الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

فإن الآية المباركة نزلت تأديبا لهم وتعظيما له صلوات الله عليه (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) علّة للنّهيين لمخافة حبوط أعمالكم بلا شعور منكم بالحبط وعلّته.

٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) ... أي يخفضون أصواتهم ولا يرفعونها عالية (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) سواء كان ذلك عند ندائه أو أثناء مخاطبته عنده ، بل لو كانوا يتكلّمون بعضهم مع بعض لوجب أن يخفضوا له صلوات الله عليه أو لغيره أصواتهم : بالقول إجلالا وتكريما للنبيّ وتعظيما لحضرته السّامية (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي الذين يغضّون أصواتهم في محضر نبيّنا الأكرم هم الذين يتأدّبون بآدابنا وقد وجدناهم أهلا لأن نختارهم ونجعلهم من عبادنا المتّقين لأنّ قلوبهم لها ظرفيّة التقوى وأهليّتها ، وليس كلّ قلب له هذه القابليّة ، بل لكثير من النّاس قلوب لا يفقهون بها كقلوب البهائم التي لا تتّصف بصفة التقوى ولا تتحلّى بحليته. ونعم ما قال الشاعر الفارسي ما مضمونه : فالتّقوى جوهرة لا تقع في كلّ قلب. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي مغفرة لذنوبهم وأجر لطاعتهم ثم أخذ سبحانه ببيان بعض مثالبهم الأخر ومعايبهم التي لا يدركون أنّها عيب وشين فقال :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

٥٠١

٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) ... من خارجها أو خلفها : يا محمد أخرج إلينا فإنّ لنا حاجة إليك. والمقصود حجرات نسائه (ص) أو المراد مطلق الحجرات التي يكون صلوات الله عليه فيها في المدينة أو في خارج المدينة. فالنّهي شامل وعامّ وهو الظاهر بقرينة علّة شأن نزولها التي ذكرت في المفصّلات من التفاسير فإن المنادين لك على هذا النحو (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لأنّ العقل يحكم بمراعاة الحشمة والتبجيل للزّعماء ، وبالأخصّ لمن كان منصّبا بمنصب السّفارة والرّسالة من عند أعظم العظماء وأجلّ الزّعماء وأكبر السّلاطين ، فلا بدّ من توقيره بغاية ما يمكن ونهاية المقدور من حسن الآداب وسلوك المعاشرة.

٥ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ... أي حتى يخرج إليهم بطبعه واختياره ، لكان الصبر أدبا وتعظيما لشأنه صلوات الله عليه وآله فيثابون لذلك ويؤجرون. وهذه هي حقيقة الخير الذي هو مفيد لهم في دنياهم لأنّهم يوصفون فيها بالعقل والأدب ، وفي آخرتهم بنيل الثواب الجزيل. والحاصل أنّ الاستعجال والنّداء بأصوات جهوريّة تشعر بسوء الأدب وتخالف تعظيم مركز النبوّة ، أمور هامة ، ولذلك ذكّرهم سبحانه ونبّههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم ، بالآية الشّريفة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب منهم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ

٥٠٢

الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ... أي لو أخبركم من لا يتجنّب الكذب وغيره من المناهي والمنكرات فاستوضحوا أخباره واستظهروه حتى يتبيّن لكم الرّشد من الغيّ والصّدق من الكذب ولا تصدّقوه أوّل مرّة ولا تعملوا بقوله بدوا بلا رويّة. فإن جاءكم بخبر (فَتَبَيَّنُوا) تحقّقوا منه حذرا من (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) مخافة أن توقعوا جماعة من المؤمنين في مصيبة وبلاء ومكروه جاهلين بحالهم (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي فتصيروا على عملكم مغتمّين ومتمنّين قائلين يا ليت أنّه لم يقع إذ لا تفيدكم النّدامة ، لأنّه لا يتدارك ما وقع ومضى. وقيل نزلت الكريمة في الوليد بن عقبة حينما أرسله النبيّ (ص) إلى بني المصطلق لأخذ الزكاة وكان بينه وبينهم دم من عصر الجاهليّة فلمّا سمعوا به استقبلوه وتجاوزوا عن دمهم تعظيما للإسلام وتكريما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فظنّ أنهم مقاتلوه ، فرجع خوفا وقال لرسول الله (ص) قد ارتدّوا ومنعوا الزكاة ، فهمّ صلوات الله عليه وآله بقتالهم فنزلت الآية.

٧ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) ... الآية الشريفة تنبيه للمؤمنين على أن كل ما تفعلون من عمل أو تقولون من قول فالرسول يدري به ويعرفه من عند ربّه لأنّ الله سبحانه يخبره بذلك فلا تفعلوا عملا يفتضح ، ولا تقولوا قولا يظهر كذبه فيذهب ريحكم عنده صلوات الله عليه وآله وعند المؤمنين كما أخبره الله تعالى به من كذب الوليد بن عقبة. وهذه إحدى معجزاته صلوات الله عليه وآله ، فإنّه (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ

٥٠٣

لَعَنِتُّمْ) أي لا يترقّب أحد منكم أن يطيعه النبيّ (ص) في أكثر أموره ، بل حتى في بعضها ، لأنه لو كان كذلك لوقعتم في الهلاك أو المشقة الشديدة التي لا تطاق فلا بدّ لكم من أن تطيعوه في جميع أموركم فيرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم لأنّه مؤيّد من ربّه ، فخلّوا زمام أموركم بيده فإنه الهادي إلى ما سواء السّبيل (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي جلاه وحسّنه في قلوبكم بحيث صار محبوبا ومطلوبا عندكم والظاهر أن هذه الآية المباركة في مقام ردّ جماعة وتعييرهم على ما كانوا عليه من العقائد الفاسدة النّاشئة عن عدم كمال إيمانهم ونقصانه. غاية الأمر أنها جاءت بلسان أدب واحترام لأنهم كانوا مؤمنين والمؤمن محترم في أيّة مرتبة من مراتب الإيمان كان. بيان ذلك أن المستفاد من الآية السّابقة على هذه الكريمة هو أن جماعة من المؤمنين كانوا يترقّبون ويتوقّعون من النبيّ الأكرم (ص) أن يطيعهم في بعض أمورهم ويوافقهم على آرائهم وعقائدهم مثل أنهم كانوا متوقعين منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ان لا يكذّب الفاسق الوليد بن عقبة وأن لا يقرأ الآية على الناس بحيث يظهر فسقه فيفتضح بين الناس مع أن الله نزّلها وأمره بأن يقرأها على الناس لأنّهم هم أيضا يجب أن لا يعتمدوا في أمورهم على أخبار الفسقة ، فإن الآية المباركة وإن كان موردها خاصّا لكنها لا تختصّ بموردها بل هي عامة تشمله وتشمل غيره. والحاصل أن توقعهم هذا من النبيّ (ص) كاشف عن النقصان في الإيمان فإن المؤمن الكامل يسلّم ويرضى بما يأمر النبيّ به وينهى عنه. والآية الثانية جاءت في مقام نصحهم بأن هذه العقيدة خلاف ما أنتم عليه من الإيمان به تعالى وبرسوله (ص) حيث إن مقتضاه أن تطيعوه دون العكس ، لأنه العارف بما فيه صلاحكم وما فيه الفساد بإلهام منه تعالى إليه ، وأنتم لستم ممّن تدرون عواقب الأمور وصلاحها وفسادها بل الله سبحانه (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) وزيّن قلوبكم به ليكون إيمانا كاملا يمنعكم عن هذه العقائد الفاسدة ويحملكم على أن تخلّوا زمام أموركم بيد نبيّكم

٥٠٤

الكريم (ص) وأن تكونوا منقادين له صلوات الله عليه وآله. هذا ما يستفاد من الآيتين الشريفتين والله أعلم بما أراد (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) الكفر على أقسام أربعة الأوّل كفر الجهل بحيث لا يعرف الإنسان الإله الحقّ تعالى حتى يعترف به ، والثاني كفر الإنكار وهو الذي يعرفه بقلبه وينكره بلسانه بوسوسة من الشيطان اللّعين. والثالث كفر النّفاق وهو الذي يقبله باللسان ، ويردّه بالقلب مع أنّه يعرفه ، كما أنّ السياسيين يعملون هكذا لمصالحهم. والرابع كفر العناد والجحود ، وهو شأن الذين لا يستمعون الحق ولا يجيبون داعيه بل لا يدورون حوله ولا يقربونه حتى يعرفوه ويستمعوا كلامه. بل إذا هو دعاهم يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا ما يقوله أحقّ هو ما دعا إليه أم هو باطل فيقرّوا به أو يردّوه. وهذا أشدّ أقسامه. وهذا نحو ما كان عليه أهل مكة وبالأخصّ عشيرة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. والظاهر أن المراد بالكفر في الآية هو معناه العام فيكون حاصل معنى الشريفة هو أنه تعالى جعل الإيمان محبوبا لكم وجعل الإسلام أحبّ الأديان لديكم بقيام الأدلة الواضحة والبراهين السّاطعة عليه ، مضافا إلى ما وعد عليه من الثواب والأجر الجزيل ، وزيّنه في القلوب أي جعله زينا وحسنا عندكم بالألطاف الداعية إليه ، وجعل الكفر بتمام أقسامه وأخويه كريهة ومبغوضة لديكم بما وصف من العقاب عليها وبما وعد عليها من جهنّم وشديد العذاب فيها. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : الفسوق الكذب ، وفي اللغة هو مصدر معناه الخروج عن طريق الحق والفاسق هو الذي لا يبالي بما يقول وبما يقال فيه ، والعصيان مصدر معناه ترك الطاعة والانقياد له تعالى. وعن الصّادق عليه‌السلام حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم يعني أمير المؤمنين وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان يعني أعداءه الذين لم يلتزموا بالدّين وما جاء به محمد (ص) عن ربّ العالمين. وعنه عليه‌السلام : الدّين هو الحبّ ، والحبّ هو الدّين (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي الذين

٥٠٥

اتّصفوا بالصّفات المذكورة هم المهتدون إلى كلّ خير وسعادة.

٨ ـ (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ... علّة لقوله (حَبَّبَ) و (كَرَّهَ) وما بينهما اعتراض (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بصدق كلّ أحد وكذبه أو بأحوالهم (حَكِيمٌ) بتدبير أمور عباده وتنظيمها على طبق المصلحة والحكمة.

* * *

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

٩ ـ (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ...) الإتيان بالتّثنية من باب أنّها أقلّ مراتب التعارك ومن باب التمثيل بأكثر مواردها والّا فالحكم عامّ (اقْتَتَلُوا) جمع باعتبار المعنى حيث إن كلّ طائفة جمع من الأفراد (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي بما فيه رضا الله ورسوله (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) أي تعدّت وعدلت عن الحق بالإضافة والنسبة إلى الأخرى وتجاوزت عن حدود الشرع (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع إلى ما أمر الله به وإلى حكمه (فَإِنْ فاءَتْ) أي

٥٠٦

تحوّلت عمّا كانت عليه من البغي والعداوة (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي بلا مفاضلة بينهما في مقام الإصلاح وإلّا لم ينتج الإصلاح ، ولذا قيّد به الإصلاح الواقع بعد القتال لأنه مظنّة الجور والعدوان. وفي الكشّاف أنّ تقييد الإصلاح الثاني بالعدل دون الأول لأنّ المفروض أنّهما في الأوّل كلتاهما باغيتان فما يجب على المسلمين في هذه الصّورة هو الإصلاح بينهما بالمواعظ الشافية وإراءة طريق الحق والباطل حتى يسكن هيجانهما الموجب للطّغيان وبغي كلّ واحدة منهما على الأخرى وهذا هو المطلوب ولا يجوز مقاتلتهما لكنّه بخلاف الصورة الثانية فإنّ واحدة منهما باغية على الأخرى بخلاف الأخرى فيجب قتال الفئة الطاغية حتى ترجع إلى أمره تعالى فإذا رجعت فلا بدّ من الصّلح بينهما بالسويّة وبلا حيف على واحدة دون الأخرى ، فالمقام كان فيه مظنّة الحيف على الطائفة الباغية لذا قيّده بالعدل ، وهذا تمام مقالة الكشّاف. ولمّا كانت رعاية العدل في جميع الأمور مهمّة لازمة لان نظام مدار الأمور الدّينيّة والدّنيوية عليه ، فلذا هو سبحانه أشار بتعميمه فقال (وَأَقْسِطُوا) ، الآية أي اعدلوا في الأمور جميعا لأن قوامها به (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العدلة لأن الله عادل فيحبّ العادلين ويرضى بأفعالهم ويجزيهم الجزاء الأوفى. والإقساط من القسط وهو الجور والعوج والانحراف ، فلمّا دخلت عليه همزة باب الأفعال وهي قد تجيء للسّلب والإزالة فأزيل عنه معناه (الاعوجاج) وسلب الاعوجاج هو عبارة أخرى عن (العدل والاستقامة).

١٠ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ... إنّ الله سبحانه حصر الأخوّة الدينيّة في المؤمنين للمشاركة في الطّينة لقول الباقر عليه‌السلام : المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه ، لأن الله خلق المؤمنين من طينة الجنّة ، وأجرى في صورهم من ريح الجنّة. فلذلك هم إخوة لأب وأمّ أو للمشاركة في الصّفات أو في الانتساب إلى النّبي والوصيّ صلوات الله عليهما وعلى آلهما فقد ورد أنه

٥٠٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمّة فالمؤمنون إذن إخوة (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) أي إذا تشاجرا وتنازعا ، والتثنية باعتبار الأغلب. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام : صدقة يحبّها الله : إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا. وعنه عليه‌السلام أنه قال للمفضّل : إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي ، أي اصرف من مالي حتى تصلحها وترفعها (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي خافوا الله واحذروا عقابه وعتابه وشدائد عذابه ولعلّها تشملكم رحمته باتّقائكم إيّاه جلّ وعلا ، فإنها موجبة للرّحمة حيث إنها محبوبة لله تعالى ويعطي بإزائها الأجر الجزيل والثواب الجميل.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ

٥٠٨

عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ... أي لا يهزأ رجال من رجال. وخصّ القوم هنا بالرجال لأنهم هم القوّامون في الحياة. وقال الخليل النحوي : القوم يقع على الرّجال دون النساء لقيام بعضهم مع بعض في الأمور. وظاهر كلامه الإطلاق. ولكنّه لا تساعده الآيات الشريفة كقوله ((يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) ، إلخ.

وأما قول الشاعر :

وما أدري ولست إخال

أقوم آل حصن أم نساء

فهذا الاختصاص بقرينة المقابلة وقرينة المقام حيث يريد الشاعر استهجانهم وذمّهم وأن يقول لهم أنتم لستم برجال بل أنتم في حكم النساء وأشباه الرجال ، وهذا خارج عمّا نحن فيه من إثبات الاختصاص أو الإطلاق ، مع قطع النظر عن القرائن. والمعنى لا يستهزئ رجال برجال (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي لعل المسخور منه أكرم وأحسن عند الله من السّاخر. وقال القمي : نزلت في صفيّة بنت حيّ بن أخطب وكانت زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها يا بنت اليهوديّة فشكت ذلك إلى رسول الله (ص) فقال لها ألا تجيبينهما؟ فقالت بما ذا يا رسول الله؟ قال : قولي إنّ أبي هارون نبيّ الله ، وعمّي موسى كليم الله وزوجي محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما تنكران منّي فقالت لهما. فقالتا هذا علّمك إياه رسول الله ، فأنزل الله في ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ) (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ولا يعيب بعضكم بعضا. والتعبير عن البعض بأنفس لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه إذا عاب أخاه عاب نفسه ، أو إذا قتله قتل نفسه ، ولذا قال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وكلّها من باب

٥٠٩

واحد. واللّمز العيب حضورا والهمز العيب غيابا. وفرّق بعض بأن اللّمز يكون باللّسان والعين والإشارة ، والهمز لا يكون إلّا باللّسان (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا تلقّبوا بعضكم بعضا بالألقاب الدّنيئة المشعرة بالذّم والتعيير كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة يعني لا تدعوا بذلك من كان يهوديّا أو نصرانيّا فآمن : يا يهوديّ أو يا نصرانيّ أو يا مجوسي ، والنّبز شائع في الألقاب القبيحة. ومن المرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : من حقّ المؤمن على أخيه أن يسمّيه بأحبّ أسمائه إليه. وقيل معناه لا تلعنوا بعضكم بعضا ولا تتلاعنوا (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي لا تسمّوا المؤمنين بالأسماء التي تدل على فسقهم قبل إيمانهم كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة أو يا خمّار ويا لمّاز ويا عيّار ونحوها من الألقاب القبيحة المشعرة بالذم والتعيير ، فلا تدعوهم بتلك الألقاب ولا تنادوهم بها فإن نداءهم بها إيذاء وهتك لهم ولا يجوز إيذاؤهم وهتكهم لأنهم مؤمنون مثلكم محترمون. وهذه الآية واردة مورد التعليل للنّهي عن التّنابز بالألقاب القبيحة بعد الإيمان لأنّ التسمية بهذه الأسماء المشعرة بفسق المسمّى قبل إيمانه غير مشروعة بعد الإيمان. فهذه الجملة كلام مستأنف ومتضمّن للأمر بالاجتناب عن التنابز وبيان لعلّة الموجبة للنّهي عن التّنابز كما قلنا آنفا. ويحتمل أن يكون المراد بالفسوق هو فسق المسمّى بصيغة اسم الفاعل ، بيان ذلك أنه إذا نادى شخص مؤمن مؤمنا جديد الإيمان بالاسم القبيح المشعر بالذّم فهذه التسمية موجبة لأذيّة جديد الإيمان. والمراد بالألقاب أعمّ من اللقب الاصطلاحي فتشمل الأسماء ، ولذا عبّر بعد قوله تعالى (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) بقوله (بِئْسَ الِاسْمُ) والمراد بهذا الاسم هو المنهيّ عنه سابقا المعبّر عنه باللقب بصيغة الجمع. وكذلك الاسم عامّ يطلق على اللّقب والكنية (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يكونون ظالمين بالنظر للعصيان وتعريض نفوسهم للعذاب الدائم.

٥١٠

١٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا) ... أي اتّقوا (كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) تجنّبوا عن كثير من الظنّ ، وقيّد بالكثرة لأن منه ما يحسن كحسن الظنّ بالله وبأهل الخير والصّلاح لكنّه في مقابل الظّنون السيئة قليل من كثير. والمعنى : دعوا كثيرا من أفراد الظن واتركوها واعملوا بالقليل من أفراده بعد إقامة البراهين والإمارات الظاهرة على أنها من القسم المباح حيث إنّ الظنّ على أقسام أربعة : الأوّل واجب وهو الظنّ بالله ورسوله والصّالحين من عباده فإنه مأمور به ويعبّر عنه بحسن الظن بالله ورسوله والمؤمنين وقد جاء في الكتاب الكريم : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) وفي السنّة (إنّ حسن الظنّ من الإيمان). والثاني حرام وهو ظنّ السّوء بالله ورسوله والمؤمنين. والثالث مندوب إليه وهو الظنّ الغالب في الأمور الاجتهاديّة وهو المتّبع عند الأكابر العظام. والرابع المباح وهو الظنّ في الأمور الدّينية ومهمّاتها. وظنّ السّوء فيها أي حمل الظنّ على ظن السوء أو عدم العمل به فيها ، موجب للسّلامة من العقاب وباعث لانتظام الأمور الدّنيويّة ، ولذا أمرنا بالتوقف في أخبار الفاسق ولو حصل لنا الظنّ ، والتبيّن حتى يظهر لنا العلم بالواقع صدقا وكذبا ، فلا يعتنى بحصول الظنّ وعدمه. ويحتمل أن يكون (كَثِيراً) صفة للمقدّر وتقديره هكذا (اجتنبوا اجتنابا كثيرا من الظن) أي من جميع أقسامه إلّا ما خرج بالدّليل. وبناء على هذا (مِنَ) بيانيّة محضة وليس للتّبعيض. ووجه إبهام (كَثِيراً) وتنكيره بناء على الأوّل لأنه يفيد بعضيّة غير معيّنة يستلزم صدقها على كل واحد من أفراد الظنّ ، فلا بدّ من الاحتراز عن جميع الظّنون إلّا أن يظهر مطابقته للواقع. فإذا علم ذلك فيعمل على طبق معلومه. فرعاية الاحتياط بعدم الاعتماد على الظن طريق النّجاة. وفي رواية نبويّة شريفة : إيّاكم والظنّ فإن الظّن أكذب الحديث. ضو الله هو الهادي إلى الصواب (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي يستحقّ العقوبة عليه. فعلى هذا لا بدّ وأن يتأمّل فيما ظنّ به حتى ينكشف له المظنون فيعلم أنه

٥١١

من أيّ قسم من أقسامه ، فإنه إذا عمل على طبق ظنّه بلا رويّة فربّما يرتكب إثما فيندم فلا تفيده النّدامة وفي الكافي عن الصّادق عن أمير المؤمنين عليهما‌السلام قال : ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه ، ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ، وفي نهج البلاغة : إذا استولى الصّلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزيه فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزّمان وأهله ثم أحسن الرّجل الظن برجل فقد غرّر ، أي غرّر بنفسه وعرّضها للهلكة. (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تتّبعوا عورات المؤمنين ولا تتفحّصوا عنهم وعن مجاري أمورهم لكي تطّلعوا على سرائرهم وعلى سوآتهم فإن الله تعالى موصوف بصفة ستّار العيوب ، ويحبّ أن يكون عبده كذلك. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإنه من يتتبّع عثرات أخيه يتتبّع الله عثرته ويفضحه ولو في جوف بيته (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الغيبة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن تذكر أخاك بما يكرهه ، فإن كان فيه فقد اغتبته وإلّا فقد بهتّه. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أنه سئل عن الغيبة فقال : أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل وتبثّ عليه أمرا قد ستره الله عليه ما لم يقم عليه فيه حدّ. وفي رواية ، وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا. وعن الكاظم عليه‌السلام : من ذكر رجلا من خلقه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلقه بما هو فيه ممّا لا يعرفه النّاس اغتابه ، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته. وفي العيون عن الرّضا عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممّن كملت مروّته وظهرت عدالته ووجبت أخوّته ، وحرمت غيبته. وفي كتاب جعفر بن محمد الدّوريستي بإسناده إلى أبي ذرّ رضوان الله عليه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه

٥١٢

قال : يا أبا ذر إياك والغيبة فإن الغيبة أشدّ من الزّنى. قلت يا رسول الله ولم ذاك فداك أبي وأمّي؟ قال لأن الرجل يزني فيتوب فيقبل الله توبته ، والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها. وفي جامع الجوامع روي أن أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأتى لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد وكان خازن رسول الله على رحله فقال : ما عندي شيء. فعاد إليهما فقالا : بخل أسامة ، ولو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا إلى رسول الله فقال ما لي أرى حمرة اللّحم في أفواهكما؟ قالا : يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحما قال : ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) في هذا الكلام تمثيل الاغتياب بأفضح مثال وأشدّه من حيث اشمئزاز الطبع ونفرته ، وفيه مبالغات : تقرير الاستفهام ، محبّة المكروه ، وإسناد الفعل إلى «أحد» إشعارا بأن لا أحد يحبّه ، تمثيل الاغتياب بأكل لحم للإنسان ، عدم الاقتصار بهذا وضمّ الموت بذلك وكونه أخا ، الأمر بالاتّقاء بعد هذه كلّها. وهذه الأمور بأجمعها تدل على حرمة الغيبة بأشد ما تكون. وفي قوله تعالى (فَكَرِهْتُمُوهُ) جملة متضمّنة للشرط ، أي لو عرض عليكم ذلك لكرهتموه بحكم العقل والطبع ، فاكرهوا ما هو نظيره فإن نظيره وإن كان الطبع يميل إليه لأنه لا يدرك إلّا الكراهة المحسوسة ، والأمور المكروهة الحسيّة في نظر الشرع والعقل أشدّ من كراهة أكل لحم الإنسان الميّت ، لأن المفاسد الّتي تترتب على النّظير لا تترتّب على المشبّه به أبدا كما لا يخفى على أهل العلم والبصيرة (وَاتَّقُوا اللهَ) أي بترك الغيبة بل وسائر المعاصي (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) تقديم التّواب على الرّحيم لأنّه بمقتضى طبع المقام أنه سبحانه أولا يغفر للعبد معاصيه ، وبعدها يتفضّل عليه برحمته الخاصّة وأما كونه توّابا فلكثرة العاصين التائبين إليه تعالى أو لكثرة ذنوب المذنبين أو إشارة إلى قلع ذنوبهم جميعا بحيث كأنه ما صدرت عنهم خطيئة أو اثم والله أعلم.

٥١٣

١٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ) ... نقل أرباب التفاسير في شأن نزول الآية الشريفة وجهين : أحدهما أنهم رووا عن زيد بن منجزة أنه قال إنه في يوم من الأيام مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سوق المدينة فرأى غلاما وهو في معرض البيع والغلام ينادي أن من أراد شرائي فهو مشروط بأن لا يمنعني عن صلاتي في أوّل أوقاتها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فاشتراه رجل بهذا الشرط فكان يراه الرّسول في أوّل أوقات الفرائض وهو يقتدي به صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمضت أيام على الغلام وهو بهذه الحالة. وبعد ذلك خلت أيام أخر وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يرى الغلام ، فسأل مولاه فقال : هو مريض يا رسول الله. فعاده الرّسول ، وبعد أيام أخر سأله (ص) عن الغلام فأجاب بأنه مات. فقام رسول الله (ص) ومعه الأصحاب في تشييعه وغسّله وكفّنه بنفسه النفيسة وصلّى عليه ودفنه. فتعجّب المهاجرون والأنصار فالله سبحانه وتعالى أنزل هذه الكريمة وبيّن فيها بأنّ النسب بما هو ليس فيه أثر ، وإنما المقرّب إليه تعالى ليس إلّا التقوى التي بها تحصل الفضيلة والكرامة والشرف وبمضمون تلك الآية المباركة أشار سيّد العابدين وزينهم الإمام علي بن الحسين أرواح العالمين لهما الفداء بقوله : إنما خلقت النّار لمن عصى الله ولو كان سيّدا قرشيّا ، والجنّة لمن أطاع الله ولو كان عبدا حبشيّا. والثّاني من الوجهين هو ما نقلوه عن عبد الله بن العبّاس أنه قال : نزلت الشريفة في ثابت بن قيس حينما عرّض بقرين له وقال أنت ابن فلانة تعريضا وتعييرا. فالتفت النبيّ وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من القائل باسم فلانة؟ فقام ثابت وقال : أنا يا رسول الله فقال عليه‌السلام : فانظر في وجوه هؤلاء الناس فما ترى فيها فقل لي فلما نظر قال ما أرى إلّا ألوانا مختلفة بعضها سواد وبعضها بياض ، وبعضها أحمر والآخر أصفر. فقال (ص) فأنت لا تفضلّهم إلّا بالتقوى والدّين ، فنزلت الآية تأييدا لقول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقال مولانا أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسّلام : الشرف بالفضل والأدب لا

٥١٤

بالأصل والنّسب. ضو هذا الكلام المبارك يشير إلى قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) والحاصل أن هذين الوجهين ذكروهما في وجه نزول الآية. وأما معنى الآية فالمراد بقوله سبحانه (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أنكم متساوون في الأب والأم حيث إنكم ترجعون في النسب إلى آدم وحوّاء ، فلا فضل لأحدكم على الآخر من ناحية النّسب ، نعم إنما التقدّم والتفاخر ليس إلّا بالتّقوى وفي بعض كتب التفاسير منقول أنّ شخصا سأل عيسى عليه‌السلام بأن أيّ إنسان أفضل وأشرف في بني آدم؟ فأخذ قبضتين من التراب وقال : ليس لأحدهما فضيلة على الآخر بل هما متساويان في الفضل والشرف. فالبشر مخلوقون من التراب ومتساوون في أصل الخلقة ليس لأحد رجحان على أحد ، فأكرمهم وأفضلهم أتقاهم فنفتهم أنّ مدار الفضيلة والتقدّم هو التّقوى. وقال (ص): من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق الله. والأدلّة على ما ذكر كثيرة ، وما ذكرناه من باب النّموذج (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) جمع شعب وهو أعمّ طبقات النّسب (وَقَبائِلَ) هي دون الشعوب ، فمثلا (حزيمة) شعب مشتمل على (قبائل) عديدة منها قبيلة كنانة وهي محتوية على العمائر التي منها قريش فهي عمارة من كنانة. والعمائر تنطوي على البطون منها كقصيّ وهو بطن من قريش ، والبطون دونها الأفخاذ كهاشم وهو فخذ من قصيّ ، والأفخاذ دونها العشائر كالعباس وهو عشيرة من هاشم ، وبعدها الفضيلة وهو أدون طبقات النّسب. والمراد بها أهل البيت نحو بني العباس. والقول بأن المراد بالشعوب هو الموالي أي الأعاجم والمراد بالقبائل هو الأعراب ، فهو من الأقوال التي تحقيقها ليس فيه كثير فائدة. وعلى كلّ تقدير فالمقصود من وضع طبقات النسب ليس التفاخر بالآباء والشعوب والقبائل ، بل مدار التفاخر والتفاضل ما جعله الله تعالى مميّزا للشرافة والفضيلة وهو التقوى فقط ، فجعل الطبقات المتعدّدة لا جدوى منه إلّا أننا جعلناكم كذلك (لِتَعارَفُوا) أي لأن يعرف كلّ واحد منكم الآخر عند

٥١٥

اشتراك الاسم أو نحوه مما هو سبب للشّبهة. فرفع الاشتباه ووضع المميّز له عن غيره هو أنّه (زيد تميمي) والآخر (زيد هاشمي) وهكذا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) عند الله فالتقوى تكمل النفس ويتفاضل الأشخاص ، فمن أراد شرفا فليلتمس منها. وفي الفقيه عن الصّادق عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أتقى الناس من قال الحقّ فيما له وعليه. وفي الاعتقادات عن الصّادق عليه‌السلام أنه سئل عن قول الله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قال : أعملكم بالتقيّة. وعن الرّضا عليه‌السلام مثله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي عليم بأحوالكم خبير بسرائركم.

* * *

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ

٥١٦

يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

١٤ ـ (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) ... نزلت الكريمة على ما يروى عن ابن عباس في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة مجدبة فأظهروا الشهادة وأغلوا أسعار المدينة وكانوا يقولون لرسول الله (ص) أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والذراري ، يريدون الصّدقة ويمنّون عليه ، فنزلت هذه الآية الشريفة وفرّقت بين الإسلام والإيمان ، وهذا هو الظاهر من قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) نعم فرق بينهما وهو أن الإسلام هو الشهادة بهاتين الكلمتين بشرط أن لا تكون لقلقة باللسان وخدعة للمسلمين. فقوله (ص): من قال لا إله إلّا الله محمد رسول الله فهو مسلم رواه الشّيعة والسّنة ، وهو من جملة مصادر الفرق بينهما ومعلوم أن الاكتفاء بتينك الكلمتين لورودهما في صدر الإسلام لتسهيل الأمر على المسلمين ولتكثيرهم ، وهذا المختصر رمز لما أشرنا إليه ، ولا مانع من أن يكون الملاك أمرا آخر. وأمّا الإيمان فهو مضافا إلى هاتين الكلمتين المباركتين لا بدّ للإنسان فيه من أن يكون معتقدا بجميع الأمور الدينيّة المذكورة في محلها ككتب الصّدوق رحمه‌الله في العقائد ونهج المسترشدين في هذه العقائد للحلّي رحمه‌الله ، ونحوهما من أعلام الملّة الإسلامية (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قوله تعالى (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) من ألت يألت ، بالألف في المضارع ينقلب ياء للتّخفيف. والألت هو النّقصان ، أي نقص ينقص. فمعنى الشريفة هو أنه إن تطيعوا الله ورسوله لا ينقص من أجر عملكم شيئا. وألت يعمل عمل لعلّ أي ينصب الاسم ويرفع الخبر (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كلمة (غَفُورٌ) صيغة مبالغة وهي هنا بمعناها الواقعي ، ولعلّ

٥١٧

وجه تقدّمها على (رَحِيمٌ) مع أنّها أيضا صيغة مبالغة هو ما أشرنا إليه سابقا من أن الغفوريّة أكثر أفرادا من الرحمانيّة كما عليه جماعة من أعاظم فقهاء الإسلام عليهم الرّحمة.

١٥ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ... أي المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي لم يشكّوا ولا كذبوا في ادّعائهم الإيمان أو في متابعتهم لعليّ عليه‌السلام ، ولا يخفى أنّ الإيمان الحقيقي يلازم المتابعة له دون شكّ في ولايته وبالعكس.

١٦ ـ (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) ... أي هل تخبرونه به بقولكم آمنّا بك وبما جاء به محمد (ص) من عندك (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي أنّه سبحانه وتعالى أعلم بما يقع في السّماوات وما يحدث في الأرض قبل أن يقع وبعده من كلّ من يعلمه فكيف بمن لا يعلمه؟ والحاصل أنه سبحانه لا يحتاج إلى تفسير أيّ من الأمور الظاهريّة والخفيّة ولا تخفى عليه خافية. وهذا توبيخ لهم لقولهم (آمَنَّا) وهذه في واقع الأمر منّة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والدليل قوله سبحانه :

١٧ ـ (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) ... أي يحسبون أنّك تستفيد بإسلامهم ولذا يعدّونه منّة عليك (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) لا تحمّلوني جميلا به ولا منّة (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) وله سبحانه الفضل والمنّة على هدايتكم لهذا الدين الشريف الذي دعا إليه الأنبياء فإنهم سلام الله عليهم من ابتداء بعثتهم إلى آخر أعمارهم كانوا مأمورين بهداية الناس فما آمن بهم إلّا القليل منهم ، وهم من هداهم الله ولم يهتدوا من تلقاء أنفسهم. وهذا أوضح وأهمّ دليل على عدم الملازمة بين الهداية والاهتداء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في ادّعاء الايمان مضافا إلى الإسلام ويفهم من قوله تعالى :

٥١٨

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تعليق الحكم على الوصف بأنهم ليسوا بصادقين فيما ادّعوا ، إلّا في حال كونهم مؤمنين إيمانا حقيقيّا لا منّة فيه وقد نالوه بتوفيق الله والهدى إليه.

١٨ ـ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي يعرف كل شيء ممّا هو مستور ومخفيّ فيهما عنّا وعن سكّان السماوات (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي أنه يرى ، وهو شديد الرؤية ، لما تفعلونه في العلانية وفي الخفاء حتى ولو كان الأمر يجول بفكركم أو يمرّ بقلبكم فإنه يعلم كلّ ذلك ويطلع على وساوس الصدور ، فإن كان خيرا جزاكم خيرا ، وإن كان شرّا فالجزاء مثله ... وعن الصادق عليه‌السلام : من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم كان من زوّار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

٥١٩
٥٢٠