الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢))

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) ... أي يعاهدونك على العمل بما أمرتهم به ونهيتهم عنه. والمراد بالبيعة هنا بيعة الحديبيّة وتسمّى بيعة الرّضوان لأنها كانت مرضيّة منه تعالى على ما يستفاد من قوله سبحانه (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) حيث إنّ الصّحابة بايعوا الرّسول حينما منعهم أهل مكة من دخولهم الحرم على الموت فجعلهم الرسول تحت الشجرة التي كانت في ذلك المكان الذي يسمّى بالحديبيّة وكان قريبا من مكة ، فأمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتجديد البيعة وتسمّى ببيعة الشجرة لما ذكرنا من كون اجتماعهم وبيعتهم تحتها (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مظهرا كاملا من مظاهر أوصافه سبحانه ومرآة لها فلو فرض له تعالى يد تعالى الله عن ذلك ، لكانت كيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيد رسوله بمنزلة يده سبحانه. ولمّا كانت يده تعالى فوق أيدي العباد على الإطلاق ففي مقام المبايعة لا بدّ وأن تكون

٤٨١

فوق أيدي المبايعين ، فيده صلوات الله عليه وآله حيث كانت يد الله فلذا تكون فوق الأيدي في مقام البيعة وأخذ الميثاق منهم. ولهذا كانوا يبسطون أيديهم حين المعاهدة فيضع يده صلوات الله عليه وآله على أياديهم بحيث كانت يده دائما فوق أيديهم على ما في الرواية. وقيل كانت المبايعة بكيفيّة أخرى ف (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) تمثيل يؤكّد ما قلناه (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض العهد (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) يعني أن ضرر نقض عهده يرجع عليه فلا يعود ضرّه على الله ولا على رسوله كما أنّه إذا أوفى يعود نفعه إلى نفسه (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي الجنّة فإنّها أعظم الأجور ولا يساويها أجر ويستفاد من قوله سبحانه (فَسَيُؤْتِيهِ) ، إلخ أن عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بالقيامة قريبا جدّا. أو المراد أنّ الموفين بما عاهدوا عمّا قريب يصلون إلى الدرجة العالية من الشهادة فيفوزون بها فوزا عظيما.

١١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) ... أي الذين خلّفهم ضعف اليقين بالله ورسوله أو عدمه على ما يقول سبحانه (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وأيضا خلّفهم الخوف من قريش حيث إنّهم كانوا يظنّون أنّه صلوات الله عليه وآله يهلك على يد قريش مع أصحابه ولا يعودون إلى المدينة فلمّا رجع مظفّرا بالصّلح مع أهل مكة في الحديبيّة جاؤوا واعتلّوا بعلل واهية ، وهم (مِنَ الْأَعْرابِ) أي أسلم وجهينة وغفار وغيرهم على ما قيل ، فقالوا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك لأنّه لم يكن أحد يقوم مقامنا في شؤونهم وقضاء حوائجهم وهم يعنون أنّ تخلّفنا كان عن اعتذار لا على وجه الاختيار (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله عن التخلّف عنك (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إنّ الله سبحانه يكذّبهم فيما يقولون في مقام الاعتذار ويخبر رسوله عما في ضميرهم في هذه الآية وفيما سيجيء في الآية التالية ، فاعتذارهم واستغفارهم جميعا مكر وحيل (قُلْ فَمَنْ

٤٨٢

يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي من يقدر على دفع الضرر عنكم لو شاء الله أن يتوجّه إليكم بقتل أو هزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي من الذي يمنع الخير الذي جرت المشيئة على أن يصل إليكم (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي يعلم وجه تخلّفكم وعلّة اعتذاركم واستغفاركم ولا يخفى عليه شيء من ذلك. ثم إنّه تعالى أخذ في بيان وجه التخلّف فقال عزوجل :

١٢ ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ) ... أي ما كان تخلّفكم لما قلتم ، بل كان سببه زعمكم بأن النبيّ (ص) لا يعود ولا يرجع إلى المدينة أبدا لأنه يهلك مع صحبه على أيدي أهل مكة ولن يرجعوا (إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) لاستئصال قريش لهم (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أي أشرب هذا المعنى وتمكّن فيها بحيث صارت مزيّنة به (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) جمع بائر أي هالكين والمراد بظنّهم السّوء هو ظنّهم في هلاك النبيّ والمؤمنين. وهذه الأخبار كلّها من الأمور التي لا يعلمها إلّا من يطّلع ويدري خائنة الأعين وما تخفي الصّدور ، ولا يكون غيره سبحانه ، ولذا تكون معجزة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم إنّه تعالى توعيدا وتهديدا لهؤلاء الكفرة بعد تهديدهم بكونهم من أهل البوار والهلاك يقول فيما يلي :

* * *

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

٤٨٣

١٣ ـ (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ... أي من لم يصدّقهما قلبا ولم يتّبعهما عملا صالحا (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي نارا ملتهبة مشتعلة ، وتنكيرها للتّهويل أو لكونها علما لهم ومخصوصة أو لطبقة معلومة. وذكر الظاهر مكان المضمر في الكافرين تسجيلا عليهم بالكفر وتصريحا به ، ثم يسجّل ويؤكد توعيداته وتهويلاته بقوله تعالى :

١٤ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي هو مالك لعالم الملك والملكوت وبيده تدبير جميع العوالم العلويّة والسّفلية (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) هذا متفّرع على كون جميع الأشياء في قبضة اقتداره وسطوته وفعاليّته لما يشاء ومختاريّته لما يريد بيده الخير وهو على كل شيء قدير (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) وكان المناسب أن يقول سبحانه (معذبا) مكان (رَحِيماً) لتناسب الذيل مع المصدر إلّا أنّ إيثاره على العذاب لسبق رحمته غضبه ولأوسعيّة رحمته وأشمليّتها منه ووجه أسبقيّة الرّحمة على غضبه ، أو من حيث إن الرحمة كانت دأبه ومن لوازم ذاته المقدّسة ، ولكنّ الغضب والتعذيب كانا داخلين تحت قضائه بالعرض ، فقهرا هي أسبق منه على ما قال به بعض الأجلّاء من الفلاسفة الإلهيّين ، وورد في الحديث القدسي : سبقت رحمتي غضبي ، وفي الدعاء عن الأئمة الهداة : يا من سبقت رحمتك غضبك ، فيستفاد من هذه الأحاديث والدعوات أن هذا من الصّفات الخاصّة له سبحانه.

* * *

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ

٤٨٤

تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

١٥ ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ) ... المراد بهم الأعراب المتخلّفون في قضيّة الحديبيّة فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رجع من الحديبيّة عزم على غزو خيبر بمن شهد الحديبيّة فاستأذنه المخلّفون أن يخرجوا معه ، فقال الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إعلاما له : سيقول لك المخلّفون إذا انطلقتم (إِلى مَغانِمَ) أي لو ذهبتم إلى غنائم خيبر بعد الغزو والفتح لتأخذوها (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي في المجيء إلى خيبر والغزو معكم حتى ننتفع بغنائمها (يُرِيدُونَ) بكلامهم هذا (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) ذاك أنه سبحانه هو وعده بغنائم خيبر لأهل الحديبيّة خاصّة عوضا عن مغانم مكة ، ولذا يقول تعالى لرسوله (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تتّبعونا أبدا فإن ربّي لا يجيزني حتى أرضى بذلك (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) يعني قبل رجوعنا من الحديبيّة ، هكذا أوصاني ربّي (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي المخلّفون عن الحديبيّة يقولون ردا لذلك : بل تحسدوننا أي ما حكم الله تعالى بذلك ، بل أنتم تحكمون به علينا حسدا ، فيقول سبحانه ردّا عليهم وإثباتا لجهلهم وأن قولهم هذا

٤٨٥

رجم بالغيب (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) من الأمور الدنيويّة التي تدور أمور معاشهم عليها.

١٦ ـ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) ... إن الله سبحانه كرّر ذكرهم بهذا العنوان لنبيّه بشناعة التخلّف وإشعارا بذمّهم : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) والمراد أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا قريب يدعوهم إلى قتال أقوام ذوي نجدة وشدة مثل أهل حنين والطائف ومؤتة وتبوك وهوازن وغيرهم من المشركين (فَإِنْ تُطِيعُوا) أوامره ونواهيه (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) ولعلّ المراد به هو الغنيمة في الدّنيا والثواب والأمن من عقابه في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي انصرفتم عن الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي في الآخرة لتضاعف جرمكم حيث إن الإعراض عن القتال من الكبائر العظام.

١٧ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) ... لمّا أوعد الله المتخلفين ظنّ العجزة إن الوعيد شملهم فنزلت الآية الشريفة لتسكين خواطرهم وأنهم معذورون فلا بأس عليهم إذا تخلّفوا ولا إثم عليهم في ترك الجهاد. ثم إن دين الله وشرعه الذي كان أمره مفوّضا إلى أشرف بريّته من الأولين والآخرين ، ولمّا كان مبنيّا على السّماح والتساهل ، فلذا نرى في كثير من الموارد رفع تكليفه عن عباده تفضّلا منه ورحمة بهم ، ومن ذلك أمر الجهاد في حال أنه من أعظم أحكامه سبحانه في استقامة دينه ونظام شريعته ، فرفع قلم التكليف عن المذكورين في الكريمة مع أنه يرفع المجاهدين إلى الدرجات العليا في الآخرة ، ومع أن التحريض عليه والحرص على تكثير سواد الجيش يقتضي أن لا يعفى منه أحد حتى النساء فانها تحمل اليه للمساعدة في تهيئة الطعام وإسعاف الجرحى وتضميد جراحاتهم ، ومع ذلك فإنه سبحانه وتعالى مع وضع قلم التكليف بالجهاد على جميع الناس ، رفع عنهم ذلك امتنانا وتسهيلا كما

٤٨٦

رفعه أيضا عن النساء مع أنه يترتب عليهنّ ما يترتب على الأصناف الثلاثة في الآية الكريمة من الفوائد المزبورة وأكثر منها. ووجه الرفع يحتمل أن يكون أنّه تعالى أراد منهن العفاف والتستر ، والذّهاب إلى الجهاد مناف لهما ، فلذا رفع التكليف بالنسبة إلى الجهاد عنهنّ. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه الجملة وإن كرّرت في الآيات الشريفة إلّا أنّ تكرارها تكرار في مورده لأنّها في كلّ مورد ذكرت كان ذكرها بمناسبة موضوع من المواضيع الشرعيّة. وحين ذكرت الصّلاة مثلا مدح الله تعالى المقيمين لها وذمّ التاركين ثم ذكر عاقبة أمر كلّ واحد منهما : فالمطيع في الجنّات ، والعاصي في النار ، وكذا فيما نحن فيه وهو موضوع الجهاد فالمجاهدون يدخلون الجنّات المذكورة والمتخلفون عاقبة أمرهم ما يقوله سبحانه : (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً).

* * *

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا

٤٨٧

لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣))

١٨ و ١٩ ـ (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) ... قد سبق تفصيله وقلنا إن وجه تسمية هذه المعاهدة ببيعة الرّضوان لهذه الآية ، فقد رضي عنهم (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي السكون والاطمئنان بحيث زال عنهم خفقان قلوبهم الذي عرض عليهم من الخوف والخشية (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أي جازاهم فتحا قريبا بالوقوع وهو فتح خيبر بعد رجوعهم من الحديبيّة ، فأثابهم الفتح (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) هي أموال أهل خيبر أي يجمّعونها ويملكونها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا في تدبيره مراعيا لمقتضى حكمته في جميع الأمور.

٢٠ ـ (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) ... أي لا تنحصر في مغانم خيبر بل وعدكم إيّاها وغيرها من مغانم أخرى من الفتوح إلى الأبد (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنائم خيبر التي وصلت إليك معجلا من غير ترقّب (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) من أهل خيبر وحلفائهم ، وذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قصد خيبر وحاصر أهلها همّت قبائل من أسد وغطفان وهوازن أن يهجموا على اموال المسلمين وعيالاتهم بالمدينة فكفّ الله أيديهم عنهم بالرّعب والخوف في قلوبهم من النبيّ وعسكره لعل هذا هو المراد بقوله في الآية التالية (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) ، (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف على ما تقدم من حاصل قوله سبحانه (فَعَجَّلَ) في إيصال الغنائم إليكم لإظهاره وعده ولتكون إمارة دالّة على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في وعده للمؤمنين بأخذهم الغنائم واستفادتهم الكثيرة منها ما داموا على ما كانوا عليه ثابتين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قولا

٤٨٨

وعملا وإن حدث فيهم فتور بعد حدّتهم وضعفهم بعد شدّة قوتهم وشوكتهم في هذه الأيام فقد ذهبت ريحهم وتسلّط الكفار على الأخيار كما وعد الله ورسوله ، وصدق الرسول الكريم فيما وعد به ونحن على ذلك من الشاهدين (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يثبتكم على طريق الحق بفضله وإحسانه.

٢١ ـ (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) ... أي وعدكم مغانم أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) ولعلّ المراد بها غنائم فارس أو الروم أو هوازن ، أو هي ما أشرنا إليه آنفا من حلفاء خيبر (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) علما بأنها ستصير إليكم (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي قادرا على فتح البلاد وإيصال الغنائم وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها أحد إلّا بمشيئته وإرادته. ثم إنه تعالى يخبر رسوله بنبإ من أخباره الغيبيّة وهو قوله سبحانه : يا رسول الله اعلم ان كل من قاتلك فهو مغلوب ومنهزم.

٢٢ ـ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) ... أي يا رسول الله اعلم أنه لو قاتلك الكفرة فهم المغلوبون المنهزمون سواء كانوا من قريش أو غيرهم. وهذه بشارة سارّة موجبة لترغيب عسكره في الجهاد والحرب وتوليتهم الأدبار تعني أنهم ينهزمون ويرجعون إلى الوراء من الخوف والرعب الذي يتعقّبه الموت (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي محبّا يتودّد إليهم ويحرسهم ويدفع عنهم الحوادث والأضرار ولا ناصرا ينصرهم ويقيهم في الحوادث من الهلاك.

٢٣ ـ (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) ... أي عادة الله وديدنه ، قد جرت من قديم الأيّام وعصر كلّ نبيّ على تغليب أوليائه على أعدائهم وخذلان معانديهم. ونصب السّنة بناء على كونه مفعولا مطلقا للفعل المقدّر ، أي سنّ الله سنّة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تغييرا لا هو سبحانه يغيّرها ولا غيره بقدر على تبديلها.

* * *

٤٨٩

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

٢٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) ... عن أنس بن مالك أنه حينما نزل رسول الله مع أصحابه الحديبيّة وبلغ خبرهم أهل مكّة ، خرج ثمانون نفرا من كفرتها منها شاكي السلاح ، ووصلوا وقت صلاة الصّبح إلى جبل التنعيم ، وهجموا على النبيّ (ص) وأصحابه حتى يقتلوهم ، فوقعت الحرب بينهم وغلبهم النبيّ (ص) وأصحابه فأخذوهم بأجمعهم ، لكنّه صلوات الله عليه أطلقهم حتى لا يقع في الحرم قتل فنزلت الشريفة مقارنة لتلك الحالة. فالمراد من كفّ الأيدي هو أيدي هؤلاء المشركين ، كما أن المراد بقوله (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) هو إطلاقه إيّاهم لئلّا يهتك الحرم. والمراد ببطن مكة هو الحديبيّة فإنه يحسب من داخل مكة

٤٩٠

(مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي جعلكم تغلبونهم. والمراد من المغلوبين هم الثمانون المذكورون آنفا (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من جدالكم معهم أوّلا واطلاقكم إيّاهم تعظيما وتجليلا للبيت الحرام ثانيا وقرئ بالياء (يعملون). ويحتمل أن يكون المراد من المظفر عليهم هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين ذكروا قبلا. وهذا الحمل خلاف ظواهر الآيات السّابقة واللّاحقة.

٢٥ ـ (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ) ... الضمير راجع إلى كفّار مكّة الذين منعوا الرّسول والصّحابة من دخولهم الحرم ومن نحر الإبل في محلّها وهو مكّة كما منعوا ذبح الأغنام في محلها وهو منى على ما هو المرسوم في عصره صلوات الله عليه وآله حيث أنهّ منحر الهدي في العمرة كان مكّة ، كما أن النّحر في الحج كان منى ، وفي الصّدّ ينحر حيث يصدّ كما فعل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان معه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الهدي إلى المحلّ الذي يحلّ ونحرها بأجمعها في الحديبيّة وهي مكان الصّد. وقوله (مَعْكُوفاً) حال من (الْهَدْيَ) ومعناه ممنوعا ومحبوسا عن وصول الهدي إلى المحلّ الذي يحلّ فيه نحره. ثم إنه سبحانه بعد تعيين الصادّين أخذ في بيان سبب المنع عن دخول المسلمين في تلك السنة إلى المسجد الحرام مع أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لو قاتلهم في تلك السنة لغلبهم لأنّ الله تعالى وعده النصر فقال سبحانه (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) في القمّي : يعني بمكّة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي أنتم لا تعرفونهم وغيركم أيضا ليس لهم علم بإيمانهم حيث إنهم يعملون بالتقيّة ويكتمون إيمانهم ويختلطون بالكفّار وكانوا بينهم كأحدهم فلا يعرفون بأعيانهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي أن تهلكوا حين المقاتلة لو أذن لكم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي بعد علمكم بقتلهم تلزمكم من جهتهم تبعة من دية لقتلهم خطأ أو إثم بترك الفحص عنهم والتأثر والتأسّف عليهم وغير ذلك مما يترتب على قتل المؤمنين والمؤمنات

٤٩١

بغير علم بهم بعينهم وقوله (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل اشتمال عن الضّمير في (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أو عن (رِجالٌ) كما أنّ قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منصوب محلا بناء على الحاليّة من فاعل (لم تطأوهم) وجواب الشرط محذوف والتقدير (لولا أن تطأوهم غير عالمين بهم لما كفّ أيديكم عنهم) ، (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي فكفّ عن القتال وصولحوا ليدخل الله المؤمنين ومن أسلم بعد الصّلح من الكفرة (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو تفرّقوا بحيث تميّزوا عن المشركين وعرفوا بأشخاصهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) باهلاك الكفرة وسبي عيالاتهم وذراريهم ونهب أموالهم أو إحراق بيوتهم عليهم فإن العذاب الأليم كلّما يطلق في عذابات القيامة يراد منه نوع الإحراق بالنّار ولعله يراد به المرتبة الشديدة منه ، لأن نفس هذا اللفظ يدل بمقتضى وضعه على ما يشقّ على الإنسان ، واتّصافه بهذه اللّفظة التي تدل على الألم والتوجّع الشديد يؤكده ، والعذاب بالنّار أشدّ العذابات في الدّنيا والآخرة على ما يستفاد من قول أمير المؤمنين في حدّ من تجاوز بغلام واعترف ثلاث مرات بإيقابه له فاختاره المولى بين أمور ثلاثة : الرّمي من الشهاهق ، والرّجم ، والإحراق ، فسئل أمير المؤمنين عن أشدّها فقال سلام الله عليه : النّار ، فاختار النار.

٢٦ ـ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... كلمة (إِذْ) ظرف لعذّبنا ومتعلّق به الذين كفروا أي حينما جعل الذين (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) يعني نخوة الجاهليّة وأنفتها التي أشربت في قلوبهم بحيث لا تخرج إلّا بصمصام أمير المؤمنين سلام الله عليه وما دامت هي باقية فهم لا يذعنون للحق والحقيقة (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ولما كانت الحميّة التي في قلوبهم مانعة لإذعانهم وتصديقهم بالألوهيّة والتوحيد والرّسالة ، فلذا كان هو صلوات الله عليه وآله دائما في قلق وانزعاج

٤٩٢

وتضجّر قلب فالله تعالى لطفا منه به ورحمة لنبيّه صلواته عليه وآله أنزل السكينة على نبيّه لتسكين قلبه وثباته وليتحمّل حميّة القوم وأذاهم. وهذا ما يستفاد ممّا أخبر سبحانه به من قوله عزوجل (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أي قول لا إله إلّا الله كما عن عليّ في جواب من سأله عن كلمة التقوى ، أو المراد بها هو الشهادة بالولاية كما عن النبيّ صلوات الله عليه وآله الذي قال : إن عليّا هو الكلمة التي ألزمها التّقوى أو المتّقين. وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال في خطبة : أنا عروة الله الوثقى ، وكلمة التقوى. وفي الإكمال عن الرّضا عليه‌السلام في حديث له : نحن كلمة التقوى والعروة الوثقى. والآية تدل بظاهرها على أن المراد هي الشهادة بالولاية مع قطع النظر عن الرّويات الكثيرة. بيان ذلك أن الشهادة بالوحدانية وإن كانت في بدء الإسلام أمرا صعبا على النفوس ، لكنّه بعد برهة قصيرة من الزّمان صارت أمرا متعارفا معتادا بحيث صارت شعارا للدخول في الدين الإسلامي لحقن دمائهم وأعراضهم ونواميسهم وللاستفادات الأخر كالشركة في الغنائم والتجارات وسائر الأمور الماديّة فكانوا لهذه الجهات ونحوها يدخلون في الإسلام أفواجا بخلاف الشهادة بالولاية فإنّها كانت صعبة ثقيلة كبيرة إلّا على الخاشعين من بداية الإسلام إلى نهايته بل في بداية الأمر كان لا يتكلّم بها النبيّ صريحا مع أنها شعار الإيمان ولذا كانوا يحتاجون إلى الإلزام والإثبات كما قال تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) مرجع الضمير إلى أهل الإيمان فقط أي ثبّتهم عليها (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) يحتمل أن تكون الجملة في معرض التعليل لانحصار إرجاع الضمير إليهم ، أي لكونهم أحقّ بها وأهلا لها وغيرهم ليسوا كذلك (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من كان أهلا لكلمة الشهادة بالولاية وحقيقا بها.

* * *

٤٩٣

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

٢٧ ـ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) ... فقد رأى رسول الله (ص) هذه الرّؤيا قبل خروجه إلى الحديبيّة وصدقه الله رؤياه إذ رأى أنه وأصحابه دخلوا مكة (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) وذلك بأن وفّقهم في السنة التالية لسنة الرّؤيا لفتح مكة والإتيان بفريضتهم بتمامها وكمالها على ما أخبر بقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) أي صدقا متلبسا بالحق وبغرض صحيح وحكمة بليغة. هذا بناء على كونه حالا من (صَدَقَ) ويمكن أن يكون حالا من (الرُّؤْيا) أي الرؤيا كانت متلبسة بالصّحة والحقيقة بلا شائبة ولم تكن أضغاث أحلام بل كانت عارية من جميع الأوهام وبناء على هذين الاحتمالين قوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) جواب لقسم مقدّر أي (والله لتدخلن المسجد الحرام) ويحتمل أن يكون قوله (بِالْحَقِ) (الباء) باء القسم (والحق) اسم من أسمائه تعالى ، أو المراد به ما هو مقابل الباطل فالأمر أوضح لكون قوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) جوابا للقسم (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) علّق سبحانه دخولهم على مشيئته لتعليم العباد وتأديبهم بآدابه وسننه على ما هو المنقول عن ابن عباس من أنه تعالى علّق ما هو عالم به حتى يعلّق عباده ما لا يعلمون على مشيئته. وإمّا أن التعليق لأنه كان يعلم بموت بعض أو مرض آخر أو غيابه

٤٩٤

فلذا اقترن دخولهم جميعا بالمشيئة حتى لا يلزم خلف وعده سبحانه. وقوله تعالى (آمِنِينَ) حال من فاعل (لَتَدْخُلُنَ) أي تدخلون في حال الأمن والأمان من شرّ كل ذي شر (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) أي في حال تحلقون جميع رأسكم ، وهذا حال بعد حال (وَمُقَصِّرِينَ) بحلق بعض رأسكم أو تقليم ظفر من أظفاركم أو قصّ شواربكم (لا تَخافُونَ) حال مؤكّدة لقوله (آمِنِينَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي جعل وقرّر من قبل ذلك الفتح فتح خيبر وكان مقرونا بالوقوع وقوله فعلم ما لم تعلموا أو المراد بالموصول هو الصلاح والحكمة في تأخير دخول مكّة ، منها تحصيل الغنائم الكثيرة من قلاع خيبر التي صارت باعثة لتحصيل شوكتهم وشدّة قوّتهم الحربيّة ، وفي النتيجة وقع الرّعب كثيرا في قلوب أهل مكّة بحيث صاروا خائفين متواضعين للنبيّ (ص) وأصحابه حين دخولهم عليهم في مكة.

٢٨ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) ... ثم إنّه سبحانه وتعالى تأكيدا لوعد فتح البلدان وتوطينا لنفوس أهل الإيمان وبشارة لغلبتهم على جميع أقاليم المشركين في مختلف الأوطان ، يقول (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلوا دين الإسلام وهو الحق لا غيره في عصره (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على الأديان كلّها بالحجة والبراهين الواضحة. وعنهم عليهم‌السلام : يكون ذلك عند خروج المهدي عجّل الله تعالى فرجه ، كما أن الكريمة الأخرى شاهدة على ذلك وذلك قوله تعالى (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) ، (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما وعده المؤمنين من القهر والغلبة على المشركين.

* * *

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ

٤٩٥

تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

٢٩ ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ... جملة مؤكّدة لما في الآية السّابقة من قوله (أَرْسَلَ رَسُولَهُ) والظاهر أن قوله (أَشِدَّاءُ) خبر لقوله (مُحَمَّدٌ) ، وهو مبتدأ موصوف (برسول الله) و (الَّذِينَ مَعَهُ) عطف على المبتدأ ، والمراد بهم أصحابه الخلّص. ومعنى الأشدّاء : الغلاظ الشّداد لا يعصون الرّسول ما أمرهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي متعاطفون ومتلاطفون فيما بينهم (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) كناية عن كثرة صلاتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي لا يبتغون من غيره شيئا حيث إنّهم يجدون غيره مثلهم محتاجين ، والله هو الغنّي المطلق ذاتا. فلذا يسألون منه تعالى زيادة ثوابه ورضاه منهم (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامة إيمانهم ظاهرة في وجوههم. وقوله (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يمكن أن يكون بيانا للسّيما فإن هذا الأثر كاشف عن كثرة الصلاة وطول السّجود ، وهذان من أوصاف المؤمنين المكملين في الإيمان أو المراد من السّيما هو البهجة والحسن أي حسن الإيمان وبهجته ظاهران في وجوههم ، ومنشأ الظهور هو الأثر الذي أوجده السجود (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي هذه الأوصاف العجيبة الحسنة هي صفتهم في كتاب موسى وصفتهم في كتاب عيسى ، يعني إن لم تقبلوا فاسألوا أحبار اليهود ورهبان النصارى فهم يخبرونكم بأن هذه الصّفات

٤٩٦

كلّها صفات محمد (ص) وأصحابه الخلّص وهي مسطورة في التوراة والإنجيل. ثم إنّه سبحانه استأنف ببيان مطلب آخر وصفة أخرى من أوصاف المؤمنين من أصحابه فقال (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي ورقه الذي هو في غاية الدقّة والضّعف (فَآزَرَهُ) أي فقوّاه تدريجا من المؤازرة بمعنى الإعانة والتقوية (فَاسْتَغْلَظَ) أي تدرّج ونما حتى صار من الدّقة إلى الغلظة ، ومن الضّعف إلى القوّة بحيث (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي وصل إلى مرتبة من القوّة والاستعداد حتى استقرّ واعتدل على أصوله بدرجة (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي لغلظه واستوائه في تلك المدّة القليلة. ووجه الشّبه إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج وحده ، ثم كثروا وقووا على أحسن حال ، وظفروا وتغلّبوا على الكفرة والمعاندين بحيث أعجب الناس (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) بيان لوجه تشبيه النبيّ والصّحابة بالزرع في نمائه تدريجا واستحكامه بعد مدة قليلة ، فالله سبحانه وعد نبيّه بالنصر ووفى بوعده وظفّره على أعدائه وكثّر أنصاره بعد قلّتهم وأعانه بعد وحدته وأوقع في قلوب أهل عصره الرّعب والخشية بحيث صاروا يدخلون في دينه وشرعه أفواجا بلا حرب ولا جدال لأن الكفرة لّما شاهدوا تلك الحالة في الناس والتهافت السريع للإسلام صاروا يعضّون أناملهم من الغيظ فخوطبوا بقوله سبحانه بواسطة نبيّه (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ)(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي الجنّة بمراتبها على درجات إيمان المؤمنين وأعمالهم في الكثرة والقلّة ، فإنها الفوز العظيم والأجر الجزيل الذي لا يتصوّر فوقه شيء. وفي ثواب الأعمال والمجمع عن الصّادق عليه‌السلام حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة (إِنَّا فَتَحْنا) فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ، ألحقوه بالصّالحين من عبادي ، وأسكنوه جنات النعيم ، واسقوه من الرّحيق المختوم بمزاج الكافور.

* * *

٤٩٧
٤٩٨

سورة الحجرات

مدنيّة وآياتها ١٨ نزلت بعد المجادلة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ... أي لا تعملوا عملا إلّا بإذنهما ، ولا تفعلوا فعلا قبل أن يحكما به. وقيل إن المراد بالتقدّم هو التقدّم في المشي ولعله يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى ظاهرا (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي أمامهما لأن بين يدي الإنسان أمامه ، وإن كان يخالف هذا الظاهر ذكره سبحانه حيث إنه تعالى ليس له أمام ولا غيره من

٤٩٩

الجهات السّت. فالمراد هو المعنى الذي ذكرناه أوّلا. نعم يمكن أنّ ذكره تعالى كان تعظيما للرّسول (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي اتقوه تعالى في أوامره ونواهيه ، وفي التقدم عليه وعلى رسوله في جميع شؤونكم لأنّه يسمع أقوالكم ويعلم أفعالكم وآراءكم وما يخطر ببالكم ، فلا بدّ أن تكون أعمالكم صادرة إمّا عن وحي منزل أو عن أسوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فالآية الشريفة في مقام تأديب الناس وعدم إقدامهم على أمر إلّا بإذن من الله ورسوله ، فإذا سئل الرّسول في مجلسه عن مسألة فليس لأحد أن يجيب إلّا بإذن منه ، فإذا أجاب عن السؤال قبل جوابه (ص) وبلا رخصة منه فإنه سوء أدب وتجاسر على ساحته الشريفة.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ... هذه الشريفة في بيان مصداق من مصاديق التجاسر عليه وخلاف الأدب بساحته ، ولذا فهو سبحانه قد منعهم ونهى عن رفعهم أصواتهم فوق صوت النبيّ فإنهم ما كانوا ليفقهوا أن رفع الصّوت كان تجاسرا فنبّههم بأن هذا تجاسر عليه وسوء أدب بالنسبة إليه (ص) (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي فيما خاطبتموه فإنه ليس كأحدكم حيث إنّ له شأنا شامخا ليس لأحد من البشر من آدم ومن دونه. والحاصل أنه ليس بعد مقام القدس الرّبوبي مرتبة أرفع وأجل من مرتبة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا بيّن سبحانه أن رفع الصوت بين يديه تجاسر عليه محرّم لأن من كان هذا شأنه لا يجوز أن يخاطب كما يخاطب أعراب الجاهليّة ، على أن هذه الأمور تكون هتكا لمقام الأكابر والزعماء ، فكيف بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم قد كانوا يجلسون بخدمته بحسب هواهم أو ينامون في حضرته الرّفيعة ويقولون بجرأة : حدّثنا يا محمد حتى ننام يعنون بذلك حديث النّوم وقصّته ، ونقل أنهم كانوا يضعون رؤوسهم على فخذه الشريفة ويقولون حدّثنا أي كما يقول الأطفال لأمّهاتهم أو جدّاتهم وبالجملة

٥٠٠