الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

وجه الأرض (مِنْ دابَّةٍ) من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها مع ما فيها من المنافع والخواصّ والمقاصد المطلوبة منها (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي في جميع ما ذكر دلالات واضحات لقوم يطلبون علم اليقين بالتفكّر والتدبّر فيها.

٥ ـ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ... أي في ذهاب اللّيل والنّهار وتعاقبهما ، ومجيئهما ونقصهما وزيادتهما على وتيرة واحدة. أو المراد باختلافهما في أنّ أحدهما نور والآخر ظلمة (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) لعل المراد بالرزق سببه وهو الغيث ، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب مبالغة للملازمة والترتّب بينهما (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يبسها. وتفريع هذه الجملة على ما قبلها من قوله (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) يدل على ما قلناه (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي على اختلاف كيفياتها من تصريفها من جهة دون جهة وكونها في وقت حارة وفي زمان باردة ، ومنها ما يثير السّحاب ومنها ما يلقّح بعض الأشجار ، ومنها نافع للأبدان ومنها ما هو ضارّ لها بل وللنّباتات وللأثمار. والحاصل أنّ في جميع هذه الأمور واختلاف أحوالها وكيفيّاتها (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ولعلّ اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدّقة والظّهور حيث إن الآيات الثلاث وإن كانت جميعها دقيقة إلّا أنّ الطائفة الأولى أسهل تناولا في مرحلة أخذ النتيجة من الأخيرتين ، والطائفة الثانية أدقّ منها نظرا. فان النظر في خلق الأنفس والتفكّر فيها وأخذ النتيجة مشكل قال مولانا أمير المؤمنين :

أتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وقال عليه‌السلام : من عرف نفسه فقد عرف ربّه. وكذلك التدبّر في الدوابّ على اختلاف أنواعها وأصنافها وآثارها وخواصّها برّيّها وبحريّها وما يعيش تحت الأرض وفوقها إلى آخر ما يتصوّر منها ويتعقّل ، والتفكّر فيها لا

٤٠١

يحصل لكلّ من المؤمنين بل لقوم يطلبون مقام علم اليقين ، وأمّا الطائفة الثالثة من الآيات فهي أدق من الأولين حيث إن النظر والتدبّر في اختلاف اللّيل والنّهار وإنزال الأمطار المختلفة الآثار مع كيفيّاتها المختلفة مع السّحاب المختلف الكمّ والكيف ، وحملها إيّاها وسوقها من بلد إلى بلد مع ما فيها من الرّعد والصّواعق والبروق التي تلمع في السماء على أثر انفجار كهربائيّ في السحاب وتصريف الرّياح المسخّر بين السّماء والأرض من مهابّها المختلفة ، وكلّ هذه الآيات أمور يتحيّر فيها فكر المتفكّرين ، وخارجة عن صقع أفكار المفكّرين نوعا ، إلّا عن أولي البصائر والألباب الّذين أنعم الله عليهم بالعقول الكاملة والدّرجات العالية في البصيرة ، فبنور عقولهم ينظرون في ملكوت عجائب الصّنع وغرائب الخلقة فيرون الصّانع بعيون قلوبهم المسلّحة بمناظر الآيات ، ويصدّقون توحيده بما شرح الله صدورهم ، إذ ما خلق الله خلقا أعظم شأنا من العقل وأعزّ منه ، وأوّل ما خلق هو العقل ، وما بعث نبيّ إلا بعد كمال عقله ، وما آمن مؤمن إلّا بدليل عقله ، فالإيمان لا يحصل إلّا به. والحاصل أن تخصيص الطائفة الأخيرة بالعقلاء لأنهم أهل لتدبرها والتفكّر فيها بما بيّناه إجمالا بعونه سبحانه حيث إنّها أدقّ من الأوليين.

٦ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ) ... أي هذه الآيات المذكورة دلائل لمعرفة الله وتوحيده (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي نبيّنها لك حتى تقرأها على قومك مقرونة بالحقّ دون الباطل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) يعني بأيّ كلام بعد كلام الله ، وهو القرآن وآياته الدالّة عليه وعلى توحيده ، تؤمنون : أي تصدّقون. وعلى هذا البيان تفسير الآية مبتن على حذف مضاف والفرق بين (الحديث) وهو القرآن و «الآيات» أن الحديث قصص يستخرج منها عبر مبيّنة للحق من الباطل و (الآيات) أدلّة فاصلة بين الصّحيح والباطل سواء كانت من جنس الكلام أم لا كالآيات

٤٠٢

التكوينيّة. وقيل إن (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) يعني (بعد آيات الله) فقدّم لفظ الله للمبالغة والتّعظيم ، كقوله (أعجبني زيد وكرمه) أي : أعجبني كرم زيد ، لكنّه خلاف الظاهر. وأمّا الحذف في الكلام فبابه واسع بحيث يعدّ من محاسنه ، وذكر ما من شأنه أن يحذف يحسب غير مقبول ، وربما يخرج الكلام عن الفصاحة ويحتمل أن يكون المراد أن (بعد ذاته جل وعلا) الذي هو في غاية الظهور و (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) الدالة على توحيده مع كثرتها من الآفاقيّة والأنفسيّة فبأي حديث تؤمنون ، وبأيّ سناد تستندون؟ وهذا توبيخ منه تعالى لهم. وبعد ذلك يعقّبه بالتّهديد بقوله تعالى فيما يلي :

* * *

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

٧ و ٨ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ... الويل كلمة وعيد يهدد بها الكفّار ، أو واد سائل فيه من صديد جهنّم ، أو بئر في قعر جهنّم مملوء من صديدها. والأفّاك يطلق على من عظم إثمه ، أي كذبه أو كثر. وها هنا المراد هو المعنى الأول والأثيم مبالغة في كثرة إثمه كمسيلمة الذي ادّعى

٤٠٣

النبوّة وقال أنا نبيّ إفكا وافتراء. فويل لمن (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) أي الأثيم تقرأ آيات الله بمرأى ومسمع منه وهو يسمع ويرى وبعد استماعه يصرّ أي يقيم ويثبت على كفره وعناده (مُسْتَكْبِراً) أي ذا كبرياء بحيث يزعم أنّ الإيمان خلاف شأنه ومقامه فيأنف منه ويستدبر عن الآيات (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ولم تقرأ عليه آيات ربّه (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا محمد بشّره بعذاب مؤلم ، والبشارة في مقام الإنذار والتخويف رمز للتهكّم والسخرية منه.

٩ ـ (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) ... أي إذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنّه منها وقال القمّي : إذا رأى فوضع العلم مكان الرّؤية ، اتّخذها هزوا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ذو إهانة.

١٠ ـ (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) ... أي من وراء ما هم فيه من التعزّز بالمال والدّنيا جهنّم ومعناه : قدّامهم ومن بين أيديهم كقوله (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) و (وراء) اسم مكان يقع على القدّام والخلف ، فما توارى عنك فهو (وراءك) سواء كان خلفك أو أمامك (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي لا يغني ما كسبوا من الأموال والأولاد والشّؤون ونحوها شيئا من رفع العذاب أو تخفيفه (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي لا يغنيهم ما اتّخذوا أولياء لأنفسهم من الأوثان والأصنام ، ولا ينفعهم شيئا من عذاب الله دفعا ورفعا وتخفيفا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بحيث لا يتحمّلونه لشدّته.

١١ ـ (هذا هُدىً) ... أي القرآن الذي تلوناه عليك وأنزلناه إليك هاد من الضلال ، وشفاء لما في الصّدور من الجهالة والشّقاوة والعناد والعداوة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) كلمة (مِنْ) تبيينيّة لما قبلها. و (الرجز) بالكسر بمعنى العذاب و (أَلِيمٌ) صفة له

٤٠٤

أي الكفرة لهم عذاب من قسم الرّجز وهو عذاب شديد للغاية.

* * *

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

١٢ ـ (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) ... بأن خلقه بكيفيّة خاصة من استواء السطح والميوعة في مائه حتى لا يمنع من الغوص فيه ومن الخرق والالتئام ، ثم جعله أملس لتسهيل سير ما يطوف على سطحه من الأجسام كالأخشاب وغيرها ، وبحالة هادئة في وسطه (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) تسير السّفن (فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره سبحانه لذلك وأنتم راكبوها ومحمّلوها أثقالكم وهي تجري بكم في لججه مع غاية الاطمئنان وكمال السكينة ، ومن دون حركة عنيفة تغرق أو تهلك الجسم الطائف على سطحه. وهذه الشريفة من أدلة التوحيد إذ تبرهن على وجود الصّانع الحكيم المدبّر وتنبّه إلى أعظم نعمه حتى يشكر عليها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا التّجارة والغوص والصّيد والرّزق (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون هذه النّعم الجزيلة الصادرة من ناحية المنعم الحقيقي بفضله عليكم.

٤٠٥

١٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ... أي خلقها لانتفاعكم ممّا في السّماء كالشّمس والقمر والنّجوم والأمطار والثّلوج والأرياح وغيرها من الأمور العلويّة ، وممّا في الأرض من الدّواب والأشجار والنّباتات والأثمار والأنهار وغيرها من الأشياء السّفليّة أي العالم السّفليّ (جَمِيعاً) طرّا وكلّا مسخّرات لكم أيّها الناس بأمر ربّكم ، أي بأمره التكويني ، فتكون هذه المسخّرات منه عزوجل لا من غيره لأنّها مخلوقة له وهي تحت قدرته فلا يقدر أحد من المخلوقين أن يتصرف فيها بالتسخير وغيره لأنهم عجزة عن مثلها. فهذه الآية من دلائل التوحيد أيضا. وقرئ (مِنْهُ) منصوبة فكأنّه قال (منّ عليكم منّة) وقرئ (مِنْهُ) بالرّفع والفتح والشّدّة في الوسطانيّ من الحروف خبر مبتدإ محذوف أي (ذلك منه) أو (هو منه) (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي علامات للمتفكّرين في صنائعه ممّا ذكر. ويستدلون بها على الصّانع القادر الحكيم المتفرّد في الذات والصّفات. نقل أنّه في بداية الإسلام أخذ بعض المؤمنين في وعظ الكفرة ونصحهم وهدايتهم إلى الإسلام ، ولمّا لم يتنبّهوا شرعوا يحاجّونهم بالبراهين العقليّة والنقليّة ، ولكنّهم من فرط الجهالة والعناد ما التفتوا إلى احتجاجاتهم واستدلالاتهم فما اكتفوا بذلك فسلكوا مع المؤمنين سلوك السبّ والإيذاء ، فتجهّز المؤمنون لينتقموا منهم فنزلت الآية :

١٤ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) ... يا محمّد قل لهم اغفروا يغفروا أي يصفحوا ويعفوا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) اي لا يترقّبون ولا يخافون أيّام عذابه ونكاله ، يعني للمجرمين انتقاما منهم للمؤمنين. والعرب يعبّرون عن أيّام الوقائع المهلكة وأيام الحروب بأيّام فلان وفلانة إذا كانت لهما وقائع مهمّة كما أن يوم بعاث ويوم عماس معروفان بينهم ، ويوم ذي قار ويوم حليم ويوم عماس بالفتح بمعنى المظلم والمظنون أن المراد بيوم

٤٠٦

عماس هو يوم حرب كان في الجاهلية وكان وجه التسمية بيوم عماس لانتشار الغبار الكثير في الجوّ من حركة الخيول فصار الجوّ مظلما فمن باب الكناية عن شدّة الحرب يعبّرون عنه بيوم عماس أمّا بعاث فيوم حرب في الجاهلية بين الأوس والخزرج كان الظفر للأوس واستمرّت مائة وعشرين سنة إلى أن جاء الإسلام وألّف بينهم. وهو اسم حصن للأوس أيضا. والحاصل أنّ المراد بأيّام الله هي أيام وقائع الله التي تقع فيها الآيات والأمور المهمّة من عنده سبحانه وتعالى (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزي الله الصابر بصبره وتحمّله المشاقّ ، والكافر بعناده وجحوده وإساءته.

١٥ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) ... أي من أتى بفعل طاعة لخالقه أو إحسان لإخوانه المؤمنين فثوابه يرجع إلى نفسه (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ومن أتى بعمل قبيح أو ظلم لإخوانه المؤمنين فعقابه عليه لا على غيره (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم كلّا بعمله إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. وهو مرجع العباد يوم المعاد.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ

٤٠٧

أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

١٦ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ... ثم إنه سبحانه لمّا ذكر نعمه ومواهبه على الخلائق طرّا ، وذكر كفر الطّغاة في مقابلها وبإزائها ، تقابل الضدّ فعقّب بقصّة بني إسرائيل لأنهم من هذه الجهة شبيهون بكفّار قريش. فإنه تعالى كم من نعماء أنعم بها عليهم وهم بدل شكرها كان يزيد كفرانهم وطغيانهم ومخالفتهم لنبيّ الله موسى عليه‌السلام فقال سبحانه ولقد آتينا بني إسرائيل (الْكِتابَ) فهو يعدّ سبحانه نعمه على أولاد يعقوب عليه‌السلام ويذكر منها التوراة وهو كتاب موسى عليه‌السلام. وقيل نزلت عليه في ستّ مضين من شهر رمضان والإنجيل في اثنتي عشرة منه والزّبور في ثماني عشرة منه ، والقرآن في ليلة القدر منه. وموسى معروف بلقيط آل فرعون من البحر قيل سمّي به لأنه التقط من بين الماء والشجر. والماء بلغة القبط (مو) والشجر (سا) فركّبا وجعلا اسما لموسى عليه‌السلام. وموسى مات في التّيه وعمره مائتان وأربعون سنة على قول ، وقيل مائة وعشرون سنة.

وفتح المدينة الموعودة بالفتح لبني إسرائيل يوشع بعده وكان ابن أخته ووصيّه والنّبيّ في قومه من بعده وفيها (الْحُكْمَ) من المحتمل أن يكون المراد هو العلم بفصل الخصومات ، أو المعرفة بأحكام الله والظاهر أنه مصدر حكم يحكم حكما وحكومة بمعنى القضاء بين الناس والحكومة لهم. وهو منصب من المناصب الرفيعة لا يتصدّى له إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو من نصب من قبلهما بعنوان خاصّ أو بنيابة عامّة مع شرائطها التي ذكرها أهل بيت الوحي

٤٠٨

والرّسالة صلوات الله عليهم أجمعين وهي مذكورة في محالّها من كتب الأحاديث والآثار. ويحتمل أن يكون المراد من الحكم هو الحكمة النّظريّة والعمليّة فيشمل فصل الخصومات وسائر الأمور الدينيّة ، ولعلّ هذا الحمل أنسب بالمقام وأحسن بالكلام. ومنها (النُّبُوَّةَ) فإن هذه النعمة السامية قد كثرت فيهم ولم تكثر في غيرهم من أرباب الملل والنّحل والطّوائف والأحزاب. ومنها ما بيّنه بقوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ المباحة وذلك لأنه تعالى أهلك فرعون وقومه فأورثهم أرضهم أي أرض مصر ونواحيها التي كانت تحت سيطرته وسلطانه مع سعتها نسبة ، وديارهم وأموالهم الكثيرة من الخزائن والكنوز والمتاحف والبساتين التي تجري تحتها الأنهار كما وصفها لقومه في مقام ترفّعه على موسى على ما ذكر سابقا ، ثم أنزل عليهم المنّ والسّلوى. والحاصل أنه سبحانه أعطى بني إسرائيل نصيبا وافرا وحظّا جزيلا من الدنيا بحيث ما أعطاها أمة أحد من النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين. ومنها وهو أعظم من كثير من النّعم المعدودة وهو ما قاله الله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال بعض المفسّرين أراد بالعالمين عالمي زمانهم ، لكن الظاهر لا داعي لهذا التخصيص لأن بني إسرائيل فضّلوا على العالمين بمعناه العام من جهات : الأولى من جهة كثرة الرّسل منهم دون سائر الأمم ، والثانية قضيّة نزول المنّ والسّلوى الذي يشبهه نزول المائدة من السّماء في الأزمنة المتمادية والثّالثة ظهور اثني عشر عينا من الماء العذب من صخرة واحدة لم يوجد مثله في العذوبة في مياه الدّنيا ولا سيما في ذلك العصر. فهذه وغيرها أمور اختصّت بهم ولم تكن لواحدة من الأمم من الأولين والآخرين حتى لأمّة خاتم النبيّين. فيصحّ أن يقال إنه تعالى فضّلهم على العالمين جميعا بهذه الخصائص. فلا كلام في فضيلتهم على الكلّ وإنما الكلام في أنهم بأيّ موجب صاروا مستأهلين لهذه النّعم وبأيّ سبب استوجبوا لمقام الرسالة الشامخ وأن يكونوا آباء الرّسل والأنبياء العظام مع أن المشهور بين أهل الحق والحقيقة أن الرسل

٤٠٩

لا بد وأن يكونوا معصومين من بدء تكليفهم والحال أنّ سوابقهم تقتضي خلاف ذلك حيث إنه لو لم تكن جهة مانعة لهم من هذه الأمور المذكورة التي صارت سببا لتفضيلهم من هذه الحيثيّة على العالمين إلّا قضيّة أولاد يعقوب معه (ع) ومع أخيهم يوسف عليه‌السلام لكفت في المنع لأنهم ما قصّروا في الخيانة والجناية والكذب والتهمة والأذيّة لأبيهم ولأخيهم ومع هذا فإن هؤلاء صار بعضهم نبيّا أو أبا للأنبياء ، فان بني إسرائيل منشأهم ومصدرهم أولاد يعقوب الذين كانوا أولاده عليه‌السلام بلا واسطة وقد اختارهم الله واجتباهم وفضّلهم على جميع الأمم. هذا ولكنّ الحقّ في المقام هو أن نجتاز هذا الكلام ونقول : نحن لسنا بعالمين بأفعال الله بالنسبة للمصالح والحكم ، ونعترف بأن الله أعلم حيث يجعل رسالته.

١٧ ـ (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) ... أي قرّرنا لهم دلائل وعلائم من أمر النبيّ الخاتم ونعوته في التوراة والإنجيل وعن ابن عباس يعني بيّن لهم من أمر النبي أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ويكون أنصاره أهل يثرب ... وكلّ هذه العلائم موجودة في التوراة والإنجيل ، والمشركون يقرءونها وينكرونها عنادا. أو المراد بيّنات من أمر دين الحق وهو الإسلام أو أمر التوحيد ويندرج فيها المعجزات (فَمَا اخْتَلَفُوا) في هذا الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) والحاصل أن بني إسرائيل بعد إتيان البيّنات والبراهين السّاطعات في كتبهم عن مجيء النبيّ الخاتم (ص) كانوا متّفقين بأن يقبلوا نبوّته وكتابه ويصدّقوه فيما جاء به ، فما اختلفوا في هذا الأمر ، ولكنّهم بعد العلم بحقيقة الحال وأنّه مخالف لهم في دينهم ، ودينه ناسخ للأديان طرّا ورأوا أن الرئاسة قد تؤخذ منهم فاختلفوا (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة وحسدا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا من أعجب العجب لأنّ حصول العلم موجب لارتفاع النّزاع والاختلاف ، وهاهنا صار سببا لحصول الخلاف ولكنّ جهته معلومة وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم الهداية وإنما

٤١٠

المقصود منه التقدّم في الرّئاسة. ولأجل هذا المقصود بغوا وعاندوا وأظهروا النفاق ، فقال سبحانه وتعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اي في خلافاتهم فيجازيهم ويؤاخذهم عليها بما يستحقون بها.

١٨ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) ... أي على منهج وعلى طريقة مستقيمة إلى دين الإسلام أو التوحيد و (مِنَ) بيانيّة. والمراد (بالأمر) يحتمل أن يكون ما ذكرناه من الإسلام والتوحيد ويحتمل أن يكون (الألف واللام) في (الْأَمْرِ) للعهد الذكري ، أي للإشارة إلى الأمر في الآية السّابقة على هذه الآية. وقد قلنا آنفا إن المراد به هو أمر النبيّ الخاتم (ص) من بدء ولادته ونبوّته وبعثته وهجرته إلى يثرب ونصرة أهلها له ، وكلّها مذكورة في التوراة والإنجيل وكان اليهود والنّصارى معتقدين به صلوات الله عليه وآله ، لكنّهم بعد ظهور بعثته وهجرته ونصرة أهل المدينة له (ص) عرفوه بعينه وعيانه وعلموا به ، فاختلفوا فيه. والحاصل أنّنا جعلناك نبيّا وبعثناك إلى العالمين بشريعة سمحة سهلة. ولكن الاحتمالين الأوّلين أقرب إلى الذّهن وإلى الواقع وأظهر في النظر والله أعلم بما أراد (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي اجعل قدوتك وطريقتك ما شرعناه لك من دين الإسلام واعمل به لأنه أقوى الأديان وأتقنها من حيث قوانينها أصولا وفروعا ولذا ادّخرناه لك وجعلناه دينا أبديّا لمرور الدّهور وإلى يوم ينفخ في الصّور ، وجعلناك خاتم النبيّين لعدم احتياج البشر إلى دين حتى نبعث نبيّا آخر إليهم ولا تذهب مذهب من اتّبع هواه وجعل إلهه ما لا يسمنه ولا يغنيه من شيء كعبدة الأصنام ، ولا تتّبع آراء الجهلة وهم رؤساء قريش فإنّهم لا يزالون تابعين لشهواتهم الفاسدة ولاهوائهم الباطلة. أو المراد بالذين نهى الله نبيّه عن متابعتهم هم اليهود حيث غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم وحبّا للرّئاسة واستتباعا لعوامّ الناس.

٤١١

١٩ ـ (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ) ... أي لو اتّبعتهم فرضا ونزل عليك عذاب من ربّك فلن يقدروا أن يرفعوه عنك ويدفعوا (مِنَ اللهِ شَيْئاً) ممّا أراده الله بك من العذاب جزاء لعملك ، ولا يردّون عنك شيئا من النوازل (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) حيث إنّ السّنخيّة كالجنسيّة علة للانضمام. يعني أنّ الكفار بأجمعهم متّفقون على معاداتك وبعضهم أنصار بعض عليك فاستقم على شريعتك واثبت عليها (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي الله يحبّك فيتولّى أمورك وينصرك ويحفظ تابعيك حيث إنّك رأس المتّقين ورئيسهم ، وقال القمي هذا تأديب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنيّ به هو الأمّة. قال الكلبي : ان رؤساء ، قريش اجتمعوا وقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إرجع إلى مكة فإن فيها أقوامك الذين كانوا أفضل وأقدم منك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ ...).

٢٠ ـ (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ...) أي القرآن أو الإسلام أو الشريعة معالم تبصّرهم محجّة النّجاة ووجه الفلاح أو عبر ومواعظ ونصائح موجبة للهدى من الضّلال والبصائر جمع بصيرة وهي أن يبصر بالقلب. ولمّا كان القرآن وسيلة لإبصار الهدى والرشاد وكان القلب محلّا للإبصار الحقيقي سمّاه تعالى بصائر كما سمّاه روحا. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي دلالة واضحة ونعمة من الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين بوعد الله ووعيده وثوابه وعقابه ، لأنهم المنتفعون به والمستفيدون منه.

* * *

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ

٤١٢

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

٢١ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) ... (أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) والاستفهام إنكاريّ والهمزة تدلّ على دوام الإنكار. و (الاجتراح) هو الاكتساب ومنه الجارحة بمعنى اليد ، لأن الاكتساب يصدر ويحصل منها غالبا. قال سبحانه (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) والحاصل بل الذين اكتسبوا أعمالا سيّئة من الشّرك والمعاصي الأخر زعموا (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بدل عن (كَالَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ هذا متضمّن لمعنى المماثلة. أي زعموا أن موتهم وحياتهم كحياة المؤمنين وموتهم. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما حكموا على الله حيث إنّه بمقتضى عدله لا يسوّي بينهم بل ينصر المؤمنين في حياتهم ويخذل الكفار فيها ، وكذلك بعد الموت فإنّ المؤمنين يساقون إلى الجنّة ، والكفرة إلى النار. وقيل إن المراد أن الكفار يحسبون أن حياتهم ومماتهم على السّواء فكما أنهم في حياتهم كانوا متلذّذين كذلك في العقبى بعد مماتهم ، فحياتهم ومماتهم بزعمهم سواء مثل المؤمنين حيث إن حياتهم ومماتهم متساويان وهذا الزّعم أيضا بالنسبة إلى الكفار والمؤمنين ليس صحيحا فإن الدنيا حال حياة الكفرة جنّة لهم وللمؤمن سجن ، وفي الآخرة فإن المؤمنين مخلدون في الجنة والكفرة مخلّدون في النار.

٤١٣

٢٢ ـ (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ... أي هما مخلوقان عظيمان له سبحانه يدلّان على قدرة كاملة لا يتصوّر فوقها قدرة أعظم منها أو مثلها و (بِالْحَقِ) أي لا باطلا وعاطلا بل خلقهما لمصالح وحكم منها ما بيّن بقوله سبحانه : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي خلقهما وخلق ما فيهما لجعلهما مورد اختبار وامتحان لتجزى كل نفس بما كسبت. فلو لا خلق السّماوات والأرض لم يكن هناك مخلوق ، فينتفي موضوع الاختبار وموضوع الجزاء. وقوله (وَلِتُجْزى) عطف على (بِالْحَقِ) لكونه في مورد التعليل ولذا عطف عليه. وقيل عطف على مقدّر ، أي خلقهما للدلالة على وجوده وقدرته ولتجزى ... (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي في الجزاء بنقص ثواب وتضعيف عقاب على ما يستحقّه. وقيل معنى قوله (بِالْحَقِ) أي بالعدل ، فمقتضاه أن لا يساوى الكافر بالمؤمن ، ونقل عن سعيد بن جبير أن قريش كانوا يعبدون العزّى وهي حجر أبيض ، وكانت عادتهم إذا وجدوا شيئا آخر يصير طبعهم أرغب إليه ، فيعرضون عن الأوّل ويتركونه ويعبدون الثاني. فالله سبحانه يقول لنبيّه صلواته عليه وعلى آله تعجّبا :

٢٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ... أي أخبرني ، أو : أو ما ترى من اتّخذ إلهه هواه؟ والقميّ قال : نزلت في قريش كلّما هووا إلى شيء عبدوه. قال : وجرت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أصحابه الذين أغضبوا أمير المؤمنين عليه‌السلام واتّخذوا إماما بأهوائهم. والحاصل أن من اتّخذ إلها طبق هوى نفسه فإلهه هو نفسه لأنّه مطيع لها ومنقاد لأوامرها ونواهيها فليس له إله إلّا هي ، فهو مشتبه في كونه يعبد صنما أو وثنا أو إنسانا أو ملكا وأمثال ذلك بل هو عابد لنفسه في جميع تلك المراتب وهذه مصاديق عبادته لنفسه لأنها بأمرها تتحقّق. فكلّ ما تأمره به نفسه فهو خاضع لها. وظاهر الشريفة يحكم بذلك لأنّ هوى

٤١٤

الإنسان هو عبارة عن ميل نفسه ، ولذا قيل : كان أحدهم (من قريش) يستحسن حجرا فتميل نفسه إليه فيعبده ، فإذا رأى أحسن وأجمل منه رفضه وعبد الثاني ، وهكذا (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أي خذله بأن يتركه وشهواته ويخلّي بينه وبينها لأنه سبحانه يعلم بخبث جوهر ذاته بحيث لو بقي في الدّنيا مخلّدا لما آمن به تعالى ولما صدّق رسوله ، وهذا من علل تخليده في النّار ، فالشقيّ شقيّ في بطن أمّه (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) أي طبع الله عليهما بحيث لا يؤثّر فيهما وعظ ولا نصح أصمّه الله عن سماع الوعظ وجعل قلبه لا يقبل الحق لما علم سبحانه من إصراره على الكفر لأنّه لا يؤمن أبدا. وعن عليّ صلوات الله عليه وعلى أولاده الطّاهرين :

سبق في علمه أنهم لا يؤمنون فختم على قلوبهم وسمعهم ليوافق قضاؤه عليهم علمه فيهم. ألا تسمع إلى قوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ)؟ (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي وضع على بصره غطاء حتى لا يرى آياته تعالى ودلائل توحيده وقدرته فكأنّه أعمى (لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) كما أن (لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) فجحدهم وعنادهم للحقّ والحقيقة مانع عن استماع المواعظ وعن النظر في آياته سبحانه والتفكّر فيها ، فهم في حكم الأعمى بعدم النظر ، وفي حكم الأصم بعدم الاستماع ، إلّا أن الأعمى والأصم غير مقصّرين وهم مقصّرون (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي بعد أن خلّاه وضلاله ، أو من بعد هداية الله له بآياته الباهرة وعدم اهتدائه بها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتّعظون بهذه المواعظ ولا تتنّبهون بهذه المنبّهات؟ يعني تذكّروا وتنبّهوا فإن الرحيل قريب ثم إنّه سبحانه أخبر عن حال منكري البعث فقال :

* * *

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما

٤١٥

يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

٢٤ ـ (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ...) أي التي نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نموت نحن ويحيا آخرون فعادة الطبيعة جرت على هذا أو عادة الله جارية على ذلك على قول من ليس بطبيعيّ ولكنّه منكر للبعث والحشر. وهذا اشدّ أنواع الكفر بعد إنكار الصانع وقد وجد في هذا العصر من يدين بهذا الدّين ويدعو لهذا المذهب فلهم الويل يوم يقال لهم : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النّار وما لكم من ناصرين. والحاصل أن الآية نزلت في الدهريّة لا في المنكرين للبعث فقط بقرينة بيانه سبحانه لمقالتهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي مرور الزّمان فضمّوا إلى إنكار المعاد إنكار المبدأ. أو بعبارة أخرى : المقصود من قولهم (وَقالُوا ما هِيَ) ، إلى قولهم : (إِلَّا الدَّهْرُ) أنّ تولّد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاصّ وتولّدت الحرارة حصلت الحياة ، وإذا حصلت على وجه آخر ضدّ ذلك الوجه حصل الممات ، فالحياة والموت ليسا إلّا بتأثيرات الطبائع ، وهذا هو المراد بقولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) فقال سبحانه في مقام ردّ مقالتهم : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي لا علم لهم بمقالتهم حيث لا دليل لهم ولا برهان وإن هم إلّا يخرصون وهذا قول بلا برهان فقال سبحانه (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فإنّ حجتهم لا يحصل منها على ما بينّا إلّا الظن ، والظنّ لا يغني من الحق شيئا. وقال القمّي : فهذا ظنّ

٤١٦

شكّ ونزلت هذه الآية في الدهرية وجرت في الذين فعلوا ما فعلوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمير المؤمنين وبأهل بيته عليهم صلوات الله وسلامه ، وكان إيمانهم إقرارا بلا تصديق خوفا من السّيف ورغبة في المال والدنيا.

٢٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت آياتنا المتّصفة بالوضوح عليهم المخالفة لمعتقداتهم (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) أي لم تكن لهم حجة تقابل حججنا ويثبت بها مدّعاهم ، فمن باب ضيق الخناق أتوا بكلام غير مربوط بإثبات دعواهم على ما أخبر عن مقالتهم هو سبحانه بقوله (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فهذا القول إقرار واعتراف منهم بعجزهم عن إثبات دعواهم بحجة وبرهان. فلما عجزوا أرادوا أن يعجّزوا النبيّ (ص) وتابعيه فقالوا : لو كنتم صادقين فيما تدّعونه فادعوا ربّكم واسألوه أن يحيي آباءنا حتى يصدّقوكم في دعواكم فنؤمن لكم ونصدّقكم فيما أتيتنا به. وهذا سمّي حجة على زعمهم ، ولكنّه على فرض عدم إحياء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لآبائهم حالا ، فلا تثبت بذلك صحة دعواهم لأنّ عدم كون شيء في الحال لا يدل على عدم تحققه في المآل لأنه لا ملازمة بينهما. هذا أوّلا ، وثانيا لا يدل على بطلان قول النبيّ (ص) ودعواه الرّسالة ، فإن عدم حصول شيء حالا لا يستلزم امتناعه مطلقا. هذا مضافا إلى ما خاطب به الله نبيّه في مقام ردّه لهم وجوابه لمقالتهم.

٢٦ ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ ...) ثم إن الكفار كانوا يقبلون الحياة الأولى أي بعد الولادة ، والممات الأول أي الذي بعد تلك الحياة الأولى لأنهما مشهودان لكلّ أحد بحيث يعدّونهما من الواضحات التي يحسب منكرهما من المجانين ولكنّهم ينكرون الإعادة فالله تعالى يردّ مقالتهم

٤١٧

السخيفة ويثبت عليهم البعث والنشر ، بيان ذلك أنه تعالى بعد قبولهم لقدرته على الإحياء والإماتة ، ولو في المرة الأولى ، يريد أن يقول لهم : فكما أنكم تقبلون مرّة فيلزمكم الاعتراف والتّصديق بأنه قادر على الإعادة لأن من كان قادرا على هذه الحياة والإماتة فهو قادر على الإعادة بالأولى وإنّ الإعادة أهون عليه من الإبداء حيث إنّ الإبداء هو الإحياء والإيجاد من العدم المحض ومحض العدم ، بخلاف الإعادة فإنّها إيجاد المادّة الموجودة في الأرض ... فهو يجمعكم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي يجمعكم أحياء ويسوقكم الى يوم الحشر الذي لا شك في تحققه ووقوعه فإنه ثابت بالحجة والبرهان ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لقلّة تفكّرهم وقصور نظرهم في ما يحسّونه ويشعرون. ثم إنه تعالى على سبيل تعميم القدرة بعد تخصيصها يقول :

* * *

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩))

٢٧ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ ...) أي هو الذي يملك السّماوات (وَالْأَرْضِ) وذكر السّماوات والأرض كناية عن بيان سلطانه على جميع المكوّنات العلويّة والسفليّة. فمن كان بهذا الاقتدار والسلطان فهو قادر على أمور فوق ما يتصوّر ، فكيف على الإعادة التي هي أسهل شيء عنده مع

٤١٨

تلك العظمة والاقتدار (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) العامل للنّصب في (يَوْمَ) فعل (يَخْسَرُ) المبطلون و (يَوْمَئِذٍ) بدل من (يَوْمَ) تقوم إلخ ... ولا يخفى أنّ الحياة والعقل والصّحة رأس مال الإنسان في تحصيل السعادة الدنيويّة والأخروية ، كما أن رأس مال التاجر سبب لتحصيل الرّبح ومزيد أمواله. والمبطلون أسرفوا فرأس مالهم في الكفر والشقاوة فما حصّلوا إلّا الخذلان والضلالة وذلك غاية الخسران والغواية.

٢٨ ـ (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ...) أي يا محمّد ترى يوم القيامة أمّة كلّ نبيّ يحشرون مجتمعين ، أو جالسين على ركبهم أو على أطراف أصابعهم كهيئة التابع للإمام في تشهّده في صلاة الجماعة. وهذه الكيفيّة من القعود تكون من هيبة ذلك اليوم والخوف العارض للنّاس ، لأنهم ينتظرون إحضارهم للمحاسبة ، اللهم أعذنا من شرّ ذلك اليوم (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي إلى صحيفة أعمالها فيقول الآتي بكتاب العمل : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي هذا اليوم يوم أجر الأعمال الماضية التي فعلتموها في الدنيا ، وهذا اليوم هو اليوم الذي كنتم تصرّون على إنكاره أيّها المنكرون. وهذه من الجمل المطويّة في الآية الشريفة.

٢٩ ـ (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ...) أضاف سبحانه كتب أعمال العباد إلى نفسه لأنّها مدونة بأمره. يعني هذا الكتاب كتبه الحفظة بأمرنا وهو يتكلّم ويشهد عليكم بالحقّ أي بالصّدق والصّحة بما عملتم بلا زيادة ولا نقيصة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أمرنا الملائكة بكتابة أعمالكم اليوميّة واللّيليّة.

* * *

٤١٩

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥))

٣٠ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) الإيمان هو التسليم بالجنان والعمل بالأركان من الجوارح ، فله ركنان. ولذا يتعقّب غالبا بالعمل الصّالح إن لم يكن دائما فالمؤمنون يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) ومنها حصول الفوز بالجنّة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي الفلاح الظاهر لخلوصه عن الشوائب. ثم إنه عزوجل لمّا بيّن حال أهل الايمان إجمالا شرع في شرح حال المعاندين الكفرة كذلك :

٣١ و ٣٢ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ...) أي يقال لهم : ألم يأتكم رسلي ليتلوا عليكم حججي ودلائل توحيدي؟ وقد عاندتموهم (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن قبولها بعد التّلاوة والبيان (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي معتادين على الذّنب والخطأ (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)

٤٢٠