الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

أي بالوعيد والبعث (وَالسَّاعَةُ) أي القيامة (لا رَيْبَ فِيها) أي لا شكّ فيها. وهذه الشريفة في مقام تهديد كفرة مكة (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) في مقام الإنكار ، وإلّا فإن تفصيل الساعة قرئ عليهم مكرّرا فكانوا يقولون : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) يعنون بذلك فرارهم من الجواب (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) هذه الجملة بدل عن قولهم (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أي ليس لنا يقين بيوم حساب وكتاب وبعث وحشر ، إن هي إلّا حياتنا الدنيا ، وزائدا على ذلك لا يقين لنا به.

٣٣ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ...) أي تظهر لهم في الآخرة قبائح أعمالهم وأقوالهم ويعرفون وخامة عاقبتهم ويعاينون جزاء أفعالهم السيئة (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل وحلّ بهم جزاء تكذيبهم وسخريتهم من العذاب الشّديد.

٣٤ ـ (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ ...) أي نخلّيكم في العذاب ترك ما ينسى (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي هذا اليوم الموعود وتركتم التأهّب للقاء ربّكم في هذا الملتقى ولم تبالوا به (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي من معين يعينكم ، وناصر ينصركم في نجاتكم من النّار.

٣٥ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً ...) أي ذلك الذي فعلنا بكم لأجل استهزائكم بأنبيائنا ورسلنا وكتبنا المنزلة إليكم لأن تقرأ عليكم وفيها حلالكم وحرامكم وواجباتكم ومحرّماتكم وفيها المنبّهات والتذكيرات والتبشيرات والتخويفات والقصص والحكايات (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فأنستكم الحياة الآخرة فحسبتم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا تطلب منهم العتبى ، أو معناه أنهم لا يعاتبون لأن العتاب علامة الرضا وهم فعلوا كلّ موجبات الغضب والسخط فلا خطاب ولا عتاب أي لا يعتنى بهم بل لهم جحيم وعذاب. فلا يطلب منهم أن يرضوا ربّهم بالتّوبة إذ لا تقبل التوبة حينئذ

٤٢١

فلا تنفعهم التوبة حين معاينة العذاب لأن التكليف قد زال والتوبة والاعتذار متوقّفة عليه على ما قرّر في محلّه ، ولذا ما قبلت توبة فرعون حينما قال (آمنت برب موسى وهارون) وتوبة قارون حينما ابتلعته الأرض واستغاث بإله موسى ، فما أمر موسى بأن ينجّيه من الهلكة مع أن أنبياء الله كلّهم مظاهر رحمة الله ورأفته على عباده. وقال القمّي في قوله (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : ولا يجاوبون ولا يقبلهم الله.

* * *

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

٣٦ ـ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ...) أي خالقهما ومالكهما ومدبّر أمورهما و (رَبِّ الْعالَمِينَ) ومالك جميع العوالم. وذكر العالمين بعد السّماوات والأرض إمّا من باب ذكر العامّ بعد الخاصّ ، أو المراد به غير ذلك بقرينة المقابلة. ووجه الحمد على ذلك لأنّ كلّ نعمة منه لا يوازيها نعمة فينبغي ان نحمده ونشكره حمدا وشكرا كثيرا لا يحصيه أحد غيره تعالى.

٣٧ ـ (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي له العظمة والتجبّر في الملكوت الأعلى والأرضين السّفلى إذ ظهرت فيهما آثار قدرته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه وفي حكمه على الأشياء كلها (الْحَكِيمُ) في تدبيره.

٤٢٢

سورة الأحقاف

مكيّة إلّا الآيات ١٠ و ١٥ و ٣٥ وآياتها ٣٥.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))

١ و ٢ ـ (حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ...) قد قلنا في أوّل الجاثية ما ينبغي قوله فهو جار بعينه ها هنا معنى وتركيبا فلا نعيده.

٣ ـ (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي ما خلقناهما (وَ) لا (ما

٤٢٣

بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي لا عبثا ولا باطلا ، وإنّما خلقناهما وما بينهما وفيهما من أنواع المخلوقات والمكوّنات بأصنافها لنتعبّد سكّانهما بالأمر والنّهي ونعرّضهم للثواب وجزيل النّعم. والخلق عبارة عن إظهار القدرة. وآثار القدرة في السّماوات والأرضين أظهر من غيرهما ولذا خصّهما بالذّكر لأنهما أدلّ على التوحيد ووجود الصّانع عند المتفكّرين وأرباب المعارف. وقالت المعتزلة هذه الشّريفة تدلّ على أنّ كلّ ما يقع في الكون من القبائح فهو ليس من خلقه كما ينسبونها إليه تعالى ، بل هو من أفعال عباده وإلّا لزم أن يكون خالقا لكلّ باطل ، وذلك ينافي قوله (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي مدة تنتهي يوم القيامة المعلومة عنده سبحانه وأخفى علمه عن العباد لمصالح عديدة. أو المراد (أَجَلٍ مُسَمًّى) لكلّ واحد وهو آخر مدّة بقائه المقدّر له في الدنيا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي منصرفون عمّا أنذروا به من يوم البعث والنشر والحساب والكتاب ، ولم يصدّقوا وهم عادلون عن قبوله والتفكّر فيه.

٤ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) قل يا محمّد لكفرة قريش وعابدي الأصنام : أخبروني عن الأصنام التي تعبدونها و (أَرُونِي) وهذا للتأكيد ، أي قولوا لي (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي ما الذي أبدعوه وأوجدوه من العدم وأين الذي اخترعوه من المخترعات الأرضيّة وصنائعها (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شراكة ، فهل شاركوا في خلقها وتركيبها؟ ثم قال سبحانه قل لهم : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي أعطوني كتابا سماويّا قبل هذا القرآن يدل على صحّة ما ادّعيتم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي بقايا من العلوم التي تستند إلى الأولين موجبة لليقين بما تقولون ، كعلامة أو كمكتوب من أعلام السلف تعلمون به أن الأصنام شركاء الله ، أو خبر من الرّسل السّابقين يقولون بهذا الأمر وأمثال ذلك ، فأتوا به إن كنتم صادقين في دعايتكم فهل من حجة تدلّ على قولكم من

٤٢٤

استحقاق هذه الأصنام للعبادة من دون خالقها وخالق الكون جميعا؟ والحاصل أن الله سبحانه يقول لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : حاججهم بهذا الحجاج ببنوده الثلاثة ، أو بواحد منها ، وهي التي مرّت وأوّلها الدليل العقلي من جهة خلقه سبحانه لكل شيء وعدم شراكة أحد في ذلك ، والثاني الكتاب ، والثالث العلامة المتواترة الموجبة لليقين كشيء من بقية علمهم أو علم الأوّلين من الأنبياء وأممهم ، فهاتوه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأنها شركاء لله في إيجاد المكوّنات. وهذه إلزام لعدم وجود ما يدلّ على استحقاق الأوثان لمقام الألوهيّة من الأدلة النقليّة بعد إلزامهم بعدم المقتضي لألوهيّتهم من الحجج العقليّة ، فإن جميع البراهين العقلية متفقة على التوحيد وبطلان الشّرك وفساده. وبالجملة إنه تعالى أثبت بطلان دعواهم بتلك الحجج وعلّمها لنبيّه حتى يحتجّ عليهم ويبطل مدّعاهم.

٥ ـ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) الاستفهام في مقام الإنكار أي أنه لا يكون أحد أضلّ من المشركين وأبعد عن طريق العقل والرّشد منهم (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعني أن المشرك لو بقي في الدنيا إلى أن تقوم القيامة وهو يدعو في جميع تلك المدّة لمعبوده من الأصنام لما أجابته ولا تغيثه إذا استغاث بها ، ولا تقدر أن تقضي حاجة من حوائجه (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي أن الأوثان عن دعوة دعاتهم غافلون جاهلون ، لعدم شعورهم وإحساسهم بالدّعاة حيث إنّها جماد فلا حسّ له ولا يترقّب منه الإحساس والإدراك ، ومثله يكون العابد له ، والفرق أن عابد الصنم فيه حياة وليس للصنم حياة ، وكلاهما فاقدان للشعور والإدراك ولهم قلوب لا يفقهون بها كمن لا قلب له ، لأن صاحب القلب الذي لا يفقه شيئا هو كالجماد. وإنما كنّى عن الأصنام بالواو والنّون لمّا أضاف إليها ما يكون من العقلاء لأن المعبودين دونه تعالى كثيرون من الكواكب والأشجار والإنسان والملائكة ، فمن باب الغلبة جيء بالواو

٤٢٥

والنّون.

* * *

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))

٦ ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ...) أي إذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا هم أعداء للأصنام وأصبحوا أعداء لمعبوداتهم أو بالعكس إذ في ذلك اليوم يستكشف لهم أن عبادتهم للأصنام مضافا إلى أنها لا تنفعهم كانت تضرّهم ، ولذا قال سبحانه (وَكانُوا) أي العبدة بعبادتهم للأصنام جاحدين ومنكرين في ذلك اليوم يقولون نحن (ما عَبَدْناهُمْ) كما قال تعالى حكاية عنهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) هذا ولكنّ الضميرين ذو وجهين وكما احتملهما أكثر المفسّرين.

٤٢٦

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي حينما تقرأ حججنا حال كونها واضحات ظاهرات على المشركين في مقام الإعجاز (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي لكلام الحق وهو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ ، هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) حينما جاءهم هذا الكلام المعجز الذي عجزوا عن الإتيان بمثله ، ولو بسورة صغيرة ، قالوا هذا القرآن سحر مبين أي ظاهرة سحريّته بحيث لا ريب في ذلك.

٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) هذه الجملة في مقام التعجب والإضراب عن ذكر تسميتهم له سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وأنكى ، ف (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) أي إن ادّعيته فرضا على زعمكم (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فلا تقدرون أن تدفعوا عنّي من عذاب الله وعقابه الذي يمكن أن ينزل عليّ لافترائي على الله بأن أضيف إلى القرآن شيئا ليس منه. فما فائدة هذه النسبة وهذا الافتراء لي فكيف أعرّض نفسي لعقابه العظيم وعذابه الأليم؟ ثم قال سبحانه : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو تعالى أعلم بما تقولون في القرآن من القدح في آياته بالتّكذيب به وأنه سحر ونحو ذلك (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي يكفيني أنّه تعالى شاهد بيننا بصدق كلامي وتبليغ الأحكام ، وشاهدا عليكم بالمعاندة والإنكار. وهو وعيد بحذاء إفاضتهم وتلفيقهم (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعد بالمغفرة والرحمة للتّائبين والمؤمنين.

٩ ـ (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ...) أي لست أوّل رسول بعت فدعا الى ما لم يدع إليه غيره من الرّسل ، بل جاء قبلي من الرّسل كثيرون وقالوا مثلما قلت من التوحيد والبعث (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي لا أعرف أموت أم أقتل؟ ولا أدري أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السّماء كما فعل ببعض الأمم السّابقة ، أم تخسف بكم الأرض كما فعل بالآخرين منهم ، أم ليس يفعل بكم شيء مما فعل بالأمم السّالفة؟ هذا

٤٢٧

بالنّسبة إلى الدنيا ، وفي الآخرة فإنه قد علم أنه في الجنّة وهم في النّار. وقيل في تفسيرها معان أخر ولا بعد بشمولها لها (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وما أعلم زائدا على هذا ولا أتجاوزه (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) أي مخوّف من عذاب الله وعقابه بالآيات والبيّنات (مُبِينٌ) أي أبيّن وأظهر الإنذار بالعواقب بالشواهد والمعجزات الصادقة.

١٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ...) أي أخبروني إن كان القرآن نازلا من السماء (وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الواو حالية ويحتمل أن يكون المراد شاهدا معينا مثل موسى (ع) وشهادة موسى هي ما في التوراة من علائم النبيّ وأوصافه المذكورة فيها فإنها كتابه عليه‌السلام. أو هو عبد الله بن سلام وروي أن عبد الله بن سلام وكان من أحبار بني إسرائيل وقد جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال يا رسول الله : سل اليهود عنّي فإنهم يقولون هو أعلمنا ، فإذا قالوا ذلك قلت لهم إنّ التوراة دالّة على نبوّتك ، وإنّ صفاتك فيها واضحة. فلمّا سألهم قالوا ذلك ، فحينئذ أظهر ابن سلام إيمانه فكذّبوه. هذا ويحتمل أن يكون المراد مطلق بني إسرائيل ممّن يعتمدون على قوله كما هو الظاهر فقد شهد منهم واحد (عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ) يعني لو كان القرآن من الكتب النازلة من عند الله ، والحال أنكم كفرتم به ويشهد شاهد من أحبار أولاد يعقوب على مثل ما في القرآن ممّا في التّوراة من المعاني المصدّقة لما في القرآن المطابقة له من الوعد والوعيد والتوحيد والرسالة والبعث والحساب ، فآمن الشاهد به حينما رأى أنّ ما في القرآن عين ما في التوراة ومن جنس الوحي ، ومطابقا للحق (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي عن الايمان به (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هذه الجملة مشعرة بجواب الشرط المحذوف بقرينتها. أي ألستم ظالمين مع هذه الدّلائل البيّنة؟ والهمزة للاستفهام التقريري ، أي : نعم أنتم من الظالمين ، والله لا يهديكم لفرط عنادكم وجحدكم بالله تعالى وبالرّسول

٤٢٨

وبكتابه مع ما فيه.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

١١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا ...) أي قال رؤساء الضلال من الكفرة والمشركين لأهل الإيمان : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي أن الايمان بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو كان خيرا لنا فما كان ليسبقنا إليه ولا ليتقدّم علينا أراذل القبائل وسفلة العشائر كجهينة وغيرها من القبائل. وقد قالوا ذلك زورا (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي لمّا لم يجدوا سبيلا لقبول القرآن ولم يستفيدوا منه طريق الهداية من الضلالة ولم تنعم قلوبهم القاسية بأنواره ، قالوا هذا القرآن كذب قديم. وهذه النسبة كقولهم (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) والقديم في اللغة ما تقادم وجوده ، وفي عرف المتكلّمين هو الموجود الذي لا أول لوجوده. ثم قال سبحانه :

١٢ ـ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ...) أي قدوة يؤتمّ به في دين الله وشرائعه الظرف خبر مقدم و (كِتابُ مُوسى) مبتدأ مؤخر و (إِماماً وَرَحْمَةً) حال عاملهما الظرف ، أي كتاب موسى كان قبل

٤٢٩

القرآن ، وهو التوراة وكان كتابا مقدّسا لبني إسرائيل يقتدى به ويعمل على طبقه كما يقتدى بالإمام في أعماله ويعمل على طبق أقواله. ولذا سمّي إماما (وَرَحْمَةً) من الله على المؤمنين به قبل القرآن (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) أي هذا القرآن كتاب يصدّق التوراة في أنّه كتاب سماويّ ، وفي صحة ما يحتويه جميعا. (لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي أن القرآن نزل بلسان عربيّ مبين حتى تعرفوا ما فيه وتتمّ الحجة على المشركين والملحدين من أهل مكّة ونواحيها ، وليخوّف الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات ويبشّر الّذين أحسنوا بالحسنى. فالقرآن بشير ونذير للمحسنين وللظّالمين ، بأحسن اللّسان.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

١٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ...) وهم الذين وحّدوا الله تعالى (ثُمَّ اسْتَقامُوا) بيان صفة الموحّدين أي استقاموا على طاعة الله والصّبر على أذى أعدائه. وسئل الرّضا عليه‌السلام عن الاستقامة فقال : هي والله ما أنتم عليه. والشريفة تدل على تراخي مرتبة العمل عن التوحيد وذلك لمكان (ثُمَ) الذي يدلّ على التراخي لوضعه له (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه أو مخوف آخر (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من فوت شيء محبوب لهم. وهذا بيان صفة أخرى من أوصافهم.

٤٣٠

١٤ ـ (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ ...) أي ملازمون لها (خالِدِينَ فِيها) أي مؤبّدين (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من فضائل العمل والطاعات الصّادرة عن معرفة الخالق والمنعم الحقيقي وعن التوحيد الذاتي والصّفاتي.

* * *

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

١٥ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ...) ثم إنه سبحانه لما ذمّ المستكبرين عن قبول ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع شهادة حبر من أحبار بني إسرائيل على صحّة دعواه للنبوّة وعلى أن كتابه من عند الله وما يحتويه الكتاب حق ثابت لا ريب فيه ، ثم ذمّهم على قولهم للمؤمنين لو كان فيما جاء به محمد خير لما سبقنا الفقراء إليه ، وذمّهم على قولهم (هذا إِفْكٌ) ـ أجل ، فإنّه بعد ذلك أخذ في نعت المؤمنين بأصنافهم من المحسنين ، ومن الموحّدين ، والذين صنعوا إلى والديهم حسنا وفاء لما وصّاهم به الله وإطاعة لأمره تعالى ، وطلبا لمراضيه سبحانه ، فقال

٤٣١

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) ، الآية أي أمرناه أن يحسن لهما بما يمكنه من مصاديق الإحسان وهو ضدّ الإساءة. والمراد بالإنسان هذا الجنس وقرئ حسنا بالضم وسكون السين مصدر من باب حسن يحسن أي كان جميلا ومعناه على هذا : وصّيناه أن يفعل بهما فعلا حسنا من باب المبالغة كما يقال هذا الرجل علم. وفي المجمع عن عليّ عليه‌السلام حسنا بفتحتين (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) يجوز فيه الفتح والضّم (كرها وكرها) وهما لغتان فيه مثل الضّعف والضّعف ، وهو في موضع الحال. فالأحسن الفتح مثل قوله تعالى (أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) وما كان اسما كان الضم وأحسن كقوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ومعناه وضعته وهي ذات كره أي مشقّة شديدة بحيث لا يتحمّلها غير الأم في أمر ولدها. وهذا لطف من الله حيث يلقي تلك الرأفة والرّحمة في قلب الأمّ حتّى تتحمّل المشاقّ من أوّل انعقاد النّطفة إلى حين وضعها ، ومنه إلى تمام الحولين ، بل ما دامت حيّة ساعدها الله وجزاها خير الجزاء (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي مدّة حمله وفطامه هذا المقدار. وهذا كلّه بيان لما تكابده الأمّ في حراسة الولد وتربيته ، وهو مبالغة في التوصية بها. وفي الآية دلالة على أنّ مدّة أقلّ الحمل ستّة أشهر لأنّه لما كان مجموع مدة الحمل والرضا (ع) ثلاثون شهرا وقال سبحانه (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإذا أسقط الحولان وهما أربعة وعشرون شهرا من الثلاثين يبقى زمان الحمل ستّة أشهر. قال الرازي روي أن عمر بن الخطّاب رفعت إليه امرأة وكانت قد ولدت لستّة أشهر فأمر عمر برجمها. فقال عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لا رجم عليها وذكر الآية. وعن عثمان أنه همّ أيضا بذلك فقرأ عليه ابن عباس ذلك فامتنع عن الرجم. ويستفاد من الآية أن حقّ الأمّ أزيد من الأب على الولد لأنه تعالى بعد ذكرهما معا خصّ الأمّ بالذكر فقال (حملته أمّه ، الآية) فإنّ حمل المشاقّ لمّا كان بعهدتها فحقّها أعظم. والأخبار ناطقة بذلك مع كثرتها. والحاصل أن ابن

٤٣٢

آدم بعد وضعه إلى حين فطامه المقدّر شرعا تربيته في عهدة أمّه ، وأجره الرضا (ع) على أبيه (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي استحكمت قوّته واستتمّ عقله ، وعن ابن عباس إنه ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل بلوغ الحلم ، وقيل وقت قيام الحجة عليه ، وقيل أربعون سنة وذلك وقت إنزال الوحي على الأنبياء. ولذلك فسّر به فقال (وَبَلَغَ) فيكون هذا بيانا لزمان الأشدّ ، وأراد بذلك أنه يكمل بذلك رأيه ويجتمع له عقله عند أربعين سنة. وما بعث نبيّ في أقل من أربعين سنة. وبناء على القول الأخير يكون قوله تعالى : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) يحتمل كونه عطف تفسير لجملة (إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وعلى الأقوال الأخر فائدة الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه هو بيان أوّل القوة وغايتها. وإذا بلغ الإنسان نهاية رشده وهو مقام كمال عقله فله الأهلية والاستعداد لأن يتوجّه إلى ربّه ويطلب منه الحاجة كما يحكي عنه : (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) من الإسلام والحياة والقوّة والقدرة والإدراك والرزق والعقل. وشكر الولد على النعمة التي أعطاها الله عزوجل لأبويه واجب ، لأنّ نعمهما تناهت إليه ، وهو قد استفاد هذا الذي يتنعّم به بفضل الله وفضلهما ولا سيّما نعمة حياته التي كانت بواسطتهما وبينهما مضافا إلى أن الوالدين إذا كانا موفقين بتحصيل الطاعة وترك العصيان ومتنعّمين بنعمة الإسلام والتّوحيد ومرفّهين بالنّعم الدنيويّة التي أفاضاها عليه وأحاطاه بها ، فلا بدّ للولد العاقل الموحّد من شكر وجودهما وشكر ما ربّياه عليه من النّعم التي من عنده جلّ وعلا (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) عطف على جملة (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) ؛ (أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل ذرّيّتي صالحين. وقيل إن هذا دعاء لذرّيته بإصلاحهم لبّرهم به وطاعته. وقيل معناه اجعلهم لي خلف صدق وصلاح واجعلهم لك عبيد حق حتى يكونوا لي فخرا وتذكارا خيرا. حيث إن ذرّية الصالح تحسب من الباقيات الصّالحات. والحاصل أنه يستفاد من المباركة أن من المستحب دعاء الوالد

٤٣٣

لأولاده بالخير والصلاح والتوفيق (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) أي رجعت إليك عن كل شيء لا ترضى بصدوره من عبادك ، بل عما تكره وعمّا يشغلني عنك ، وندمت عليه (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لأمرك ونهيك بلا اعتراض لي عليك. وفي هذا الدّعاء نحو تصريح بأن القوّة النفسانيّة العقليّة تستكمل في هذا الزّمان من العمر أي الأربعين.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ...) أي أهل هذا القول الذي بيّناه في الآيات السابقة يثابون على طاعتهم ، ونتقبّل إيجاب الثواب ل (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) وهو ما يستحقّ العبد به الثواب من الواجبات والمندوبات ، فالأحسن في مقابل المباح فإن المباح من قبيل الحسن لكنه لا يوصف بما في قوله (يتقبل ويتجاوز) لأن الوصفين لما فيه مزيّة الحسن لا لمطلق ما فيه الحسن. ولذا لا يترتّب على المباح ثواب ولا جزاء آخر وقرئ بالنون وبالياء فيهما (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) أي يعفو ويصفح عن السيّئات التي اقترفوها ، ويجعلهم (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي حال كونهم يعدّون من مع الذين يتجاوز عن سيئاتهم ويحسبون في عداد أهل الجنّة والظرف في موضع النّصب على الحال (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله في الدنيا بلسان أنبيائه وعدا صدقا غير مكذوب ، والوعد الذي وعدهم الله هو قوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)

* * *

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما

٤٣٤

يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

١٧ ـ (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ...) ثم إنّه سبحانه بعد وصف الإنسان المؤمن أخذ في وصف الإنسان الكافر يبيّن أنه لمّا رغّب الوالدان المؤمنان ولدهما الكافر بالإيمان وحرّضاه عليه وعلى قبول الحشر والبعث قال في جوابهما : (أُفٍّ لَكُما) وقد نزلت في العاق لوالديه الكافر المكذّب بالبعث والحشر والحساب والجزاء وهذه الكلمة تصدر عن المرء عند تضجّره. واللام لبيان المؤفّف له ، والكاف ضمير الخطاب كما في (هَيْتَ لَكَ) وبيان أنّ هذا التأفيف لكما خاصّة. والصّحيح أنّ (أُفٍّ لَكُما) مبتدأ وخبر وتقديره : هذه الكلمة التي تقال عند الأمور المكروهة كائنة لكما. وقيل معناه بعدا لكما (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي أتقولان لي إنّي بعد مماتي أخرج من القبر وأحيا وأبعث؟ (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) اي مضت أجيال وقرون كثيرة فلم يرجع أحد منهم ولا أعيد ، فكيف أرجع أنا وأخرج؟ (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي والداه يطلبان من الله تعالى إعانته ونصره ويسألانه التوفيق له للإيمان بما جاء به الرّسل من عنده جلّ وعزّ ، ويقولان له يا بنيّ (وَيْلَكَ آمِنْ) ويلك كلمة تصدر عن الإنسان عند

٤٣٥

تضجّره من الآخرة وتنفّره منه ، وهي مركّبة من (ويل) و (كاف الخطاب) والويل : حلول الشّر والهلاك ، ويدعى به لمن وقع في هلكة أو بليّة يستحقّها. وهو ينصب إذا أضيف على إضمار الفعل ، ويرفع في حال غير الإضافة على الابتداء. وأمّا في حال الإضافة فاذا رفعته لم يكن له خبر ، ولذا فلا يجوز عند الإضافة الّا النّصب. والحاصل أن (ويلك) دعاء على المخاطب ، و (ويلي) دعاء على نفس المتكلّم و (ويله) على مرجع الضّمير ، والتقدير (أدعو) أو (أطلب) أو أسأل الويل لك أو لي أو له. وقد قلنا إن معناه الشرّ والهلاك ، وجاء بمعنى البليّة والعذاب ، ويستعمل أيضا في مقام التعجب والاستحسان من قبيل قولك (قاتله الله) أو (لا أب لك) وفي ما نحن فيه أبويه يقولان له (ويلك آمن) تعجّبا من قوله (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) ، الآية لا أنهما دعوا عليه بالهلاك. وقولهما له (آمِنْ) يعني بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي بالبعث والنشور والثواب لأهل الطّاعة والعقاب للعاصين (فَيَقُولُ) في جوابهما (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أباطيلهم سطّروها وليس لها حقيقة. والقمّي قال : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر.

١٨ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ...) أي الذين هم عاقّون لوالديهم وعاصون لقولهم ، ومخالفون لرأيهم ، والذين وجبت عليهم كلمة العذاب أي قوله لإبليس (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله (فِي أُمَمٍ) أي مع أمم ، أو كائنين في أمم أو محسوبين في عداد أجيال من الكفرة قد مضت قبلهم من الجنّ والإنس كما قال تعالى (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ويمكن أن يكون هذا الكلام ردّا على من لم يجوّز الموت على الجنّ. ثم إنه تعالى بعد الحكم بوجوب عقوبة المنكرين للبعث والحشر يعلّل لحكم المذكور ب (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) أي الأمم

٤٣٦

السالفة وأتباعهم من قريش وأمثالهم يكونون في القيامة من الضالّين أو في الدّنيا من المهلكين لأنفسهم بالمعاصي ، أو في كليهما خاسرين بالهلكة والضّلالة.

١٩ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...) أي لكل واحد من الجنسين المذكورين : المؤمنين البررة ، والكافرين الفجرة ، مراتب متصاعدة في الجنّة ومنازل في النار. ودرجات أهل الجنّة أيضا مختلفة بعضها أعلى من بعض ، كما أن دركات أهل النار مختلفة. والتعبير بالدركات والدرجات من باب التغليب. واختلاف هذه وتلك ناشئ عن اختلاف الأعمال ومراتبها في كل واحد من الحسن والقبح والخير والشر فإنّ كلّا يعمل على شاكلته وعلى ما اقتضت طبيعته وذاته (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) اي جزاءها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في الجزاء بالنقص والزيادة.

٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ، فقلبت مبالغة كقولهم (عرضت الناقة على الحوض) مع أن الأمر بالعكس. ومعنى الشريفة أنهم يعذّبون بها شديدا ويقال لهم بلسان الحال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) أي لذّاتكم قد استنفدتموها كاملة واستقصيتموها (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي فاستوفيتموها باشتغالكم بها وصرف حياتكم فيها كأنكم خلقتم لها وهي لكم (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي فيه الهوان والذّل والخزي (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني باستكباركم عن الانقياد للحق (فِي الْأَرْضِ) أي في الدّنيا (بِغَيْرِ الْحَقِ) من دون حقّ لكم في الترفّع والإنكار (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي بخروجكم عن الجادّة المستقيمة الشرعيّة وعن طاعة ربكم. ولمّا بيّن سبحانه أنواع الدّلائل في التوحيد والنبوّة وكان المشركون بسبب استغراقهم في لذات الدّنيا واشتغالهم بطلبها لم يلتفتوا إلى الدّلائل ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذكّر المعاندين لرسالته بالقصة التالية ليعتبروا

٤٣٧

وليقبلوا على طلب الآخرة بقبولهم الدّين الذي جاء به النبيّ الأكرم (ص) لأن من أراد أن يقبّح أمرا عند قوم كان الطّريق فيه ضرب الأمثال ، ليعلموا ضرره فيتركوا ما فيه ، والقصّة هي هذه التي تلي :

* * *

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣))

٢١ ـ (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ...) والمراد بأخي عاد هو هود عليه‌السلام ، ومن انتسب إلى طائفة يقال له (أخو فلان) مثل أن يقال (أخو همدان) أو (أخو سليم) أو (أخو قيس) ونحو هذه. وقد أنذر قومه (بِالْأَحْقافِ) التي هي واد باليمن ، أو اسم واد بين عمان وحضرموت ، وهو ذو رمل كثير مشرف على ساحل البحر الموجود هناك والمعروف ببحر عمان. وهو جمع (حقف) بمعنى الرمل ، وهو رمل مستطيل مرتفع دون الجبل. وكان قوم هود يسكنون في ذلك الوادي فبعث الله هودا إليهم لينذرهم ، فأنذرهم وقال : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي مضت الرّسل قبل هود وبعده ، وما كان هود أوّل نبيّ أرسل إليهم. فلمّا جاءهم أخذ في دعوتهم إلى الايمان فنادى فيهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فإنه الحقيق بالعبادة لا غيره (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ

٤٣٨

يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن عبدتم غيره. وهذا بيان إنذار هود للعاديّين فقال العاديّون له :

٢٢ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا.) يعني : هل بعثت إلينا لتصرفنا وتجعلنا نعرض عن أربابنا الذين نعبدهم خلفا عن سلف وتحذّرنا وتخوّفنا بذلك (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على الشّرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعيدك من نزول العذاب علينا إذا لم نؤمن بإلهك. ولا يخفى أن استعجالهم للعذاب كان تكذيبا لهود عليه‌السلام فقال هودعليه‌السلام :

٢٣ ـ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ...) أي يأتيكم به هو تعالى في الوقت المقدّر له وليس الأمر بيدي ولا أنا أعلم وقته ، وإنما أنا مأمور بأن (أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) أي ما عليّ إلّا البلاغ إتماما للحجّة عليكم وانسدادا لباب الاعتذار (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث إنكم لا تعلمون أنّ شغل الرّسل هو الإبلاغ والإنذار لا التعذيب والاقتراح على الله. ويحتمل أن تكون نسبة الجهل إليهم لاستعجالهم العذاب لأن تأخير العذاب رحمة لأنّ فيه رجاء العفو لتوبة تائب ودعائه لرفعه ، أو لدعاء وليّ من أوليائه تعالى أو دعاء نبيّهم رحمة بالرّضّع والعجائز والضّعفاء والمساكين والبهائم ، بخلاف التعجيل فهو نقمة فوق نقمة العذاب. ولذا أخّر عذاب أمّة النبيّ الأكرم الخاتم إجلالا له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفخرا لأمّته على سائر الأمم السالفة.

* * *

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ

٤٣٩

بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

٢٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ...) أي نظروا إلى السّماء فرأوا شيئا مبهما يفسّره (عارِضاً) أي سحابا عرض في أفق السماء يتشكل بشكل السحاب متوجّها نحو أوديتهم فاستبشروا وفرحوا واطمأنّوا و (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي غيم يمطرنا ويرغد حياتنا. فقال هود : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب الموعود (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي شديد مؤلم.

٢٥ ـ (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ...) أي الرّيح لشدّتها تمرّ عليهم فيكون فيها هلاكهم وذلك أنها كانت تقتلع الرجل القويّ من مكانه وترفعه إلى الجوّ وتضرب به الأرض بحيث تتكسر جميع عظامه فيكون فيه زهوق روحه ، وتقلع الأشجار العظيمة والأبنية الرفيعة مع ما فيها وتصعد بها إلى السّماء وتقلبها وترميها إلى الأرض فلا يبقى منها أثر إلّا كومة تراب أو أخشاب فعاد

٤٤٠