التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمكن أن يورد لتدعيم هذا القول قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (١). حيث يفيد الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يغب عنه احتمال تطور حياة المسلمين وإحداثهم أمورا لم تكن في عهده ولم يأمر ولم ينه عنها وإنه لم ير بأسا أن يستن المسلمون سننا حسنة فيها صالحهم الخاص والعام لأفرادهم وجماعاتهم وحكوماتهم وعلى مختلف الوجوه وليس فيها مخالفة للكتاب والسنة بوجه ما بل حبذها وشجع عليها وقرر الأجر الدائم لمستنّها. وإن البدع التي عنادها وندد بها في الأحاديث السابقة هي ما كانت سننا سيئة محدثة مخالفة للكتاب والسنة بوجه ما وفيها ضرر وضلالة في الدين والدنيا ، والله تعالى أعلم.

تعليق على الآية

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)

جاءت هذه الآية معقبة على ما سبقها من إنذار وتنديد. وجاءت في الوقت نفسه مطلقة العبارة ليكون فيها حثّ وتشجيع دائمان على الأعمال الحسنة ونهي وتحذير دائمان من الأعمال السيئة ، مع تمثل رحمة الله وإحسانه وعدله في زيادة أجر المحسنين وعدم زيادة وزر المسيئين.

ولقد احتوت سورة القصص التي سبق تفسيرها آية مماثلة مع فرق هو أن آية القصص ذكرت بالنسبة لعامل الحسنة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) (القصص / ٨٤) وهذه ذكرت (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) حيث ينطوي في هذا تنوع في أسلوب الحث والتحذير اقتضته حكمة التنزيل وصورة من صوره. وفي سور أخرى صور أخرى من ذلك

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٦٦.

٢٠١

حيث جاء مثلا في سورة النساء : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)) وآية البقرة هذه : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [٢٦٠].

ولقد أورد ابن كثير حديثا عزاه إلى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي لم نجده في مجموعة الكتب الخمسة عن أبي ذر الغفاري على هامش الآية قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها». والحديث يقتضي أن تكون الآية مدينة لأن الصيام فرض في المدينة وليس هناك ما يؤيد ذلك. ولعل ذلك كان من قبيل التطبيق فالتبس على الرواة.

وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون على هامش الآية أيضا متقاربة في المدى لم ترد في الكتب الخمسة نكتفي بواحد منها أورده ابن كثير بإخراج الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة». وفي رواية «ومن همّ بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله إنما تركها من مخافتي».

وفي الأحاديث تساوق مع الهدف القرآني في الترغيب والحثّ على الأعمال الحسنة والتحذير من الأعمال السيئة كما هو ظاهر ، والله أعلم.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ

٢٠٢

تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)) [١٦١ ـ ١٦٥]

(١) قيما : قرئت بكسر القاف وفتح الياء المخففة وقرئت بفتح القاف وكسر الياء المشددة والمعنى مقارب وهو المستقيم والثابت.

(٢) الملة : هي الطريقة الدينية ، أو الشريعة الدينية ، وقالوا في أصل الكلمة إنها من الإملاء كأن ما يأتي به الشرع ويورده الرسول يملى على أمته فيكون لهم ملة متبعة (١).

(٣) نسكي : عبادتي. وتأتي النسك كناية عن القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله.

(٤) ولا تزر وازرة وزر أخرى : لا تحمل نفس حمل نفس أخرى.

(٥) ليبلوكم : ليختبركم.

في الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحّدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له ، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله. وبأن يتساءل تساؤل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربّا له وهو ربّ كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يحمل أحد تبعة أحد وإثمه ، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسّره لهم ومكّنهم فيه ، كلا بحسبه ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه ، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في مجمع البيان للطبرسي.

٢٠٣

ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين ، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.

تعليق على آية

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) إلخ

والآية التالية لها

وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملّة التي هدى الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملّة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.

ولقد ذكرت الروايات (١) أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملّة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبّدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق ومهما يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملّة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوّغا القول بجزم إن ملّة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم ، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم

__________________

(١) انظر كتابنا عصر النبي عليه‌السلام وبيئته قبل البعثة ص ٤١٩ ـ ٤٣٤ ، الطبعة الأولى و ٦٩٦ ـ ٧٢٠ الطبعة الثانية. وانظر أسد الغابة ج ٢ ص ١٧٨.

٢٠٤

مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك ، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها ، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستجيب إلى دعوته ، ولتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان إسلامه إلى الله ربّ العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.

تعليق على جملة

(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ)

هذا ، وقد توهم جملة (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرّضون في تفاوتهم إلى اختبار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس ، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران ، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد. وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلّا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.

وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [٣٢].

وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر

٢٠٥

الفضل بينهم بالتقوى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [١٣].

وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [١٠] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [٥١ ـ ٥٤] من هذه السورة التي مرّ شرحها بما يغني عن التكرار.

وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه» (١).

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٥ ، والتناجش هو المكايدة في البيع والشراء.

٢٠٦

سورة الصافات

في السورة حكاية لبعض مواقف وأقوال وعقائد العرب. وفصول من المناظرات والمشاهد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار. وبيان لمصير المخلصين والجاحدين يوم القيامة. وسلسلة قصص بعض الأنبياء وأقوامهم ومصائرهم وفيها بعض مواضيع السورة السابقة حتى تكاد أن تكون تتمة لها أو تعقيبا عليها مما فيه قرينة على صحة نزولها بعد سورة الأنعام ، وفي أسلوبها ونظمها خصوصية فنية. ففيها تسجيع متنوع القوافي وقد ألحقت حلقات سلسلة القصص بلازمة تتكرر عقب كل قصة مثل حلقات سورة الشعراء مع اختلاف الصيغة وفصولها مترابطة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة وهي خامسة سور القرآن في عدد الآيات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)) [١ ـ ١٠]

(١) الزاجرات : المانعات أو الرادعات أو السائقات.

(٢) المشارق : الجمهور على أنها هنا تعني مشارق الشمس من حيث إن للشمس مشارق عديدة بحسب منازلها ومساراتها في مدار السماء. ويتبادر أن

٢٠٧

تكون بمعنى مشارق الأرض أيضا وليس هذا يعني أنه ربّ المشارق فقط ، وإنما هو أسلوبي شاءت حكمة التنزيل أن يكون القسم به وحده.

(٣) لا يسمّعون : بمعنى لئلا يتسمعوا.

(٤) دحورا : طردا عنيفا أو دفعا عنيفا.

(٥) واصب : دائم أو ثابت.

(٦) شهاب ثاقب : شهاب ساطع أو مضيء.

في الآيات قسم رباني على سبيل التوكيد بأن إله الناس واحد وحسب ، وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق ، الذي زين السماء الدنيا بالكواكب وجعلها في الوقت نفسه حافظة لها من كل شيطان باغ لمنعه من التسمع إلى الملأ الأعلى وقذفه من كل جانب من جوانبها قذفا شديدا ، بالإضافة إلى ما له من عذاب دائم وكل من خطف خطفة من السمع منهم تبعه شهاب ثاقب قضى عليه.

ولقد تعددت الأقوال في المقصود بالمقسوم به في الجمل الثلاث الأولى ، وأوجهها الذي رجحه جمهور المفسرين أنهم الملائكة. فهم الصافون للعبادة صفا والزاجرون الناس عن المعاصي والتالون لآيات الله والمبلغون لأوامره.

وعلى كل حال فالآيات بسبيل توكيد ما بعدها. وهي جارية على الأسلوب القرآني المألوف ونرجح أن سامعيها أو من سامعيها من قد فهم المقصود ولم تكن مبهمة عليه.

ويمكن أن يستلهم من الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لمشهد من مشاهد المناظرة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار المشركين جرى فيه جدل حول وحدة الله تعالى وحقيقة البعث بعد الموت. وهي مقدمة قوية نافذة ، تضمنت لفت نظر السامعين إلى عظمة كون الله تعالى والتدليل على وحدته وربوبيته كما هو المتبادر. ولقد علقنا في سياق تفسير سورتي الجن والحجر على موضوع الشياطين وتسمعهم إلى السماء ورجمهم بالشهب بما فيه الكفاية فلا ضرورة إلى زيادة شيء آخر في هذا المقام بمناسبة ورود ذكر ذلك في الآيات.

٢٠٨

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)) [١١ ـ ١٨]

(١) طين لازب : طين ملتصق متحجر.

(٢) يستسخرون : يشتدون في السخرية.

(٣) داخرون : صاغرون.

عبارة الآيات واضحة ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزولها. وهي كما هو المتبادر في صدد مشهد من مشاهد المناظرة في البعث والجزاء الأخرويين بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار ، أو في صدد حكاية مواقفهم وأقوالهم والردّ عليهم.

والسؤال الذي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيهه إليهم فيه قوة وإلزام. فالسموات والأرض وما بينهما والملائكة والشياطين كل هذه قد خلقها الله وكلها في تصرفه المطلق. والذي خلق كل هذا الخلق العظيم قادر من باب أولى عليهم وهم أضعف من أي منهم وقد جاء الرد والتوكيد في الآية الأخيرة عنيفا ليتناسب مع ما حكته الآيات من مكابرتهم وسخريتهم وجحودهم وتصاممهم.

وليس من شك في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نفذ أمر ربه فقذف الكفار مواجهة بالرد العنيف دون مبالاة بهم وهم الأكثر عددا والأشد قوة حيث تتجلى بذلك قوته المعنوية وموقف الاستعلاء الذي يشعر به بالنسبة لهم وقد تكرر هذا الأسلوب مرارا.

ولقد تكررت حكاية مواقف الكفار التي حكتها الآيات وأقوالهم كثيرا. والمتبادر أن ذلك آت من تكرر المشاهد وتجددها. ولقد شرحنا مدى قول الكفار

٢٠٩

عن البعث إنه سحر في مناسبات سابقة وعلقنا عليه بما فيه الكفاية فلا ضرورة للإعادة. وقد تكون حكمة صيغة ومحتويات الآيات السابقة هي بيان ضعف الكفار بالنسبة للأكوان وبخاصة لمردة الشياطين الذين يحرقهم الله بقذائف السماء فإن القادر على الأقوى قادر من باب أولى عليهم. ولقد كان الكفار يعتقدون ويتداولون بما جاء في الآيات فردده القرآن واستحكمت فيهم الحجة.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)) [١٩ ـ ٢٤]

(١) زجرة : صرخة أو صيحة.

(٢) يوم الدين : يوم الجزاء.

(٣) الذين ظلموا : الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والإثم.

(٤) أزواجهم : هنا بمعنى أمثالهم ومن هم على شاكلتهم أو أشياعهم.

(٥) اهدوهم : أرشدوهم ودلوهم.

(٦) صراط : طريق.

الآيات جاءت معقبة على الأمر الرباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي احتوته الآية الأخيرة من الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد احتوت حكاية ما سوف يكون من أمرهم حينما يأتي وعد الله. فليست إلّا صرخة واحدة فإذا هم أحياء ينظرون إلى ما حولهم نظرة الرعب ويقولون يا ويلنا هذا يوم الجزاء فيقال لهم هذا يوم القضاء الذي كنتم تكذبون به. ويؤمر الملائكة بحشر صنوف الظالمين وفئاتهم المتشاكلة وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله بدلا من عبادة الله وحده أو يشركونها مع الله تعالى في العبادة وسوقهم جميعا إلى طريق الجحيم وإيقافهم للسؤال والحساب.

٢١٠

والآيات قوية نافذة ، ومع واجب الإيمان بما حكته من مشهد أخروي فإن من الحكمة المتبادرة فيها إثارة الخوف والرهبة في السامع وحمله على التراجع إن كان جاحدا.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الذين يؤمر بحشرهم مع الظالمين من الآلهة هم الأصنام أو الشياطين أو غير عباد الله الصالحين الذين اتخذهم الناس آلهة ومعبودات وشركاء مثل الملائكة والعزير والمسيح على اعتبار أن هؤلاء غير مسؤولين عن فعل المشركين. وقد حكت بعض الآيات تنصلهم منهم ما مرّ مثاله في الآيات [١٦ ـ ١٧] من سورة الفرقان.

ولقد روى الترمذي في سياق الآية (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) الصافات : [٢٤] حديثا عن أنس بن مالك قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من داع دعا إلى شيء إلّا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه. وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ قول الله تعالى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)» (١) ويلحظ أن الضمير في الآية عائد بصراحة حاسمة للظالمين المشركين خاصة. فإن صح الحديث فيكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدف إلى استلهام الآية لوعظ المسلمين وتحذيرهم من أي قول أو عمل فيه انحراف وضلال.

هذا ، وللشيعة تأويل غريب على عادتهم للآية ، حيث قالوا إنها في حق الذين أنكروا ولاية عليّ ومنعوها عنه ، بل لقد رووا في ذلك حديثا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) لم يرد في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة وتغافلوا عن أن الآية مكية وأنها في سياق التنديد بالمشركين الظالمين وإنذارهم.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٩٥.

(٢) ترجمة مختصر التحفة الإثني عشرية ص ١٥٧.

٢١١

سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)) [٢٥ ـ ٣٣]

(١) لا تناصرون : لا تتناصرون أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلون في الدنيا.

(٢) تأتوننا عن اليمين : أوّلها بعضهم بأن الذين أضلوا الناس كانوا يحلفون لهم بأنهم على هدى ويحولون بينهم وبين الإيمان بالله والاستجابة لدعوته. وأوّلها بعضهم بأنها كناية عن الوسوسة والتزيين من جهة يمينهم لأن هذه الجهة هي الميمونة المأمونة والتي اعتاد الناس أن يسروا إلى بعضهم بما يريدون من ناحيتها.

الآيات استمرار لحكاية ما سوف يكون من أمر الكفار يوم البعث ، فسيسألون سؤال التهكم والتحدي عن سبب عدم تناصرهم كما كانوا يفعلون في الدنيا فلا يكون جوابهم إلّا الاستكانة والاستسلام. ولسوف يقبل بعضهم على بعض يتعاتبون ويتخاصمون. فيقول التابعون للمتبوعين وهم الزعماء : إنكم كنتم تزينون لنا الجحود والغواية وتصدوننا عن الهدى فيجيبهم هؤلاء : إنكم كنتم ضالين طغاة غير مصدقين في قرارة نفوسكم ولم يكن لنا عليكم سلطان قاهر لو استجبتم. ولم نكد نقف موقف الصد والغواية حتى تابعتمونا. ولقد حق علينا حكم الله ووعيده فنحن جميعا ذائقون مرارة أعمالنا وضلالنا. وقد عقبت الآية الأخيرة على هذه المحاورة بتقرير أنهم سيكونون جميعا في العذاب مشتركين ولن يغني الاعتذار والتنصل والتلاوم أحدهم شيئا.

والآيات كسابقاتها قوية التصوير ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن من حكمة الأسلوب المتبادرة الذي جاءت عليه إثارة الخوف والرعب والارعواء في قلوب الكفار تابعين ومتبوعين. ولعل مما استهدفته تنبيه التابعين الذين كانوا الأكثر إلى أن الزعماء الذين يتبعونهم لن ينفعوهم في الآخرة شيئا.

٢١٢

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)) [٣٤ ـ ٣٩]

الآيات كما هو المتبادر معقبة على ما سبقها من حكاية ما سوف يكون من أمر الكفار بعد البعث. فما حكي هو ما سوف يحل بالمجرمين لأنهم كانوا يستكبرون إذا قيل لهم لا إله إلا الله وكانوا يستنكرون أن يتركوا آلهتهم لشاعر مجنون بزعمهم في حين أنه إنما جاءهم بالحق المتطابق مع ما جاء به المرسلون الأولون. ومن أجل ذلك سيقال لهم إنكم لذائقو العذاب الأليم وإنكم لم تجزوا إلّا بما عملتم وقدمتم.

وفي الآيات صورة لما كان يقفه الكفار من دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شخصه أيضا ، وقد تكررت في مناسبات عديدة مماثلة حيث كانت المشاهد والمواقف تتكرر وتتجدد. وقد علقنا على نعت المجنون والشاعر الذي كان الكفار ينعتون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فيه الكفاية في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة لزيادة أو إعادة.

ويلحظ في الحوار الذي يجري بين الكفار والأقوال التي تقال لهم أنها مقتبسة من مألوفات الدنيا وأساليب خطابها ومشاهدها. وهذا طبيعي لأنه هو الأشد تأثيرا في الوعظ والإنذار والترغيب والترهيب ، وهو مما استهدفته الآيات كما قلنا.

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)) [٤٠ ـ ٤٩]

(١) معين : لا ينضب أو لا ينقطع أو ظاهر على وجه الأرض.

٢١٣

(٢) غول : خمار السكر وحدته.

(٣) ينزفون : تذهب عقولهم.

(٤) قاصرات الطرف : غاضات الأنظار. والتعبير كناية عن العفاف والطهر.

(٥) عين : ذات عيون نجلاء.

(٦) بيض : يطلق مجازا على حبات اللؤلؤ الكبيرة.

(٧) مكنون : مصون عن الابتذال.

في الآيات وصف لما يكون من أمر المؤمنين يوم القيامة مقابل وصف ما يكون من أمر الكفار على سبيل الاستطراد وهو ما جرى عليه النظم القرآني. وقد بدأت بحرف الاستثناء ليعني أن عباد الله المخلصين مستثنون من ذلك المصير الذي حكي أنه سيكون بالنسبة للكفار. فلهم الرزق الوافر والفواكه والتكريم في جنات النعيم حيث يجلسون متقابلين على الأسرّة ويطاف عليهم بشراب أبيض لذيذ من منبع لا ينضب ولا يسبب خمارا ولا نزيفا لشاربه ويتمتعون بالنساء النجل العيون اللاتي كأنهن اللؤلؤ بياضا وجمالا ، الطاهرات المصونات عن الابتذال.

والآيات متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وأسلوبها قوي مثل سابقاتها ، ومن شأنها إغراء السامعين وحملهم على الاستجابة وإثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر أيضا.

والوصف هنا كالوصف هناك مستمد من مألوفات الناس وصور الحياة الدنيا لأنه أقوى على التأثير على ما قلناه في صدد الآيات السابقة. مع واجب الإيمان بحقيقة ما انطوى فيها من مشهد أخروي.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ

٢١٤

مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)) [٥٠ ـ ٦١]

(١) قرين : جليس أو صاحب.

(٢) مدينون : مبعوثون للقضاء والجزاء.

(٣) سواء الجحيم : وسط النار.

(٤) لترديني : لتسقطني وتهلكني.

الآيات استمرار في السياق كما هو واضح ، وفيها حكاية لما يكون من حوار بين المخلصين بعد أن ينزلوا منازل التكريم في الآخرة ؛ حيث يقبل بعضهم على بعض يتجاذبون الحديث فيذكر أحدهم قرينا كان له يسأله سؤال الساخر المستكبر عما إذا كان يصدق ما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن الناس مبعوثون للجزاء بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما فيجاب القائل أن انظر فينظر فيرى قرينه في وسط النار فيخاطبه مؤنبا مبكّتا لقد كدت تهلكني بوسوستك وجحودك ولو لم تتداركني رحمة الله لكنت معك أقاسي ما تقاسي. ثم يتساءل المخلصون الناجون تساؤل الفرح عما إذا كانوا حقا لن يموتوا بعد الآن ولن يتعذبوا. ويهتفون مغتبطين مسرورين : ألا إن هذا لهو الفوز العظيم. وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين أن لمثل هذا المصير الكريم فليعمل من أراد العمل.

وقد استهدفت الآيات إثارة الطمأنينة والغبطة في قلوب المؤمنين وإنذار الكفار فيما استهدفته كما هو شأن سابقاتها مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى

٢١٥

الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)) [٦٢ ـ ٧٠]

(١) نزلا : منزلا.

(٢) الظالمين : هنا كناية عن الكافرين المجرمين.

(٣) أصل الجحيم : قاع النار.

(٤) طلعها : ثمرها.

(٥) شوب من حميم : شراب من الماء الحار.

(٦) ألفوا : وجدوا.

(٧) يهرعون : يسارعون في السير.

في الآيات سؤال تبكيتي وتقريعي عما إذا كان النعيم الذي أعدّ للمخلصين المذكور في الآيات السابقة خيرا منزلا أم شجرة الزقوم التي أعدها الله لعذاب الظالمين والتي تنبت في قاع الجحيم ولها ثمر كأنه رؤوس الشياطين في القبح والبشاعة. حيث يأكلونه ويملأون به بطونهم ثم يشربون عليه ماء شديد الحرارة فتزداد حرقتهم وعطشهم وعذابهم. ولسوف يكون الجحيم مصيرهم الخالد فقد وجدوا آباءهم ضالين فساروا في السير على طريقهم بدون تروّ ولم يستجيبوا لدعوة الحق والهدى التي وجهت إليهم.

وصلة الآيات بالسياق واضحة : حيث جاءت معقبة على وصف مصير المخلصين للتنبيه إلى الفرق العظيم بين هذا المصير ومصير الظالمين. والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب والهلع في الكفار كما هو شأن سابقاتها. مع واجب الإيمان بحقيقة المشهد الأخروي الذي حكته.

وقد ذكر بعض المفسرين (١) أن تعبير (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣)) أريد به

__________________

(١) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي والكشاف وابن كثير.

٢١٦

الإشارة إلى ما أحدثه ذكر وجود شجرة الزقوم في النار من استنكار واستغراب لدى الكفار. على أن بعضهم (١) قال إن كلمة (فِتْنَةً) هنا بمعنى شدة العذاب. ولقد حكت إحدى آيات سورة الإسراء السابقة لهذه السورة في الترتيب أن الله جعل الشجرة الملعونة في القرآن فتنة للناس وقال جمهور المفسرين إنها عنت شجرة الزقوم. ولعل هذا متصل بذاك ومع ذلك فإن للقول الثاني وجاهته أيضا والله أعلم.

وفي تشبيه طلع شجرة الزقوم الجهنمي برؤوس الشياطين دلالة على أن العرب كانوا يتخيلون الشياطين بأشكال قبيحة مفزعة ، فجاء التشبيه متسقا مع ما في أذهانهم زيادة في التأثير والتخويف.

أما شجرة الزقوم الدنيوية فهي شجرة معروفة في بلاد الحجاز بكثرة شوكها وشدة مرارة ثمرها وإثارته عطشا شديدا في آكله.

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)) [٧١ ـ ٧٤]

وهذه الآيات معقبة على ما قبلها كما هو المتبادر : فأكثر الأمم السابقة ضلوا كما ضلّ أكثر العرب. ولقد أرسل الله إليهم منذرين فلم يستجيبوا ، فاستحقوا ما استحقوه من سوء العاقبة باستثناء المخلصين من عباد الله الذين استجابوا واهتدوا ، وقد انطوى في الآيات تقريع وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين.

وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه مقدمة لسلسلة قصص الأنبياء التي تأتي بعدها جريا على النظم القرآني.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)

__________________

(١) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي والكشاف وابن كثير.

٢١٧

وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)) [٧٥ ـ ٨٢]

(١) الكرب العظيم : الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم.

(٢) تركنا عليه في الآخرين : بمعنى أبقينا له ذكرا حسنا في الناس من بعده أو تكرمة دائمة من التحية والصلاة والسلام.

هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية جاءت عقب ذكر مواقف الكفار ومصائرهم جريا على الأسلوب القرآني. وقد شاءت حكمة التنزيل أن تأتي فيها قصة نوح بهذا الأسلوب المقتضب الذي فيه تنويه بنوح عليه‌السلام وإشارة إلى تنجيته وأهله من الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم وجعل ذريته هي الباقية وإغراق الآخرين. وجعله ذا ذكر حسن دائم في العالمين وفقا لعادة الله تعالى في جزاء المحسنين المؤمنين من عباده.

ومقصد العبرة والتذكير فيها واضح ، حيث انطوى فيها إنذار للكفار وتنويه وتطمين وبشرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمخلصين الذين اتبعوه.

والآيات [٧٧ ـ ٨١] قد تكررت بشيء يسير من الاختلاف مع كل حلقة من حلقات السلسلة حيث صارت لازمة مثل اللازمة التي لحقت بسلسلة قصص سورة الشعراء ، مما فيه صورة من صور النظم القرآني.

ولقد علقنا على قصة نوح عليه‌السلام وقومه وطوفانه في المناسبات السابقة فلا ضرورة للإعادة. غير أن هناك حديثا نبويا روي في سياق هذه الآيات رأينا أن نؤيده حيث روى الترمذي عن سمرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حام وسام ويافث» وفي رواية رواها الحاكم وأحمد مع الترمذي «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» (١). وفي الإصحاح التاسع من سفر التكوين ذكرت الأسماء الثلاثة

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٩٥.

٢١٨

كالأبناء الباقين مع نوح وأنهم الذين انبث منهم الناس في الأرض بعد الطوفان وذكرت أجناس نسلهم بما يتسق مع الاقتضاب الذي جاء في الحديث حيث يفيد هذا أن الأمر كان معروفا على هذا الوجه في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)) [٨٣ ـ ١١٣]

(١) من شيعته : من فئته أو جماعته أو أمثاله.

(٢) أئفكا آلهة دون الله تريدون : أتتخذون من دون الله آلهة إفكا وزورا.

(٣) نظر نظرة في النجوم : إشارة إلى ما كان تبينه من الضلال في عبادة النجوم على ما جاء في سورة الأنعام السابقة.

(٤) قال إني سقيم : قال إني مريض ، من قبيل الاعتذار.

(٥) فتولوا عنه مدبرين : فتركوه وخلفوه.

٢١٩

(٦) فراغ : مال وانعطف.

(٧) يزفون : يسرعون.

(٨) فلما أسلما : فلما انقادا لله وأرادا تنفيذ أمره.

(٩) تله للجبين : سحبه وطرحه على الأرض وجعل جبينه نحوها تهيؤا لذبحه.

(١٠) إن هذا لهو البلاء المبين : إن هذا لهو الامتحان والاختبار الشديد الذي تعرّض له إبراهيم وأقدم على تنفيذه.

(١١) ذبح : ذبيحة ، كناية عن الحيوان الذي يذبح.

تعليقات على قصة إبراهيم عليه‌السلام

وتمحيص مسألة الذبح من ولديه

وهذه حلقة ثانية من السلسلة احتوت قصة إبراهيم عليه‌السلام مع قومه وأصنامهم وقصة رؤياه في المنام أنه يذبح ابنه وإقدامه على تنفيذ ذلك على اعتبار أنه أمر رباني وفدائه بذبيحة ربانية. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والشطر الأول من القصة لم يرو في سفر التكوين المتداول اليوم ولكن ذلك لا يمنع أن يكون ورد في أسفار وقراطيس مفقودة وهو ما نعتقده. وفي سورتي الشعراء ومريم ورد شيء مما جاء في هذا الشطر وجاء هنا بشيء من الخلاف الأسلوبي وشيء من الزيادة كما اقتضته حكمة التنزيل لتتكامل القصة وعبرتها. ولقد علقنا على ما جاء في السورتين المذكورتين اللتين سبق تفسيرهما ونبهنا على ما فيهما من عبرة بالنسبة للعرب فلا نرى ضرورة للإعادة.

والزيادة الجديدة هنا هي تآمر قوم إبراهيم عليه وإلقاؤهم إياه في النار وإحباط الله كيدهم وتنجيته ، وقد جاء ذلك في القرآن مرتين أخريين واحدة في سورة الأنبياء وأخرى في سورة العنكبوت.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين [٦٨ ـ ٦٩] من سورة الأنبياء اللتين ذكر فيهما الخبر الزائد الجديد بيانات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٢٠