع عن قلوبهم.

(٤) أجرمنا : من الإجرام وهو اقتراف الذنب.

(٥) يفتح : بمعنى يحكم ويقضي.

(٦) كافة للناس : أوّلها بعض المفسرين بمعنى مانع وكاف أي يمنع الناس ويكفّهم عن الكفر ، وأوّلها بعضهم بمعنى جميع الناس. وكلا القولين وجيه ومؤيد بنصوص أخرى حيث يؤيد الأول جملة : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء / ١٠٧] ، ويؤيد الثاني جملة : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف / ١٥٨] وإن كان أسلوب الآية يجعل الرجحان للقول الأول.

في الآيات :

١ ـ أمر للنبي عليه‌السلام بتحدي الكفار بدعوة من يزعمون أنهم شركاء الله.

٢ ـ وتقرير بكون أولئك الشركاء لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض وليس لهم فيهما شركة ما ، وليس لله منهم معين ومظاهر.

٣ ـ وتقرير بأن الشفاعة عند الله لن تنفع أحدا إلا بإذن الله ورضائه.

٤ ـ وتقرير ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يبعثون وتزول آثار الدهشة والفزع عنهم ويسألون عما وعدهم الله حيث يعترفون بأن ما وعد الله هو الحق وأن الله هو العلي الكبير الذي لا يدانيه أحد في علوّه وعظمته.

٥ ـ وأمر آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحديهم بتعيين الشركاء الذين أشركوهم مع الله وألحقوهم به وجعلوا لهم صلة به أو جعلوهم جزءا منه. وبنفي ذلك عن الله عزوجل لأنه العزيز القوي الذي لا يحتاج إلى شريك ، الحكيم الذي تكون كل أعماله وفقا لمقتضيات الحكمة.

٢٧٩

٦ ـ وأمر آخر بسؤالهم عن الرازق الحقيقي لهم من السماء والأرض وبالإجابة على ذلك بأنه هو الله وحده.

٧ ـ وأمر آخر بتوجيه الكلام إليهم على سبيل المساجلة والجدل بأنه لا بد من أن يكون أحد الفريقين (النبي والمؤمنون من ناحية ، وهم أي الكفار من ناحية) ضالا وأحدهما على هدى وبأن كل فريق هو المسئول وحده عن عمله وما قد يقترفه ، وبأن الله سيجمع بينهما معا ثم يقضي بينهما بالحق وهو الحاكم العادل العليم بأعمال الناس ونواياهم وأحوالهم.

٨ ـ وانتهت الآيات بآية وجّه الخطاب فيها للنبي عليه‌السلام بأن الله إنما أرسله كافة للناس بشيرا ونذيرا ولو لم يدرك هذا أكثرهم.

والآيات بمجموعها احتوت ـ كما هو المتبادر ـ صورة لموقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين الكفار. وهي قوية في لذعها وتحديها وتنديدها ومساجلتها وإنذارها ، وتدل على أن موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان موقف الواثق المستعلي ، أو هي بسبيل بثّ الوثوق والاستعلاء في نفسه.

ولم نطلع على رواية خاصة بسبب نزولها ، ويتبادر لنا أنها ليست فصلا مستأنفا وإنما هي استمرار في السياق المستمر في حكاية مواقف الكفار.

والمتبادر أن الآية الأخيرة قد انطوت على تطمين للنبي عليه‌السلام وتسلية ، فهو ليس مسؤولا عن موقف الجحود والعناد الذي يقفه الكفار وليس إلا بشيرا ونذيرا للناس. وهو ما تكرر كثيرا في المواقف المماثلة.

والآيات [٢٤ و ٢٥ و ٢٦] قد جاءت بالأسلوب الذي جاءت به على سبيل المساجلة ، وليس من محل للشك في قصد تقريرها أن فريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه هم الفريق المهتدي الفائز بحكم الله ورضائه ، وهذا أسلوب مألوف في التخاطب وبخاصة في مواقف الجدل والمناظرة. ومع ذلك فقد يكون فيها مظهر من المبدأ القرآني المقرر لحرية التدين بالنسبة لمختلف الأطراف وفي نطاق ما قررته سورة

٢٨٠