التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

وتابعيهم في كيفية تأجيج قوم إبراهيم النار وشدة وهجها واتقادها وتسجيرها سبعة أيام ورميهم إبراهيم فيها بالمنجنيق بإشارة من إبليس وصيرورة النار عليه بردا وسلاما حتى إنها لم تحرق وثاقه وتلقى جبريل له فيها إلخ إلخ مما يفيد أن هذا الخبر بتفصيلاته مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولم يرووا ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس له مصدر والحالة هذه إلّا اليهود كما هو المتبادر.

والعبرة في الزيادة هنا واضحة فيما كان من عناية الله تعالى بإبراهيم الذي أخلص لله وأسلم نفسه له وتنجيته إياه من كيد الكفار ونارهم.

أما الشطر الثاني من القصة فقد ذكر في الإصحاح (٢٢) من سفر التكوين المتداول بأسلوب متوافق إجمالا مع ما جاء في الآيات [١٠٢ ـ ١٠٧] مع ذكر كون الذبيح اسحق عليه‌السلام. وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم في صدد ذلك منها ما يفيد أن الذبيح اسحق ومنها ما يفيد أنه إسماعيل. وفيها مع ذلك استنباطات اجتهادية للمفسرين وللعلماء منها ما انتهى إلى أنه إسحق ومنها ما انتهى إلى أنه إسماعيل أيضا. وقد شغل هذا الموضوع جزءا كبيرا في هذه الكتب. والذين استنبطوا من القرآن أنه اسحق قالوا إنه ليس في السلسلة إلّا اسم إسحق وفيها بشارة به وهو غلام وبشارة بنبوته. وإنه ليس في القرآن بشارة إلّا بإسحاق. حيث ورد ذلك صراحة في آيات سورة هود [٦٩ و ٧٠] التي سبق تفسيرها وضمنا في آيات في سورة الذاريات فيها قرينة قوية على ذلك ومماثلة لآيات هود : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠)). والذين استنبطوا من القرآن أنه إسماعيل قالوا إن الله ذكر البشارة بإسحاق في آيات هذه السورة بعد الفراغ من قصة الرؤيا والذبيح. وأن الله بشر بإسحاق ومن ورائه يعقوب في آيات سورة هود فلا يصح أن يكون أمر بذبحه لأنه بشره بأنه سيكون له نسل ، ونحن نرى في هذا وجاهة وسدادا.

٢٢١

وننبه أولا : على أنه ليس شيء من مما يعزى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من ذلك واردا في كتب الصحاح. وثانيا : على أن معظم الأحاديث والروايات في جانب كون الذبيح هو إسماعيل وكون الحادث وقع في منطقة مكة بعد أن أسكن إبراهيم إسماعيل عليهما‌السلام فيها. وإسكان إبراهيم لإسماعيل في منطقة مكة مؤيد بآيات وردت في سورتي البقرة وإبراهيم حيث جاء في سورة إبراهيم : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)) وحيث جاء في سورة البقرة هذه الآية التي تفيد كون الذي أسكنه إبراهيم هو إسماعيل : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)).

ولقد روى البغوي فيما روى أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه عن شخص الذبيح فقال إنه إسماعيل ولكن اليهود زعموا أنه إسحق حسدا للعرب لأن إسماعيل الذي كرّمه الله بالنداء هو أبوهم فأرادوا أن يجعلوا الفضل لأنفسهم حيث ينطوي في هذا اتهام لليهود بتحريف الخبر في كتبهم. ومثل هذا التحريف ملموح في سفر التكوين حيث تعمد كاتبوه تفضيل إسحق على إسماعيل مع أن هذا بكر إبراهيم وتفضيل يعقوب على عيسو مع أن عيسو بكر إسحق لأن يعقوب وإسحق هما أصلا بني إسرائيل دون إسماعيل وإخوته الآخرين ودون عيسو مما نبهنا عليه وعلى أمثاله في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف ، وفي القرآن ورد أكثر من مرة أنهم كانوا يحرفون كتاب الله ويقولون عما يكتبون إنه من الله وما هو من الله فليس ذلك التحريف بعيدا عن طباعهم والله تعالى أعلم.

وفي الإصحاح (٢٢) من سفر التكوين إن الفداء كان كبشا وجده إبراهيم قربه ، وبعض الروايات التي يرويها المفسرون عن علماء الصدر الأول تذكر أنه كبش أقرن أملح نزل من الجنة. وبعضها يذكر أنه تيس من الأروى هبط إلى إبراهيم من جبل ثبير بين عرفات ومنى. ومما ذكرته هذه الروايات أن إبليس تعرض

٢٢٢

لإبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام وحاول التشويش عليهما وتعويقهما عن تنفيذ ما أمر إبراهيم بفعله في المنام الذي اعتبره وحيا ربانيا فكان إبراهيم يرجمه بالحصى مرة بعد مرة. وكان هذا الرمي هو أصل تقليد رمي الحصى الذي يرميه الحجاج في منى بعد نزولهم من عرفات. وهذه الروايات من جملة الروايات التي تفيد أن الذبيح إسماعيل والله أعلم.

وعلى كل حال فالذي نرجحه أن سامعي القرآن كانوا يعرفون القصة. وأن المهم فيها هو ضرب المثل بعباد الله الصالحين الذين منهم إبراهيم عليه‌السلام حيث أقدم على تنفيذ ما ظنه وحيا من الله مهما كان فيه تضحية بالغة للتدليل على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى ، وحيث وافق ابنه الصبي على ذلك بطيبة خاطر ورضاء نفس للتدليل كذلك على انقياده وإسلامه النفس لله تعالى ، وبذلك استحقا ثناء الله وتنويهه وتكريمه وكانا مظهر رعايته وتجلياته.

ولقد انطوى في جملة (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) تقرير واقع الأمر بالنسبة لذرية إبراهيم وإسحق عليهما‌السلام حيث كان منهم المحسن الصالح والمنحرف الآثم المهلك نفسه بانحرافه وإثمه. ومن الممكن أن يلمح في هذا ردّ على دعوى بني إسرائيل بأنهم شعب الله المختار. فهم مثل سائر البشر منهم الصالح الذي يستحق تكريم الله ورحمته والآثم المنحرف الذي يستحق عذاب الله وسخطه وغضبه. وفي آية في سورة المائدة ذكر هذا التأويل بصراحة وهي هذه : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)). مع التنبيه على أن في القرآن آيات كثيرة (١) تفيد أن جميعهم إلّا قليلا صاروا موضع سخط الله وغضبه ولعنته بما كان منهم من نقض لميثاقه وانحراف ديني وخلقي ومواقف مؤذية لرسل الله ثم لخاتم رسله.

__________________

(١) سلسلة البقرة [٤٠ ـ ١٦٠] وسلسلة آل عمران [٦٥ ـ ١٢٠] وسلسلة النساء [٤٤ ـ ٥٦] و [١٥٠ ـ ١٦٢] والمائدة [١٢ ـ ١٥].

٢٢٣

ويلحظ أن الشطر الأول من القصة احتوى إشارة إلى ما كان من نظرة إبراهيم عليه‌السلام في النجوم التي ذكرت في السورة السابقة حيث يمكن أن يكون ما جاء هنا زيادة بيانية عما جرى بين إبراهيم عليه‌السلام وبين قومه قد جاء تتمة للكلام في سورة الأنعام وحيث يمكن أن يكون في ذلك دلالة على صحة رواية نزول هذه السورة بعد سورة الأنعام.

تعليق على جملة

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)

ونريد أن ننبه إلى أمر كان من مواضيع الجدل بين المفسرين وعلماء الكلام حيث استند بعضهم على آية (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) في تقرير كون الله عزوجل قد خلق الناس وخلق أعمالهم وأن أعمال الناس غير مكتسبة منهم وإنما هي مقدرة محتمة عليهم ، بينما أنكر ذلك فريق آخر (١). وبقطع النظر عن عدم اتساق التقرير المذكور مع تقريرات القرآن الحاسمة الكثيرة التي تؤكد بأساليب مختلفة قابلية الناس على الكسب والاختيار واستحقاقهم الجزاء ، وفاق ذلك على ما ذكرناه في مناسبات عديدة سابقة ، فإن الآية المذكورة ليست تقريرا قرآنيا مباشرا في صدد خلق الناس وأعمالهم ، وإنما هي من جملة ما حكي من أقوال إبراهيم عليه‌السلام لقومه في صدد محاججتهم والتنديد بهم. فهم يعبدون أصناما ينحتونها بأيديهم فقال لهم إن الله خلقكم وخلق ما تنحتون على سبيل الإفحام والإلزام ، وإن إيراد الآية في معرض الاستدلال على خلق الله لأعمال الناس في غير محله. ولقد جاء في سورة العنكبوت آية حكي فيها قول لإبراهيم عليه‌السلام لقومه أيضا نسب فيه الخلق إليهم وهي هذه : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [١٧] مما فيه تأييد لما نقول.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الخازن والبغوي والزمخشري

٢٢٤

ولقد تكرر هذا كثيرا من علماء الكلام والمفسرين لدعم مذهب أو رأي أو تأويل حيث يعمد بعضهم إلى اقتطاع آية من سلسلة أو جملة من آية ويوردونها دليلا ، في حين أن بقية الآية أو بقية السلسلة في صدد آخر لا تتحمل ما أرادوا تحميله لهما مما مرّ منه أمثلة عديدة.

تعليق على ما وصف

بكذبات إبراهيم عليه‌السلام

ويورد المفسرون في سياق جملة (إِنِّي سَقِيمٌ) المحكية عن لسان إبراهيم في هذه الآيات وفي سياق جملة : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) في الآية [٦٣] من سورة الأنبياء حديثا رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام قطّ إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبّار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها إنّ هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فاخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار فأتاه فقال له لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلّا لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم عليه‌السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت يده أشدّ من الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضتين الأوليين فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله ألّا أضرّك ففعلت فأطلقت يده ، ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر. قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه‌السلام انصرف الخادم فقال لها مهيم (ماذا جرى؟) قالت خيرا كفّ الله يد الفاجر وأخذ

٢٢٥

منّي خادما قال أبو هريرة فتلك أمّكم يا بني ماء السماء» (١).

ومع ذلك فإن بعض المفسرين أرادوا صرف صفة الكذب الصريح عن إبراهيم عليه‌السلام فقالوا إن كلامه كان من المعاريض وبعضهم لم ير بأسا في الوصف وقد جاء صريحا في الحديث النبوي. ومعظمهم رأوا في مثل هذه الكذبات وظروفها أسوة يمكن أن يسار عليها ويتأسى بها. ولا سيما إذا كانت في سبيل الله ودرء ضرر فادح. ولا يخلو هذا وذاك من وجاهة وسداد استنادا إلى نص الحديث النبوي فضلا عن المبدأ الحكيم بالإذن بالمحظور عند الاضطرار والخطر على ما شرحناه في سياق آية سورة الأنعام [١٤٥] وهناك حديث نبوي يصح أن يساق في هذا المساق رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم كلثوم بنت عقبة قالت : «سمعت رسول الله وهو يقول ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا. قالت ولم أسمع يرخّص في شيء مما يقول الناس كذب إلّا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها» (٢).

هذا وقصة إبراهيم وسارة والجبار واردة في الإصحاح (١٢) من سفر التكوين بفروق طفيفة غير جوهرية. والقصة كانت مع فرعون مصر. وهذا يؤيد ما قلناه مرارا من أن هذا السفر كان متداولا معروف المحتوى في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته. أما القولان الآخران فلم يذكرا في هذا السفر تبعا لعدم ورود قصص إبراهيم مع قومه فيه على ما نبهنا عليه من قبل.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٦٢ و ٢٦٣ وتلك أمكم يعني هاجر أم العدنانيين لأنها أم إسماعيل على ما ذكرته الروايات.

(٢) التاج ج ٥ ص ٤٠.

٢٢٦

الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)) [١١٤ ـ ١٢٢]

(١) المستبين : المبين الواضح.

وهذه حلقة ثالثة فيها إشارة تنويهية إلى موسى وهرون عليهما‌السلام بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل والسياق.

وعبارتها واضحة ، والعبرة فيها ملموحة وهي ضرب المثل والتذكير بما كان من عناية الله ونصره وهدايته لموسى وهرون بسبب أنهما من عباد الله المؤمنين المحسنين.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)) [١٢٣ ـ ١٣٢]

(١) فإنهم لمحضرون : فإنهم لمحشورون إلى الله وعذابه.

(٢) إلياسين : من المفسرين من قال إن الكلمة جمع (الياس) تشمل أتباعه المنسوبين إليه. وهناك من قرأها (آل ياسين) وهناك من خرجها على التعريب لأن إلياس ليست صريحة العروبة ، وقد يكون القول الأول هو الأوجه ، والله أعلم.

تعليق على قصة إلياس عليه‌السلام

وهذه حلقة رابعة فيها قصة النبي إلياس مع قومه الذين كانوا يعبدون البعل من دون الله أحسن الخالقين ربهم وربّ آبائهم الأولين. وقد حكت تأنيب إلياس

٢٢٧

عليه‌السلام لقومه وتكذيبهم له وتنويها به وثناء عليه لأنه من عباد الله المحسنين المؤمنين.

وإلياس هذا هو النبي إيليا الذي ورد ذكره في السفر الأول من أسفار الملوك حسب الطبعة البروتستانتية ، والثالث حسب الطبعة الكاثوليكية ، وما ورد في الآيات مقتضبا قد ورد مسهبا في الإصحاحات (١٦ و ١٧ و ١٨ و ١٩) من السفر المذكور حيث ذكر فيها ما كان من استشراء عبادة البعل وكثرة معابده وأنبيائه في زمن آحاب ملك دولة إسرائيل بتأثير زوجته إيزابيل بنت ملك صور وما كان من إنذار إيليا لهما بأمر الله وغضبهما عليه ومحاولتهما اعتقاله والبطش به وتسليط الله عليهما غزوات خارجية وقحطا وجفافا بسبب ذلك في سياق طويل.

والمتبادر أن هذا مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق اليهود فأشير إليه في معرض التذكير والتمثيل والموعظة. وهو الهدف الملموح والجوهري في الحلقة ، حيث ذكرت ما كان من إنذار إلياس لقومه وتأنيبه لهم وتكذيبهم له وعقاب الله لهم والتنويه به بسبب إخلاصه وإيمانه وإحسانه.

وفي كتب التفسير (١) نقلا عن محمد بن إسحاق والقرظي وغيرهما من رواة الأخبار ومسلمة اليهود بيانات كثيرة حول قصة إلياس ، فيها ما ذكر في إصحاحات السفر المذكور آنفا وما لم يذكر حيث يدل هذا على أن القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره.

ولم نر طائلا في اقتباس ما جاء في كتب التفسير أو في إصحاحات السفر المذكور لأن القصد منها ، وهو العبرة ، قد حصل بما اقتضت حكمة التنزيل ذكره منها.

تعليق على اسم بعل

وبعل هو معبود بلاد الشام جميعها : أي سورية ولبنان وشرق الأردن

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.

٢٢٨

وفلسطين قبل الميلاد المسيحي (١). وكان يعني إله القمر أو إله السماء. وكان كذلك في جنوب جزيرة العرب وفي العراق أيضا حيث يبدو أنه من آلهة الجنس العربي الرئيسية وقد قرىء في آثار اليمن اسم (بعل سمين) بمعنى إله السماء (٢).

وقد دخلت كلمة بعل في عداد اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام وصارت بمعنى الزوج ومالك الشيء. وقد وردت عديدة في القرآن بمعنى الزوج ومن ذلك آية سورة هود [٧٢] التي مر تفسيرها.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)) [١٣٣ ـ ١٣٨]

(١) في الغابرين : في الهالكين من قوم لوط.

تعليق على قصة لوط عليه‌السلام

وهذه حلقة خامسة فيها إشارة إلى قصة لوط مع قومه إشارة مقتضبة. وقد وردت هذه القصة بتفصيل أكثر في سور سابقة. وفي الحلقة شيء جديد متصل بأهل الحجاز حيث تذكرهم بأنهم يمرون على مساكن قوم لوط التي دمرها الله في الصباح وفي الليل وتندد بهم لأنهم لا يعقلون ولا يعتبرون بما يرون. وهذه المساكن على شواطىء بحر الميت في غور أريحا في فلسطين. وكانت قوافل الحجازيين التجارية تمر بها حينما تأتي من الحجاز إلى مصر أو ترجع من مصر إلى الحجاز. وكانوا يرون آثار التدمير التي ما تزال موجودة إلى اليوم. وكانوا يعرفون قصة قوم لوط وتدمير الله لمساكنهم من طريق اليهود ، وبذلك استحكم فيهم

__________________

(١) انظر الجزء الرابع من تاريخ الجنس العربي تأليفنا ص ٩٧ و ١٩٤ و ٢٩٦.

(٢) انظر الجزء الثالث من تاريخ العرب قبل الإسلام ، لجواد علي ص ١٥٧.

٢٢٩

الإفحام والتنديد. وهذا ما انطوى في الحلقة من عبرة وعظة بالإضافة إلى ما في ذكر نجاة لوط وأهله من عذاب الله بسبب إيمانهم واستثناء امرأته من النجاة بسبب انحرافها من عبرة وعظة.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)) [١٣٩ ـ ١٤٨]

(١) أبق : فرّ متمردا.

(٢) المشحون : المملوء.

(٣) ساهم : دخل في المساهمة وهي القرعة.

(٤) المدحضين : الساقطين.

(٥) التقمه : ابتلعه.

(٦) مليم : ملوم أي أتى بما يلام عليه.

(٧) نبذناه : طرحناه وألقيناه.

(٨) العراء : وجه الأرض الخالي من الشجر والظل.

تعليق على قصة يونس عليه‌السلام

وهذه حلقة سادسة من سلسلة القصص وهي الأخيرة. وقد ذكر فيها قصة يونس مع قومه وقد وردت هذه القصة في سورة القلم ووردت إشارات خاطفة إليها في سورة يونس التي مرت وفي سورة الأنبياء الآتية بعد قليل وجاءت هنا بشيء من الزيادة اقتضتها حكمة التنزيل.

٢٣٠

ولقد قلنا في سياق تفسير آيات في سورة القلم ذكرت (صاحب الحوت) أن قصة يونس مذكورة في سفر يونان من أسفار العهد القديم وأوردنا خلاصة ما جاء في السفر. وهي متطابقة إجمالا مع ما جاء عنها في الآيات التي نحن في صددها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. واسم يونس جاء هذا بصراحة مع ذكر التقام الحوت له وهذا الاسم معرب يونان على ما هو المتبادر.

وإذا كان من شيء يزاد هنا فهو تباين بين خبر شجرة اليقطين في الآيات وشجرة الخروعة في السفر. وهناك تباين آخر ففي الآيات أن الله أنبت الشجرة لامتحانه وليس لوقايته بعد خروجه من بطن الحوت. فقد غضب يونس لعدم اتباع الله العذاب الموعود من الله على قومه ـ وهذا ما يمكن أن يفيده فحوى آية في سورة الأنبياء (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ...) [٨٧] فأنبت الله الخروعة وهو ذاهب مغاضب لقومه ليستظل بها فأرسل الله دودة فجففتها ، فعاتب ربّه على ذلك فقال له الله أشفقت على شجرة لم تتعب بها أفلا أشفق على مدينة عظيمة فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من أناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم عدا ما فيها من بهائم ، والذي نعتقده أن ما جاء في القرآن أيضا كان مما كان واردا في قراطيس ومتداولا بين أوساط اليهود.

والعبرة التي انطوت في آيات القصة هنا وهي الجوهرية فيها ذكر ما كان من مغادرة يونس لقومه خلافا لأمر الله حتى نعت بالآبق. ومجازاة الله تعالى له بما كان من قذفه في البحر والتقام الحوت له لتنبيهه وزجره. وقد ندم وسبح الله واستغاث كما ذكرت الآيات هنا وفي آية سورة الأنبياء (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) فتاب الله عليه وأنقذه من بطن الحوت ثم أرسله إلى قومه فاستأنف دعوتهم إلى الله فآمنوا. وكل هذا مما احتواه السفر أيضا وهذه النهاية هي المهمة في مساق العبرة حيث ينطوي فيها تأميل بإيمان من لم يكن قد استجاب للدعوة النبوية إذا ما واظب النبي على دعوتهم.

٢٣١

هذا ، وننبه على صيغة الآية [١٤٧] حيث قد يتبادر إلى الوهم منها أن هناك شكا في عدد قوم يونس مما لا يجوز على الله تعالى فنقول إنه أسلوب مألوف من الأساليب الخطابية والأساليب القرآنية. وهو ما ظللنا نعبر عنه بجملة (التعبير الأسلوبي) والقصد من التعبير هو التنويه بكثرة عدد الذين أرسل إليهم وآمنوا كما هو المتبادر.

والمناسبة قائمة لإيراد حديث رواه البخاري والتعليق عليه حيث روى عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» (١). وقد أوضح الشراح أن القصد هو النهي عن تفضيل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يونس عليه‌السلام. ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضّلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون» (٢). هذا بالإضافة إلى أن القرآن يذكر بصراحة أن الله فضل بعض النبيين على بعض كما جاء في الآية [٥٥] من سورة الإسراء التي سبق تفسيرها وفي آية [٢٥٣] من سورة البقرة : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) وشراح حديث الترمذي يقولون إما أن يكون هذا الحديث قد صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يعلم أنه فضل على النبيين وإما أن يكون من قبيل التواضع وتعليم المسلمين لواجب احترام جميع أنبياء الله ، والله أعلم.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦)

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٩٥ و ١٩٦.

(٢) التاج ج ١ ص ٢٠٥.

٢٣٢

فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)) [١٤٩ ـ ١٥٧]

(١) أم لكم سلطان مبين : أم لكم برهان من الله واضح على ما تزعمون.

في الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال المشركين مستفتيا مبكتا عما إذا كان يصح أن يكون لله البنات ولهم البنون ، وعما إذا كانوا حاضرين حينما خلق الله الملائكة فرأوا أنه خلقهم إناثا كما يزعمون. وتنبيه إلى ما في زعمهم من اتخاذ الله أولادا من كذب. وتسفيه في صيغة الأسئلة الإنكارية لزعمهم أن الأولاد الذين اتخذهم واصطفاهم بنات وليسوا بنين ، وخروجهم في زعمهم وحكمهم عن نطاق المنطق والعقل وتحدّ لهم بإظهار ما عندهم من بينة أو كتاب على صحة زعمهم إن كانوا صادقين فيه.

وفي الآيات التفات خطابي إلى المشركين الذين كانوا موضوع الحديث قبل سلسلة القصص حيث استؤنف فيها موقف المناظرة والجدل الذي حكته آيات السورة الأولى والتحم السياق بين أولها وآخرها. وبذلك تكون الآيات التي جاءت بين الآيات الأولى من السورة وهذه والتي احتوت بيان مصير الكفار والمخلصين وقصص بعض الأنبياء وأقوامهم قد جاءت من قبيل الاستطراد والاستشهاد والتذكير.

وقد تكرر هذا في سور عديدة بحيث يصح أن يقال إنه من أساليب النظم القرآني.

تعليق على انصباب التنديد بالمشركين ،

على زعم اتخاذ الله بنات دون البنين

وقد يبدو لأول وهلة أن آيات الاستنكار مصبوبة بقوة أكثر على نسبة البنات لله تعالى دون البنين من قبل المشركين ، وعلى تقرير كون البنين هم المفضلين على البنات. وهذا ما يبدو في مناسبات أخرى ذكرت فيها عقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله وقد مرّ مثال ذلك في سورة النجم.

٢٣٣

والحقيقة أن هذا هو من قبيل المساجلة والجدل كما تلهم روح الآيات القرآنية وصيغتها. فالتكذيب القرآني لأساس الفكرة أي لاتخاذ الله أولادا قاطع وحاسم. غير أن العرب لما كانوا يكرهون ولادة البنات على ما حكته عنهم آيات عديدة في سياق مجادلة المشركين في هذه العقيدة وتسفيه عقولهم منها آيات سورة النحل هذه : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)) سلكت الآيات سبيل التأنيب في مساجلتهم تسفيها لعقولهم وسخرية من تناقضهم إذ يفضلون الذكر ويسيغون أن يكون لله غير المفضل.

وقد علّقنا بما فيه الكفاية على عقيدة الكفار في الملائكة وكونهم بنات الله وعبادتهم لهم ليكونوا شفعاء لديه في سياق تفسير سورة النجم فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أننا ننبه إلى أن مضمون الآيات هنا يلهم أن العرب المشركين كانوا يرون أنهم على حقّ في عقيدتهم هذه وكانوا يجادلون عنها بقوة وعناد ، فتحدتهم الآيات بقوة مماثلة وشددت عليهم بالتسفيه والسخرية.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩)) [١٥٨ ـ ١٥٩]

في الآية الأولى إشارة تبكيتية إلى عقيدة من عقائد المشركين ، وهي زعمهم بوجود نسب بين الله والجنة. وردّ تكذيبي عليهم في صورة تقرير كون الجنة يعلمون أن قائلي هذا الزعم محضرون إلى عذاب الله يوم القيامة ، واحتوت الآية الثانية تعقيبا تنزيهيا عما يصفه المشركون ويزعمونه.

والمتبادر أن الآيتين غير منفصلتين عن السياق ، وقد جاءت تحكي عقيدة أخرى من عقائد المشركين بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات السابقة عنهم.

٢٣٤

تعليق على جملة

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)

ولقد تعددت الأقوال والروايات في مفهوم ومدى العقيدة التي حكتها الآية الأولى (١) فمنها أن كلمة (الْجِنَّةِ) تعني الملائكة لأنهم مغيبون لا يرون ، وأن الآية بسبيل التنديد بعقيدة المشركين بأن الملائكة بنات الله. ومنها أن الجنة قبيل من الملائكة الذي منه إبليس. ومنها أنها تعني عقيدة إشراك الجن مع الله وعبادتهم. وهي ما ذكرت في آية سورة الأنعام [١٠٠] السابقة ومنها أن الله أصهر إلى الجن فكان الملائكة نتاج ذلك.

ونحن نستعبد أن يكون المقصود أحد القولين الأولين ونرى القولين الأخيرين أوجه بل ونرى أن مضمون الآية يجعل الرجحان للقول الأخير منهما. وقد ذهب إلى ذلك الزمخشري وأبو السعود وابن كثير في تفسيرهم للآية. ونص الرواية التي أوردها الأخير «قال مجاهد قال المشركون : الملائكة بنات الله ، فقال أبو بكر : فمن أمهاتهن؟ قالوا : بنات سروات الجن».

وفي هذه العقيدة العربية إذا صحت الروايات التي قد تلهم الآية صحتها طرافة في مجال الخيال الديني. فالجن ناريون والملائكة نورانيون ومصاهرة الله للجن صفّت من نارهم نورا فكان منه الملائكة.

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)) [١٦٠ ـ ١٦٣]

(١) فاتنين : مضلين.

(٢) صال الجحيم : الذي أهّلته أعماله ليكون من أهل النار أو يصلى النار.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والزمخشري والبغوي والخازن.

٢٣٥

الآية الأولى ترديد لآية صارت بمثابة لازمة في هذه السورة حيث تكررت عقب فصولها مرارا وفيها تنزيه واستثناء لعباد الله المخلصين من أن يكونوا كالكفار والمشركين وأن يصيروا إلى مصائرهم. والآيات الثلاث التالية احتوت خطابا تنديديا موجها إلى الكفار المشركين بضمير المخاطب ، تقول لهم فيه إنكم وما تعبدون من دون الله لن تستطيعوا أن تفتنوا وتضلوا إلّا من خبثت نيته واستحق أن يصلى النار.

والآيات متصلة بما سبقها كما هو المتبادر. ولعلها تنطوي على دلالة على ما كان من جهد زعماء المشركين بسبيل المناضلة والمجادلة عن عقائدهم ومحاولتهم إقناع الناس بفضلها وصحتها حيث ينطوي في ذلك صورة من صور السيرة النبوية واعتداد المشركين بأنفسهم وعقائدهم وقد تكرر ذلك على ما نبهنا إليه في بعض المناسبات السابقة.

(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)) [١٦٤ ـ ١٦٦]

وفي الآيات تقرير صادر من عباد مخلصين بأن كلا منهم عارف حده ومقامه وأنهم جميعا صافون لله مسبحون مقدسون له.

تعليق على آية

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ)

والآيتين التاليتين لها

وقد قال المفسرون (١) إن المحكي كلامهم هم الملائكة ، وإن فيها تكذيبا للمشركين الذين عبدوا الملائكة على اعتبار أنهم بنات الله أو قالوا إن بينه وبينهم

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن والبغوي والطبري.

٢٣٦

نسبا. والقول وجيه مؤيد بسبق ذكر عقائد المشركين في الملائكة وعلى هذا فيكون بين الآيات وسابقاتها صلة وإن بدت كأنما جاءت معترضة في السياق.

ويلفت النظر إلى أن العبارة لا تحتوي ما يدل على أنها حكاية لأقوال المقررين وإنما هي تقرير مباشر منهم. ولا يذكر المفسرون تعليلا وتأويلا فيما اطلعنا عليه.

والآيات مماثلة أسلوبيا لآيات سورة مريم [٦٤ ـ ٦٥] التي سبق تفسيرها وفيها كذلك مماثلة موضوعية لأن آيات مريم تحكي كلاما للملائكة أيضا ولقد علقنا على هذه الصورة الأسلوبية من صور الوحي القرآني بما فيه الكفاية في سياق تفسير آيات سورة مريم فلا نرى ضرورة للزيادة.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)) [١٦٧ ـ ١٧٠]

في الآيات حكاية لما كان يقوله الكفار وهو : لو جاءهم ما جاء الأمم السابقة من ذكر الله وكتبه لآمنوا وكانوا عبادا مخلصين لله وحده. وردّ تنديدي عليهم فقد جاءهم ما كانوا يتمنون فكفروا به ونقضوا عهدهم وقولهم. وإنذار لهم على موقفهم ، فلسوف يعلمون ويرون عاقبته السيئة.

والآيات غير منقطعة عن السياق ، ومعطوفة على ما سبقها ومن نوعه من حيث حكايتها لأقوال الكفار وردها عليهم.

وهذا الذي حكته الآيات عن الكفار قد حكي عنهم أكثر من مرة في القرآن ، وحكي عنهم في السورة السابقة لهذه السورة. ويظهر أن ذلك كان رغبة أو أمنية واسعة النطاق كثيرة الترديد فاستحكمتهم الحجة والتنديد استحكاما شديدا لتناقضهم بين القول والفعل.

ولقد علقنا على الموضوع في سياق تفسير الآيات [٤٢ ـ ٤٣] من سورة فاطر

٢٣٧

والآيات [١٥٥ ـ ١٥٧] من سورة الأنعام بما فيه الكفاية فلا ضرورة للإعادة والزيادة.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)) [١٧١ ـ ١٨٢]

(١) وأبصرهم فسوف يبصرون : أنظرهم أو أنذرهم فسوف يرون تحقيق ما ينذرون.

في الآيات تقرير رباني بأن الله تعالى قد وعد أنبياءه ورسله بالنصر وبأن جنده وحزبه هم الغالبون في النهاية. وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن الكفار وعدم المبالاة بهم واستمهالهم إلى الأمد المحدود المعين في علم الله فسوف يرون تحقيق وعيده. وتساؤل ينطوي على التبكيت والوعيد عما إذا كان الكفار يستعجلون عذاب الله حقا. وتقرير بأن هذا العذاب حينما يقع عليهم فإن صباح وقوعه يكون عليهم سيئا مشؤوما. وتكرار الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعرض عنهم ويمهلهم إلى الأمد المحدود ويؤكد لهم رؤية ما يوعدون به. وتنزيه لله عما يصفه به الكفار وينسبونه إليه وتحية ربانية لرسل الله وتقرير بحمد الله رب العالمين الجدير وحده بذلك.

والآيات كما هو المتبادر جاءت معقبة على ما انتهت إليه الآيات السابقة من إنذار الكفار وخاتمة لفصول المناظرة وخاتمة للسورة معا. وقوة هذه الخاتمة ملموسة نافذة ، شأن كثير من خواتم حكاية مواقف الكفار ومشاهد مناظراتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد استهدفت فيما استهدفته توكيد الإنذار الرباني وإثارة الخوف في قلوب الكفار وتطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتثبيتهم.

٢٣٨

وصيغة الآيات تحتمل أن يكون الإنذار فيها بما سيحدث للكفار في الدنيا ، ويحتمل أن يكون بمصيرهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون بما يكون لهم في الدنيا والآخرة على السواء. وهذا مما تكرر في القرآن ومن شأنه بعث القوة والثقة والثبات والشعور بالاستعلاء والنصر النهائي في نفس النبي وأصحابه من دون ريب. على أن الآيات قد صارت مصداقا لمعجزة ربانية بما تحقق من وعد الله بالنصر الذي تم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على زعماء المشركين وبصيرورة كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين السفلى.

وجملة (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) مما تكرر معناها بأساليب متنوعة مرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها. وهي هنا كما هي في المواضع الأخرى بسبيل التثبيت والتسلية والتبشير والتطمين بنصر الله الذي وعد بالآيات التالية لها. وليست بقصد الإيعاز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالانصراف عن إنذارهم ودعوتهم. لأن هذا من مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأساسية التي لا يمكن أن ينقطع عنها وتوالي نزول القرآن بذلك مما يؤيد هذا.

٢٣٩

سورة لقمان

في السورة تنويه بالمؤمنين المحسنين وتقريع للكافرين المعطلين المستكبرين. وحكاية لبعض أقوالهم. وردود مفحمة عليهم وإشارة إلى لقمان وحكمته وجملة من مواعظ لابنه على سبيل ضرب المثل والحث على كريم الأخلاق والمبادئ. واستدراك في صدد طاعة الوالدين وتنويه بعظمة الله وسوابغ نعمه على الناس. وحث على الاستجابة إلى الدعوة وعدم إضاعة الفرصة. وتنديد بتمسك المشركين بتقاليد الآباء رغم سخفها وبطلها.

وأسلوب السورة وترابط فصولها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة.

وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [٢٧ ـ ٢٩] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآيات وتواثقها مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)) [١ ـ ٥]

(١) المحسنون : هنا بمعنى الذين يعملون الأعمال الحسنة أو الذين يحسنون فيما يعملون أو يعملون أكثر مما يجب عليهم عمله.

٢٤٠