الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

٥٠ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ...) فمن حالات أهل الجنة التي يتلذّذون بها هو المحادثات والكلام عن المعارف وما جرى بينهم في الدنيا وفي عالم البرزخ إلى يوم ورودهم إلى الجنّة ، ولا سيّما في هذه الحالات من كونهم على السّرر بجانب الحور ، والغلمان تخدمهم وتدور عليهم بالكؤوس المملوءة بالخمر فيشربون ويتحادثون ، وهذه ألذّ حالات الإنسان وقد قيل :

وما بقيت من اللّذات إلّا

أحاديث الكرام على المدام

٥١ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ...) أي حينما يتكالمون يقصّ واحد منهم على الجلساء حكاية فيقول : كان لي في الدنيا قرين منكر للبعث وكان يقول لي توبيخا :

٥٢ ـ (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ ...) أي أأنت تصدّق الحشر وتقبل النشر كما يقول بذلك جماعة من أتباع محمد (ص) فلا يزال يوبّخني هذا الجليس على التصديق بالبعث ويقول لي :

٥٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ...) أي بعد ما نصير ترابا كما نشاهد أعضاء الماضين من أهالينا وغيرهم ، وتصير عظامنا رفاتا (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي نحيا ونحشر ونحاسب ونجازى على أعمالنا؟ وقد كان يقول ذلك على

٦١

وجه الاستنكار وأنّ هذا لا يكون أبدا. والإتيان بالجملة الاسميّة أبلغ في النفي. والمدين من الدّين بمعنى الجزاء ومنه يوم الدّين أي الجزاء.

٥٤ ـ (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ ...) أي أنّ الذي يقصّ على جلسائه يسألهم قائلا : هل تطّلعون إلى أهل النار؟ وهل في الجنّة موضع يرى منه أهل النار لأريكم ذلك القرين؟ يفتح لهم كوّة من الجنّة نحو النار ليرى هذا المؤمن قرينه فيقال له : انظر إلى قرينك وجليسك المنكر للبعث والجزاء.

٥٥ ـ (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ...) أي أشرف من تلك الكوّة على أهل الجحيم فرأى جليسه في وسط النار. وفي القمي عن الباقر عليه‌السلام : في وسط الجحيم ، وقيل إنّ في الجنّة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار.

٥٦ ـ (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ...) أي لتهلكني ، يعني قال القائل بعد ما اطّلع على حال قرينه مخاطبا له تالله قد كان قريبا أن تهلكني بالإغواء وتجعل حالي كحالك. و (إِنْ) مخفّفة من المثّقلة بدلالة مصاحبته (لام الابتداء) لها أي أنّك كدت تهلكني بما دعوتني إليه في الدنيا بقولك لا نبعث ولا نعذّب ، ومن مات فات.

٥٧ ـ (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ...) أي لو لم يشملني لطفه تعالى بالهداية والعصمة لي لكنت أنا معك في النار. ولا يستعمل (أحضر) إلّا في الشرّ ، وهكذا قيل كما بيّنا ذلك سابقا وضربنا الأمثلة العديدة.

٥٨ و ٥٩ ـ (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى ...) ثم إن المؤمن يخاطب قرينه ويقول له توبيخا وتقريعا أما قلت في الدّنيا لا نموت (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي كانت في الدّنيا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) حيث كنت تنكر

٦٢

البعث والعذاب. أرأيت أنّ الأمر ظهر على خلاف ما تعتقده وتزعمه ، فإنه تعالى بعد ما أماتنا في الأولى ، أحيانا في العقبى كما ترى أفما صرنا ميّتين معكم في الدّنيا ، والآن نحن وأنتم أحياء ، ونحن عند ربّنا مرزوقون في جنّات النعيم وأنتم أيّها المنكرون للبعث والنشور في درك الجحيم. وفي أكثر التفاسير أنّ هذا الكلام من مقالات أهل الجنة ومكالماتهم فيما بينهم تعجّبا وسرورا بدوام نعيم الجنّة. فقولهم (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) يعني أنحن مخلّدون ولم يعد من شأننا الموت (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي في الدنيا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على الكفر السّابق قبل الإيمان؟ ويؤيّد القول الأخير تعقيب الآيات السابقة بقوله تعالى :

٦٠ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ...) أي النعمة والخلود في الأمن من العذاب ، والظفر من المهالك والنجاة من المكاره ، وعظيم كمال العظمة بناء على كونه من قول الله تعالى تصديقا لقول المؤمن لا أنّه أيضا من قول المؤمن.

٦١ ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ...) وهذا الكلام يحتمل أن يكون من قوله تعالى ، أي لمثل هذه النعم التي ذكرناها ينبغي أن يعمل العاملون في دار الدّنيا ، ويحتمل كونه من قول أهل الجنّة.

* * *

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ

٦٣

الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

٦٢ ـ (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ...) أي هل ما ذكر من الرّزق المعلوم وسائر النّعم خير نزلا؟ والنّزل ما يعدّ ويهيّأ للضّيف بل لكلّ نازل من المكان والغذاء وسائر التشريفات ممّا يتقوّت به وغيره. فهل نزل أهل الجنّة خير أم نزل أهل النّار وهو الزقّوم مع أنّه لا خير فيه؟ وإنّما قال (خَيْرٌ) على وجه المقابلة. ومن هذا القبيل من التّعابير كثير كقوله (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) قال أبو السّعود في تفسيره : الزقّوم شجرة صغيرة الورق زفرة كريهة الرائحة مرّة غاية المرارة ولا شبهة في كون ما في الجحيم أنتن وأمرّ بمراتب من كلّ ما يتصوّر. ولأهل جهنّم وراء هذا أنواع من العذاب وأصناف من العقاب لا تخطر بخواطر أحد. وشجر الزقوم موجود بتهامة. ولما سمع كفّار مكة أن شجر الزقوم ينبت في البرزخ تعجّبوا وقالوا إنّ نار جهنّم تذيب الحديد على زعم محمد وتابعيه من شدّة حرّها فكيف ينبت فيها شجرة الزقّوم ولا تحرقها؟ فمن هذا الخيال الفاسد استنتجوا بأن قول محمد هذا كذب وكذا سائر أقواله فقال تعالى ردّا عليهم :

٦٤

٦٣ ـ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ...) أي اختبارا لهم في الدّنيا حيث إنهم كذّبوا نبيّنا لمّا سمعوا بأن في الجحيم شجرة الزقّوم جهلا بقدرتنا وأنّنا أعددناها محنة وعذابا لهم في الآخرة. فالله سبحانه يشرح حال تلك الشجرة لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٦٤ ـ (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ...) أي منبتها في قعر جهنّم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ولا بعد أن يخلق الله تعالى بكمال قدرته شجرة في النار من جنس النار أو من جوهر ضد النار فلا تأكله النار ولا تؤثّر فيه كما أنها لا تحرق السّلاسل والأغلال والحيّات وعقاربها ، وكما أنّه سبحانه بقدرته خلق السّمندر في النار ينشأ وينمو فيها ويبيض فيها ويطلع منه الفرخ ويربيّه فيها. ثم أكمل سبحانه وصفها بقوله :

٦٥ ـ (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ...) أي ثمر الشجرة شبيه برؤوس الشياطين في الكبر أو في التشويه وتناهي القبح والكراهة في الصورة. وبعبارة أخرى وجه التشبيه الله أعلم به ولعله هو الأخير حيث يتخيّل الإنسان أن رأس الشياطين وبني الجانّ ليس كرويّا صورة ، بل يجيء في النظر التوهّمي أنّه مخروطيّ من طرف ذقنهم إلى منتهى رأسهم بطول من غير عرض. فهو باصطلاح أهل المساحة مخروطي يبتدئ بسطح مستدير ويرتفع مستدقّا حتى ينتهي إلى نقطة ضيّقة. فحمل هذه الشجرة وثمرها شكلا هكذا. ويؤيّد هذا المعنى استعارة لفظ الطّلع الذي هو من النّخل شيء يخرج كأنّه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود. والحاصل أن طلعها مستعار من طلع التمر المستطيل مخروطيّ الصّورة تقريبا ، وهو من أقبح الصّور في الحيوان المستقيم القامة كالإنسان وبني الجان وأمثالهما من الشياطين إذا كانوا على الاستقامة. وعلى كل تقدير :

٦٦ ـ (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ...) أي أن طعام أهل النار من ثمرة تلك الشجرة يملأون منها بطونهم من شدّة الجوع فيغلي في

٦٥

بطونهم كغلي الحميم ، فاذا شبعوا من أكل الزقوم يشتدّ عطشهم فيحتاجون إلى الشراب فعند هذا وصف الله تعالى شرابهم فقال :

٦٧ ـ (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ...) أي أنّ لأهل النار بعد أكل ثمرة الزقّوم أن يغلب عليهم عطش شديد ويطول استسقاؤهم إذ إنّ فيهم (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي من ماء حارّ في غاية الحرارة مخلوط بغسّاق أو صديد يقطّع أمعاءهم.

٦٨ ـ (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ...) أي بعد الأكل والشرب يردّونهم إلى الجحيم. وظاهر الآية يدل على أنّ الحميم خارج عن الجحيم وأنهم يوردونهم إليه أوّلا ثم يردّون إليها. ويؤيّد هذا الظهور قوله سبحانه (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) فهم يوردون إليه كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يردّون إلى الجحيم.

٦٩ ـ (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ...) أي وجدوهم على الضّلالة فاقتفوا آثارهم وتسرّعوا إلى اتّباعهم كما قال سبحانه :

٧٠ ـ (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ...) الإهراع هو الإسراع الشّديد ، كأنّهم يزعجون ويحملون على الإسراع على أثر آبائهم. وفيه إشعار بالمبادرة إلى ذلك من غير توقّف على فكر أو بحث ونظر. فالشريفة تعليل لاستحقاقهم تلك الشّدائد. ثم إنه تعالى تنبيها لقريش وسائر كفار مكة أخبر رسوله عن الأمم الماضية والقرون السّالفة فقال عزّ من قائل :

٧١ ـ (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ...) (اللّام) هي التي تدخل على جواب القسم المحذوف و «قد» للتّأكيد. أي قبل هؤلاء الذين هم في عصرك من المشركين الذين كذّبوك ، ضلّ أكثر الأمم السّالفة.

٧٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ...) أي الأنبياء والرّسل لإنذارهم ، فأنذروهم وخوّفوهم ووعظوهم فما خافوا وما اتّعظوا.

٦٦

٧٣ ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ...) أي انظر كيف أهلكناهم ، وماذا حلّ بهم من العذاب. ثم استثنى فئة من المنذرين فقال :

٧٤ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) أي الذين تنبّهوا بإنذارهم واتّعظوا بمواعظهم فأخلصوا دينهم لله فأخلصهم الله لدينه. ثم انه سبحانه بعد بيان ذكر الأمم الماضية إجمالا أخذ في تفصيل قصصهم فقال :

* * *

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

٧٥ ـ (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ...) أي حين آيس نوح عليه‌السلام من إيمان قومه به نادى ربّي انصرني ونحوه (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن الإجابة. و (اللّام) في قوله (فَلَنِعْمَ) لام جواب القسم ، أي فوالله لنعم المجيبون نحن.

٧٦ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ...) أهل الرجل هو زوجته ، ويطلق على عشيرته وقومه. وأهل مذهبه هو من يدين به. والمراد هاهنا هو معناه الأخير سواء كان من عشيرته وقومه أو من غيرهم ، أي

٦٧

الجماعة الذين كانوا معه في السّفينة ، أي رفعنا العذاب عنه وعمّن آمن به وخلّصناه (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) والكرب كلّ غمّ يصل حرّه إلى الصّدر بحيث يعرض عليه ضيق ربما يكاد أن يختنق منه الإنسان. والمراد به هنا هو الغرق ، بقرينة صفته ، أو أذى قومه فأنّه في هذه المدّة الطويلة ينبغي أن يتّصف بالعظيم.

٧٧ ـ (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ...) أي بعد الغرق. فالناس كلّهم من بنيه الثلاثة وهم : سام بن نوح ، وحام بن نوح ، ويافث بن نوح. وجاء في خبر انّ أهل الفرس والرّوم والعرب من أولاد سام ، والترك والصقالبة وهم قوم كانت تتاخم بلادهم بلاد الخزر ثم انتشروا منها إلى بلاد سواها من أوربا. وقرئ بالسين (سقالبة جمع سقلبي) والخزر طائفة من الناس خزر العيون والخزر هو ضيق العين ومنه بحر الخزر المعروف في إيران وسمّي البحر باسم الجيل الذين كانوا يسكنون في سواحله وكلا الطائفتين انتشروا من هناك إلى أقطار متعددة منها أوربا وغيرها. والخزر ويأجوج من نسل يافث ، والهنود والسود جميعا من أولاد حام. وعن الكلبي أن نوحا لمّا خرج مع من كان معه من السفينة مات كلّ من كان معه إلّا أولاده وزوجاتهم. وفي القمّي عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية أنه كان يقول : الحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه ، وليس كلّ من في الأرض من بني آدم من ولد نوح. قال الله عزوجل في كتابه : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال أيضا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ).

٧٨ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) أي أبقينا لنوح ذكرا جميلا وثناء عاليا في الأمم المتأخّرة عنه كأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة ، وكأنّه يبيّن مراده من الثناء والذكر الجميل بقوله تعالى :

٦٨

٧٩ ـ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ...) يحتمل كون هذه الجملة بيانا لما ترك عليه من الذكر الجميل ، فكأنه قال : تركنا على نوح التسليم والصّلوات إلى يوم القيامة في الأمم اللّاحقة. نعم ، وأيّ تذكار وثناء جميل أحسن وأعلى منهما؟

٨٠ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ...) أي مثل ما جزينا نوحا نفعل ونجزي كلّ من أحسن وفعل ما فعله نوح ، وأتى بأفعال الطّاعات وتجنّب المعاصي.

٨١ ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ...) أي أنّ نوحا منهم. وهذه الشريفة تتضمّن مدح المؤمنين حيث خرج من بينهم مثل نوح عليه‌السلام.

٨٢ ـ (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ...) أي كفرة قومه. ثم إنه تعالى بعد قصة نوح وقومه شرع في بيان قصة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وعرض كيفيّة مجادلته مع قومه قال سبحانه وتعالى :

* * *

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧))

٨٣ ـ (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ...) أي من أتباع نوح عليه‌السلام في أصول شرعه وكثير من سننه وطريق الحق وإيذائه من قومه إبراهيم عليه

٦٩

السلام. والفاصل بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة وكان في هذه المدة رسولان أحدهما هود ، والآخر صالح. وفي تفسير اللّباب وبعض آخر من التفاسير أن الضمير في قوله (مِنْ شِيعَتِهِ) راجع إلى خاتم الأنبياء محمد (ص) كناية غير مذكورة في الكلام المكنّى عنه لا سابقا ولا لاحقا فإن إبراهيم وإن كان سابقا على خاتم الأنبياء صورة أما معنى. وفي عالم الواقع فكان تابعا له في أصول عقائده وفروعها ، وذلك أنّ الله سبحانه لما أرى إبراهيم ملكوت سماواته توجّه عليه‌السلام إلى العرش فرأى نورا عظيما وفي يمينه ويساره أنوارا أخرى ، فقال : اللهم من هؤلاء الأنوار؟ فجاءه النداء من ساحة قدسه تعالى : النور الأنور من الكلّ هو حبيبي وصفيّي محمد خاتم أنبيائي ، ومن على يمينه هو وصيّه وزوج ابنته فاطمة وأخوه علي بن أبي طالب ، ومن على يساره هي ابنته فاطمة الزهراء زوجة خير الأوصياء ، سمّيتها فاطمة لأنّها تفطم أحبّاءها من النار ، أي تمنعهم منها كما تفطم الأمّ رضيعها من لبنها. وأمّا النوران الآخران فهما الحسن والحسين ولداها. فقال : يا ربّ أرى أنوارا تسعة أحاطوا بالخمسة؟ فجاء النداء : هم الأئمّة من ولد الحسين. فقال يا ربّ أرى أنوارا كثيرة تدور حول الأنوار المذكورة المعروفة. فجاءه النداء : إنّهم المحبّون لعلي بن أبي طالب وأشياعه. فقال يا ربّ اجعلني من شيعتهم ومحبّيهم. فالله تعالى استجاب دعاءه ، وأخبر نبيّه بذلك فقال سبحانه (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي من شيعة عليّ عليه‌السلام إبراهيم ، ومن كان من شيعة عليّ فهو من شيعة محمّد وآله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم. ولعلّ بهذه المناسبة قال المفسّرون إن الضّمير راجع إلى النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والله تعالى أمر نبيّه أن يتذكّر قصّته ويذكرها لقومه.

٨٤ ـ (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ...) أي حين صدّق الله وآمن به بقلب خالص من الشّرك برىء من المعاصي ، وعلى ذلك عاش وعلى ذلك

٧٠

مات. وقيل بقلب سليم من كلّ ما سوى الله ، لم يتعلق بشيء غيره كما عن أبي عبد الله عليه‌السلام والصّلاة ، وقيل من حبّ الدنيا.

٨٥ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ؟ ...) ظرف لجاء أو سليم. أي كان قلبه حين قيامه لترويج دين الله وشرعه بمبارزته مع المشركين وعبدة الكواكب والأصنام على اختلاف آرائهم فارغا وسالما عن جميع ما سوى الله. ولعلّ المراد بالأب هو عمّه آزر لأنه كان قائما بأموره في صغره كما ذكرنا سابقا ، والولد إذا مات أبوه وله عمّ يقوم مقام أبيه في تربيته وتجهيز أموره فيعرف بأنه أبوه. والطفل لا يعرف أبا غيره إلى أن يكبر. ففي حين الكبر احتراما وتشريفا جبرا لإحسانه أيضا يطلق عليه (الأب) تنزيلا ، كما أن المعروف والمتعارف عند الناس أنهم يطلقون (الأب) على كلّ شائب احتراما (ما ذا تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء تعبدونه من دون خالقكم وخالق ما تعبدونه؟ قال لهم ذلك إنكارا وتقريعا.

٨٦ ـ (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ...) الإفك هو أشنع الكذب ، وأصله قلب الشيء عن جهته الّتي هو عليها أي هل تعبدون عبادة كذبا ، وتريدون عبادة آلهة غير الله للكذب والبهتان؟ وتقديم المفعول له أي «الإفك» للاهتمام به والعناية وكذا المفعول به. يعني لا تصلون إلى ما تقصدون وتريدون من إطفاء نور الله تعالى بعبادة غيره سبحانه أبدا.

٨٧ ـ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ؟ ...) أي ما زعمكم وعقيدتكم بمن هو حقيق بالعبادة ، وأنتم أشركتم به غيره كأنكم أمنتم من عذابه. ثم إنّ قومه كان لهم عيد ومهرجان في يوم مخصوص من أيام السّنة فعزموا أن يأخذوه معهم فاعتذر.

* * *

٧١

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣))

٨٨ إلى ٩٠ ـ (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ...) أي بعد أن نظر في النجوم (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) مريض. وكان المنجمون من قومه يخافون العدوى ، فخافوا أن يكون به مرض يؤثّر فيهم وينتقل إليهم وكانت أغلب أسقامهم يومئذ بالطّاعون ، ولذلك حكى تعالى عنهم بقوله (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي تركوه هاربين خوفا من كون مرضه الطاعون وهو مرض سار ، فلمّا ذهبوا بأجمعهم إلى عيدهم دخل المعبد :

٩١ و ٩٢ ـ (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ ...) أي ذهب إليهم خفية ومال عليهم سرّا وكان عندهم طعام زعموا أنهم يأكلونه أو يتبارك فيهم (فَقالَ) إبراهيم (ع) للآلهة استهزاء : (أَلا تَأْكُلُونَ) من هذا الطعام اللذيذ؟ ولمّا كانت الأصنام أحجارا صمّاء ، قال : (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟) أي لم لا تجيبونني؟ وفي هذا تنبيه على أنّها جماد لا تأكل ولا تنطق ، بل هي أخسّ الأشياء وأدناها.

٩٣ ـ (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ...) أي فمال عليهم مستخفيا. والتعدية بعلى للاستعلاء (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي أخذ يضربهم ضربا باليمين لأنها أقوى. أو ضربهم بقوة كاملة. واليمين كناية عن ذلك. أو المراد بذلك هو الحلف الذي سبق منه وهو قوله (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) يعني بسبب اليمين ، أي الحلف السابق. والحاصل أنه دخل بيت الأصنام وكان فيه اثنان وسبعون صنما وكسّرها كلّها إلّا الكبير منها وكان مصنوعا من

٧٢

ذهب أحمر وكانت عيناه من الياقوت ، فعلّق المعول في رقبة الكبير منها. فلمّا رجعوا من عيدهم وراحوا إلى زيارة الأصنام ورأوا أنها مكسورة تغيّرت أحوالهم.

* * *

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨))

٩٤ ـ (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ...) أي أسرعوا إلى إبراهيم بتمام السّرعة. والزفيف حالة بين المشي والعدو ، فإنّهم لمّا اطّلعوا على ما صنع بأصنامهم قصدوه مسرعين وحملوه إلى بيت أصنامهم وجرت بينهم وبينه المحاورات التي نطق به قوله تعالى في غير هذه السّورة : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) فأجابهم على طريق الحجاج :

٩٥ ـ (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ ...) يعني كيف يصحّ عند عاقل أن يخضع ويعبد مصنوعه ومعموله؟ وهل يعقل الجماد أو هو ذو شعور وهو لا يضرّ ولا ينفع؟ والاستفهام إنكاريّ قد جاء في مقام التّوبيخ. ثم قال إتماما للحجّة على وجه الإرشاد والتّنبيه :

٩٦ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ...) أي الذي ينبغي أن يعبد ويخضع له هو الذي أوجدكم من العدم إلى الوجود ، وكذلك خلق أصول ما

٧٣

تعملونه ، وجواهره كلّها مخلوقة وموجودة بقدرته وإيجاده تعالى في عالم الوجود ، فهو أحقّ بالعبادة والإطاعة. فالشريفة تنبيه كامل على أن الأوثان جمادات وهي أخسّ الموجودات وأدونها فكيف تعبدونها من دون تعقّل ولا رويّة؟

٩٧ ـ (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ...) قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجارة طوله في السّماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملأوه نارا وطرحوه فيه. وذلك قوله (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وقال الزجّاج كلّ نار بعضها فوق بعض فهي جحيم. وقيل إنّ الجحيم هي النار العظيمة.

٩٨ ـ (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ ...) أي أرادوا حيلة في هلاكه بأن أوقعوه في النار بواسطة المنجنيق ورموه في تلك النار العظيمة التي يعبّر عنها بالجحيم (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي أبطلنا تدبيرهم بأن صاروا مقهورين وجعلنا النار بردا وسلاما على إبراهيم وكان هذا برهانا منيرا على علوّ شأنه وعظمته وصدق دعواه ، وإلزاما للخصم. ومع ذلك لم يؤمنوا به ، فعلم أن القوم مصرون على شركهم جاحدون بآياته ومعجزاته ، فأراد المهاجرة وقال ، ما حكى الله تعالى عنه بقوله :

* * *

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي

٧٤

أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١))

٩٩ ـ (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ...) إلى ما أمرني ربّي من الأمكنة المقدّسة. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام : يعني بيت المقدس. أمّا (سَيَهْدِينِ) فقال هذا ترغيبا لمن هاجر معه وتابعه في الهجرة وهو أوّل من هاجر من أذى قومه ومعه لوط وسارة ، ولعل هاجر خادمة سارة قد هاجرت معهم أيضا وكانوا ممّن آمنوا به واتّبعوه في الهجرة من بلد الكفر بعد يأسه من إيمانهم به عليه‌السلام. وقيل إن هاجر في طريقه إلى الشام صارت في تصرّف سارة وهي وهبتها لزوجها لعلّ الله يرزق إبراهيم منها ولدا ، فإن سارة كانت عقيما لا تلد وقد يئست من نفسها. ولمّا ملكها إبراهيم استوهب من ربّه الولد بقوله :

١٠٠ ـ (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ...) أي أعطني بعض الصّالحين ، يريد الولد. لأنّه يقال إن لفظ الهبة في القرآن أو مطلقا غلب في الولد كما في قوله (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ويستفاد أن الصّلاح أشرف مقامات العباد. وهذا الدّعاء والسؤال منه عليه‌السلام

٧٥

كان حين وروده الأرض المقدسة فاستجاب الله سبحانه دعاءه وبشّره بالاستجابة بقوله :

١٠١ ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ...) وهذه الشريفة تؤيّد ما قيل من أن مراده عليه‌السلام باستيهابه كان هو الولد. وقيل ما وصف الله نبيّا بالحلم لعزّة وجوده غير إسماعيل. والحليم هو الوقور ، والحليم هو الذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه. والمعنى أخبر سبحانه أنه تعالى استجاب لإبراهيم بقوله (فَبَشَّرْناهُ) بابن وقور غير مستعجل في الأمور قبل أوانها وكان حلمه بمرتبة أنه في غضاضة سنّه وطلوع شبابه قال له أبوه يا ولدي أمرت أن أذبحك فأجاب ف (افْعَلْ) ما أنت مأمور به بلا تردّد ولا سؤال عن الآمر ، أو لماذا أمرت بذبحي أبدا أبدا ، وكان سلما محضا لأبيه في أوامره ونواهيه ، وهذا من لوازم حلمه لأنه لم يعجل في أمر أبدا بسؤال ولا بجواب.

١٠٢ ـ (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ...) أي أدرك وبلغ السنّ الذي يقدر على السعي في أمور والده معه ، يعني حدّ الشباب (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي فكّر في الأمر حتى ترى وتعرف رأيك ووظيفتك. وقد شاوره في أمر محتوم ليوطّن نفسه عليه فيهون عليه فقال بكلّ تروّ وتأمّل وكمال اطمئنان قلب ووقار ومتانة (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) اي ما تؤمر به ، وإنما أتى بلفظ المضارع لتكرّر الرّؤيا (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي على أمره تعالى وبلائه الممتثلين لما يريد.

١٠٣ ـ (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ...) أي حين استسلما لأمر الله ، أو أسلم إبراهيم وتهيّأ لذبح ابنه ، وأسلم الابن نفسه للبلاء المكتوب على الأولياء ، وفي المجمع عن أمير المؤمنين والصّادق عليهما‌السلام ، أنّهما قرءا : فلمّا سلّما ، من التسليم (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعة على شقّه وهو أحد جانبي الجبهة ، فوقع جبينه على الأرض ، أو أكبّه على وجهه حسب

٧٦

طلبه كيلا يراه فيرقّ له بتحريك عرق الأبوّة فتلحق به رقّة الآباء. وبالجملة فإنه بعد أن رأى ليلة التّروية ذلك المنام وأصبح تروّى في ذلك المنام من الصّباح الى الرّواح : أمن الله هذه الرّؤيا أم من الشيطان ، فمن ثمّ سمّي يوم التّروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنّه من الله ، ولعلّه بإلهام منه تعالى أوحى إليه فسمّى ذلك اليوم يوم عرفة. ثم رأى مثله في اللّيلة الثالثة فاطمأنّ فهمّ بنحره فسمّي يوم النّحر. وعند ما اهتّم بنحره وتلّه للجبين جاءه النداء من قبل الرّب : يا إبراهيم.

١٠٤ و ١٠٥ ـ (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ... قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ...) أي بالعزم على الإتيان بما كان تحت قدرتك واستطاعتك من مقدّمات العمل. وجواب «لما» في (فَلَمَّا أَسْلَما) محذوف وتقديره : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ) ، إلى قوله (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) ففازا وظفرا ونجوا من محن الابتلاء والامتحان. قال الرّازي : احتجّوا بهذه الآية على أنّ الله قد يأمر بما لا يريد وقوعه ، والدليل عليه أنه سبحانه أمر بالذبح وما أراد وقوعه. أمّا أنّه أمر بالذبح فلما تقدّم في تفسير الآية. وحيث إنه لم يقع يكشف أنه ما أراد وقوعه فإن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح ، والنهي عن الشّيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح وأنه ما أراده. ويدلّ ذلك أيضا على أن الأمر قد يوجد من دون الإرادة ، فيستفاد أن غرض الآمر ليس أن يأتي المأمور بما أمر به ، لأن ذلك الفعل قد يكون وقوعه مبغوضا عند الآمر بل الغرض من الأمر به أن يوطّن المأمور نفسه على الانقياد والطّاعة ، فإذا انقاد وفعل مقدمات التكليف رفع عنه عند ذلك التكليف ، لأن الغرض قد حصل ويعبّرون عن هذا الأمر بالأمر الاختباري أو الانقيادي ، ويثاب عليه فيما إذا لم يأت بالمأمور به ، أي الذي لم يرده الآمر. وإذا أراده وجاء به المكلّف فالثواب على المكلّف به فقط لا عليه وعلى مقدّمته على ما يستفاد من الأخبار وكثير من الأقوال. والتحقيق في المقام أن يقال كما قيل في الأوامر

٧٧

الاختباريّة كمسألة الذبح ونحوها ، فالتكليف تعلّق بنفس المقدّمة بحسب الواقع والحقيقة ، والمكلّف به هو المقدّمة لها ما هو في الظاهر متعلّق الأمر ، لأنه ليس بمراد للمولى. فإن ما هو المراد والمقصود ما هو بحسب الظاهر مقدّمة فهو المكلّف به واقعا ، فإن المدار في باب التكاليف على ما هو المراد لا ما تعلّق به الأمر الظاهريّ ولو لم يكن بمراد. وبعبارة أخرى فالأمر بالذبح في المقام مقدّمة للإتيان بمقدّماته لأنها مراد للمولى. فما هو المقدّمة في مرحلة الظاهر بحسب الفهم العرفي هو ذو المقدّمة في نفس الأمر ، ولذا يثاب عليه ويعاقب به. وما هو ذو المقدّمة ظاهرا فهو مقدّمة واقعا لأنه ليس بمراد للمولى. ويدل على ما ذكر ظاهر الشريفة (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) مع أن الرّؤيا كانت على ذبح الولد ، والذبح ما وقع ، فكيف صدّقها وما وقع ولا صدر منه إلّا المقدّمات التي تدل الآية السابقة عليها؟ فهو عليه‌السلام لم يأت إلّا بها ، فالتّصديق راجع لما أتى به. فنستكشف من المجموع أنّ المأمور به هو ما أتى به ، في الواقع ، لا ما هو متعلّق الأمر الظاهري أي الذبح ، وما يطلق على إسماعيل من أنه ذبيح الله فهو اما باعتبار أن ما كان تحت قدرته قد أتى به على ما دلت عليه الآيات السابقة ، وما قصّر في شيء مما كان عليه‌السلام الله عليه. وأما عدم وقوعه فلأن إرادة الله تعالى كانت على عدم الذبح فصارت مانعة ، وهذا لم يكن تحت قدرته وإرادته. فحضوره وتسليمه للذّبح بمنزلة الذّبح فالإطلاق تنزيلي ، أو باعتبار بدله وهو الكبش لأنه في حكم المبدل والله أعلم بأسرار كتابه (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا إبراهيم وابنه إسماعيل على حسن عملهما بأن بدّلنا حزنهما بالفرح ومحنتهما بالسّرور ، هكذا نعمل مع كلّ من أحسن عمله وأتى بعمل مرضيّ عندنا.

١٠٦ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ...) أي ابتلاء إبراهيم واختباره هو

٧٨

امتحان وابتلاء ظاهر يميّز به المخلص من غيره ، والمحبّ الثابت في محبّته عن المبغض.

١٠٧ ـ (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ...) أي بكبش أملح سمين كان يرتع قبل ذلك في رياض الجنّة ، والمراد بالعظيم يمكن أن يكون عظيما جثّة أو قدرا. لمّا جيء بالكبش وذبحه الخليل اعتنق ابنه وقال يا بني اليوم وهبت لي. ويكفى في أهميّته وقدره أنّ مرتعه الجنّة ، ومرسلة الله ، والواسطة في الإرسال جبرائيل ، والمرسل إليه هو الخليل بدلا عن النبيّ إسماعيل جدّ خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، يكفي ذلك كلّه ليكون ذبحا عظيما ...

١٠٨ إلى ١١١ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) قد سبق بيان هذه الآية وما بعدها في قصّة نوح.

* * *

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

١١٢ ـ (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ...) أي ولدا نبيّا من جملة الأنبياء المرسلين الصّالحين ، وهذا ترغيب في تحصيل الصلاح بأن مدح ونعت مثله مع جلالته بالصّلاح.

١١٣ ـ (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ...) أي أفضنا عليهما بركات الدّنيا

٧٩

والآخرة. وجميع ما أكرمناهما به وأفضناه عليهما ثبّتناه وأدمناه عليهما. أو المراد أن أولادهما وذراريهما صيّرناهم كثيرين وأبقيناهم إلى يوم الدّين حتى أخرجنا من صلبهم كثيرا من الأنبياء (وَ) مما أعطيناهما (مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) أي بعض منهم محسن بالإيمان والطّاعة وحسن السلوك ومنهم (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والعصيان. ويستفاد من الشريفة أنّ النسب لا أثر له في الهدى والضلال ، وأنّ الظّلم في أعقابهما لا يسري إلى الآباء والأجداد ولا يصير سببا للنّقص والعيب فيهم ، كما أنّ هداية الآباء والأجداد لا تستلزم هداية الأعقاب والأنجال ، فالعقاب والثواب ليسا بمتفرّعين على الأصول والفروع ، بل كلّ يعمل على شاكلته ، ويعمل به على طبق ما عمله (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) فإن السؤال في ذلك اليوم عن الأعمال لا الأنساب. و (مُبِينٌ) أي بيّن الظّلم. ثم إنه تعالى بعد ذكر قصّة إبراهيم وأولاده وبيان ما أنعم عليهم يظهر ما أنعم على موسى وأخيه هارون عليهما‌السلام فيقول :

* * *

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ

٨٠