الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

١١٤ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ...) أي أنعمنا عليهما بأعظم النّعم ، وهي النبوّة وغيرها من المنافع الدّنيويّة والأخرويّة. اما الأولى منها فالوجود والعقل والصّحة والكمال ودفع المضار ، وأما الثانية فالعلم والطاعة والعصمة عمّا لا يرضى الله بفعله وأعظمها ما قلناه من الرسالة.

١١٥ ـ (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ...) أي من تسلّط فرعون وتغلّبه عليهما. وهذه الشريفة إشارة إلى دفع المضارّ عنهما وكذلك ما يتلوها من قوله جلّ وعلا :

١١٦ ـ (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ...) أي على فرعون وقومه ، فقد غلبوهم بنصرنا وتقوّوا عليهم.

١١٧ ـ (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ...) أي التوراة التي هي في غاية الظهور ونهاية الاتضاح بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من الأحكام البيّنة والقصص الواضحة ، ولهذا سمّي بالتوراة. وهذه اللفظة عند البعض لفظ عربيّ مشتقّ من أورى الزّند أي أخرج النار من الزّناد أو استخرج ناره. فكأنّ العلوم التي يحتاج إليها الناس تترشح منها كما أن النار تنقدح وتنطلق من الزناد.

١١٨ إلى ١٢٢ ـ (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ...) أي دللناهما وأرشدناهما إلى الطّريق الموصل إلى الحقّ والحقيقة (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا لهما الثناء الجميل بأن قلنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) ذاك أننا (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ف (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وقد سبق تفسير مثل تلك الآيات فلا نكرّر تفسيرها. ولما كان الياس على ما هو المعروف والمشهور سبط هارون والسبط هو ولد الولد

٨١

ويغلب على ولد البنت مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن ، فمن هذه الجهة عقّب حكايته لذكر موسى وهارون وقال عزّ من قائل :

* * *

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

١٢٣ ـ (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) هو إلياس بن ياسين بن ميشا بن فنخاص بن الغيران بن هارون أخي موسى ، بعث بعده. وقيل هو إدريس. وقيل إن إلياس صاحب البراري والخضر صاحب البحار أو الجزائر ويجتمعان في كل يوم عرفة بعرفات. وبالجملة فإنه سلام الله عليه من المرسلين لهداية الناس ثم قال سبحانه : اذكر يا محمد قصّة الياس :

١٢٤ إلى ١٢٦ ـ (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟ ...) أي ألا تخافون الله أن تعبدوا غيره؟ وكان لقومه صنم يعبدونه وكان الصنم من الذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه ، وكان اسمه (بَعْلاً) وكان أجوف قد يدخل الشيطان جوفه ويدعوهم إلى عبادته من دون الله. وكان له أربعمائة

٨٢

خادم ، وهم يزعمون أنهم أنبياؤه ورسله. وكان البعل في مدينة بعلبك ولذا سمّيت (بعلبك) باسم ذلك الصنم.

والحاصل أن إلياس عليه‌السلام قال لقومه :

أتعبدونه (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) أي وتتركون عبادة أحسن المصوّرين أو أحسن الصّانعين أو المراد ما هو الظاهر من الشريفة : أي أحسن الموجدين. ولمّا لم يكن تعدّد في الخالق والموجد فلا بدّ من أن نحمل الخلق على التقدير ، أي أحسن المقدرين. فإن كلّ ما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقديره أوّلا ، وإيجاده على وفق التقدير ثانيا ، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا ، فالله تعالى خالق من حيث هو مقدّر ، أي مرتّب خلقه على تقديره. فيصحّ أن يقال إنه خالق أي مقدّر ، أو أننا لا نؤوّله ونبقيه على ظاهره بلا أيّ تأويل وتصرّف ونقول : المراد أنّه تعالى أحسن الخالقين فرضا وبزعمكم أن له تعالى شركاء في الخلق وسائر جهات الألوهيّة ، لكنه أحسن الآلهة في الخلق والتدبير وغيرهما ، فكيف تقدّمون المرجوح على الراجح والحسن على الأحسن لو كنتم تعقلون؟ فإن تقديم الحسن على الأحسن هو تقديم بلا مرجّح إن لم نقل إنه من القسم الأوّل. والحاصل إن إلياس لما عابهم على عبادة غير الله وعيّرهم على ذلك صرّح بنفي الشركاء فقال : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ) قرئ بنصب الثلاثة بدلا من قوله (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) وقرئ بالرفع خبرا عن المحذوف من الضمير الراجع إلى أحسن الخالقين بتقدير : الذي هو الله ربّكم وربّ آبائكم ... ثم إنهم بعد هذه الدعوة غضبوا عليه وكذّبوه كما في الآتي :

١٢٧ إلى ١٣٢ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ...) أي سنحضرهم في محضر الحساب لنذيقهم العذاب الذي لا نجير منه (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) والاستثناء إمّا منقطع ، أو هو استثناء من فاعل (فَكَذَّبُوهُ) أي أن عباد الله المخلصين لم يكذّبوه بل صدّقوا دعوته (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي

٨٣

الْآخِرِينَ) فأبقينا له الذّكر الحسن والثناء الجميل (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) سلام في هذه الآيات كلّها مبتدأ ، والجارّ ومجروره الذي بعده خبره ، والجملة في موضع المفعول له لقوله (وَتَرَكْنا) وبيان للذكر الحسن. يعني أننا أبقينا لإلياس في من بعده من الباقين سلاما على إلياسين. أي هذه الكلمة الطيبة. أمّا إلياسين فلغة في إلياس ، أو جمع له يراد هو ومن تبعه. وقرئ آل ياسين ، أي آل محمد وهو مرويّ عندنا بطرق كثيرة. ولا يخفى ان هذه العبارة أي (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ : سَلامٌ) مذكورة بعد كل نبيّ يذكر وهي هنا أيضا راجعة إلى إلياس. والقراءة : الياس أو إلياسين ، وآل ياسين خلاف الظاهر مضافا إلى أن آل ياسين خلاف سياق الآيات القبلية والبعدية كقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فإن إفراد الضمير في قوله (إِنَّهُ) يأبى أن يكون المرجع هو الآل لأن الآل إما جمع لا مفرد له من لفظه أو من أصله ، أو اسم جمع وعلى كلا الأمرين فيه معنى الجمعيّة ولا يناسبه الضمير المفرد. ولا بأس بذكر حديث شريف في المقام ليكون دليلا على المدّعى أي كون الآل فيه معنى الجمع ، ففي معاني الأخبار سئل الصادق من آل محمد؟ فقال ذرّيته. فقيل : ومن أهل بيته؟ قال عليه‌السلام : الأئمّة عليهم‌السلام. قيل : ومن عترته؟ قال : أصحاب العباء. قيل : فمن أمته؟ قال المؤمنون. ثم إنه تعالى عطف قصة لوط على قصص الأنبياء السابقين تنبيها للعباد وإنذارا لأهل العناد فقال :

* * *

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ

٨٤

(١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

١٣٣ إلى ١٣٥ ـ (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم (ع) كان ممن أرسل إلى سدوم. فنحن نروي لك قصته (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) فاذكر يا محمد إذ خلّصناه ومن آمن معه من قومه من عذاب الاستئصال (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي في الباقين الذين اهلكوا ، وهي امرأته التي كانت معاندة كافرة.

١٣٦ ـ (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ...) قد مضى تفسيرها.

١٣٧ ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ ...) الخطاب لأهل مكة يعني يا قريش أنتم في أسفاركم لا زلتم تمرّون عليهم وعلى منازلهم الخربة (مُصْبِحِينَ) وكانت كيفية أسفارهم أنهم يسيرون ليلا بحيث عند الصباح يدخلون قرية سدوم المدمّرة ويستريحون فيها ولا يعتبرون أنها كان منازل أقوام أقوياء أصحاب أغنام وإبل وبساتين وقصور عاليات ، وكانوا مرفّهين في منازلهم فأصبحوا مخسوفا بهم في مساكنهم هالكين في دورهم. وهذه الشريفة في مقام تهويلهم وتخويفهم.

١٣٨ ـ (وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ...) عطف على (مُصْبِحِينَ) أي :أفليس فيكم عقل تعتبرون به؟ وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : تمرّون عليهم في القرآن ، إذا قرأتم القرآن تقرأون ما قصّ الله عليكم من خبرهم. ثم إنه تعالى بعد ذكر قصة لوط يبيّن قصّة يونس :

* * *

٨٥

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

١٣٩ إلى ١٤١ ـ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) أي اذكر يا محمد يونس بن متّى الذي بعث إلى أهل نينوى من بلاد الموصل في العراق (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) حيث هرب إلى السّفينة المملوءة بالناس وبأمتعتهم. وأبق حسب وضعه اللغوي هو من (أبق العبد من سيده) أي هرب منه. ولمّا خرج يونس من بين أقوامه بلا رخصة من مولاه الحقيقي ، فينبغي أن يطلق على فراره من القوم الإباق. وبالجملة نفهم من قوله تعالى (إِذْ أَبَقَ) أن خروجه من بين القوم كان بلا إذن منه تعالى وبلا رضاه فلذا أطلق الإباق عليه. (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) : أي قارع فكان أنّ القرعة خرجت باسمه وقد خسرت صفقته فوقع في القرعة فقال : أنا الآبق ، ورمى بنفسه في البحر. وعن الصادق عليه‌السلام : ما تقارع قوم ففوّضوا أمرهم إلى الله عزوجل إلّا خرج سهم المحقّ : وقال عليه‌السلام : أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّضوا الأمر إلى الله أليس الله عزوجل يقول (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ؟).

٨٦

١٤٢ ـ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ...) أي ابتلعه. وقيل إن الله أوحى إلى الحوت : إنّي لم اجعل عبدي رزقا لك ، ولكنّي جعلت بطنك مسجدا له فلا تكسرنّ له عظما ، ولا تخدش له جلدا. وهذا القول على فرض صحّته لا بدّ من التأويل بأن الوحي إلى أعضاء الحوت المجهّزة كل واحد منها للأعمال الخاصة كجهاز الهضم (وهي المعدة وجهاز التفرقة والتبديل والتصفية من الأمعاء وغيرها) والوحي إليها عبارة عن توقيفها عن أعمالها الخاصة. وإلّا فلا معنى للوحي إلى الحوت بما ذكر ، والنهي عمّا ذكر ، فإن أعمال القوى المجهزة في بدن الحيوان للوظائف الخاصة المقررة ليس تحت قدرة الحيوان واختياره حتى يؤمر بعدم هضم شيء وبابقائه في البطن سالما صحيحا ، فإن الأعضاء كلّ منها يعمل على طبق وظيفته التي خلق لها قهرا وبلا اختيار لصاحبها كما هو المشاهد بالوجدان في بدن الإنسان ، فكذلك غيره (وَهُوَ مُلِيمٌ) أعني مستحقّا للّوم ، (لوم العتاب) لأنه ترك الأولى والنّدب ، أي الإجازة من سيّده الحقيقي (لا لوم العقاب) أو معناه أنه عليه‌السلام لام نفسه بأنّه لم ترك الاستجازة من مولاه؟ ومن جوّز الصّغيرة على الأنبياء قال قد وقع منه صغيرة مكفّرة. والحوت بالمقدار الممكن الذي كان تحت قدرته كان يحفظه ويحرسه ويرعاه بإلهام ربّه فيخرج رأسه من الماء مدّة حتى يتنفس يونس ويستنشق الهواء الموافق لمزاجه ولا يأكل إلّا الطيّبات ممّا في البحر ونحو ذلك مما هو موافق للمزاج البشري. واختلف في مدة لبثه في بطن الحوت ، بين ثلاثة أيام وسبعة وعشرين وأربعين يوما وهو تعالى أعلم.

١٤٣ و ١٤٤ ـ (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ...) أي الذاكرين لله تعالى بالتسبيح أو غيره. ولعلّ المراد أنّه كان يقول في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) فلو لا ذلك (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي ليوم الحشر الأكبر ، ولبث : بقي.

٨٧

١٤٥ ـ (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ...) أي أمرنا الحوت بالخروج إلى ساحل البحر فرماه من بطنه إلى أرض عارية من الأشجار والنباتات خالية من الجبال والتّلال مسطّحة (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي كفرخ الطائر الذي لا ريش عليه أو المولود خرج من بطن أمّه من ساعته ، متعبا ممّا ناله في بطن الحوت من الضّعف والهزال.

١٤٦ ـ (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ...) أي أنشأنا شجرة الدّباء وغطّيناه بورقها العريض بعد إنباتها حتى لا يتأذّى من حرارة الشمس والذباب ، فإنه قيل : من خواصّ القرع أن الذباب لا يدور مداره ، ولا يقربه حيث يتأذى من رائحته. فكان يونس عليه‌السلام محفوظا به ويستفيد من أكله ثمره. فلمّا مضت مدة بحيث نبت لحمه واشتدّ عظمه ثم إن الأرضة أكلت الشجرة فيبست من أصلها فحزن يونس عليها حزنا شديدا فقال : يا ربّ كنت استظلّ تحت هذه الشجرة من الشمس والريح ، وكنت آكل من ثمرها ، وقد سقطت. فقيل له : يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة وأسقطت بعدها ، ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم وفررت منهم؟ فانطلق إليهم ، وذلك قوله :

١٤٧ و ١٤٨ ـ (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ...) قيل لمّا وصل خبر مجيء يونس إلى أهل نينوى وعودته إليهم خرج الملك وجميع أهل البلد إليه واستقبلوه بحفاوة فدعاهم إلى ما دعاهم اليه أول الأمر من التوحيد ورفض الشّرك. أما (أَوْ) فقيل هي بمعنى بل ، وقيل بمعنى الواو ، وقيل للتخيير ، أي كانوا عددا لو نظر إليهم الناظر لقال هم مائة ألف أو يزيدون. وقد دعاهم عند عودته من جديد (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي قبلوا منه وأجابوه فمتّعناهم إلى انقضاء آجالهم المقضيّة. ولمّا أمر سبحانه وتعالى نبيّه في أول السّورة باستفتاء قريش عن جهة إنكارهم البعث ، ساق كلامه إلى قصص الأنبياء وبيان عقوبات أممهم الذين كانوا

٨٨

مشركين ومساوين لقريش في عقائدهم الباطلة تنبيها لكفار قريش وغيرهم ، وإنذارا لهم ، ثم جرّ الكلام ثانيا إلى كفرة أهل مكة وأمر نبيّه باستفتائهم على وجه القسمة غير المرضيّة وهو تخصيص الإناث بالله سبحانه والذّكور بأنفسهم فقال سبحانه : يا محمد :

* * *

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧))

١٤٩ و ١٥٠ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ ...) أي أطلب منهم الحكومة في تقسيمهم واسأل بني خزاعة وبني مليح وجهينة الذين يقولون بأن الملائكة بنات الله : ما وجه الاختصاص؟ ولماذا كانوا هم يكرهون البنات ويتشاءمون بهنّ وكانوا يدفنونهنّ في الحياة بعد ولادتهنّ؟ وقد قال القمي : قالت قريش إن الملائكة هم بنات الله فردّ الله عليهم بقوله تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) : أي حين خلق الملائكة هل رأوا خلقه لهم؟ وهذا استفهام تقريع. أي كيف يقولون ذلك ويضيفون الأنوثية إلى الملائكة مع عدم حضورهم ومشاهدتهم لخلقهم ولا يمكن معرفة

٨٩

مثل ذلك إلّا بالمشاهدة؟

١٥١ و ١٥٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ ...) أي من افترائهم زعموا أن الملائكة بنات الله وقالوا كذبا (وَلَدَ اللهُ) فردّ الله عليهم بقوله : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما ينسبونه إليه تعالى.

١٥٣ ـ (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ...) استفهام إنكار ، أي ليس الأمر كما يزعمون ، فكيف يختار الله تعالى من هو الأدنى على الأعلى مع كونه حكيما عليما قادرا؟ ثم وبّخهم بقوله :

١٥٤ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ ...) عدل سبحانه عن الغيبة إلى الخطاب استعظاما لقولهم وتأكيدا لردّهم. أي بأيّ برهان ودليل تقولون بهذه المقالة المشؤومة وتحكمون بهذه الحكومة الباطلة؟

١٥٥ ـ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ ...) أي أفلا تتنبّهون وتفتهمون أنه سبحانه منزّه عن ذلك؟

١٥٦ و ١٥٧ ـ (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ...) أي هل عندكم برهان واضح نزل عليكم من السّماء بأن الملائكة بناته والعياذ بالله من ذلك (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل إليكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم. والمراد أنه لا دليل لكم على ما تقولونه من جهة عقل ولا من ناحية شرع.

* * *

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))

٩٠

١٥٨ ـ (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ...) أي قال الكفرة إن بين الله سبحانه وبين الجنّ نسبة المصاهرة تعالى الله عما يقول الظّالمون علوّا كبيرا (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) أي : إنّ المشركين (لَمُحْضَرُونَ) في يوم الحساب وأنّهم في النار. وقيل ولقد علمت الملائكة أن هؤلاء الذين قالوا هذا القول محضرون في العذاب يوم القيامة. وسمّيت الملائكة جنّة لاستتارهم عن العيون كما أن الجن كذلك ، وكل ما كان مستورا عن العيون يسمّيه العرب جنّا لأن الجنّ مستورة عن العيون.

١٥٩ و ١٦٠ ـ (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ...) نزّه هو تعالى نفسه المقدّسة عمّا لا يليق به من الولد والنسب وممّا وصفه به الكافرون ، ثم قال : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى عباده الذين استخلصهم لنفسه من القائلين بهذه الأقوال السّخيفة التي أوجبت الدخول في النار. يمكن أن يكون هذا الاستثناء منقطعا من (يَصِفُونَ) أو من (لَمُحْضَرُونَ) أو هو متّصل منه إن عمّ ضمير : هم ، وما بينهما اعتراض. ثم إنه تعالى بعد ذلك عاد يخاطب المشركين عموما فيقول :

* * *

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣))

١٦١ إلى ١٦٣ ـ (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ...) أي أيّها الكفرة خاصّة أو مع الجنّة والأصنام التي تعبدونها لأن مصيركم ومصيرها واحد (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) ما أنتم عن الله وعن دينه بمضلّين أحدا (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ)

٩١

إي الا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار فهو لا محالة يصلى جحيم النار. وقيل إن ضمير (عَلَيْهِ) يرجع إلى الموصول أي (ما) تعبدون والتقدير : إنكم وما تعبدونه ما أنتم بفاتنين عن عبادة الله أحدا إلّا من كتب عليه أنه يصلى الجحيم وقدّر له ذلك ، فهو بمشيئته تعالى وتقديره له صال الجحيم لا بقدرتكم. والحاصل أنكم أيّها المشركون وأصنامكم التي تزعمون أنها آلهتكم لا تقدرون على إغواء أحد من عباد الله ولا على إضلالهم عن دينهم إلّا أن يشاء الله أن يرتدّ عن دينه ويموت على ارتداده ويصلى سعيرا. ثم إنه سبحانه ردّا على من زعم أن الملائكة آلهة وصاروا يعبدونهم ، أمر أمين وحيه جبرائيل عليه‌السلام أن يخبر حبيبه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه وأتباعه كلّهم يعبدون خالقهم وبارئهم فقال قل لنبيّنا محمد :

* * *

(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

١٦٤ إلى ١٦٦ ـ (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ...) يعنى ليس لأحد منّا إلا وله بعبادته مكان مقرّر متعيّن لا يتجاوزه ، وذلك على قدر مراتبنا ودرجاتنا علما ومعرفة وعملا ـ وهذا من الكلام الذي يجري على ألسنة الملائكة أو غيرهم ممّن عبده المشركون ـ فقد قالوا ذلك وقالوا : ليس لنا قابليّة المعبوديّة ومقامها

٩٢

فإن تلك القابليّة والعلّو والرفعة منحصرة بذاته المقدّسة جلّت عظمته ، فهو الذي خلق الأشياء كلّها بقدرته وما لأحد من المخلوقين مشاركته في الرّبوبيّة إذ أين الثّرى من الثرّيا. فهذه الشريفة حكاية اعتراف الملائكة بالعبوديّة ، للرّد على عبدتهم وقد قالوا أيضا (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي المصطفّون للصلاة وهي أعظم مصاديق الطاعة والخضوع له تعالى ومنازل الخدمة. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المنزّهون الله تعالى عمّا لا يليق به. ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى مقام طاعتهم حين اصطفاهم للصلاة ، والثاني دلالة على درجاتهم في المعرفة التي أوصلتهم إلى تنزيهه جلّ وعلا. وفي نهج البلاغة في وصف الملائكة : صافّون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون. وفي القمي أن جبرائيل (ع) قال : يا محمد إنّا لنحن الصافّون ، وإنّا لنحن المسبّحون. وعن الصادق عليه‌السلام : كنّا أنوارا صفوفا حول العرش نسبّح فيسبّح أهل السماء بتسبيحنا إلى أن هبطنا إلى الأرض فسبّحنا فسبّح أهل الأرض بتسبيحنا ، وإنّا لنحن الصافّون ، وإنّا لنحن المسبّحون. وفي الرّواية أن المسلمين كانوا قبل نزول هذه الآية الشريفة لا يراعون تنظيم الصفوف في صلاة الجماعة ، فلمّا نزلت الآية اهتمّوا بالصف المرتّب ، والله تعالى أعلم.

١٦٧ و ١٦٨ و ١٦٩ ـ (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ...) المقصودون هم كفّار مكة. و (إِنْ) هي المخفّفة من (أنّ) و (اللّام) هي الفارقة. والمعنى أنهم بالتأكيد كانوا يقولون : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً) أي يا ليت كنا نملك كتابا أو شيئا آخر يذكّرنا بالله وبالحق. ونقل أن كفار مكة كانوا قبل البعثة يقولون : لو كان لنا كتاب لكنّا نتّبعه ونترك الشّرك ولا نكذّبه مثل اليهود والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل فكذّبوهما ولم يطيعوا أوامرهما ونواهيهما. فلمّا نزل القرآن الذي كان أشرف وأعظم الكتب السّماوية لم يقبلوه ولا

٩٣

أطاعوه بل كذّبوه ونسبوه الى غيره تعالى وغير رسوله فأخبر سبحانه وتعالى رسوله بذلك قائلا له : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) يعني أن المشركين قبل نزول القرآن كانوا يتمنّون أن ينزل عليهم الكتاب فلما جئتهم بكتاب من عندنا رجعوا عمّا كانوا عليه. و (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي من جنس كتب الأقدمين. فلو كان لنا ذلك (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا العبادة له تعالى ، أو إن الله تعالى أخلص عبادتهم له واختصّها بذاته فما كانت فيها شائبة الشّرك والرياء والسّمعة ، فعلى ذلك تقرأ الصّفة بصيغة المفعول.

١٧٠ ـ (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ...) أي حين جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابه الكريم أعرضوا عمّا قالوا وأصرّوا على جحدهم وعنادهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم. وهذه الجملة تهديد ووعيد لكفار مكة وكذا الآيات اللّاحقة وعيد لقريش ووعد بالنصر والغلبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا

٩٤

يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

١٧١ إلى ١٧٣ ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) ... إنّ الله تعالى حلف بأنه قد تقدّم في علمنا وقضائنا و (كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) التي فسّرها سبحانه وتعالى بقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) فهذه الشريفة بيان ل (كَلِمَتُنا) واللام في قوله لقد سبقت لام جواب القسم (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) فهو تعالى أضاف المؤمنين إلى نفسه ووصفهم بأنهم جنده تشريفا لهم وتنويها بذكرهم حيث قاموا بنصرة دينه. وقيل معناه أن رسلنا هم المنصورون لأنهم جندنا ، وأن جندنا هم الغالبون الذين يقهرون الكفار بالحجة تارة وبالفعل أخرى. والمراد بسبق الكلمة إثباته في اللوح المحفوظ كما قال تعالى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ثم إنه سبحانه بعد بيان الأدلة الواضحة على بطلان مذهب أهل الشرك والنفاق ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حال كونهم ثابتين على شركهم وجحودهم بعد هذه البراهين السّاطعة والحجج القائمة عليهم ـ بالإعراض عنهم ، فقال :

١٧٤ و ١٧٥ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) ... أي فاعرض عنهم إلى موعد الأمر بقتالهم وانقضاء إمهالهم وحصول وقت نصرك. وقيل هو يوم بدر ، وقيل يوم الفتح. فانتظر أمرنا لك بذلك (وَأَبْصِرْهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي اجعلهم على بصيرة بضلالتهم وعاقبة إشراكهم وعمّا قريب يرون ما وعدناك به من النصر في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. وكأنهم قالوا : متى هذا العذاب الموعود فنزلت الشريفة :

١٧٦ و ١٧٧ ـ (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) ... أي هل يطلبون التعجيل في العذاب؟ قل لا تستعجلوا (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي إذا حلّ بفنائهم بغتة كما يستعجلون (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) فلبئس الصّباح صباح الذين يحذّرون ولم يحذروا. والسّاحة معنّاها الدار وفناؤها. وكانت العرب

٩٥

تفاجئ أعداءها بالغارات صباحا فخرج الكلام على عادتهم. هذا ، ولأن الله تعالى أجرى العادة بتعذيب الأمم وقت الصّباح كما قال (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) لأن وقت الصباح وقت الاستراحة وفراغ البال وغير مترقّب فيه هجوم الأعداء ونزول البلاء ، فالعذاب في هذا الوقت أصعب وأشدّ على الإنسان كما هو المشاهد بالوجدان ولا يحتاج إلى البرهان.

١٧٨ و ١٧٩ ـ (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ...) كرّر الآيتين تأكيدا لتسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولتهديد قومه. أو أن الأولى لعذاب الدنيا مثل بدر والفتح وأشباههما كما فسّرت ، والثانية للآخرة ، وبناء على ذلك هذا الكلام تأسيس لا أنّه مفيد للتأكيد. ثم نزّه سبحانه ذاته المقدّسة عن وصفهم وبهتانهم بقوله :

١٨٠ إلى ١٨٢ ـ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ...) أي منزّه ربّك الذي هو ذو قوّة وغلبة ، (عَمَّا يَصِفُونَ) عمّا يقوله المشركون من اتّخاذ الأولاد والشريك (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) المبلّغين عن الله دينه ليهدوا الناس (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما أفاض عليهم وعلى من اتّبعهم من النّعم وحسن العاقبة. وفيه تعليم المؤمنين للحمد والتّسليم. وفي الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل إذا أراد أن يقوم من مجلسه : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.

٩٦

سورة ص

مكية وآياتها ٨٨ نزلت بعد القمر.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥))

١ ـ (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ...) في المعاني عن الصّادق عليه‌السلام : وأمّا ص فعين تنبع من تحت العرش ، وهي التي توضّأ منها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عرج به ، الحديث ، وعن الكاظم عليه‌السلام بعد ما سئل عنه ، قال عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال لها ماء الحياة. وروي انه اسم من أسماء الله تعالى. وفي بعض الأدعية أنه من أسماء النبىّ (ص) (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) هذا قسم وجوابه قوله :

٩٧

٢ ـ (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ...) إضراب عمّا سبق ، أي ليس في القرآن نقص ولا قصور ، ولا ريب في إعجازه ، بل التقصير والعيب في الكفرة الذين هم في استكبار عن الحق وخلاف لله ورسوله ولذلك كفروا به وأخذتهم العزّة في الكفر والعناد.

٣ ـ (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ...) هذه الشريفة تهديد لهم على كفرهم ونفاقهم فقد دمّرنا الكثيرين قبلهم ممّن كفروا (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي نادوا باستغاثة وتضرّعوا حين نزول العذاب عليهم ولكن ليس الحين والوقت وقت مفرّ ولا يفيد في ذلك الوقت الندامة والرجوع لأنه وقت معاينة العذاب. وهو كقوله (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا) وقوله (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا) وأما لفظ (لاتَ) فقال سيبويه : إنّ لات هي (لا) المشبّهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على (رب) و (ثم) للتأكيد وبسبب هذه الزيادة اختصّت بأحكام : منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان ، ومنها أنها لا يبرز الّا أحد جزأيها : إمّا الاسم وإمّا الخبر ، ويمتنع بروزهما جميعا. وقال الأخفش أنها (لا) النّافية للجنس زيدت عليها التاء ، وخصّت بنفي الأحيان و (حِينَ مَناصٍ) منصوب بها كأنك قلت : ولات حين مناص لهم ، وقد يرتفع بالابتداء ، أي : ولات حين مناص كائن لهم. والمناص المنجى والغوث ، وناصه ينوصه إذا أغاثه.

٤ ـ (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ...) قال الكفرة إن محمدا منّا وهو مساو لنا في الخلقة والشكل والنّسب ، يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق فكيف يختصّ من بيننا بهذا الأمر العظيم وهو من رهطنا وعشيرتنا؟ فاستنكفوا عن الدخول تحت طاعته والانقياد لأوامره ونواهيه. وما كان سبب هذا التعجّب منهم ، إلّا الحسد والكبر (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) وضع الظاهر فيه موضع الضمير غضبا عليهم وذمّا لهم وإشعارا

٩٨

بأن كفرهم جسّرهم على هذا القول الشنيع حيث يطلقون على المعجزة سحرا وعلى قول الحق كذبا ، فالويل لهم ثم الويل لهم.

٥ ـ (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ...) أي بالغ في العجب مبلغا لا يتحمّل حين دعا إلى ربّ واحد ... فكيف نترك ثلاثمئة وستّين صنما ، ونأخذ بإله واحد ونعبده فقط؟ فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا.

* * *

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

٦ ـ (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ...) أي الأشراف منهم خرجوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب (ع) وهم يقولون اثبتوا على آلهتكم واصبروا على دينكم وتحمّلوا المشاق في سبيل آلهتكم وعبادتها وإطاعتها كما حكى قولهم سبحانه (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي هذا

٩٩

الذي يقوله محمد من أمر الله وتوحيده شيء يريده ولا يمكن أن يصرفه عمّا أراده صارف ، ولا يستنزله عن عزمه مستنزل ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله وصرف نظيره عنه ، وما نزل علينا من نوائب الدّهر على يده فلا خلاص لنا منه ولا انفكاك ولا مردّ له.

٧ ـ (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ...) أي ملة عيسى وأتباعه من النصارى. أي هذا التوحيد الذي أتى به محمد ما سمعناه في دين النّصارى وهو آخر الملل. قال ابن عباس : إن النصارى لا يوحّدون الله ، وإنهم يقولون : ثالث ثلاثة (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي كذب اختلقه واخترعه من عند نفسه ولا برهان له على دعواه. وقد قال القمّي : نزلت بمكة لما أظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدعوة بمكة اجتمعت قريش على أبي طالب عليه‌السلام وقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبّاننا وفرّق جماعتنا ، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش ، ونملّكه علينا. فأخبر أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أموت دونه. ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونون ملوكا في الجنّة فقال لهم أبو طالب ذلك ، فقالوا : نعم وعشر كلمات. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تشهدون أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله. فقالوا : ندع ثلاثمئة وستين إلها ونعبد إلها واحدا؟ فأنزل الله تعالى (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إلى قوله (إِلَّا اخْتِلاقٌ).

٨ ـ (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ...) إنكار لاختصاصه بالوحي وهو منهم أو أدنى منهم في الرئاسة وكثرة الثروة بحسب عقيدتهم الفاسدة. فمبدأ تكذيبهم ليس إلّا الحسد وقصر النظر والتهالك على حطام الدّنيا ،!

١٠٠