الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

بالاستغفار لنفسه وللأمّة إمّا من باب التذكير أو من باب التعليم وبيان الآداب ، أي بما انك أب كريم رؤف للأمّة فاستغفر لهم بعد ما تستغفر لنفسك. وأمره سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاستغفار لأمّته بشارة لهم بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أطاع أمر الله واستغفر لهم ، والله تعالى أجلّ وأعلى من أن يأمر نبيّه بشيء فإذا طلب النبيّ منه الشيء المأمور به لا يعطيه. والحاصل أنّ النبيّ (ص) قد طلب واستغفر للأمّة يقينا ، وقد أجابه الله سبحانه مسلّما بلا ريب. وروى السكونيّ عن الصّادق عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خير الدّعاء الاستغفار. وقال عليه‌السلام : قال رسول الله (ص) إنّ للقلوب صدأ كصدأ النّحاس فاجلوها بالاستغفار. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أكثر الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا ومن كلّ ضيق مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. وعن الرّضا عليه‌السلام : المستغفر من الذنب وهو يفعله كالمستهزئ بربّه. ثم إنه سبحانه يحذّر العباد وينبّههم إلى أنه مترصّدكم ومراقبكم في جميع أحوالكم فلا تغفلوا ولا تنسوه فيقول تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي منتشركم بالنّهار ومستقركم بالليل أو منصرفكم وأمكنة ذهابكم وإيابكم في الدنيا لتحصيل معاشكم وما تصلح به أموركم ، ومثواكم في الآخرة من الجنّة والنّار. أي هو عالم ومحيط بجميع أحوالكم وشؤونكم في الدّنيا والآخرة.

* * *

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ

٤٦١

مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

٢٠ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ... أي لماذا لم تنزل سورة في الجهاد مع هؤلاء المعاندين وهؤلاء المشركين (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي غير متشابهة مبيّنة ظاهرة في أمر الجهاد ، وقد صرّح فيها به مع المشركين والكفرة وقيل كلّ سورة نزلت فيها القتال فهي محكمة لم ينسخ منها شيء لأنّ القتال ناسخ للصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي النفاق أو ضعف الايمان (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي كمن عرضت له الغشية تراه مبهوتا متحيّرا خوفا وجبنا من الموت في عرصة الجهاد (فَأَوْلى لَهُمْ) أولى في هذه الموارد كلمة تهديد ووعيد ومعناها قد قاربهم الشرّ فليحذروا ، أو فويل لهم بمعنى اللعن والعذاب كما في قوله سبحانه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي لعن وعذّب فهي كلمة زجر وتخويف.

٢١ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ... أي إطاعة أوامر الله والقول بأنّا نجاهد في الله بأموالنا وأنفسنا خير وأحسن قيلا لهم من إظهار الكراهية والاشمئزاز عند نزول آية الجهاد أو قوله (طاعَةٌ) خبر للمحذوف ، أي الجهاد في سبيل الدّين وترويجه طاعة ، وكذلك (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) وتقديره : والقول بالقتال قول معروف في الشرائع السابقة وليس أمرا بديعا مختصّا بهذه الشريعة. وهذه الجملة مستأنفة ومحذوفة الخبر ، أي خير لهم. ولا بأس بالابتداء بالنكرة لأنّها تفيد فائدة المعرفة مضافا إلى أن التقدير (طاعة

٤٦٢

الله) وحذف لدلالة المقام عليه (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جاء وقت العمل وتوطين النفس على الفعل (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) أي لو عملوا بما كانوا يطلبونه معجّلا من نزول الأمر بالجهاد وأظهروا التشوّق للقتال (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أن يصدقوا الله ، والصدق من الأمور التي تصدر عنهم كالصّدقات وإنفاق الأموال في سبيل الله وغيره ، أو لكان خيرا لهم امتثال أمر الله في باب الجهاد وكان أحسن لهم من النّفاق وإظهار الاشمئزاز من الجهاد والقتال.

٢٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ... أي أترجون بأنّكم لو ملّكتم أمر النّاس وتسلّطتم على رقابهم (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بأخذ الرّشى وأخذ أموال الناس بغير الحق وقتل النّفس المحترمة وهتك أعراض الناس ونواميسهم (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) بأن لا تزوروهم ولا تسألوا عن أحوالهم ولا تساعدوهم فيما يحتاجون إليه ونحو ذلك والحاصل تريدون أن ترجعوا إلى الجاهليّة الغاشمة والحريّة الرعناء. فإن كانت هذه عقيدتكم فأنتم ممّن قال تعالى في شأنهم :

٢٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) ... أي أبعدهم من رحمته فلا يشملهم فضله وإحسانه وجوده. ولذا تفرّع على كونهم ملعونين قوله (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي خلّاهم وتركهم على ما هم عليه من الأخلاق الرذيلة والعقائد السّخيفة ، وهذا غاية الخذلان ونهاية الخسران. والاستفهام تقريريّ ، يعني إن وصلتم إلى هذه الدّرجة من الرّفعة والرقيّ والسّلطة فلا يبعد منكم أن تتصدّوا لما ذكر من القبائح بل تفعلونها بلا ريب.

* * *

٤٦٣

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))

٢٤ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ... أي أفلا يتفكّرون بالقرآن حتى يقرّوا ويعترفوا بما عليهم من تحصيل الطريقة الحقّة والدّين الحق؟ والاستفهام للتقرير ، أي : نعم لا يتدبّرون ولا يتفكرون حتى يعتبروا بما نزل بالأمم السّابقة من التدمير والصيحة والصاعقة ونحوها. وفي النتيجة قد خسروا خسرانا مبينا (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أم حرف عطف تكون للمعادلة وتقع بعد همزة الاستفهام بمعنى (بل) وقيل معنى أم على قلوب أقفالها أي أم قلوبهم مقفلة لا يدخلها الهدى ولا يصل إليها ذكر ؛ يعني أنهم لا يفقهون شيئا لأن الله طبع على قلوبهم فلا يصل إليهم أيّ أثر للمواعظ والنصائح. والمراد (بأقفالها) كفرهم وعنادهم وجحودهم المانع عن قبولهم الحق ووصول المواعظ إليهم وتأثيرها فيها. وإضافة الأقفال إلى القلوب للدّلالة على أن المراد بالأقفال هي الأقفال المناسبة لها المختصّة بها ، لا الأقفال المعهودة غير المتجانسة معها. وفي المحاسن عن الصّادق عليه

٤٦٤

السّلام : إن لك قلبا ومسامع ، وإن الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول الله عزوجل (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) ... أي رجعوا إلى كفرهم ونفاقهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بالحجج الواضحة ، وظهر لهم الطّريق الحقّ والصّراط المستقيم الموصل إلى نبوّة خاتم الرّسل صلوات الله عليه وآله وإلى صحّة دعوته بالتّوحيد (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي زيّن لهم اتّباع أهوائهم في آمالهم ، أو مدّ أملهم ، أو أملى لهم يعني أنه تعالى أمهلهم وأجلّ عقوبتهم حتى يزيدوا في العصيان فيزداد لهم الله في العقوبة.

٢٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا) ... أي التّسويل والإمهال كان منه سبحانه ، لأنّ المشركين والمنافقين منهم الذين أظهروا الإيمان وأخفوا شركهم ، قالوا للذين كانوا باقين على كفرهم ولم يؤمنوا وكانوا كارهين لما أنزل الله من القرآن وما فيه من الأحكام من الأوامر والنّواهي وغيرهما ، قالوا لهم : (سَنُطِيعُكُمْ) ... وفي المجمع عنهما عليهما‌السلام أنّهم بنو أميّة كرهوا ما أنزل الله في ولاية عليّ عليه‌السلام فقال لهم المنافقون (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) كالتّظاهر على عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والقعود عن الجهاد. أو المراد ببعض الأمر هو إنكار ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام وما أنزل في شأنه وفي شأن أهل البيت عليهم‌السلام وهذا أظهر من الأوّل ، والعلم عنده تعالى. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : فلان وفلان ارتدّا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثم قال : والله نزلت فيهما وفي أتباعهما ، إلخ (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي يظهرها للنّاس ليفضحها ويكشف سوء سرائرهم.

٤٦٥

٢٧ ـ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) ... أي كيف يعملون هكذا ويحتالون ، وكيف تكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وكانوا (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) التي كانوا يتّقون أن تصيبها آفة في القتال فيفرّون ويتجنّبون أذاها. ثمّ إنّه تعالى يذكر سبب الضرب على هذه الكيفيّة فيقول سبحانه :

٢٨ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) ... أي اتّبعوا ما أغضبه من المعاصي الكبار التي يكرهها ويعاقب عليها (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي ما يرضيه من الإيمان وطاعة الرّسول وحبّ أهل بيته عليهم‌السلام (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي أبطل ما عملوا من الخيرات لذلك.

* * *

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢))

٢٩ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ... أي مرض النّفاق والعناد

٤٦٦

فهل ظنّ المرضى به (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي لن يبرز الله لرسوله والمؤمنين أحقادهم؟ نعم يبرز لهم جميع ما في صدورهم.

٣٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) ... أي لعرّفناكهم بدلائل فتعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم وهيئتهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أى تصيير القول وتبديله عن الصّواب ، وهو عبارة عن التعريض والتورية ، أو المراد بلحن القول تأويله وإمالته إلى نحو تعريض للمؤمنين للانحراف والشكوك وفي رواية هو كناية عن إظهار بغضهم لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام. وعن أبي سعيد الخدري كنّا نعرف المنافقين في عهد رسول الله (أو على عهد رسول الله) ببغضهم علي بن أبي طالب. ونظير هذه الرّواية ما عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعن عبادة بن الصامت كنّا نبوّر أولادنا بحبّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة (والرّشدة وبفتح الراء أيضا ضدّ الزّنية) والتبوير جاء هنا بمعنى الاختبار والامتحان لمعرفة حقيقة إيمانهم ومبلغ نفاقهم ، وإلّا فإن التبوير خاصّ بالأرض يقال ترك الأرض بورا وبوّرها أي لم يفلحها فبقيت بائرة ، وقال أنس ما خفي منافق على عهد رسول الله (ص) بعد هذه الآية باعتبار ذيلها اي (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ويستفاد من الرّوايات أنّ عند الصّحابة تفسير لحن القول ببغض أمير المؤمنين كان أمرا مسلّما ومعهودا ويصدّق الأخبار المذكورة عن الصحابة من اختبار أولادهم ورشدتهم وزنيتهم بحبّ عليّ عليه‌السلام ما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : يا علي لا يحبّك إلّا مؤمن تقيّ ، ولا يبغضك إلّا منافق شقيّ. (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) من حيث كونها بإخلاص أو نفاق فيجازيكم على حسب نيّاتكم.

٣١ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ) ... أي لنختبرنّكم بالجهاد وسائر الأعمال الشاقّة وغيرها حتى (نَعْلَمَ) نميّز (الْمُجاهِدِينَ)

٤٦٧

والمطيعين من جملتكم (وَالصَّابِرِينَ) على التّكاليف الشاقّة (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) عن إيمانكم وموالاتكم المؤمنين في صدقها وكذبها. وأضاف سبحانه البلاء والعلم إلى نفسه تعظيما لهم وتشريفا كما قال (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يؤذون أولياء الله.

٣٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) ... أي كفروا ولم يؤمنوا ومنعوا قومهم وعشيرتهم وأهل بلادهم عن طريق الحق وسبيل الهدى بالقهر أو بالإغواء (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) روى القمّي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : قطعوه في أهل بيته بعد أخذه الميثاق عليهم له. ولعلّ المراد هو خصوص بني النّضير وقريظة أو مطلق رؤساء يوم بدر وقريش. وعلى أيّ حال يقول سبحانه إظهارا للقدرة وتسلية للرّسول وتحقيرا للكفرة (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بمنعهم ومخالفتهم للنبيّ الأكرم ونقض عهدهم وميثاقهم وإنّما ضرّوا أنفسهم (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) بكفرهم وصدّهم عن سبيل الحق. وأيّ خسارة وضرر أعظم من ذلك؟

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) ... أي في أوامره ونواهيه وكلّ ما

٤٦٨

يحتويه كتابه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما جاء به من عند ربّه فإن ما يقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) طبق إرادة الله ومشيئته سبحانه ولا يكون من عند نفسه. وتكرار الجملة الفعليّة جاء إعزازا وإعظاما لنبيّه (ص) وتأكيدا للطاعة (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بما ينافي الإخلاص من كفر وعجب ورياء ومنّ وأذى وغيرها. وفي ثواب الأعمال عن الباقر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال لا إله إلّا الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنّة. فقال رجل من قريش : يا رسول الله إن شجرنا في الجنّة لكثير. قال : نعم ، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها. ذلك أنّ الله تعالى يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) ، إلى قوله (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).

٣٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) ... أي الذين منعوا وصرفوا الناس عن جادّة الهدى وطريق الحق (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي لم يهتدوا وما آمنوا إلى أن ماتوا على الكفر والعناد (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي لن يفتح باب الرحمة الواسعة لهم أبدا ويكونون في العذاب الأبديّ جزاء لإصرارهم على الكفر ولو عاشوا مخلّدين في الدّنيا إلى فنائها. والإتيان بكلمة (فَلَنْ) لتأكيد النفي أي كونه أبديّا بحيث لا يؤذن للشفعاء بالشفاعة لهم أعاذنا الله من غضبه وحلول سخطه. وقد نزلت الآية في أهل القليب وتعمّ غيرهم.

٣٥ ـ (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) ... أي لا تضعفوا وتدعوهم إلى الصّلح لأن الدعوة إلى الصّلح رمز إلى ضعفكم ووهنكم عن القتال والحرب (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) والحال أنكم الغالبون ، وهو إخبار عنه تعالى بغلبة المؤمنين في عاقبة الأمر ، وإن غلبوا في بعض الأحوال (وَاللهُ

٤٦٩

مَعَكُمْ) أي ناصركم ومعينكم. وهذه بشرى للمؤمنين بالغلبة والنصر والإعانة (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم أجرها. والآية ناسخة للشّريفة (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها).

* * *

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

٣٦ و ٣٧ ـ (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ... الظّاهر أنّه تعالى يريد أن يشبّه الحياة الدّنيويّة وبقاءها من حيث سرعة انقضائها وزوالها بلعب الأطفال وأفعالهم التي لا ثبات لها ولا دوام لأنّ أمدها قصير ودوامها ملازم وقرين للفناء كذلك لأنهم يقضونها في التنزّهات المؤقتة والتفريحات الآنيّة التي تزول وتفنى بسرعة ولا يترتب عليها كثير فائدة أو هي فعلا فاقدة للفوائد العقلائية سريعة الزوال عديمة المآل. وبعيد أن يكون المراد بالآية الشريفة هو الإسناد الحقيقي بمعنى أن الدّنيا ليست إلّا اللّعب واللهو كما هو

٤٧٠

ظاهر الحمل ، فيلزم على هذا أن الله تعالى خلق خلقا عبثا ، وتعالى الله عنه علوّا كبيرا ، فهذا المعنى ليس بمراد قطعا وبلا ريب. فالحمل حمل تنظير وتشبيه من حيث قصر المدة وسرعة المضيّ (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) من ثواب إيمانكم وأجر تقواكم. فالفائدة ترجع إليكم وتعود عليكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي جميع الأموال بل يقتصر على يسير منها كالعشر ونصف العشر ، والإتيان بالجمع في قوله أموالكم دليل ما فسّرنا الآية به ، لأنه (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي أنه سبحانه إن يسألكم جميع أموالكم ويجتهد في طلبها (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي يدري بأنكم لا تجيبوه وتبخلون في مسئوله مع أن جميع ما بيدكم منه تعالى وهو مالكه وله ملك السّماوات والأرض. والبخل بالمال هو أعلى مراتب البخل ومن يبخل به فإنه أبخل الناس وهكذا يحسب ويعدّ مضافا بأنه (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) قال القمّي يظهر العداوة التي في صدوركم. يعني يخرج البخل أو طلب جميع الأموال أحقادكم التي أشربت في قلوبكم من سابق الأيام.

٣٨ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ) ... القمّي معناه أنتم يا هؤلاء (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) كلمة (ها) لتنبيه المخاطبين وتوجّههم إلى ما يخاطبون به. والحاصل أنه سبحانه يتوجّه خطابه العام إلى أصحاب النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنكم لو دعيتم لإنفاق مقدار من أموالكم في نفقة الجهاد ومصارف الفقراء وما يحتاج إليه حفظ بيضة الإسلام (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي من جملتكم من يبخل بماله ولا يرضى الإنفاق. وهذا إخبار عنه تعالى عمّا في ضمير بعض عباده. وبعد ذلك يبيّن نتيجة بخله بقوله سبحانه (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي من أمسك عمّا فرضه الله عليه ويمنع نفسه عن الإنفاق في سبيل الله فهو في الحقيقة ونفس الأمر يمنع عن نفسه لأنّ نفع الإنفاق يعود إليه وضرر البخل والإمساك عائد عليه (وَاللهُ الْغَنِيُ) لا يحتاج إلى إنفاقكم وأموالكم التي هو يعطيها لكم

٤٧١

في الدنيا لإصلاح أموركم الدنيويّة ، وأمركم بإنفاق بعضها لرفع درجاتكم وقربكم في الآخرة فإن امتثلتم أوامره فلكم وإن توليتم فعليكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) في الدّنيا والآخرة كما هو أمر مبيّن لكم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) عطف على (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) قال القمّي : وإن تتولّوا يعني عن ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام. والمراد بالقوم الذين ذكرهم تعالى هم كما عن الصّادق عليه‌السلام : أبناء الموالي المعتقين. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام قال : إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي. وعن الصّادق عليه‌السلام قال : قد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي. والموالي في لسان الأخبار هم الأعاجم أي الإيرانيّون. وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام أنّ أناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه وكان سلمان إلى جنب رسول الله (ص) فضرب يده على فخذ سلمان فقال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثّريّا لتناوله رجال من فارس (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي في معاداتكم وخلافكم وظلمكم لآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

٤٧٢

سورة الفتح

مدنية نزلت عند الانصراف من الحديبية وآياتها ٢٩ نزلت بعد الجمعة.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

١ ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) ... إنّه سبحانه وعد نبيّه (ص) بفتح مكّة ، والتّعبير بالماضي لتحقّقه. وقيل هو صلح الحديبيّة سمّي فتحا لكونه مقدّمة للفتح. وعلى أيّ حال في المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لمّا نزلت هذه الآية : لقد نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها. وقيل : لفتح الحكم أي حكمنا لك بفتحها من قابل.

٢ ـ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ) ... أي المتقدّم من تركك المندوب يعني ما قبل النبوّة ، والمتأخّر من تركه بعدها والدّليل على ذلك أن من الواضح

٤٧٣

بحيث لا يشكّ فيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن لا يخالف أوامر ربّه ونواهيه الواجبة ، فجاز أن يسمّى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسمّ ذنبا لعلوّ قدره ورفيع شأنه (ص) وقد قلنا في سورة محمد في نظير المقام مقالة لا يبعد أن تكون أحسن ما قيل فيه فلا نكررها فلتراجع. أو أن الكلام محمول على ما عن الصّادق (ع) حين سئل عن هذه الآية فقال : ما كان له ذنب ولا همّ بذنب ، ولكنّ الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له. أو محمول على تركه الأولى وهذا يرجع الى ما ذكرناه أولا من تركه المندوب والله أعلم (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بإعلاء أمرك وإظهار دينك وضميمة الملك إلى النبوّة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي إلى دين الإسلام ، أو يهديك في تبليغ الرّسالة وإقامة مراسم الرّئاسة ، أو طريقا عدلا لا اعوجاج فيه وهو التوحيد ويتبعه جميع ما يرتبط بالنبوّة والرّسالة.

٣ ـ (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) ... أي ينصرك نصرا فيه منعة ولا ذلّ معه رغما لأنوف أعدائك. والوجه في التصريح بذكر الفاعل في المغفرة والنّصرة وفي غيرهما ولم يختصر على الضّمير هو الاهتمام بشأنهما فإن مغفرة الذنوب والنّصر على أعداء الدين هو المقصد الأصلي والمأمل العالي عند أصحاب الإيمان وأرباب الدّين لصريح دلالتها على عزّ الدارين وتضمّنهما لتماميّة النّعمة والهداية ، ولذا ترى إيراد النّعمة والهداية بين الآيتين المباركتين للاشعار بأن الغفران والنّصر محيطان بهما وشاملان لهما. وعن موسى بن عقبة أنه لمّا رجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبيّة قال بعض الأصحاب اعتراضا على النبيّ (ص) للبعض الآخر منهم : كيف كان هذا الفتح الموعود مع صدّنا عن البيت الحرام؟ فوصل هذا الخبر إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح لأن المشركين تنزلوا عن مقام شوكتهم وتكبّرهم ونخوتهم واستدعوا عنكم الأمان وطلبوا منكم الإمهال ، وهذا عن كمال عجزهم وغاية ذلّهم ولذا

٤٧٤

يقول سبحانه :

* * *

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

٤ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) ... هي القوّة الملكوتيّة أو الأدلّة والبراهين السّاطعة التي تستلزم بصيرتهم في الغزوات والفتوحات فتكون موجبة لتسكين قلوبهم وتوجب قرارا في القلب وسكونا عن الاضطراب الذي يعرض على القلب ناشئا عن العوارض الخارجيّة والوقائع الحادثة الباعثة للخوف والخشية كعواصف القتال وشدائد الدواهي الأخر. وفي الكافي عنهما عليهما‌السلام : هو الإيمان. ولا بدّ أن يحمل على الكامل منه فإنه الذي يحصل به الاطمئنان والثبات عند عروض الحوادث ووقوع الإنسان في المهالك حيث يكون المؤمن الكامل إيمانه كالجبال الراسخة لا تحرّكه

٤٧٥

الصواعق والعواصف. فهو سبحانه الذي ينزل السكينة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين قال عنهم القمّي : هم الذين لم يخالفوا النبيّ الأكرم ولم ينكروا عليه الصّلح (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي إيمانا بالشرائع كلّها التي تنزل على الرسول ، مع إيمانهم بالله تعالى. وعلى هذا التفسير ، أي كون السّكينة بمعنى الإيمان مع قطع النظر عن تقيّده بما قلنا ، منضمّا إلى تفسير الإيمان الأول في الشريفة يكون (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) هو بما فسّر من الإيمان الأول بالشرائع ، والثاني هو الإيمان بالله. أي فإنهم كانوا مؤمنين بالله ، فإنزال الإيمان بالله في قلوبهم تحصيل للحاصل إلّا بمعناه الذي أوّلناه. ويؤيّد ما قلناه قوله سبحانه (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك أنّ ظاهر الشريفة يستفاد منه أنّ إضافة القلوب إلى المؤمنين كانت قبل صيرورته ظرفا للسّكينة ، فعلى هذا لا بدّ من تأويل الإيمان الذي هو معنى السكينة بما أوّلناه ، وإلّا فكون السكينة بمعنى الإيمان المطلق لا يناسب المقام. وإن قيل إن المراد بالإيمان الذي هو معنى السكينة إن كان هو الإيمان بالله تعالى نقبل ما أوردتم ، لكنّه ليس الأمر كذلك فإن الإيمان الذي هو معنى السكينة هو الإيمان بالنبيّ وبشريعته لا الإيمان بالله تعالى ، فيقال أيضا يرد عليكم ما أوردناه سابقا بناء على ما ذكره القمّي في تفسير المؤمنين في قوله تعالى (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) حيث فسّر بأنهم الذين لم يخالفوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم ينكروا عليه الصّلح ، وليس معنى هذا الكلام إلّا أنهم المؤمنون بالنبيّ وبشرائعه التي نزلت عليه فإذا كانت السكينة بمعنى الإيمان بالشرائع والإيمان الذي كان مضافا إليه للظرف أيضا كان بهذا المعنى على قول القمي ، فيحصل تحصيل الحاصل في ناحية الظرف ومتعلّقة ، فالإشكال وارد على أيّ حال فلا يخفى على المتأمّل فلا بدّ إمّا من تفسير السكينة بالقوّة أو تقييد الإيمان بالكامل منه (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما يتجنّد منه من الملائكة والثقلين وغيرهم من ذوات الأرواح مطلقا حتى الحشرات والهوام وغير ذوات الأرواح من الجمادات

٤٧٦

كالأرياح والأمطار ومطلق المياه كالبحار والصّواعق والزّلازل ونظائرها من الممكنات ، فإنها جميعا لها القابليّة لأن تكون جنوده تعالى ويهلك بها أعداءه سبحانه كما أهلكهم بها مرارا. وفيه تهديد للمشركين بأنه لو أراد أن يهلكهم فهو أيسر شيء عليه ، لكنّه عالم بهم وبما يخرج من أصلابهم فأمهلهم لذلك ولمصالح وحكم أخرى ، لا أنه لم يأمر بقتالهم لعجز أو حاجة في إفنائهم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي عالما بمصالح عباده وحكيما في تدبيرهم على ما ينبغي وتقدير ما يصلح لهم في دنياهم وأخراهم.

٥ ـ (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) ... ولا يخفى أنّ قضيّة دخول المؤمنين والمؤمنات في الجنّات المتّصفة بجري المياه من بينها ومن تحت قصورها كثيرا ما ذكرت في الكتاب الكريم ، ووجه تكرارها معلوم. بيان ذلك أنّ النّاس على حسب طباعهم الأوّليّة مجبولون على كثير ميلهم إلى تلك النّعم الجزيلة التي لم يخلق مثلها في الدّنيا كميّة وكيفيّة ، فإذا أمروا بمقرّرات ووظائف وجعل جزاء من أطاعها وأتى بها تلك النّعم ، وأجر من خالفها وتركها العذاب الشديد ، فهم بطبعهم الأوليّ يميلون إلى الإطاعة ويعرضون عن المخالفة. فالله تعالى لرأفته وفضله العميم على العباد يكرّر تلك الآيات ويذكّرهم نعمه الجسمية حتى لا ينسوها فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ففي هذا التكرار مضافا إلى أنه ليس فيه قبح كثير فائدة ومصلحة (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي يمحوها عنهم. وفي متعلّق حرف الجرّ من قوله سبحانه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) خلاف بين أرباب التفاسير ، ولعل الحق هو ما ذهب إليه الأكثر من أنه يتعلّق بقوله سبحانه (إِنَّا فَتَحْنا) كما أنه يتعلّق به الجارّ من قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) والتقدير : (إنّا فتحنا لك ، ليغفر الله لك ، وإنّا فتحنا لك ، ليدخل المؤمنين) والغفران هنا لعلّه على ما يناسب المقام جاء في اللّغة بمعنى الإصلاح والله سبحانه وتعالى إكراما لنبيّه ولطفا منه به بشّره بأمرين : بفتح مكّة ، وبإصلاح أمره الذي هو كناية عن إعلاء

٤٧٧

أمره وإظهار دينه ، وعن النّصر والظّفر على جميع العرب حيث إن العرب في ذلك العصر كانت مكة محطّ أنظارهم ونصب أعينهم وكانوا تابعين لأهلها ، فإذا فتحت كأنه قد فتحت بلادهم جميعا. ولذا حينما بشر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكة قال : هذه الآية عندي أحبّ إليّ من كلّ ما في الدّنيا أو قال : من جميع ما في الدّنيا. لأنّ فتح مكة يستلزم فتح البلاد العربيّة كلّها ، وفتح بلاد العرب يستلزم فتح جميع البلاد بشرط حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله مدة أو بشرط كون وصيّه الحقيقي (ع) مبسوط اليد. وقال قتادة : إن أنس روى أنّ رسول الله لمّا رجع من الحديبيّة لصدّه عن دخول مكة غمّ شديدا. ولمّا نزلت آية (إِنَّا فَتَحْنا) سرّ شديدا ، وقال ما ذكرناه آنفا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولما نزلت (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) زاد سروره فقال أصحابه : يا رسول الله هذا نصيبك فما ذا نصيبنا؟ فنزلت الشريفة (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلخ ولم يفصل بالواو العاطفة بين الجملتين ليستفاد منه كمال تقارنهما واتّصالهما في ترتّبهما على الفتح ولغيره من الأسرار والله أعلم. ولمّا كان الفتح سببه الظاهري هو صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، صار جزاؤهم الغفران ودخول الجنّة وإن كان بحسب الواقع هو تعالى الفاتح ولذا نسبه إليه حيث إن النّصر والظفر كانا من عنده عزوجل (وَكانَ ذلِكَ) أي الإدخال والتكفير (فَوْزاً عَظِيماً) لأنّهما منتهى غاية الطالبين.

٦ ـ (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) ... وهم أهل المدينة ، وأطلق عليهم صفة النّفاق لأنهم كانوا يظهرون الإيمان ويخفون الشّرك فالنّفاق هو إبطان الشّرك أو الكفر وإظهار الإيمان ، من نافقاء اليربوع وهو ثقبه الذي له بابان أحدهما ظاهر والآخر مخفيّ ، فإذا أتى عدوّ إليه من الظاهر خرج من الآخر (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) وهم أهل مكّة (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي يظنّون بالله أنّه يخالف ما وعده لرسوله وأنّه لا ينصر رسوله والمؤمنين بل

٤٧٨

يكلهم إلى أنفسهم حتّى يغلبوا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي يدور عليهم سوء ظنهم وهو منقلب عليهم ، ويعود إليهم ضرّ ظنّهم حيث إنّه سبحانه وتعالى صيّرهم مغلوبين ومنكوبين وأذلّاء صاغرين ببركة رسوله والمسلمين بحيث صاروا طلقاء لهم بعد كونهم عبيدا للرسول وللمؤمنين والحمد لله رب العالمين. وقال القمّي : وهم الذين أنكروا الصّلح واتّهموا رسول الله (ص) (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي أبعدهم من رحمته ومواهبه (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي مرجعا. وكانت القاعدة أن تعطف الجملة الثانية والثالثة بالفاء حيث إنّ اللّعن متفرّع على الغضب واعداد جهنّم لهم إلّا أنّه لما أراد سبحانه أن يبيّن أنّ كل واحدة منها مستقلّة في السببيّة للوعيد عطف بالواو التي دلّت على الاستقلال. ثم إنّه تعالى لزيادة تخويفهم يقول :

٧ ـ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... كرّرت هذه الجملة في الآية الرابعة وها هنا لأنها في الأولى كانت قرينة لذكر المؤمنين وكانت بشارة لهم بالنّصر والظّفر ، وهي هنا تتّصل بذكر المنافقين والمشركين لتوعيدهم وتخويفهم. والمستفاد من الكريمة أنّ ما سواه سبحانه كلّه تحت أمره وقدرته ومسخّر بين يديه كتسخير العساكر وانقيادهم لرأسهم ولمن له السّلطة عليهم. فالإنسان إذا توجّه إلى نفسه يرى جميع أعضائه منقادة له سبحانه بحيث إذا أمرها بإيلام الإنسان وإيجاعه فالإنسان يتألم ويتأثّر كمال التأثر من ألم السّمع أو البصر أو السّن أو غيرها من الأعضاء بحيث تزول راحته بل قد يموت من بعض الأوجاع والآلام فيدرك الإنسان ويحسّ وجدانا أن أعضاءه بأجمعها جنود له تعالى ، فكيف بالأمور الخارجيّة والحوادث السماويّة والأرضيّة أعاذنا الله منها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا عند القهر والانتقام ، وعارفا بتنظيم أمور عباده ، بل جميع مخلوقاته حيث إن جميع أفعاله معلّلة بالأغراض والمصالح.

* * *

٤٧٩

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

٨ و ٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ... أي على أمّتك أو على الأمم بأجمعهم أو على جميع البشر على ما تقتضيه أرفعيّة مقامه السّامي وامتيازه عن كلّ إنسان من الأوّلين والآخرين ، فهو صلوات الله وسلامه عليه شاهد عليهم بما عملوه من الطّاعة والعصيان والرّد والقبول ، كما أنّه الشافع المشفّع لهم أجمعين يوم الدّين ، حيث أن جميع الخلائق يكونون حيارى كالسّكارى في ذلك اليوم ويرون أنفسهم مقصّرين عند ربّهم فكلّهم يرجون شفاعته وعنايته بهم ولهم (وَمُبَشِّراً) للمطيعين بالنّعم الأبدية وللعاصين بالنّقم الدائمة (وَنَذِيراً) أي مخوّفا لمن قلنا ، وبما قلناه (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) الجارّ متعلّق بقوله (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) والتخاطب مع الحاضرين من أمّته صلوات الله عليه وآله. وقرئ بالياء مع ما بعده من الجمل الثلاث ، وهي قوله (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) أي تقوّوه وتنصروه بنصر دينه ورسوله ، وتبجّلوه وتعظّموه بتبجيل رسوله أو تعظيم دينه (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي صباحا ومساء. ولعلّ المراد هو الدّوام في الذكر أو فيه وفيما قبله. والظاهر أن (الهاء) في الجمل الثلاث راجعة إليه تعالى بقرينة الأخيرة. أو نقول إنّ تعزيره الرّسول وتوقيره هو تعزيره سبحانه وتوقيره كما أن مبايعته والمعاهدة معه (ص) هي معاهدة الله على ما في الآية التّالية :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ

٤٨٠