الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

قد هلكوا جميعا بأشدّ العذاب وأفظعه بأمر الرّب تعالى وتقدّس (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي لا يرى أحد في تلك البوادي التي كانوا يسكنونها إلّا آثار منازلهم ، أو المنازل المهدّمة الخالية من الساكنين. والآثار بالنسبة إلى بعضها للاعتبار وإظهار القدرة للمارّين بها ، و (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جزيناهم نجزي من هم أمثالهم. وكلّ هذه الأخبار عن هلاك الأمم السالفة ، وكلّ واحد منها بكيفيّة خاصّة ، تخويف وتحذير لأمته محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. قد روي أن عادا كانوا تحت هبوب الرّيح سبع ليال وثمانية أيّام ثم كشفت عنهم واحتملتهم وقذفتهم في البحر.

٢٦ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ...) أي أعطيناهم من المكنة والقدرة ما لم نعطكم مثلها من القوة في الأبدان والبسطة في الأجسام وكثرة الأموال ، والطّول في الأعمار. ولفظة (إن) نافية جاءت مكان (ما) النّافية. وإيثارها عليها احتراز من التكرار في اللّفظ ، ولهذا بدّل في (مهما) الألف هاء والأصل (ماما) واحتمال كون (إِنْ) شرطيّة خلاف الظاهر مضافا إلى أن فيه كلفة الحاجة إلى تقدير جواب الشرط والأصل عدمه وعلى الفرض كان المقدر (كان بغيكم أكثر). (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي خلقنا لهم السمع ليشتغلوا به ويستعملوه في استماع المواعظ ونصح الأنبياء والرّسل فلم يستعملوه فيما خلق له ، وأعطيناهم نعمة البصر حتى ينظروا إلى آيات ربّهم ومظاهر قدرته فلم يستعملوه فيما خلق له. وأنعمنا عليهم بنعمة الأفئدة ليتفكّروا في الآيات والحجج لكنّهم لم يستعملوها فيما خلقت له فلم يستمعوا لكلام حق ولا شاهدوا آثار قدرة الله ودلائل التوحيد ، ولا تدبّروا في المظاهر التي تدل على وجود صانعها ووحدانيته لأن له في كل شيء آية وعلامة تدل عليه وعلى وحدانيّته. ولكنّ جحدهم وعنادهم المفرط حملهم على ذلك ، ولذا يقول سبحانه (فَما أَغْنى

٤٤١

عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي شيء من عذاب الله ، لأنهم لم يعتبروا ولا استفادوا ممّا أنعم الله به عليهم من القوى والجوارح (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي ينكرونها مع كونها في غاية الظهور في الدّلالة على التوحيد كنوع معجزات الرّسل (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل عليهم من العذاب والعقاب الأليم لاستهزائهم بالأنبياء والرّسل وبما جاءوا به من الكتب المحتوية على التوحيد والشرائع والسّنن. والحاصل أنّ الناس من غير المؤمنين على قسمين : طائفة لا يقبلون دعوة دعاة الله ولكنّهم لا يستهزئون بهم ولا يؤذونهم ولا يؤذون من آمن بهم واتّبعهم ، وطائفة أخرى مضافا إلى أنهم لا يؤمنون ، يسخرون ويهزأون بهم ويؤذونهم ويؤذون المؤمنين ، فهؤلاء أشدّ كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله.

٢٧ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ ...) توعيد وتنبيه ، والخطاب لأهل مكّة. أي أهلكنا من هم حواليكم (مِنَ الْقُرى) يعني أهلها كعاد وثمود وقوم لوط وسدوم وأصحاب الحجر (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي كرّرناها تارة في الاعجاز ، وتارة في الإهلاك ، وأخرى في التّذكير وطورا في وصف الأبرار ليقتدى بهم ، ومرّة في ذمّ الفجّار ليجتنب عنهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يعودون عن كفرهم ونفاقهم.

٢٨ ـ (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي فهلّا نصرهم ، يعني منعهم من العذاب آلهتهم الذين أخذوهم معبودين لهم غير الله تعالى (قُرْباناً) أي متقرّبا بهم إلى الله (آلِهَةً) بدل من قربانا أو مفعول ثان (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي غابوا عنهم عند حلول العذاب ونزول العقاب (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي كذبهم واتّخاذهم الأصنام آلهة (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وافتراؤهم على الله الذي كانوا يفترونه.

* * *

٤٤٢

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

٢٩ ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ...) أي أرجعنا إليك طائفة من الجن وحوّلناها نحوك. والنفر جماعة دون العشرة. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنهم كانوا تسعة ، واحد من أهل نصيبين أي نينوى أو بلدة بقربها ، وثمانية من بني عمر بن عامر ، وذكر عليه‌السلام أسماءهم (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) يحتمل أن تكون جملة يستمعون في التقدير مجرور بلام التعليل المقدّرة ، أي لاستماع القرآن الذي هو علّة للصّرف ، ويحتمل كونها في موضع الحال منصوبة : أي مستمعين للقرآن (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا) أي بعضهم قال لبعض (أَنْصِتُوا) أي اسكتوا لاستماعه (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من تلاوته (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي رجعوا إلى قبيلتهم وعشيرتهم لإنذارهم بما استمعوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٠ ـ (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً ...) يعني قالوا يا أيّها الجماعة إنّنا استمعنا عن النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا يدّعي أنّه بعث به إلينا

٤٤٣

وإلى الإنس كافة ، وذلك الكتاب الذي قرأه علينا أنزله الله عليه (مِنْ بَعْدِ مُوسى) عليه‌السلام (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مصدّقا لما في التّوراة ، ولم يذكروا عيسى عليه‌السلام ولا الإنجيل مع أنّ عيسى عليه‌السلام وكتابه كانا أقرب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى كتابه فكانا أنسب بالذكر ، لأنهم كانوا باقين على اليهوديّة. وعن ابن عباس أنّ الجنّ ما سمعت أمر عيسى ، فلذلك قالوا من بعد موسى. ويمكن أن يكون وجه قولهم أنّهم سمعوا أمر عيسى ولكنّهم لم يعتبروه كما أن كثيرا من بني إسرائيل كانوا إلى الآن كذلك. والمراد بتصديقه أنّ ما كانت التوراة تحتويه ، كان القرآن أيضا مشتملا عليه من وجود الصّانع تعالى وتوحيده وكثير من أحكامه وأمثال ذلك. ومقصودهم من هذا الكلام بيان شاهد الصّدق كما أن وصفهم للقرآن بوصفين آخرين كذلك ، أي قولهم لجماعتهم على ما يحكيه سبحانه وتعالى (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي إلى ما هو ثابت وصحيح من العقائد الحقّة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى شرائعه الموصلة إلى المطلوب. ثم إنّ الجنّ لمّا وصفوا القرآن بأوصاف موصلة إلى تصديقه ومرغّبة في قبوله ، أخذوا في هداية القوم وإنذارهم فقالوا :

٣١ ـ (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ...) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ دعاهم إلى خلع الأنداد والتّصديق بتوحيد الله والإيمان به وبرسوله وبما جاء به من عنده عزوجل ، فأجيبوا داعيه تعالى (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم لأن بعض الذنوب لا تغفر بالإيمان كالمظالم والغيبة والبهتان ونحوها من حقوق الناس ، فإن غفرانها برضاء الناس عن المذنب ، نعم ما يكون من خالص حقّ الله فالإيمان يجبّه ويمحوه (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي عذاب معدّ للكفّار. واختلف في أن الجنّ هل لهم ثواب جزاء لأعمالهم؟ فقيل نعم ، فانّهم مكلّفون كالإنس ، فيثابون إن أطاعوا الله ويعاقبون إن عصوه. وقيل لا ثواب لهم إلّا النّجاة من النار

٤٤٤

لقوله ويجركم من عذاب أليم. والحق هو القول الأوّل وأنّهم في حكم بني آدم بلا فرق بينهم من هذه الجهة لما رواه علي بن إبراهيم من أنّهم جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبون شرائع الإسلام فأنزل الله على رسوله (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، إلى تمام السورة فآمنوا برسوله. ويدلّ هذا على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس ، ولم يبعث الله قبله رسولا إلى الإنس والجنّ.

٣٢ ـ (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ ...) المراد يمكن أن يكون خصوص خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويحتمل أن يكون العموم مرادا على طريق الجملة الحقيقيّة ، أي كلّما وجد داعي الله عزوجل فيجب إجابته ، ومن لا يجب داعي الله (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي لا يعجز الله بالهرب منه إذ لا يفوته هارب (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أى ليس له من غير الله أحبّاء يمنعونه منه (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الذين ما أجابوا داعي الله كانوا في ضلالة وغواية واضحة لكلّ أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه. وقال القمّي : هذا كلّه حكاية كلمات الجنّ. وذكر في سبب نزول هذه الآية مسطورا في التفاسير المبسوطة فليراجعها من أراده وسئل العالم عليه‌السلام عن مؤمني الجن أيدخلون الجنّة؟ فقال عليه‌السلام : لا ، ولكن لله حظائر بين الجنّة والنار يكون فيها مؤمنو الجنّ وفسّاق الشيعة. وهذه الرّواية تلائم بين القولين السّابقين وتجمع بينهما فتدبر.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا

٤٤٥

بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

٣٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ ...) قال سبحانه منبّها على قدرته على البعث والإعادة : أو لم يروا؟ أي : أولم يعلموا أنّه تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي لم يتعب ولم يعجز من خلقهنّ ، فمن كان هذا شأنه أليس (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (الباء) زائدة لتأكيد النفي ، وموضعه رفع لأنّه خبر (أَنَ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي نعم هو قادر على إحياء الموتى : فإن خلق السّماوات والأرض أعجب وأعظم منه. ثم عقّبه بذكر الوعيد لمنكري البعث والعود للحساب :

٣٤ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ويقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) هذا السؤال في مورد التهكّم والتّوبيخ ، يعني أن الذي جزيتم به أليس بواقع وحق؟ أفتنكرونه كما أنكرتم في الدّنيا؟ (قالُوا بَلى) أي يعترفونه ويؤكدون اعترافهم بالحلف : (وَرَبِّنا) أي نقسم بربّنا أنّ الّذي جاء به الرسل كان حقّا ونحن جحدناه عنادا. وكان التأكيد بالحلف استعطافا واسترحاما ، ظنّا منهم أنّ هذا يفيدهم ويجبر به ما سبق منهم في الدنيا عندئذ (قالَ) بعد إقرارهم المؤكد خازن النّار : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي جزاء لكفركم وعنادكم للرّسل. وهذا كمال الإهانة والهزء. ثم إنّه تعالى عقّب الكريمة بتسلية نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :

٤٤٦

٣٥ ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...) أي اصبر يا محمد على أذى قومك وعلى تركهم إجابتك في دعوتك فإن الصّبر من شيم الأنبياء والرّسل الذين كانوا قبلك ، وبالأخصّ صبر أولي العزم منهم ، وهم على المشهور والمنقول عن الإمامين الباقر والصادق عليهما الصّلاة والسلام : خمسة. ففي الكافي عن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليه وآله وعليهم‌السلام. قيل كيف صاروا أولي العزم؟ قال : لأن نوحا بعث بكتاب وشريعة ، وكل من جاء بعد نوح (ع) أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه حتى جاء إبراهيم بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به ، فكلّ نبيّ جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم عليه‌السلام ومنهاجه وبالصّحف حتى جاء موسى عليه‌السلام بالتوراة وبشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصّحف ، فكلّ نبيّ جاء بعد موسى (ع) أخذ بالتوراة وبشريعته ومنهاجه حتى جاء عيسى المسيح عليه‌السلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، فكلّ من جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتّى جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. فهؤلاء أولو العزم من الرسل. ويقال لهم سادة النبيّين وهذا الاسم مرويّ عن الصّادق عليه‌السلام قال : سادة النبيّين خمسة وهم أولو العزم من الرّسل ، وعليهم دارت الرّحى : نوح (ع) وإبراهيم (ع) وموسى (ع) وعيسى (ع) ومحمّد صلوات الله عليه وآله (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ) أي لا تتسرّع ولا تطلب لقومك العذاب فإنه مصيبهم لا محالة. فأستبطئ في طلب العقاب لهم لأنّك نبيّ الرّحمة ، ولكنّهم عمّا قريب يرون العذاب. وبعد مشاهدة أهوال يوم المعاد ولعروض الخوف عليهم يحسبون كأنهم في الدنيا (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) مع انهم ربّما عمروا في الدّنيا أزيد من مائة سنة (بَلاغٌ) أي ما ذكر أو ما قيل في تلك السورة أو في هذا القرآن من المواعظ والنّصايح تبليغ من الله عزّ

٤٤٧

وجلّ إلى كافّة البشر (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن حدوده تعالى وطريقته المستقيمة في ثواب الأعمال. وفي المجمع : من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف لم يصبه الله تعالى بروعة في الحياة الدّنيا وآمنه من فزع يوم القيامة.

* * *

٤٤٨

سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

مكيّة إلّا الآية ١٣ فنزلت في طريق الهجرة ، وآياتها ٣٨ نزلت بعد الحديد.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

١ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أي أن الكافرين الذين يمنعون الآخرين عن اتّباع طريق الحق الموصلة الى الهداية لتوحيد الله سبحانه قد (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أحبط أعمالهم التي كانوا قد فعلوها وفي زعمهم أنّها كانت قربة وانها تنفعهم كالعتق والصدّقة وقرى الضيف. ومعنى إحباط العمل إفساده وإذهابه كأن

٤٤٩

لم يكن ولن يعود بفائدة أبدا. وقال القمّي : نزلت في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين ارتدّوا بعده (ص) وغصبوا أهل بيته حقّهم وصدّوا عن أمير المؤمنين وعن ولاية الائمة عليهم‌السلام. وأضلّ أعمالهم أي أبطل ما كان تقدّم منهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجهاد والنّصرة. وعن الباقر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد والناس مجتمعون بصوت عال. الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم. فقال ابن عباس يا أبا الحسن لم قلت ما قلت؟ قال قرأت شيئا من القرآن قال : لقد قلته لأمر. قال : نعم ، إن الله يقول في كتابه (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فتشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه استخلف أبا بكر؟ قال : ما سمعت رسول الله أوصى إلّا إليك. قال : فهلّا بايعتني؟ قال : اجتمع الناس على أبي بكر فكنت منهم. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كما اجتمع أهل العجل على العجل ، هاهنا فتنتم و (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... أي آمنوا بالله وبمحمد سواء كانوا من قريش أو من الأنصار أو من أهل الكتابين ، وعملوا الصّالحات طبق إيمانهم من الهجرة والنّصرة وإطعام الطعام وصلة الأرحام مع خلوص النيّة وقصد القربة (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) هذا تخصيص بعد التعميم تأكيدا وتعظيما لشأن القرآن وإيماء لعدم تماميّة الإيمان بدون الإيمان به. وروى القمّي عن الصّادق عليه‌السلام أنه قال بما نزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام، هكذا نزلت (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة معترضة مؤكّدة لشأن القرآن وعظمته. أي أن القرآن هو الحق الثابت من الله تعالى لأنه الناسخ لما قبله من الكتب والأديان ، والناسخ هو الحقّ

٤٥٠

(كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) هذه الجملة في موضع الرفع خبرا عن الموصول المتقدّم في صدر الآية (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم في أمور دينهم ودنياهم. ثم إنه سبحانه يفسّر قوله المذكور قبلا وذلك بقوله :

٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) ... أي أن إضلال عمل الكفرة كان بسبب أن الكفرة أخذوا الباطل واتّبعوا سبيل الغيّ بجهلهم (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) أي سبيل الرّشد وسلكوا مسلك الحق فنجوا من الضّلالة والجهالة ذلك أنهم أخذوا بالقرآن الذي نزل من ناحية الرب فهو حق لا ريب فيه (كَذلِكَ) أي على هذه الطريقة (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يبيّن لهم أحوالهم ليعتبروا بهم أي ليعتبر أهل الحق بأهل الباطل وأهل الباطل بأهل الحق. ثم إنه سبحانه بعد هذه الآية يأمر المؤمنين بقتال الكفرة فيقول جلّ شأنه :

* * *

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))

٤ إلى ٦ ـ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) ... أي في القتال (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فاضربوا الرقاب ضربا ، حذف الفعل وأضيف

٤٥١

المصدر الدالّ عليه إلى المفعول ، وهذا يعدّ من محاسن الكلام لأنه موجب لتخفيف الكلام مع أداء المرام (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أكثرتم قتلهم وبالغتم في إفنائهم بحيث ثخن وجه الأرض من دمائهم أي غلظ (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي أحكموا وثاقهم في الأسر أي فأسروهم وأوثقوهم بالحبال التي تشدونهم بها. والحكمة في شدّ الوثاق إمّا لعدم فرارهم وإما لتشديد الأمر وتعذيبهم حتى يؤمنوا والله العالم (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يعني مخيّر أنت يا محمد بين المنّ عليهم وإطلاقهم ، وبين أخذ الفداء منهم (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي هذا التخيير باق لك ما دامت الحرب قائمة ، وبعد تمام الحرب وانتهاء مشقّاتها وأتعابها ومشاكلها واستئصال الكفرة وهلاكهم أو إسلامهم أو مسالمتهم فهذا الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه. نعم إذا كان بعد تمام الحرب بقي في أيديهم الأسير وحاله كالأسير حال الحرب يجيء فيه التخيير المذكور (ذلِكَ) أي الأمر هكذا (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) بأهلاكهم بلا قتال (وَلكِنْ) أمركم به (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ليختبر الكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيدي المؤمنين ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن كفرهم وعنادهم فيؤمنوا بالله ورسوله فيظهر المطيع من العاصي فيثاب الأول ويعاقب الثاني (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا ، وقريء قتلوا أي استشهدوا (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي فلن يضيّع الله ما عملوا (سَيَهْدِيهِمْ) إلى الجنّة (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي حالهم في الدارين (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) جملة (عَرَّفَها) في موضع النصب بناء على الحالية أي في حال هو تعالى عرّف لهم الجنّة في الدّنيا على ألسنة أوليائه وأنبيائه ورسله لهم. وقال القمّي أي وعدها إياهم وادّخرها لهم.

* * *

٤٥٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠))

٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي صدّقوا النبيّ فيما جاء به (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دينه ونبيّه بجهاد أعدائهما (يَنْصُرْكُمْ) الله بالغلبة عليهم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في مقام الخوف ومواقف الحرب والقيام بأمر الدّين. ولعل المراد بتثبيت القدم هو تقوية القلب في المواطن المزبورة.

٨ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) ... فتعسا منصوب بناء على كونه مفعولا للفعل المقدّر أي فتعسوا تعسا. وهو دعاء بالعثور والتردي في جهنّم (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي ما أوردها في معرض القبول أصلا ولا رتّب عليها أجرا وثوابا لأنها كانت عارية عن الخلوص وخالية عن محض القربة.

٩ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) ... أي التعس والإضلال لكراهتهم ما أنزل الله على رسوله من القرآن والأحكام ، أو ما أنزل في حقّ عليّ عليه‌السلام كما عن الباقر عليه‌السلام قال : نزل جبرائيل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الآية هكذا (ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله في حقّ عليّ عليه‌السلام) إلّا أنه كشط الاسم والكشط هو الرفع والإزالة والكشف عن الشيء. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) تقريع الإحباط على الكراهة مشعر بأن قبول الأعمال وترتّب الأجر عليها فرع إيمان العامل بل فرع إكمال دينه بقبول ولاية ولاة الأمر علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين

٤٥٣

عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين ، حيث أن قوام الشهادة بالتّوحيد والرّسالة وإخلاص العبادة بالتصديق بالولاية لعلي عليه‌السلام ولأولاده وبكونهم خلفاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياءه.

١٠ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ... المراد بالاستفهام هو الأمر التحريضيّ على السّفر الآفاقي بالنسبة إلى هؤلاء المعاندين الجحدة الكفرة حتى يشاهدوا مساكن عاد وبلاد ثمود ويروا كيف فعلنا بهم وجعلناهم عبرة لأولي البصيرة والاعتبار ليعتبروا وينتبهوا من غفلتهم التي أوقعتهم في تيه الضّلالة وبوادي الغواية وظلمات الجهالة (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مع كونهم أشدّ منهم قوّة وأكثر منهم عددا وأموالا (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلكهم وأهلهم وأموالهم هلاك استئصال. وقد وضع الظّاهر موضع الضمير إيذانا بالعلّة. وقال القمّي : أي أولم ينظروا في أخبار الأمم الماضية أهلكهم وعذّبهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) قال يعني الذين كفروا وكرهوا ما أنزل الله في عليّ عليه‌السلام لهم مثل ما كان للأمم الماضية من الهلاك والعذاب والتدمير يعني لو لم يعتبروا ولم يتنبّهوا فلم يتوبوا حتى يموتوا فعلى هؤلاء مثل ما كان عليهم من التدمير وهذا الذيل تهديد وتوعيد باهلاكهم لو لم يرجعوا عمّا كانوا عليه.

* * *

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))

٤٥٤

١١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي ناصر المؤمنين وقاهر الكافرين (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) حتى يدفع العذاب عنهم ويعينهم في رفع غائلة الهلاك والنقمة. والمولى جاء لمعان متعدّدة. المالك ، والسيّد ، والعبد ، والمعتق بكسر عين الفعل والفتح ، والمنعم بكسرها وفتحها ، والصّاحب ، والناصر ، والحليف ، والجار ، والنزيل ، والشريك ، والابن ، وابن العم ، وابن الأخت ، والعم ، والصّهر القريب مطلقا ، والوليّ ، والتابع. وجمعه موالي ، والتمييز بينهما موكول إلى القرائن في كلّ مورد ، وكذلك الوليّ استعمل في معان كثيرة : المحبّ ، والصّديق ، والنّصير ، والجار ، والحليف ، والتّابع ، والصّهر ، وكلّ من ولي أمر أحد ، والحافظ. يقال (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي حافظهم. والمطيع فيقال (المؤمن ولي الله) أي مطيع له ، ووليّ العهد أي وريثه في ملكه وسلطانه والتعيين في عهدة المقامات.

١٢ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي يأذن لهم في الدّخول ، ويوفّقهم للأعمال الصالحة ليكونوا في (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت الأشجار تجري الأنهار الصافية والمياه العذبة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي ينتفعون بالأمتعة الدنيويّة (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي ينهمكون في شهواتهم غافلين عن عواقب أمرهم حريصين على الأكل كالبهائم في معالفها ومسارحها لا تعرف غير الأكل شيئا ، غير حاسبة لما تؤول إليه عاقبة أمرها من النّحر والذّبح. وقد أخبرهم الله بما يرجع إليه أمرهم بقوله سبحانه (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي منزل ومقام لهم. ثم إنه جلّ شأنه بعد بيان أحوال الفريقين يهدّد ويخوّف أهل الكفر والنفاق بقوله فيما يلي :

* * *

٤٥٥

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

١٣ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) ... أي وكم من قرية. وفي الكلام مضاف محذوف اتّكاء على القرينة المقاميّة ، فإجراء الأحكام على المضاف إليه مجاز. أي وكم من أهل قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) أي جسما وسطوة وبسطة وعدّة (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) إسناد الإخراج إلى القرية باعتبار أنّ المضاف مقدّر ، أي الأهل أخرجوك ، ومع تلك القوّة فنحن (أَهْلَكْناهُمْ) بأيسر ما يكون بأنواع العذاب (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي لا معين يدفع عنهم العذاب والتدمير ويساعدهم في شدائدهم.

١٤ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ... أي على حجّة واضحة وبرهان ساطع. وقال القمّي : يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) يعني الذين غصبوه. وعن الباقر عليه‌السلام : هم المنافقون لا المشركون.

١٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ... المثل مبتداء وخبره محذوف لقرينة المقام كما يجيء قريبا ، والموصول صفته. أي صفة أهل الجنّة

٤٥٦

الموصوفة بأنّها موعودة للمتّقين هذه. فلفظة (هذه) خبره وإشارة إلى ما سيجيء من الأوصاف المتعقّبة لها ، ومنها قوله جلّ وعلا (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغيّر الطعم والرّيح واللّون لعارض كمياه الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي بالحموضة والقراصة لطول الزمان أو حرارة الهواء أو خلطه بما يخرجه عن طعمه الطبيعيّ (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) إمّا تأنيث لذّ بمعنى اللّذيذ ، أو مصدر بمعنى الفاعل. وذكره بهيئة المصدر إيماء إلى المعنى السامي العالي أي كون الجنّة مجسّمة اللّذة وعين الالتذاذ. والحاصل أنّ خمور الجنّة مطربة وملذّذة ومفرّحة للشاربين ومنزّهة عن كراهة الريح وغائلة السّكر وشناعة الخمر ورداءة الطعم ومرارته بخلاف الخمور الدنيوية التي هي جامعة لهذه الأوصاف الرّديئة المنفّرة الكريهة. ومن الأنهار الأربعة التي في الجنّة (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي من جميع الكدورات كالشمع ومدفوعات النحل وما يتصوّر فيه. والحاصل أنه ليس فيه شيء من المنفّرات في أصل خلقته. ومن نعم الجنّة غير ما ذكر أن (لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من جميع ما يتصوّر وما لا يتصّور كمّا وكيفا من أصناف الفواكه وأقسامها خالية من جميع العيوب والآفات ومن النّعم التي هي أهمّها وأعظم من الكلّ وفوقها بحيث لا يتصوّر فوقها نعمة من أمثال النّعم التي ذكرناها آنفا هو ما ذكره سبحانه بقوله : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي مضافا إلى ما ذكر أنه تعالى يكرم أهل الجنّة بستر الذّنوب وتغطيتها بحيث لا يعلم أحد ذنب أحد من المؤمنين الذين في الجنّة حتى يخجل ويضجر من صاحبه فيؤذى فينغّص عيشه فيها. وفي بعض التفاسير نقل أنه تعالى بفضله ومنّه ينسي أهل الجنّة جميع آثامهم وخطاياهم حتّى لا يتذكروها في الجنّة فتوجب تكدّر عيشهم وانتقاصه. فهل هذا المتنعّم في الجنّة بأنواع نعمها خالدا فيها (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ)؟ عند بعض المفسّرين هذه الجملة خبر لقوله سبحانه (مَثَلُ الْجَنَّةِ) في أوّل الآية وليس ببعيد وإن عدّ

٤٥٧

بعيدا. ولذا قيل بأن الخبر مقدّر وهو (مما تلوناه عليك وقلنا انه هذه) على تقدير البعد والله تعالى أعلم. ففي المقام استفهام إنكاري عن الاستواء بين الفريقين : أي المتنعّم في الجنّة خالد فيها ، والمعاقب في النار خالد فيها. وبناء على هذا التقدير تعرية الكلام عن حرف الإنكار لزيادة تصوير مكابرة من يحكم بالتسوية فيما بين من يتمسّك بالبيّنة ومن يتّبع هواه ، وهذه التسوية عينا هي مثل من يقول باستواء الجنّة الموصوفة بالأنهار الأربعة الجارية فيها وخلود أهلها فيها ، والنار المخلّد أهلها فيها ويقال لأهلها (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) أي ماء في غاية الحرارة وشدّتها مكان تلك الأشربة الهنيئة لو كان في الجنّة ، سقوه (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) بمجرّد الشرب من فرط الحرارة أعاذنا الله منها. تتقطّع أمعاؤهم أي تتلاشى وتسيل نظير بعض السموم التي أثرها الطبيعيّ أنه بمحض تماسّها ووصولها إلى المعدة تقطّعها وتصيبها بالاهتراء والتلاشي لشدة حرارتها. والقميّ قال : ليس من هو في هذه الجنّة الموصوفة بما وصفه الباري تعالى كمن هو في هذه النار ، كما أنّ ليس عدو الله كوليّه. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال : وليس من مؤمن في الجنّة إلّا وله جنان كثيرة معروشات وغير معروشات ، وأنهار من خمر وأنهار من ماء وأنهار من لبن وأنهار من عسل ... وتقديم الخمر على غيره لعلّه لكون طباع الناس إليه أرغب من حيث إنهم ممنوعون عنها في الدنيا والناس حريصون على ما منعوا عنه. وفي الكشّاف وغيره ذكر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما كان يخطب في المسجد وغيره في الأوقات المخصوصة كالجمعة وسائر الأوقات الأخر كان يذمّ المنافقين فكان يخرج بعضهم من المسجد ويسأل بعض أعلام الصّحابة مستهزئا ما قال هذا الرجل؟ يعني النبيّ (ص) ولذلك فإن الله تعالى يخبر رسوله بمقالتهم وبأحوالهم بقوله :

* * *

٤٥٨

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

١٦ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ... قال القمّي : نزلت في المنافقين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن كان إذا سمع شيئا لم يكن يؤمن به ولم يعه ، فإذا خرج قال للمؤمنين ماذا قال محمد آنفا؟ وبهذا المضمون في المجمع عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في روايتين تؤيّدان ما هو المذكور في الكشاف (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي خلّاهم واختارهم فتمكّن الكفر في قلوبهم فكانوا يعملون طبق ما تشتهيه أنفسهم كالبهائم بل هم أضلّ سبيلا. وفي القمّي عن الباقر عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدعو أصحابه فمن أراد الله به خيرا سمع وعرف ما يدعوه إليه ومن أراد الله به شرّا طبع على قلبه فلا يسمع ولا يعقل ، وهو قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ).

١٧ ـ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ... أي أن الله (هُدىً) المؤمنين باللّطف والتوفيق (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي أعطاهم جزاء التقوى ، أو وفّقهم للتقوى أو بيّن لهم ما يتّقون : وهو ترك المنهيّ والأخذ

٤٥٩

بالعزائم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينتظرون إلّا السّاعة يعني القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي ظهرت علاماتها وهي كثير على ما يعدّون كمبعث النبيّ الأكرم (ص) وانشقاق القمر ، وحدوث الدّخان ، ونزول كتاب تختم به الكتب السماويّة وهو القرآن. وفي رواية انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أشار بأصبعيه وقال : أنا والقيامة كهاتين الإصبعين يعني في القرب والاتّصال وإذا جاءت الساعة فلا تفيد التوبة والإنابة (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي لا ينفعهم تذكّرهم وتنبّههم وندمهم حينما تجيء السّاعة فقد انسدّت أبواب التوبة والندامة.

١٩ ـ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ... تفريع على ما مضى ، أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكفرة والمشركين فاعلم أنّه لا يبقى في العالم ذو حياة إلّا الله الذي هو موصوف بالحياة الدّائمة وبالواحديّة والوحدانيّة. وهذه كناية عن قرب موته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّ قوله سبحانه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) إخبار به. وقيل إن أمره بالاستغفار لتكميل النفس بإصلاح أحواله وأفعاله والتوجّه إليه تعالى دائما وهضم النفس بالاستغفار فإن الإنسان الموحّد العارف به تعالى من كماله أن يرى نفسه مقصّرا عند ربّه في تمام أحواله حتى لا يغترّ باهتمامه بالعبادة وكثرتها فلا بدّ له من الاستغفار. وقد صحّ الحديث بالإسناد إلى حذيفة بن اليمان قال : كنت رجلا ذرب اللّسان على أهلي أي حادّ اللّسان فقلت يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النار. فقال رسول الله (ص) : فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة. ضو هذه الرواية مؤيّدة للقول. وفي الآية أقوال أخر ومن أراد فليراجع المطولات من كتب التفاسير (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أمر سبحانه نبيّه الأكرم بالاستغفار لهم لأنه أبو الأمّة الشفيق ولا بدّ للوالد الرؤوف أن يكون لولده كما يكون لنفسه ، فإذا دعا لنفسه بالمغفرة لا يرضى بأن لا يدعو لهم ، فأمر الله تعالى رسوله

٤٦٠