الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

أنّنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وهذا بنظرهم أصعب من إعادتهم.

٧٩ ـ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) نبّه بأن الذي أنشأها وأوجدها من العدم إلى عالم الوجود فإنّ قدرته باقية كما كانت في بداية الأمر (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي عالم وقادر على خلق الأشياء بتفاصيلها وكيفيّة إيجادها أوّلا وآخرا. وعن الصّادق عليه‌السلام أن الرّوح مقيمة في مكانها روح المؤمن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه خلق. وما تقذف به السّباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزّقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء ، وإنّ تراب الرّوحانيين بمنزلة الذّهب في التّراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسّل بالماء والزبد واللّبن إذا مخض ، ثم يتجمّع تراب كلّ قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الرّوح فتعود الصّور بإذن المصوّر كهيئتها ، والحاصل أنه تعالى علمه فوق كل ذي علم يعلم تفاصيل خلق كل مخلوق وأجزاءه المتفرقة في البقاع وفي أجواف السباع وغيرها فتجتمع الأجزاء الأصلية للآكل والمأكول قبل أن يرتدّ إليك طرفك بل في أسرع من ذلك. وتلج الرّوح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. ثم إنه سبحانه لمّا كان في بيان قدرته الكاملة للجهلة فمزيدا لذلك يخبر عن صنعة عجيبة غريبة تتحيّر عقول ذوي الألباب منها وهي أمر حسّي مشاهد غير محتاج إلى نظر وتدبّر ولا يمكن لذوي الشعور إنكاره فيقول سبحانه :

٨٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ...) أي الذي يقدر على إعادة الأجسام على صورها وهيآتها هو القادر على أمر أعجب منها إذ يخرج من الشجر الأخضر الذي إذا قطع منه غصن يقطر منه الماء جعل منه

٤١

نارا بقدرة غريبة. وقيل عنى بذلك الشجر : المرخ ، والعفار وهما شجران معروفان يكونان في ناحية المغرب من بلاد العرب فإذا أرادوا أن يستوقدوا أخذوا من ذلك الشجر عودا ومن الآخر عودا ثم يسحق العفار على المرخ فتنقدح منهما النار ويقطر منهما الماء ، العفار. فمن قدر أن يخرج من الشجر الذي هو في غاية الرطوبة نارا مع مضادّة النار للرّطوبة ، وبعبارة أخرى يخرج الضدّ من الضدّ أي النار من الماء ، فهو قادر على اعادتكم والحاصل إنه إذا كمنت النار الحارة في الشجر الأخضر المملوء من الماء فهو على الإعادة من بلي أقدر ، وهي أهون عليه مع ما تتصوّرون من أنها أصعب من كل شيء قال بعض أهل الفحص والتحقيق إن كل شجر ينقدح منه النار إلّا العنّاب فإنه فاقد لتلك المادة والعرب اختاروا المرخ والعفار لكثرة هذه المادة فيهما. ثم إنه تعالى لتقريعهم يقول :

٨١ ـ (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ...) هذا الاستفهام معناه التقرير ، يعني من قدر على إيجاد هذه الأجرام العلويّة والسّفليّة وإبداعهما مع عظمهما وكبر جرمهما وكثرة أجزائهما ، يقدر على إعادة خلق البشر مع كونه في غاية الحقارة. ثم أجاب عن هذا الاستفهام بقوله (بَلى) أي نعم يقدر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي كثير الخلق وكثير العلم بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة أو شيء وبحيث لا تحصى ولا تعدّ مخلوقاته. ثم إنه تعالى أخذ في بيان إظهار قدرته وكنه عظمته بقوله :

٨٢ ـ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ...) أي إنما شأنه حينما يقصد إحداث شيء وإبداعه (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بمجرّد هذه الإرادة ، فإذا بهذا الشيء متكوّن وموجود بلا حاجة إلى قول كن أي أن هناك ملازمة بين الإرادة ووجود المراد وحدوثه دون حاجة إلى أيّ شيء ، وقوله (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) بيان أو بدل عن قوله (شَيْئاً) فالجملة محلّا منصوبة والتقدير : إذا أراد أن يقول لشيء كن فيكون ويحتمل أن تكون مرفوعة المحل خبرا

٤٢

لقوله (أَمْرُهُ) والوجه الأوّل أوجه لأنه أبلغ وآكد في المدّعى كما لا يخفى على من تدبّر. وبالجملة نستفيد من الآية المباركة أن قوله سبحانه (أَنْ يَقُولَ لَهُ ، كُنْ ، فَيَكُونُ) أن هذا القول تقريب لأفهامنا ، والواقع انه لو أراد شيئا كان الشيء بلا حاجة إلى لفظ كن. فإيجاده عين وجود الشيء خارجا وخطور الشيء بساحته المقدسة عين وجوده وحضوره لا فصل بينهما ولا تقدّم وتأخّر إلّا بالمرتبة. وتفسير هذا المعنى بلفظ كن لكونه أبلغ فيما أراد إيجاده ولو كان لفظ آخر أبلغ لاختاره عزوجل. فاذا كانت قدرته في الإيجاد والتكوين بهذه المرتبة فسبحان الذي إلخ ...

٨٣ ـ (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ...) أي منزّه عن نفي قدرته على إعادة المخلوقات وإلباسهم ثوب الوجود للرّجوع إلى المعبود الذي (بِيَدِهِ) أي قدرته (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي حقيقته التي قوامه بها أو ملكه وسلطانه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وعد للمقرّين أي الموحّدين ووعيد للمنكرين.

٤٣
٤٤

سورة الصّافّات

مكية وآياتها ١٨٣ نزلت بعد الأنعام.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

١ إلى ٥ ـ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ...) الصّافّات صفّا ، أي الملائكة تصطفّ في العبادة في السماوات كصفوف المؤمنين للصّلاة في الأرض ، أو المراد مطلق نفوس الصّافين في الصلاة أو الدّعاء إلى الله أو في الجهاد. وهو قسم وجوابه (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) ومثله (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) أي الملائكة تزجر الخلق عن المعاصي أو الملائكة الموكّلة بالسّحاب تزجره وتسوقه بأمره تعالى أو الملائكة يزجرون المردة من الشياطين عن التعرّض لبني آدم بالشرّ والإيذاء وإلقاء الهداية في قلوب البشر في مقابل إغواء الشياطين وإضلالهم للبشر. فقوله : (فَالزَّاجِراتِ) إشارة الى تأثير الجواهر الملكيّة في تنوير

٤٥

الأرواح القدسيّة البشرية كما قال سبحانه : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) وذلك إشارة إلى كيفيّة تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن الأرواح البشرية أو الملائكة التي تزجر وتمنع الشياطين من الصّعود إلى السّماء لاخذ كلام الملائكة الذين يطّلعون على أسرار اللّوح المحفوظ. (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أي الملائكة تقرأ كتب الله تعالى ، والذكر الذي ينزل على الموحى إليه ، أو جماعة قرّاء القرآن من المؤمنين يتلونه في الصّلاة. وإنّما لم يقل (تلوا) كما قال (صَفًّا) و (زَجْراً) لأن التالي جاء بمعنى التابع كقوله (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) فلإزالة الإبهام بيّنه بما يزيله. وبالجملة هذه الأمور الثلاثة المقسم بها يحتمل أن تكون صفات للملائكة أو للأعمّ ، أقسم بها سبحانه وتعالى لعظمتها وليقول : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) فهذه الجملة جواب للقسم ، وليعلم أنّ له تعالى أن يحلف بمخلوقاته الدالّة على ذاته وصفاته الذاتيّة المنبئة على عظمته ، لكن ليس للمخلوقين أن يحلفوا إلّا بذاته تعالى وتقدّس ، وإن قيل ذكر القسم إمّا أنه للمؤمن فهو مقرّ بالتوحيد بلا حلف ، وإمّا أنه للكافر فهو منكر ومحتاج إلى إقامة البرهان ولكنّ الحلف لا يكون برهانا فيصبح الحلف بلا فائدة؟ والجواب : إن القرآن نزل بلغة العرب وعندهم إثبات الأمر والدّعوى بالحلف طريقة متعارفة مألوفة وان لم يكن بدليل ، مضافا إلى أنه تعالى ما اقتصر على الحلف في إثبات مدّعاه بل أتى بالدّليل اليقينيّ والبرهان الواضح في كون الإله واحدا حيث عقّب يمينه بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن النظر في انتظام العالم وفطرته برهان ساطع على وجود الصّانع القادر الحكيم ووحدانيّته. فالقسم مؤكّد لذلك لا أنه دليل على هذه الدعوى ، فهو ربّهما (وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات العجيبة والموجودات البديعة الغريبة (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي مشارق الشمس فإن لها في كل يوم مشرقا ، أو لكلّ النيّرات. ولم يذكر المغارب لدلالتها عليها مع أن الشروق أدل على القدرة أو لأن الشروق قبل الغروب فلذا قدّم.

٤٦

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

٦ ـ (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا ...) أي الكرة التي هي أقرب الكرات منكم. وإنما خصّت بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) قرأ عاصم بالتنوين في (بِزِينَةٍ) ونصب (الْكَواكِبِ) يريد (زينا الكواكب) والزجّاج قال : يجوز أن يكون نصب الكواكب بدلا من قوله (بِزِينَةٍ) لأن (بِزِينَةٍ) في موضع النصب. والباقون (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بالجر على الإضافة من غير تنوين ، والإضافة بيانية. وقيل المراد من الزينة الناشئة من الكواكب هي ضوؤها.

٧ إلى ١٠ ـ (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ ...) عطف على (زَيَّنَّا) ونصبه بفعل مقدر من مادّته ، أي : إنّا حفظنا السّماء الدّنيا (حِفْظاً) من كل شيطان مارد ، فهو مفعول مطلق. والحاصل من الكريمتين أنّه سبحانه جعل الكواكب في السماء الدنيا لأمرين مهمّين : أحدهما التزيين الذي نتيجته تنوير الأرض ، والضوء أحسن أنواع الزينة ، والثاني هو الحفظ من الشياطين المردة الخبثاء حيث يرمون بالشّهب. وكلّ من الأمرين ذو أهمّية بالغة. فالأول لأن الإنسان إذا نظر إلى الفلك في الليلة الظّلماء يرى هذه الجواهر الزاهرة المشرقة تلمع وتتلألأ على ذلك السطح الأزرق ، فيرى منظرا معجبا وأمرا عجيبا وقبة مزدهرة بالأضواء تكشف عن قدرة وحيدة ليس فوقها قدرة ، ولا يعقل أن توازيها قدرة. والثاني هو حفظ السماء

٤٧

الدنيا من مردة الشياطين الذين يسترقون السمع من الملائكة الموكّلين بحراستها وبأيديهم الشّهب الملتهبة المتوقّدة التي يرمون المردة بها كما يرمى الناس بالسهام القاتلة ، ليمنعوهم من الاستماع إلى أي شيء من أمر السماء ، وإلى أي قول يتفوّه به الملائكة المطّلعون على شيء من أسرار اللوح المحفوظ. فالله سبحانه وتعالى جعل في السماء الدنيا (حرسا شديدا وشهبا). وقال أحد المفسّرين عن تلك الشّهب إنها كأنها الكواكب تنقضّ متأجّجة بالنار ، وهذه النار لها خاصيّة إحراق الشياطين لأنها أقوى من ناريّتهم التي خلقوا منها ، فشبهة عدم تأثير الشيء في مثله شبهة باطلة موهونة في مورد إحراق الشياطين بالشّهب الملتهبة كما لا يخفى. وقد روى ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنه قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كلّ مدينة بعمود من نور طول ذلك العمود في السماء مسيرة مائتين وخمسين سنة. ولا يخفى أن هذا الخبر من أكبر البراهين على حقّانية الإسلام التي تثبت في عصر العلوم المتجدّدة التي اتسع نطاقها فيما بين الذّرة في صغرها ، وذرى السماء في اتّساعها وعدم تناهيها ، وكلّها لم تدل على وجود عمران في السيّارات من الكواكب وإن كانت قد دلّت الاكتشافات على قانون التجاذب فيما بين الكواكب والأفلاك. وقد قال العلّامة الشهرستاني في (الهيئة والإسلام) قوله : مربوطة بعمود من نور ، قد يكون مربوطا بالإشارة إلى تأثير جاذبية الشمس في حفظ نظام السيارات ، واتّصال حامل الجاذبية بالنجوم على نحو الخط العمودي كما اتّفق عليه الحكماء المتأخّرون ... وفي رواية أخرى : بعمودين من نور ، وهذا يمكن أن يكون إشارة إلى ما تقرّر أخيرا من أن نظام السيّارات تحفظه قوّتان من الشمس بحسب التحرّك الدّوري ، فلو انفردت الأولى في التأثير ولم تكافئها الثانية لهوت جملة السيّارات في كورة الشمس ، ولو انفردت الثانية ولم تكافئها الأولى لرميت النجوم إلى خارج نظام الشمس

٤٨

من الفضاء الوسيع. وأنّما استقرّت السيّارات في أفلاكها المعيّنة وانضبط نظامها بواسطة ارتباطها مع الشمس وانقيادها لها بعمودين بين جاذب ودافع ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

والحاصل أن الشياطين معزولون عن استماع ما يجري في السماء الدّنيا ، وهم مبعدون عنها بواسطة حرسها يطردون (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون بالشّهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء (دُحُوراً) أي طردا شديدا (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) اي للشّياطين عذاب دائم في الآخرة. وعن الباقر عليه‌السلام : دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم. فذلك معدّ لكل مستمع (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من الاستماع. والتقدير لا يستمعون إلى الملأ الأعلى ، أي الملائكة ، إلا من اختلس كلام الملائكة مسارقة واستلب استلابا بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي فعقبه ما يرمي به الملائكة الحرسة الشياطين ، وهو الذي كأنّه كوكب ينقضّ مضيئا كأنّه يثقب الجوّ بضوئه. وفسّر الشّهاب بالنار المضيئة المحرقة وهو خلاف معناه لغة ، ومع صحّته لا تدلّ الكريمة على احتراق الشيطان الذي يرمى بها ، ولا يبعد أن يتأذى بها ويتخوّف بحيث لا يصعد بعد ذلك أبدا. وقد نقل أن ركانة بن زيد وأبا الأسدين كانا من المنكرين للبعث ولا يزالان يظهران الشجاعة ويفتخران بذلك في قريش فالله سبحانه وتعالى أنزل الآية الشريفة ردّا عليهم فقال :

* * *

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ

٤٩

(١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩))

١١ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ...) أي استخبرهم واسألهم هل هم أقوى خلقا (أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي قبلهم (بقرينة الفعل الماضي) من الأمم الماضية والقرون السّالفة ، يعني أنهم ليسوا بأحكم وأتقن من حيث الخلقة والقوى ممّن سبقهم وقد أهلكناهم بعذاب واقع وكذلك ليسوا أشدّ خلقا من السّماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من الكواكب والشّهب الثاقبة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) في القمّي : يعنى يلزق باليد. والحاصل أنه تعالى بيّن بدء الخلقة ومنشأها وأن الخلق عندنا سواء ، فإذا كنّا قادرين على إيجادهم في ابتداء الخلقة من التراب فكذلك نقدر على الإيجاد منها ثانيا بأن نجمعهم منها ولو صاروا ترابا وعظامهم رفاتا ونحشرهم ليوم الجمع للجزاء ومكافأة الأعمال فإذا عرفوا بدء خلقهم لم يستبعدوا بعثهم فلم ينكروه.

١٢ ـ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ...) أي تتعجّب من إنكارهم البعث مع كمال قدرتنا وهم يشاهدونها في بدء خلقهم وخلق غيرهم والحال أنهم يسخرون ويستهزئون بقولك في البعث وغيره من الآيات ودلائل التوحيد والقدرة ، ولا يتفكرون في شيء مما جئتهم به. فكيف تتعجّب منهم والحال أنهم هكذا؟ يعني لا تتعجّب من هؤلاء الذين هم كالبهائم بل هم أضلّ طريقا ، والدّليل على ذلك أنّهم :

٥٠

١٣ ـ (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ...) أي وإذا وعظوا بالقرآن أو خوّفوا بالله لا يتذكرون ولا يتّعظون ولا يتدبّرون فيما يدلّ على صحّة الحشر والنّشر حتى ينتفعوا به ، وذلك لبلادتهم وحماقتهم وقلة فكرهم ، وكذا :

١٤ إلى ١٩ ـ (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ...) أي إذا شاهدوا معجزة تدلّ على صدق القائل بالبعث والحشر (يَسْتَسْخِرُونَ) يهزأون ويبالغون في السخرية والاستهزاء بها بأن يحملوها على السّحر كما أخبر به سبحانه بقوله (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) إشارة إلى ما يرونه من الآية التي ينبغي أن يتّعظوا بها بل قالوا ساخرين (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أي كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا وعظامنا رفات متكسرة مسحوقة (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟) بالغوا في إنكار البعث أشدّ مبالغة لشدة عنادهم في الكفر أوّلا بتبديل الفعليّة أي أنبعث بالاسميّة وهي (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)؟ وثانيا بتقديم (إِذا) وثالثا بتكرير الهمزة كما لا يخفى على أهل الأدب (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محلّ اسم (إِنْ) أو ضمير مبعوثون ومعناه هل إنّ آبائنا لمبعوثون بعد طول مدّة موتهم وفنائهم؟ والاستفهام للإنكار وهم يعنون إنّنا وآباءنا لا نبعث أبدا. ثم قال سبحانه لنبيّه (قُلْ) يا محمد (نَعَمْ) ستبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي ذليلون أشدّ الذّلة صاغرون مرغمون. وحين يريد سبحانه وتعالى بعثكم وإحياءكم (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي البعثة ليست إلّا بعد صيحة واحدة وهي النفخة الثانية ، وهي من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي بصرف الصّيحة إذا هم قيام من مراقدهم حاضرون في المحشر ينتظرون ما يفعل بهم ، أو يبصرون صعيد المحشر وهم حيارى منتظرون للأمر الإلهي يرون البعث الذي كانوا منكريه ، فإذا تفكّروا في أعمالهم القبيحة وأفعالهم السّيئة نادوا بالويل والثّبور.

* * *

٥١

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))

٢٠ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ...) أي يوم الحساب ويوم المجازاة الذي كنّا نكذّب به ، فيعترفون بعصيانهم واستحقاقهم بما كان الرسل يوعدون به ، ولذا يقولون (يا وَيْلَنا) من العذاب ، وهذه كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة بيده وتقصيره. وبعد صدور هذا الكلام والاعتراف بالتقصير ينادون :

٢١ ـ (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ...) أي يوم الحكم والقضاء بين المحسن والمسيء أو التميّز بينهما (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي منكرون له بأشد الإنكار ولا تقبلون قول الرسول به وكنتم به تستهزئون والمنادي بذلك لعلّهم الملائكة من قبل الربّ تعالى. ثم إنه تعالى يقول للملائكة :

٢٢ و ٢٣ ـ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي اجمعوا الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك وتكذيب الرّسل وإنكار ما جاؤا به ، أو ظلموا الناس بالاعتداء عليهم بأيّة كيفيّة ، أو المراد هو الأعمّ (وَأَزْواجَهُمْ) أي أشياعهم ، أو المراد أزواجهم المشركات. فكأنّه قال سبحانه : أحشروا المشركين والمشركات ، أو المراد كلّ طائفة مع أشباهها ، فإنّ الزّوج جاء

٥٢

بمعنى الشبه والشكل ، قال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي أشباها. فالمعنى اجمعوا عابد الوثن مع عابدته ، وعابد النجم مع عابدته ، أو قرناءهم من الشياطين. والقميّ قال : الذين ظلموا آل محمد صلوات الله عليهم حقّهم (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي احشروا العابد والمعبود الذي هو من دون الله من الأوثان ونحوها (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) دلّوهم على طريق جهنّم. وفي القمي عن الباقر عليه‌السلام قال : ادعوهم إلى طريق الجحيم.

٢٤ ـ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ...) أي احبسوهم في الموقف يعني قبل دخولها فإنهم لا بدّ وأن يسألوا عن عقائدهم وأعمالهم. وفي القمّي : عن ولاية أمير المؤمنين. وفي العلل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت ثم إنّه توبيخا وتقريعا يقول الملائكة قولوا لهم بعد توقيفهم للمحاسبة :

٢٥ ـ (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ...) أي لم لا ينصر بعضكم بعضا بالتّخليص من العذاب. وهذا استفهام استهزاء وتقريع.

٢٦ ـ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ...) أي منقادون متذلّلون لعجزهم وذلّهم. وبعد ما عجزوا عن الجواب في الموقف ورأوا أنفسهم أذلّاء عجزة فخاصم بعضهم بعضا فوصفهم سبحانه بقوله :

* * *

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ

٥٣

(٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣))

٢٧ و ٢٨ ـ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ...) أي واجهه وقابله للسّؤال يسأل بعضهم بعضا توبيخا فيقول المغوي للغاوي : لم أغويتني وأضللتني : فيجيبه المغوي : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا) أي ما أغويناكم جبرا وكرها فإنكم كنتم تأتوننا (عَنِ الْيَمِينِ) قيل هي مستعارة لجهة الخير وجانبه ومعناه كنتم تأتوننا عن اليمين أي من قبل الدّين بزعمكم أنّ الدين والحقّ عندنا وأنّ ما كنّا عليه هو الحق ، وكنتم تتركون الرّسل باختياركم مع أن الآيات والمعجزات تظهر منهم. وقيل إنها مستعارة للقوّة والقهر لأنّ اليمين موصوفة بالقوّة وبها يقع البطش ، فقوله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي بالقوة والقدرة وهذا المعنى لا يناسب ما اخترناه أوّلا من أن جملة قالوا جواب الغاوين عن المغوين ، بل يتمّ هذا المعنى بناء على كون الجملة من تتمّة قول المغوين كما لا يخفى. هذا ولكنّنا نظنّ وإن كان الظنّ لا يغني من الحق شيئا غالبا : إن المراد من اليمين هو معناها المعروف وهو العضو المخصوص في مقابل الشمال واليسار واكتفى بذكرها عنها لدلالتها عليها بقرينة المقابلة ، واختصّها بالذكر لشرافتها على اليسار على ما هو المستفاد من الآيات والرّوايات ، فكأنّه سبحانه وتعالى أراد بكلامه أن يحكي قول الغاوين للمغوين تأتوننا عن اليمين والشمال كناية عن كثرة التردّد لئلّا نخلّيكم فيختلسكم الرّسول وأتباعه. فالتقصير منكم لا منّا. هذا محصّل

٥٤

ما حكى الله تعالى عنهم ، بناء على أن تكون الجملة من كلام الغاوين. ويحتمل أن تكون من كلام المغوين فالكلام هو الكلام إلّا أن كثرة التردد تكون من ناحية الغاوين حتى يضلّوهم ويمنعوهم من اتّباع الرّسول. وعلى هذا يمكن أن يكون اليمين مستعارة للقوة والقهر بمعنى أنهم أجبروهم وقهروهم جبرا وقهرا وأدخلوهم في الضلالة ولذا قالوا لهم خطابا (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) كناية عن القوة والجبر.

٢٩ ـ (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ...) يمكن أن يكون القائلون هم الغاوون ، ويحتمل أن يكونوا خصومهم ، والظاهر أن الجملة من المتبوعين والرؤساء فإنهم أجابوا التابعين بقولهم : ليس الأمر كما تزعمون بل لم تكونوا مؤمنين من أوّل الأمر ولم تكونوا على صراط الهداية والرّشاد حتى نكون نحن ممّن يضلكم فإن الأنبياء والرّسل كلما كانوا يدعونكم إلى الهدى كنتم مصرّين ومختارين للضلالة على الهداية والكفر على الإيمان.

٣٠ و ٣١ ـ (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ...) أي لم تكن لنا قوّة وقدرة حتى نجبركم ونكرهكم على ما كنتم عليه من الضّلال بل كنتم مستمرّين عليه بالاختيار (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) مختارين للطّغيان والعصيان ومتجاوزين عن الحدود المقرّرة من الله ورسوله فلا لوم ولا عتاب علينا فقط بل عليكم وعلينا الإثم بما فعلنا (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) أي وجب ولزم علينا قول الله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) أو مطلق وعيده في كتابه الكريم كقوله (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) فقد وجب علينا العذاب و (إِنَّا لَذائِقُونَ) هم أكّدوا قولهم بأمور ثلاثة ، تبديل الفعلية بالاسميّة ، واللّام الدّاخلة عليها ، و (إن) المشدّدة. أي إنّا لذائقون العذاب قطعا. ثم إنهم بعد المجادلات والمخاصمات يعترفون بالإغواء فيقولون :

٣٢ ـ (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ...) أي لمّا كنّا في الضلالة أحببنا أن

٥٥

تكونوا مثلنا فأغويناكم أي دعوناكم إلى الغيّ فأجبتمونا بلا إكراه ولا إجبار.

٣٣ ـ (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ...) يعني أن الأتباع والمتبوعين في العذاب (مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا في الغواية كذلك.

* * *

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩))

٣٤ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ...) أي المشركين الذين فعلوا المعاصي. ثم بيّن سبحانه أنّه إنّما فعل ذلك بهم من أجل :

٣٥ و ٣٦ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) أي إذا أمرهم النبيّ بكلمة التوحيد (يَسْتَكْبِرُونَ) فلا يجيبون الرسول الأكرم استكبارا وعنادا بل كانوا يرفضون قوله (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا) أي كيف نترك آلهتنا وأصنامنا (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فالله تعالى ردّهم بقوله :

٣٧ ـ (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ...) يعني ليس محمد بشاعر كما تزعمون بل هو القارئ لكتاب سماويّ جامع لخير الدّنيا والآخرة ، ولكنّكم جماعة جهلة لا تميّزون بين الشعر والكلام البديع ، وليس بمجنون

٥٦

بل هو أعقل العقلاء من الأوّلين والآخرين. وكيف يكون مجنونا مع أنه أتى بما تقبله العقول من الدين الحق الثابت بالبرهان ، وهو أحسن الأديان لأنّه أكملها من حيث إنه واجد لخير الدنيا والآخرة. أو المراد بالحق هو الكتاب الحق. فالمجنون من لا يفرّق بين الحق والباطل ولا يتعقّل أنه أشرف ممّا يعبده ويخضع له من الأصنام والأوثان ويترك عبادة خالق السّماوات والأرض بل خالق عوالم الإمكانية طرا. والحاصل كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا ، فقد قال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الحقّ وجاء بالصّدق (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) حقّق ما أتى به المرسلون من بشارتهم بمقدمه الشريف أو صدّقهم بأن أتى بمثل ما أتوا به من الدعوة إلى التّوحيد. ثم خاطب تعالى الكفار فقال سبحانه :

٣٨ ـ (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ...) التفات إلى الخطاب لاهتمامه بمقالته سبحانه لهم ، يعني أنتم أيها المشركون لذائقو العذاب الشديد للشّرك وتكذيب الرّسول ونسبة الشاعرية والتجنّن إليه (ص).

٣٩ ـ (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ...) أي جزاؤكم على قدر أعمالكم كمّا وكيفا. ثم استثنى فقال تعالى :

* * *

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦)

٥٧

لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

٤٠ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) استثناء منقطع ، أي لكن عباد الله الذين أخلصوا عباداتهم له تعالى وأطاعوه في كلّ ما أمرهم به ونهاهم عنه فإنهم لا يذوقون العذاب ، وإنما ينالون الثواب. ثم بيّن سبحانه ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النّعم فقال :

٤١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ...) أي للمخلصين في الجنّة أعدّ رزق معلوم من حيث الوقت كقوله تعالى (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أو من جهة كونه موصوفا بخصائص من الدّوام والطعم وطيب الرائحة وحسن المنظر واللّذة ونحوها من الخصوصيّات ، أو من حيث الآثار الّتي لا تكون في رزق غير المخلصين ثم فسّر سبحانه ذلك الرزق من حيث النوع إجمالا فقال :

٤٢ ـ (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ...) أي أرزاق أهل الجنة منحصرة في الفواكه بأقسامها وأنواعها يتفكّهون بها ويتنعّمون بالتصرّف فيها كيف يشاءون. والتعبير بالفاكهة لأن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذّذ لا لأجل الحاجة فإنهم مستغنون عن حفظ الصّحة بالأقوات والمقوّيات لأنهم أجسام أبديّة فهي قهرا مخلوقة بإحكام بلا حاجة في استحكامها وحفظ صحتها إلى الأغذية والأقوات المخصوصة كالأبدان الدنيويّة. فكل ما يأكلونه في الجنة فهو على سبيل التلذّذ. ولمّا كانت الفاكهة بأنواعها ألذّ من غيرها فالله تعالى زادهم من تلك النّعم وجعل أرزاقهم أكثرها منها. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يصف فيه أهل الجنة قال : وأمّا قوله (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) قال : فإنهم

٥٨

لا يشتهون شيئا في الجنة إلّا أكرموا به. ولمّا ذكر مأكولهم وصف مساكنهم فقال :

٤٣ و ٤٤ ـ (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ...) أي منازلهم ومستقرّهم في البساتين التي إذا دخل الإنسان إليها كان رغيد العيش فارغ البال مرّفه الحال من جميع الجهات. فهم فيها الجنان متنعّمون بأنواع النّعم ، وهم (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ولا يخفى أن الإنسان الذي من خصائصه اللاذّة الأنس إذا كان في قصر عال ، أو في بستان جامع لأنواع الفواكه وكان متمتّعا بأنواع النّعم ، ولكنّه مع هذه كلها إذا كان وحده بلا أنيس يركن قلبه إليه فعيشه ناقص غير مرفّه ، ولذا بيّن سبحانه أن أهل الجنّة متمتّعون بجميع النّعم حتى نعمة المؤانسة والمؤالفة لتسكن قلوبهم بنسائهم سواء كنّ من الأزواج أو الحور العين ، أو الخدم أو السدنة أو الأصدقاء أو الرفاق الدنيويّين الذين كان كلّ واحد منهم يأنس بالآخر ، فيقعدون في الجنّات على سررها متواجهين ، وهذا الجلوس أحسن أقسام الجلوس للتّرفيه والمؤانسة. وهذه حالة ثانية من حالاتهم :

٤٥ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ...) هي حالة أخرى ، فالحور العين ، وغلمان الجنّة يدورون عليهم بكؤوس من معين أي فيها خمر يجري أنهارا في أرض الجنّة أو يتدفّق من العيون. والمعين هو الماء العذب وصفت به لأنّها جارية كالماء الصّافي. والكأس هو الإناء من جنس القارورة أي الزجاج يستعمل غالبا في شرب الخمر. وليس خمر الآخرة كخمر الدنيا في اللّون ولا الطّعم ولا الخاصيّة ، فإن خمور الدنيا من خواصّها أنها تعرّض شاربها للخبال والتهوّع والصداع وإزالة العقل بخلاف الخمور الأخرويّة التي لونها كما وصفه الله تعالى :

٤٦ و ٤٧ ـ (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ...) أي لذيذة لهم ، وهي هكذا من حيث اللّون والطّعم ، ثم إنها (لا فِيها غَوْلٌ) هي خالية من المفاسد

٥٩

التي تترتب على خمر الدّنيا من الآثار التي ذكرناها آنفا (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي يسكرون ، من نزف إذا ذهب عقله ـ وقد أفرده بالذّكر مع أنّها داخل تحت الغول. بل قيل الغول : هو اغتيال العقل ، لأن فساد العقل أعظم المفاسد. فلذا اختصّ بالذكر من بينها ولما ذكر سبحانه مشروبهم بيّن منكوحهم فقال :

٤٨ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ ...) الطّرف النظر ومعنى القصر هنا الحبس. أي تلك الزّوجات يحبسن نظرهنّ على أزواجهنّ ولا ينظرن إلى غيرهم. و (عِينٌ) جمع عيناء أي واسعات العيون لحسنها ، أو المراد هو الأعين التي بياضها شديد كسوادها.

٤٩ ـ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ...) مكنون يعني مصون عن الغبار والكدورة وعن كلّ آفة. وتشبّه الجارية بالبيض : بياضا وملامسة وصفاء لون ، لأنّه أحسن الألوان للبدن. وقد جرت عادة العرب بتشبيه النّساء بالبيض بقولهم بيضات الخدود. والمراد من البيض على ما يقولون هو بيض النعام لأن بيضه أصفى البيض وأحسنه لونا لأنه مشوب بقليل من الصّفرة ، وهذا أحسن الألوان لأبدان النساء عند العرب.

* * *

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ

٦٠