التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)) [٩١ ـ ٩٢]

(١) تجعلونها قراطيس : تجعلونها أوراقا مفرقة ومجزأة.

في الآيات تنديد بالكفار على مكابرتهم وتجاهلهم أو عدم إدراكهم عظم شأن الله وقدره وسابق أحداثه مع أنبيائه ونفيهم نزول أي شيء منه على بشر ما. وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد عليهم بسؤالهم بأسلوب استنكاري عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى والذي يذكرونه ويعرفونه ويجعلونه مع ذلك أجزاء مفرقة يبدون أو يعترفون بما يريدون منه ويخفون أو ينكرون ما يريدون وهو الأكثر حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وعلموا أشياء كثيرة لم يكونوا يعلمونها هم وآباؤهم من قبل. وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهتاف بأن الله تعالى هو الذي أنزله وبأن يدعهم بعد ذلك وشأنهم غارقين في خوضهم وثرثرتهم وغوايتهم لأنهم يقولون ما يقولون مكابرة وعنادا. وتقرير رباني بأن الله قد أنزل القرآن الكتاب المبارك على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أنزل كتاب موسى من قبل ، وهو مؤيد لما سبقه من كتب الله ومتطابق معها لينذر به أهل مكة ومن حولها. وتنبيه تنويهي إلى أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بذلك ويحافظون على أداء عبادتهم وصلاتهم لله تعالى.

تعليق على الآية

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)

والآيتين التاليتين لها

لقد أورد المفسرون روايات عديدة في نزول الآيات ومداها. منها أن حبرا

١٢١

من يهود المدينة كان يخاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلجاجة وكان سمينا فقال له أنشدك بالله أنزل التوراة على موسى أما تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين ، فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر شيئا ، ومنها أن هذا الحبر أو جماعة آخرين من يهود المدينة أنكروا أن يكون الله قد أنزل القرآن على رسوله فنزلت الآية تندد بهم لأنهم يعرفون أن الله أنزل كتابا على موسى فليس بدعا أن ينزل كتابا على رسول آخر. ومنها أنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل الله عليه كتابا أو ألواحا من السماء كما أنزل على موسى فقال لهم لقد كفرتم بما أنزل على موسى فغضبوا وأنكروا كل شيء. ومنها أن مشركي مكة أرسلوا يسألون أحبار يهود المدينة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنكروا أن يكون نبيا وأن يكون القرآن منزلا عليه من الله فأنزل الله الآية. وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدينة ولو صحّ ذلك لكان من المحتمل أن تصحّ الروايات الأولى تبعا لذلك. ولم نر تأييدا لمدنية الآية وطابع المكية بارز عليها بقوة وقد رجح الطبري أن يكون القول حكاية عن مشركي مكة في موقف حجاجي بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا سيما أن السياق في صددهم. ونحن نرجح ذلك أيضا ولا سيما أن رواية المدنية محصورة في الآية الأولى مع أنها منسجمة كل الانسجام مع الآيتين التاليتين لها.

وقد يبدو أن عبارة (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أشبه أن تكون صادرة عن يهود. وأن ترجيح صدورها عن المشركين يبدو غريبا ، ونقول في صدد ذلك إن في القرآن آيات تفيد أن المشركين يعرفون رسالة موسى وتوراته ومعجزاته منها آيات سورة القصص [٤٧ ـ ٥٠] التي مرّ تفسيرها. وأن الموقف قد تجدد فكابر المشركون مرة أخرى فحكت عنهم ذلك الآيات التي نحن في صددها. وقد تكون رواية إرسال المشركين لليهود وسؤالهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوابهم صحيحة فنزلت الآية لتردّ عليهم وعلى اليهود معا. وجملة (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) بعد العبارة نفسها تلهم بقوة أن الكلام كلام المشركين وأن الخطاب موجه إليهم. هذا وما تقدم من الشرح هو بسبيل تقرير صلة الآيات بالسياق السابق للفصل القصصي والذي دار على مواقف المشركين والتنديد بهم. والمتبادر أن

١٢٢

الفصل القصصي جاء استطراديا بعد ذلك السياق جريا على النظم القرآني. ثم جاءت هذه الآيات بعده استئنافا لفصول جديدة أخرى من مواقف المشركين. والله أعلم.

تعليق على جملة

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)

ويلحظ أن الآية الثانية ذكرت أن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينذر أم القرى ومن حولها. والمتبادر أن هذا الاختصاص ناشىء من كون الحجاج والجدال قام في أكثر أدوار العهد المكي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفار مكة التي كانت (أمّ القرى) أي عاصمة للبلاد الحجازية ومن يقيم حولها من أهل المدن والقرى والبادية ، وليس من شأنه نقض عموم الدعوة الذي تقرر بأساليب عديدة في القرآن مرّت أمثلة منها ولفتنا النظر إلى فحواها. ويبدو أن التنويه الذي احتواه شطر الآية الثاني هو تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا للدعوة. فهؤلاء قد صدقوا وآمنوا بالآخرة ، وواظبوا على عبادة الله والصلاة إليه. وقد يدل هذا على أن الإيمان بالآخرة كان وظل ميزان استجابة الناس للدعوة النبوية. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك مرّت أمثلة منها.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)) [٩٣ ـ ٩٤]

(١) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا : بمعنى ومن أشد جرما وإثما ممن افترى على الله كذبا.

١٢٣

(٢) غمرات الموت : شدائد الاحتضار عند الموت.

(٣) فرادى : منفردين مجردين من أموالكم وأولادكم وأنصاركم.

(٤) خوّلناكم : منحناكم وأعطيناكم ومتعناكم به.

(٥) تقطع بينكم : انقطعت بينكم الصلات.

في الآيات تساؤل إنكاري بمعنى التقرير بأنه ليس من أحد أشد ظلما من الذي يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما ليس منه ، أو ممن يدعي بأن الله أوحى إليه ولم يكن قد أوحى إليه. أو ممن يجرؤ على القول بأنه سينزل مثل ما أنزل الله. وإشارة إنذارية إلى ما سوف يكون من أمر الظالمين عند الموت وبعده حيث تحيط بهم الملائكة حينما يكونون في غمرات الموت وشدائد الاحتضار ينتظرون خروج أرواحهم ويذكرون لهم ما سوف يلقون من العذاب والهوان عقوبة على ما كانوا يقولونه على الله تعالى من الباطل ويبدو منهم من استكبار على آيات الله. وحكاية لما سوف يخاطبون به من قبل الله تعالى بعد ذلك من خطاب توبيخي حيث يقول لهم إنكم قد جئتمونا منفردين كما خلقناكم لأول مرة مجردين من كل ما كنتم تتمتعون به في الدنيا ، من مال وقوة وأنصار ، وليس معكم الشفعاء الذين كنتم تعبدونهم كشركاء مع الله وتركنون إلى شفاعتهم وقد غابوا عنكم وتقطعت الصلات بينكم وبينهم.

تعليق على جملة

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً

أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ)

والمصحف الذي اعتمدناه روى أن الآية [٩٣] مدنية كذلك. وروى المفسرون روايات عديدة في سياقها (١) ، منها أن المعنى بمن افترى على الله كذبا هما مسيلمة والأسود اللذان ادعيا النبوة وزعما أن الله تعالى أوحى إليهما ، ومنها أن المعنى بمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن سرح أحد كتاب الوحي

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

١٢٤

الذي ارتدّ وفرّ من المدينة. وأنه كان يكتب بعض مقاطع قرآنية مخالفة لما كان يمليها عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكتب (غفور رحيم) بدلا من (عزيز حكيم) و (عليم حكيم) بدلا من (خبير عليم) وأنه قال مرة حينما أملى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية سورة المؤمنون هذه : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [١٤] قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)) فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد نزلت كما قلت فاكتبها ، فقال : إني إذا أنزل كما أنزل الله.

ومنها أن شطر الآية الأولى نزل في مسيلمة والأسود النبيين الكذابين اللذين ظهرا في آخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليمامة واليمن وأن الشطر الثاني نزل في عبد الله بن سرح. ولقد روي أن عبد الله هذا بعد ذلك الحادث ارتدّ ولحق بمكة ووشى بعمار وجبر وغيرهما من الأرقاء المؤمنين فأخذهم مواليهم وعذبوهم حتى أجبروهم على الكفر ونزل فيه وفيهم آية النحل : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)) [١٠٦] ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح. ويلوح أن رواية مدنية الآية متصلة برواية كونها في شأن مسيلمة والأسود أو برواية كونها في شأن عبد الله بن سرح بعد الهجرة.

ولسنا نرى أي حكمة ومعنى لوضع هذه الآية في سياق يحكي مواقف مشركي مكة لو كانت مدنية ومنفصلة عن السياق. وحركة مسيلمة والأسود كانت كما قلنا في آخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون صلتها بالآية أكثر بعدا. والروايات في صدد عبد الله بن سرح مضطربة ، وسورة المؤمنون التي تروي إحداها قول عبد الله الذي قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما مطابق لما نزل نزلت بعد سورة الأنعام بمدة غير قصيرة. وكذلك سورة النحل التي تروي بعض الروايات أن بعض آياتها نزلت في سعد والمرتدين المكرهين. وعبد الله هو أخو عثمان بن عفان بالرضاعة ، وقد عينه في زمن خلافته واليا على مصر بعد أن عزل عمرو بن العاص. وروت الروايات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدر دمه بسبب ارتداده حتى تشفع فيه أخوه ، وكل هذا يجعلنا نخشى أن

١٢٥

يكون اسمه قد أقحم لأهواء سياسية ويجعلنا نشك أولا في رواية مدنية الآية وثانيا في الروايات المروية كسبب لنزولها. لأن هذا وذاك يقتضيان أن تكون نزلت منفردة بل ومجزّأة أي إن شطرا منها نزل في مناسبة وشطرا في مناسبة أخرى وأن تكون أقحمت على السياق إقحاما مع أنها منسجمة انسجاما تاما في السياق والموضوع وشطرها الأول متصل بشطرها الثاني. وفحوى الآية التالية لها والتي تعطف عليها وتنذر الظالمين وتحكي ما كان منهم من استكبار عن آيات الله وافتراء عليه يلهم بكل قوة أنها في صدد مشركي العرب موضوع الكلام في الآيات السابقة.

وقد رأينا الطبري يتحفظ بعض التحفظ في كون الآية نزلت للأسباب المذكورة في الروايات.

وقد يكون حادث ارتداد عبد الله بن سرح ولحوقه بمكة صحيحا (١) ولكن التوقف هو أن تكون الآية نزلت فيه.

والذي يتبادر لنا بقوة أن الآية الأولى بخاصة تضمنت ردا على الكفار الذين حكت الآية [٩٠] إنكارهم لإنزال الله شيئا على بشر حيث قررت ضمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف أنه ليس من أحد أشد ظلما ممن ينسب إلى الله ما ليس منه ويدعي بأنه موحى إليه ولم يوح إليه. ثم تبعتها الآيات التالية لها منددة منذرة. وبذلك يتصل السياق. والردّ قوي موجه إلى العقول والقلوب السليمة وقد تكرر في كل مرة حكى القرآن فيها زعم الكفار بافتراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن بنفس القوة والنفوذ ومن ذلك آية سورة الأحقاف هذه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)) [٨] ومن هذا الباب آية سورة الشورى [٢٤] وآية سورة يونس [١٧].

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ

__________________

(١) روى هذا الحادث ابن هشام أيضا انظر ج ٤ ص ٢٨.

١٢٦

تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)) [٩٥ ـ ٩٩]

(١) فالق الحب والنوى : الفلق بمعنى الشق. والحب للزرع والنوى للشجر ومعنى الجملة الذي يفلق الحب والنوى ويجعلهما ينموان في الأرض فيكون منهما الزرع والشجر.

(٢) فالق الإصباح : بمعنى مخرج نور الفجر من ظلمة الليل.

(٣) وجعل الشمس والقمر حسبانا : حسبانا مصدر آخر لفعل حسب أيضا ، ومعنى الجملة جعل الله حركات الشمس والقمر بحساب مقدر محدد.

(٤) ترتيب : مرتب ترتيبا دقيقا.

(٥) أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع : الشطر الأول يعني وحدة الذكر والأنثى كأنهما نصفان يتمم بعضهما بعضا ، وقد تعددت تأويلات الشطر الثاني. ويتبادر لنا أن أوجهها هو (استقرار نسمة الحكمة واستيداعها) ويكون معنى الجملة والله أعلم أن الله خلقكم من نفس واحدة مقسومة إلى ذكر وأنثى. وجعل نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم تصبح مستقرة في أرحام النساء.

(٦) خضرا : الرطب أو الطري من الزرع.

(٧) حبا متراكبا : حبا منضدا في السنابل.

(٨) طلعها : ثمرها.

(٩) قنوان : قطوف.

(١٠) دانية : قريبة أو مدلاة سهلة التناول.

١٢٧

(١١) مشتبها وغير متشابه : مشتبه في الخلق والشكل والورق واللون غير متشابه في الثمر والطعم. أو منها ما هو متشابه في الشكل واللون والورق والثمر والطعم ومنها ما هو غير متشابه.

(١٢) انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه : ينعه بمعنى نضجه وبلوغه ومعنى الجملة انظروا كيف يبدأ ثمره ثم ينمو حتى ينضج.

احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايتها الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافذ ، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده ، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك ، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى.

وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا وأسلوب خواتمها ثانيا يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها ، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته ، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد ، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.

١٢٨

ولقد تعددت أقوال المفسرين (١) في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينها وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها.

ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [١٠٠ ـ ١٠٣]

(١) وخرقوا له : اخترعوا له.

(٢) بديع : المبدع من العدم. والإبداع فعل ما لم يسبق إلى مثله.

(٣) صاحبة : زوجة.

(٤) وكيل : حافظ أو كفيل.

في الآيات حكاية لبعض عقائد العرب وردّ عليهم : فقد جعلوا الجن شركاء لله تعالى واخترعوا له بنين وبنات كذبا وبدون بينة في حين أنه هو الذي خلقهم

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في المنار والطبرسي والخازن والجواهر لطنطاوي جوهري.

١٢٩

وليس لمن يشركونه معه يد في خلق ، وفي حين أنه هو الذي أبدع السموات والأرض وكل شيء ، وليس له زوجة ولا يعقل أن يكون له ولد أو أن يكون في حاجة إلى ذلك ، لأنه ربّ كل شيء وخالق كل شيء والوكيل المتصرف المحيط بكل شيء. وليس من إله إلّا هو ، لا تحيط بكنهه العقول ولا تدرك ماهيته الأبصار ولا يماثله شيء من خلقه حتى يقاس به ؛ وهو المستحق وحده للعبادة.

تعليق على الآية

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

من أهل التأويل الذين يروي المفسرون أقوالهم من أخذ الجملة الأولى على ظاهرها ، ومنهم من قال إن كلمة الجن تعني الملائكة من حيث إن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. وعلى اعتبار أن كلمة الجن التي تعني الخفاء تصدق على الملائكة ومنهم من قال إن الجملة تعني عقيدة المجوس الذين كانوا يعتقدون أن الجن أو الشياطين آلهة الظلمة والشر. والذين قالوا القول الأول قالوا إن العرب كانوا فعلا يعبدون الجن ويشركونهم مع الله.

وأوردوا آيات سورة سبأ هذه للتدليل على ذلك : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)) ونرى هذا القول هو الأوجه بالنسبة للنص القرآني. ولا سيما إن آيات سبأ قد جمعت الجن والملائكة فلا يصح أن يكون (الجن) بمعنى الملائكة كما جاء في القول الثاني.

وفي سورة الجن آية تشير إلى شيء من عقائد العرب في الجن وهي : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦)) والكلام كما هو واضح في صدد مشركي العرب فيكون ذكر عقائد المجوس مقحما.

ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن كلمة (بنين) عنت عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله وعقيدة النصارى بأن المسيح ابن الله وقد جاء هذا وذاك في آيات

١٣٠

قرآنية (١). ومع صحة هذا القول في ذاته فلسنا نرى محلا لإقحام اليهود والنصارى أيضا في سياق يدور حول عقائد مشركي العرب. ولقد حكى القرآن عن هؤلاء قولهم إن الله اتخذ ولدا وعنوا بذلك الملائكة كما يستفاد من آيات سورة الأنبياء هذه : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)). وقد يكون ورود كلمة (بنات) يجعل القول أن المقصودين هم الملائكة واردا. غير أن نص الآية يجعلنا نؤكد على ترجيحنا أن الجن هم المقصودون.

ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية في مقام التنديد بمشركي العرب للتعبير عن ماهية شركهم بجعلهم لله أولادا بنين وبنات والله تعالى أعلم.

تعليق على جملة

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)

ولقد كانت هذه الجملة مناسبة لإدارة المفسرين الكلام حول موضوع رؤية الله عزوجل حيث رآها بعضهم نافية للرؤية ولم ير ذلك بعض آخر. وأوردوا في سياق ذلك أقوالا للمؤولين وبعض الأحاديث النبوية في النفي والإثبات معا مؤيدا كل منهم قوله بما أورده (٢). وتعليقا على ذلك نقول إن الآية جاءت في سياق تنديدي لعقائد المشركين وتنزيهي لله تعالى عن الشركاء وتنويهي لعظمة الله وقدرته وكمال صفاته. وإن الأولى أخذها وفهمها على هذا الاعتبار والوقوف عنده وعدم تحويل الآية إلى ما لم تنزل بسبيله. وإن كانت يمكن أن تكون ضابطا من ضوابط العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم في الله عزوجل وتنزيهه بها عن الجسمانية

__________________

(١) عقيدة اليهود ذكرت في آية سورة التوبة [٣١] وعقيدة النصارى ذكرت في هذه الآية وآيات أخرى.

(٢) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والخازن ورشيد رضا.

١٣١

والحدود والحلول والمشابهة للخلق. ولقد علقنا على موضوع رؤية الله عزوجل بما فيه الكفاية وأوردنا الأقوال المتعارضة والأحاديث الواردة فيه في سياق تفسير سورة القيامة فنكتفي بهذا التنبيه.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)) [١٠٤ ـ ١٠٧]

في الآيات هتاف بالناس بأنه قد جاءهم من ربهم الهدى والبينات ، فمن أبصر واهتدى فلنفسه ، ومن عمي عن ذلك وضلّ فإنما يضرّ نفسه. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس حفيظا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وتقرير رباني بأن الله تعالى يصرف الآيات القرآنية ويقلب فيها وجوه الكلام تبيانا للناس الذين يحبون أن يعلموا ويتبينوا الأمور حتى يقولوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم درست ، وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك أن يتبع ما يوحى إليه من ربه الذي لا إله إلّا هو ، وأن يلتزم الحدود المرسومة له وألا يبالي بالمشركين إذا أصروا على شركهم. فلو شاء الله ما أشركوا لأن في قدرته إجبارهم على الهدى ، وإنما تركهم لاختيارهم ليظهر الطيب من الخبيث ، وسليم القلب الراغب في الهدى من سيء النية المتعمد المكابرة والتكذيب ولم يجعله الله مسيطرا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وصلة الآيات بسابقاتها وبمواقف المناظرة والجدل والإنذار واضحة وأسلوبها نافذ وموجه إلى العقل والقلب معا.

وواضح من الشرح المستلهم من فحواها أنها تتضمن تقريرا جديدا لما قررته آيات عديدة سبقت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها من مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التبليغية والإنذارية ومن ترك الناس بعد ذلك لضمائرهم وتحميلهم مسؤولية مواقفهم إزاء رسالة الله بعد ذلك.

ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن معنى جملة (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أنه بمعنى حتى (يقول الكفار أنك درست وتعلمت ما تتلوه من أهل الكتاب). ولقد

١٣٢

قرئت كلمة (درست) بفتح السين وتسكين التاء من الدروس أي بمعنى (حتى يقولوا إن ما تتلوه قديم دارس من أساطير الأولين). والجمهور على أن كلمة (درست) من الدرس لا من الدروس. وقد خطر لنا تأويل آخر نرجو أن يكون هو الصواب وهو (حتى يقولوا كفاك فقد بلغت وقرأت وكررت وبينت فدع الناس فيؤمن من يبصر ما فيه من هدى ويكفر من عمي قلبه) وقد استلهمنا هذا من الجملة السابقة للجملة وهي (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) فالله يقلب وجوه الكلام ويأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغه للناس حتى يقولوا كفى فقد بلغت. وفي أسس البلاغة للزمخشري (درست الكتاب) كررت قراءته للحفظ.

وجملة (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ليست بمعنى أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتركهم بدون تبليغ ، فهذا من مهمته الأصلية وإنما هي بمعنى الأمر بعدم الاهتمام بموقفهم.

وهذا ما تكرر بأساليب عديدة سبقت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن الجملة نسخت بآيات القتال. وهذا إنما يصح إذا رافق مواقف المشركين بعد الهجرة طعن في الإسلام وأذى للمسلمين وحسب على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

هذا ، ونظم الآية الأولى يوهم أن الكلام هو كلام النبي مباشرة ومثل هذا قد تكرر ومرّت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا على ذلك في سياق الآيات الأولى من سورة هود تعليقا ينسحب على هذه الآية. ومع ذلك فإنه يلحظ أن الآية الثانية احتوت كلاما ربانيا مباشرا في مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما ينطوي فيه كون الكلام الأول هو إيعاز رباني بأن يقول ذلك.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)) [١٠٨]

(١) عدوا : بغيا وتجاوزا لحدود الأدب.

١٣٣

في الآية نهي للمسلمين عن سبّ آلهة المشركين وعقائدهم ، وتنبيه إلى أن هذا قد يحملهم على المقابلة فيسبون الله تعالى بغيا وجهلا واندفاعا في العصبية والحمية الجاهلية. وتقرير بأن الله تعالى قد جبل الناس على طبيعة استحسان ما يعملون أو أن من مقتضى النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري أن يستحسن الناس ما يعملون ، وأن مرد الجميع إليه حيث ينبئهم بما عملوا ويوفيهم عليه بما استحقوا.

تعليق على جملة

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ)

وقد روى المفسرون أنه لما نزلت آية : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الأنبياء : [٩٨] أنذر المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلين : لتكفن عن سب آلهتنا ولنشتمن إلهك فنزلت الآية (١). وهذه الآية من آيات سورة الأنبياء التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة بثماني عشرة سورة. وقد روى المفسرون أيضا أن بعض زعماء المشركين جاءوا إلى أبي طالب حينما حضرته الوفاة وطلبوا منه أن ينصح ابن أخيه بعدم سب آلهتهم في سياق طويل ، فلما يئسوا منه قالوا له : لتكفن عن سب آلهتنا أو نسب إلهك ، فنزلت الآية (٢). وأبو طالب توفي أواخر العهد المكي حيث يفرض أن سورة الأنعام نزلت قبل ذلك بأمد غير قصير ، ويضاف إلى هذا أن النهي موجه إلى المؤمنين عامة وليس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. ومهما يكن من أمر فالآية تدل بدون ريب على أن آلهة المشركين كانت تشتم ، وأن المشركين توعدوا بمقابلة الشتيمة بمثلها أو قابلوها فعلا ، والظاهر أنه كان يحتدم بين المؤمنين والمشركين نقاش ونزاع وأن المؤمنين كانوا ينالون من عقائد هؤلاء ومعبوداتهم سبّا وتحقيرا فيندفع هؤلاء بالحمية والعصبية إلى المقابلة فنهت الآية المسلمين عن ذلك.

ومع ما هناك من خصوصية زمنية فإن إطلاق النهي والتعليل في الآية ينطويان

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي وابن كثير والخازن والبغوي.

(٢) المصدر نفسه.

١٣٤

على تلقين مستمر المدى حيث أوجب على المسلمين في كل زمن ومكان التزام هذا الأدب وعدم شتم أديان غيرهم وعقائدهم ، وفي هذا ما فيه من الجلال والروعة التأديبية التي تهدف إلى إبعاد المسلم عن الفحش والبذاءة وإثارة الغير وجرح عاطفته الدينية مهما كانت. ولا سيما أن ذلك متناف مع مبدأ حرية التدين الذي قرره القرآن على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) شرحا يغني عن التكرار ، ومع مبدأ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الذي قررته آية سورة النحل هذه : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)).

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ملعون من سبّ والديه ، قالوا يا رسول الله وكيف يسبّ الرجل والديه؟ قال : يسبّ أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه» حيث ينطوي في الحديث تأديب نبوي رفيع مستمد من التأديب القرآني ومتساوق معه.

تعليق على جملة

(كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)

إن إطلاق العبارة في هذه الجملة ألهمنا أن نؤولها بما أوّلناها في الشرح المباشر للآية. ونرجو أن يكون هو الصواب وفي الجملة التالية قرينة على ذلك حيث تنذر الناس جميعا بأن مرجعهم إلى الله فينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه. وبكلمة أخرى قرينة على أن الجملة لم تعن قط أن الله أغراهم وزيّن لهم ما يعملون حسنا كان أم سيئا. والآية في جملتها تعني أن الله قد وكلهم في ذلك إلى أخلاقهم وقابلياتهم ، ولقد ورد في سورة النمل التي سبق تفسيرها آية فيها مثل هذه الجملة مصروفة إلى المجرمين حيث يكون تأويلنا على ضوء ذلك في محله أيضا. ولقد أوردنا في سياق الجملة المذكورة في سورة النمل تأويلات المؤولين والمفسرين وعلقنا عليها تعليقا وافيا ، وما قلناه هناك يصح هنا أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.

١٣٥

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)) [١٠٩ ـ ١١٠]

في الآيات حكاية لما كان الكفار يحلفونه من الأيمان الغليظة بأنهم ليؤمنن إذا ما جاءتهم آية من الله مؤيدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم قائلا إنما الآيات عند الله وليست في متناول قدرته. وبأن يسأل مخاطبين قريبين عما إذا كان لا يخطر ببالهم أن الله لو أظهر معجزة أن ينقض الحالفون أيمانهم ولا يؤمنوا بها. وتقرير رباني بأن قلوبهم ستظل قاسية وأبصارهم متعامية كما هو دأبهم قبل. ثم يبقون عمهين في طغيانهم مصرين على مكابرتهم لا يؤمنون كدأبهم منذ البدء أو منذ وقفوا مثل هذا الموقف لأول مرة.

تعليق على آية

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها)

ولقد روى المفسرون أن قريشا قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه عيون الماء وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن هودا أتى بمعجزة الناقة لثمود فأتنا بآية حتى نصدقك ، قال : فإن فعلت ما تقولون ، أتصدقونني؟ قالوا : نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. فقال : ما تحبون أن آتيكم به ، قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك وأتنا بالملائكة يشهدون لك فقام يدعو ربه فجاءه جبريل يقول له إن الله يبلغك إن شئت أرسل آية فإن لم يؤمنوا أخذهم بالعذاب وإن شئت تركهم حتى يثوب ثائبهم فقال : بل اتركهم حتى يثوب ثائبهم فنزلت الآيات. وروى الطبري أن جملة (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)) موجهة إلى المؤمنين لأن هؤلاء قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما طلب المشركون آية وأقسموا أنهم ليؤمنن إذا جاءتهم ، سل ربك يا رسول الله ذلك ، فوجه الله الخطاب في الآية إليهم.

١٣٦

والآيات لم ترد في الصحاح ولكنها متساوقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وفيها صورة طريفة من صور العهد المكي وما كان يعتلج في صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه معا من رغبة ملحة في اهتداء قومهم وهذه الصورة ملموحة في الآية الأولى ولو لم تصح الروايات.

ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت للمناسبة المذكورة في الروايات بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها ، ومن المحتمل أن تكون المناسبة سابقة فأشير إليها في سياق الإشارة إلى مواقف المشركين. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني لأن السياق متساوق والآيات معطوفة على ما قبلها.

ولقد علقنا على موضوع تحدي الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإتيان بالمعجزات وموقف الوحي القرآني من ذلك وحكمته في سياق تفسير سورة المدثر. وفي هذه الآيات توكيد جديد لهذا الموقف يضاف إلى ما جاء من مثله في سور سبق تفسيرها مثل طه والقصص والإسراء ويونس وهود. وفيها كذلك تعليل جديد لموقف الكفار وهو أن موقفهم ناشىء عن مكابرة وعناد. وليس موقف رغبة صادقة في الإيمان. وبعض العبارات توهم ظاهرا أن الله سبحانه هو الذي يحول دون إيمان الكفار ويذرهم يستمرون ويعمهون في طغيانهم. والذي يتبادر لنا أن العبارات أسلوبية وبسبيل تقرير شدة مكابرة الكفار وإصرارهم على العناد وعدم صدق رغبتهم كما هو شأن الصيغ المماثلة. ونرجو أن يكون الشرح الذي شرحنا به العبارات هو الوجه والصواب.

ولقد أرسل الله رسوله بالبينات والهدى للناس وطلب منهم أن يؤمنوا وبشّر المؤمنين وأنذر الكافرين في آيات كثيرة جدا وخاطبهم في آية في سورة الزمر قائلا : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [٧] فيتنزه الله عن منعهم من الإيمان.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما

١٣٧

كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)) [١١١]

(١) قبلا : عيانا أمامهم.

في الآية تقرير بأن الله لو أنزل الملائكة فرآهم المشركون جهرة وأحيا لهم الموتى فكلموهم ولبى كل ما يقترحون ويطلبون وجعله ماثلا أمامهم عيانا لما آمنوا إلّا أن يشاء الله إيمانهم وأن أكثرهم يجهل هذه الحقيقة ويتصرفون إزاءها تصرف الجهال.

والآية كما هو واضح متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وإيضاح ، والمتبادر أنها بسبيل تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتثبيتهم وإقناعهم بعدم صدق رغبة المشركين وتصميمهم على المكابرة والجحود على أي حال.

ومع ما هو ظاهر من خصوصية الآية وصلتها بموقف مكابرة الكفار وهدفها من تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فإن بعض المفسرين وقفوا عند عبارة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقالوا إنها تقرر أن المشيئة لله تعالى في كل حال وفي كل أمر. فهو الهادي وهو الضال (١). وقال فريق آخر (٢) إنها بمعنى «إلّا أن يجبرهم ويقسرهم على الإيمان» ونحن نرجح المعنى الثاني الذي انطوى في آيات أخرى بصراحة أكثر ، منها ما مرّ شرحه في هذه السورة وما قبلها. ولا يقتضي هذا ما يحتج به بعض علماء الكلام أن يقع من الكفار ما لا يشاء الله تعالى وإنما ينطوي فيه معنى أكدته آيات أخرى بصراحة أكثر مرّت أمثلة عديدة منها وهو أن حكمة الله وناموس خلقه اقتضيا أن يكون للناس حرية الاختيار والكسب وإرادتهما. وهذا من مشيئة الله الأزلية فليس هناك تعارض على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة وبخاصة في التعليق الذي علقناه على هذا الموضوع في سورة المدثر ويجب أن نذكر دائما آية سورة الزمر التي أوردناها آنفا فهي من الضوابط في هذا الموضوع وهي تنسب الكفر والشكر للناس.

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير مثلا.

(٢) انظر المنار والزمخشري والطبرسي.

١٣٨

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)) [١١٢ ـ ١١٣]

(١) ولتصغي إليه : ولتميل إليه.

تعليق على الآية

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ)

في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري. وهو أن ينبري لكل نبي عدو من شياطين الإنس والجن فيوحي بعضهم إلى بعض بالوساوس وتزيين الباطل بزخرف القول للتغرير والخداع. وقد تضمنت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية تسلية وتطمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فعليه أن لا يأبه بمن انبرى له من الشياطين العتاة بل يدعهم وما يفترون. ولن يكون لهم تأثيرا إلا على الناس الذين لا يؤمنون بالآخرة فهؤلاء هم الذين تميل قلوبهم إلى ما يقولونه ويزوقونه ويرضون به ليستمروا في اقتراف ما يقترفونه من آثام. أما جملة (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) فجائز أن تكون أسلوبية فيها تتمة للتسلية والتطمين ، وجائز أن تكون بقصد تقرير كون الله عزوجل لو شاء لمنعهم من فعل ما يفعلونه ولكنه تركهم لاختيارهم حتى يستحقوا جزاءهم وفاقا له.

وبهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها لا يبقى إن شاء الله محل للتوهم من ظاهر العبارة بأن الله قد شاء أن يجعل أعداء من الشياطين لكل نبي أرسله.

وفي حصر الميل للشياطين ووساوسهم بالذين لا يؤمنون بالآخرة قرينة على صواب التأويل السابق من جهة وتعليل لذلك الميل من جهة أخرى. فلا يميل إلى

١٣٩

وساوس الشياطين إلّا الكفار المجرمون الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الذين يستمرون في اقتراف الآثام واتباع الشهوات أكثر من غيرهم لأنهم لا يخشون عاقبة أفعالهم بعد الموت.

ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والسياق السابق دار على مواقف الكفار وتعجيزاتهم. والمتبادر أن تعبير شياطين الإنس قد قصد به زعماء الكفار الذين كانوا يقودون المناوأة. أما ذكر شياطين الجن فجائز أن يكون من باب التنديد بزعماء الكفار بتقرير كون مواقفهم متأثرة بوساوس شياطين الجن. وكانوا يعرفون أن الشياطين يوحون إلى الناس ويتنزلون عليهم ويوسوسون لهم على ما يستفاد من آيات عديدة سبق تفسيرها. وقد قرر القرآن في آيات عديدة سبق تفسيرها أن الشياطين إنما يوحون وينزلون على الآثمين الأفاكين وأنهم ليس لهم سلطان على المؤمنين المخلصين فصار التنديد بالكفار مستحكما.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)) [١١٤ ـ ١١٧]

(١) مفصلا : هنا بمعنى واضح مبين.

(٢) الممترين : الشاكين.

(٣) يخرصون : يخمنون تخمينا.

في الآيات تساؤل استنكاري بلسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما إذا كان يصح أن يتخذ حكما ومرشدا غير الله تعالى الذي أنزل عليه الكتاب واضحا مبينا ليكون هدى للسامعين المخاطبين. وتقرير رباني بأن الذين أوتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه

١٤٠