الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

عليه‌السلام. والليلة المباركة : فاطمة عليها‌السلام فيها يفرق كلّ أمر حكيم : يخرج منها خير كثير ورجل حكيم ورجل حكيم ورجل حكيم ، إلخ ... الحديث.

٥ ـ (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ... منصوب حالا من (أَمْراً) أو من الضّمير في (حَكِيمٍ) يرجع إليه (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي من شأننا إرسال الرّسل وإنزال الكتب بمقتضى حكمتنا واقتضاء مصالح العباد ذلك.

٦ ـ (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ... هذا بيان لسبب إرسال الرّسل والكتب ، أي رأفة منّا بخلقنا ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرّسل. ووضع الظاهر مقام الضمير إشعار بأن الربوبيّة اقتضت ذلك فإنه أعظم أنواع التربية (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) للأقوال كلّها (الْعَلِيمُ) العالم بأحوال العباد ومصالحهم.

٧ ـ (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي مالكهما ومصلحهما ومديرهما ومدبّرهما (وَ) مدبّر (ما بَيْنَهُما) قرئ بالجرّ عطفا على ما قبله. ثم إنّه سبحانه كرّر هذه الجملة في مواضع عديدة من كتابه تنبيها للعباد بأن من له هذه القدرة وهو بهذه السّلطة على جميع العوالم العلويّة والسّفليّة وما بينهما من عجائب مخلوقاته مع أن خلقه تلك العوالم أعجب من خلقه ما فيهما وما بينهما ، فهذا أحقّ بالعبادة أم مخلوق هذا الخالق القادر القاهر الحكيم العليم؟ ولا سيما مخلوقه الجماديّ كالأصنام ... عجبا لحلم الله مع مداراته لهؤلاء الجهلة الجحدة الكفرة كيف أعرضوا عن عبادة خالقهم إلى عبادة أدنى المخلوقات (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي عالمين أن الأمر كما وصفناه.

٨ ـ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... رَبُّكُمْ) ... هذه شهادة منه سبحانه على توحيده ، وهي أقوى وأدلّ دليل على التوحيد لأنه عزوجل أعرف بمخلوقاته وأعلم بهم من أنفسهم ، فإذا قال ليس في جميع العوالم إله غيري مع أنه أصدق القائلين فلا بد أن يقبل قوله ويطاع أمره مع أنه كم من براهين عقليّة ونقليّة أقيمت

٣٨١

عليه ، فلا ينبغي أن يخطر على قلب عاقل إله غير الله سبحانه فضلا عن أن يعبد غيره عزوجل (يُحْيِي وَيُمِيتُ) صفتان مختصّتان بذاته تعالى أي يحيي الناس بعد موتهم ، ويميتهم بعد إحيائهم. أو المراد من الإحياء هو الإيجاد بعد العدم ، والإماتة بعد هذه الحياة كما تشاهدون (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) لمّا كان الكفّار معترفين بربوبيّته لكنّهم ، بعلمه بجميع الأشياء وبإرساله جميع الرّسل وإنزاله جميع الكتب ، لم يقرّوا ، وذلك كان مستلزما لعدم تيقّنهم لربوبيّته فلهذه الجهة نفى يقينهم وقال سبحانه فيما يلي :

* * *

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

٩ ـ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ... قوله (فِي شَكٍ) ردّ لكونهم موقنين بما أخبر الله تعالى نبيّه وقوله (يَلْعَبُونَ) يحتمل أن يكون المراد أنهم يلعبون في قولهم وإقرارهم بأن الله هو ربّنا وربّ آبائنا وإن علوا. ومن ناحية أخرى هم منكرون علمه بجميع الأشياء وإرساله لجميع الرّسل

٣٨٢

والكتب. وهذا الإنكار يستلزم الشكّ في ربوبيّتنا. أو المراد بقوله يلعبون يعني أنّهم يستهزئون بما أخبرناك به ، فإقرارهم ليس إقرارا حقيقيّا وعن علم ويقين بل مخلوط بهزل وهزء. أو (يَلْعَبُونَ) يعني يشتغلون بالدّنيا بحيث لا يتوجّهون إلى المواعظ والدّلائل والحجج حتّى يهتدوا بأنه سبحانه ربّهم وربّ كل شيء ويعتقدون بذلك عن علم ويقين. والاشتغال بالدنيا بهذه الكيفيّة لعب ولهو ثم إنه تعالى خاطب نبيّه تهديدا لهم فقال سبحانه :

١٠ و ١١ ـ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) ... أي فانتظر لهم اليوم الذي تأتي السماء بدخان ظاهر بحيث لا يشكّ أحد في أنّه دخان. واختلف في هذا الدّخان ومنشئه أنّه من أين يكون؟ فعن عليّ عليه‌السلام وبه أخذ جماعة : إنّه دخان يأتي من السّماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون الواحد منهم كالرأس الحنيذ (والحنيذ المشويّ) ويعتري المؤمن منه كهيئة حال المزكوم وتأخذه الزّكمة (بفتح الزّاء وسكون الكاف) وتصير الأرض كلّها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص (والخصاص الفرجة) وعن رسول الله : أوّل الآيات الدخان ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر. قال حذيفة : يا رسول الله وما الدّخان؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية ، وقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين يوما وليلة ، أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة وأمّا الكافر فهو كالسّكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره (يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يغطّيهم ، أو يحيط بهم. فإذا شاهدوه بتلك الشدّة يقولون (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي كثير الألم ويخافون منه شديدا وهذا من أشراط السّاعة على ما في الرواية من أنّ اوّل الآيات الدخان إلى أن يقول : ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر. والقمّي قال : ذلك إذا خرجوا في الرّجعة من القبر وكان الرجل يحدّث رجلا فلا المحدّث

٣٨٣

يرى المخاطب ولا هو يرى المتكلّم من شدّة غلظته وتراكمه.

١٢ ـ (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) ... أي مؤمنون بالقرآن ومصدّقون بنبوّة النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا وعد بالإيمان لو كشف العذاب عنهم. لكنه سبحانه أخبر عن حالهم الذي دل على كذب مقالتهم فقال عزوجل :

١٣ ـ (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) ... أي من أين لهم التذكّر بذلك (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي أبان لهم ما هو أعظم منها في إيجاب الاذّكار من الآيات ومن المعجزات ومع ذلك ما تذكروا.

١٤ ـ (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) ... أي أعرضوا عن رسولنا وما اكتفوا بذلك وقالوا يعلّمه بشر ، اي غلام أعجميّ لبعض ثقيف ، فهذا الكتاب ليس من عند الله كما يزعم محمد. وما اكتفوا بهذا بل قالوا إنّه (مَجْنُونٌ) وقال القمّي : قالوا ذلك لأنّه لمّا كان ينزل عليه الوحي كانت تأخذه الغشية ، وإن بعضهم لمّا رأوه في تلك الحالة نسبوا إليه الجنون.

١٥ ـ (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) ... عدل سبحانه عن الغيبة إلى الخطاب في مقام جوابهم عن وعدهم وردّهم بأنكم لا تفون بوعدكم ولو أنّنا كشفنا العذاب عنكم ، لأن الخطاب أبلغ في الرّد والتوبيخ والحاصل يقول سبحانه نحن نكشف عنكم العذاب عمّا قريب أي بعد أربعين يوما اختبارا لكم لكننا نعلم (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي ترجعون إلى كفركم بعد الكشف عاجلا. وقال القمّي : يعني إلى القيامة باقون على الكفر ولو كان قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) في القيامة كما هو ظاهر بعض الرّوايات ، لم يقل (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) لأنّه ليس بعد الآخرة والقيامة حالة

٣٨٤

يعودون إليها.

١٦ ـ (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ... أي نأخذهم أخذة كبيرة عظيمة شديدة بعذاب النار. والمراد يوم القيامة (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي ننتقم منهم بما يستحقون من العذاب. ولمّا أصرّ كفّار مكّة على كفرهم وجحودهم ووجدوا أن ذلك يحزن قلب النبيّ ويؤذيه ، أخذوا يزيدون في عنادهم وعداوتهم معه صلى‌الله‌عليه‌وآله فكرّر الله سبحانه وتعالى تسليته بتكرار قضايا موسى (ع) وأذاه من قومه ومن فرعون عصره ومتابعيه ويذكّره بها لتسهيل الخطوب الواردة عليه من أمّته وعصاة قومه صلوات الله عليه وآله فلذا يقول جلّ وعلا كما في الآيات التالية :

* * *

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١))

١٧ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ... أي اختبرناهم وامتحنّاهم قبل قريش (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي موسى عليه‌السلام فإنه كان له شأن

٣٨٥

عظيم عند الله تعالى فلذا جعله كليما له وهذا من خصائصه عليه‌السلام فقد كان عزيزا ومرضيّا عند قومه بني إسرائيل ، وكان أجودهم عطاء وأحسنهم خلقا وخلقا ولذا وصفه سبحانه بوصف جامع لما ذكرناه. وكان من الأنبياء الذين آذتهم أمّتهم كثيرا ، ولذا فإنه تعالى يسلّي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله به عليه‌السلام وكانت أمّته لجوجة عنودة جهولة شبيهة بقريش ، فمن هذه النّاحية أيضا كان بين نبيّنا وبين موسى تناسب. والحاصل جاءهم موسى وقال لفرعون وحشمه لا بدّ أن تؤدّوا إليّ بني إسرائيل.

١٨ ـ (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) ... أي أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتّسخير فإنهم أحرار فلا. تعاملوهم معاملة العبيد. وكان بنو إسرائيل حين طلوع موسى على فرعون محبوسين وكان حبس فرعون مهولا مخوفا بالعذابات الشديدة التي أوقعوها على المحبوسين فيها ولذا أوّل ما طلبه موسى من فرعون كان إطلاق بني إسرائيل الذين كانوا ممّن يعبد الله ، في قبال القبطيين فإنهم كانوا عبدة فرعون. ولذا عبّر عنهم كليم الله بعباد الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي غير متّهم بكذب في القول على ما أدّعيه من الرّسالة ولا بخيانة في أموالكم التي أودعتموها عندي. ويستشعر من الشريفة أن موسى عليه‌السلام كان عند النّاس معروفا بالأمانة حتى عند القبطيّين. وقوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) من باب التذكير وإلّا كانت هذه دعوى بلا بيّنة وبرهان فلا تقبل. وبالجملة كان من هذه الجهة مماثلا لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّ نبيّنا من بدء أمره كان معروفا بمحمد الأمين حتى أعاديه كانوا لا ينكرون أمانته وأذعنوا لها.

١٩ ـ (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) ... أي لا تتكبّروا ولا تتجبّروا عليه بترك طاعته وكفران نعمه وافتراء الكذب عليه (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة واضحة يظهر الحق معها ، أو بمعجز ظاهر تبين به صحّة نبوّتي وصدق مقالتي فلما قال ذلك توعّدوه بالقتل والرّجم فقال :

٣٨٦

٢٠ ـ (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) ... أي التجأت إليه سبحانه (أَنْ تَرْجُمُونِ) من أن تؤذوني بقذفي بالحجارة ، أو بغيره من الأذى.

٢١ ـ (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) ... أي فاتركوني وتنحّوا عنّي فلكم دينكم ولي ديني. ثم تألّم منهم كثيرا وحزن قلبه الشريف من هؤلاء القوم فدعا عليهم كما ترى :

* * *

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤))

٢٢ ـ (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) ... أي لمّا يئس من إيمانهم دعا الله سبحانه عليهم (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي مذنبون يرتكبون المعاصي لأنهم مشركون ولا يؤمنون أبدا فأوحي إلى موسى :

٢٣ ـ (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) ... أي أخرج مع من آمن بك من بني إسرائيل عن هذه البلدة في الليل ، والسّرى هو السير ليلا (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي يتبعكم فرعون وقومه إذا علموا بخروجكم.

٢٤ ـ (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ... أي خلّ البحر على حاله منفرجا. والرّهو هو الفرجة الواسعة فافرجه بعصاك واخرج أنت من طرفه الآخر بعد ما تدخله. وتجوزه حتى يدخله فرعون وجنوده والأمر بترك البحر على هيئته التي دخله موسى بها لأنه أراد أن يضربه ثانيا لينطبق خوفا أن يدركهم القبط فأمر بتركه كما هو

٣٨٧

ليدخلوه فلا تخافوا منهم (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) فدخلوا البحر فأغرقوا جميعا ، ثم نبذ البحر جسد فرعون ليكون عبرة للناس.

* * *

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))

٢٥ إلى ٢٧ ـ (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ... إن الله تعالى يخبر حبيبه عن تركتهم من البساتين والعيون الكثيرة الجارية وما سواها من النّعم التي كانت تغمرهم. (وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) والمراد بالمقام الكريم ، المحافل المزيّنة والمنازل الحسنة والقصور المشيّدة. فقد خلّفوها وراءهم حين لحقوا ببني إسرائيل (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) النّعمة بفتح النون رغد العيش ونضارته ، وبكسرها ما أنعم به على الإنسان من الرزق والمال الكثير والولد الصّالح وأمثالها والحالة التي يستلذّ بها الإنسان وجاء بمعنى المسرّة ، وبالضمّ المسرّة والرفاهة ، ونعمة العين قرّتها و (فاكِهِينَ) أي متنعمّين متمتّعين بطيب العيش وقال القمّي : النّعمة في الأبدان ، وفاكهين أي مفاكهين للنّساء ومتمتّعين بهنّ.

٢٨ ـ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) ... أي هكذا نفعل بالمجرمين ، نهلكهم ونورث هذه المعدودات لمن بعدهم ، أي لبني إسرائيل لأنهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ومتابعيه. وإيراث النّعمة تصييرها إلى الثاني

٣٨٨

بعد الأوّل بلا مشقّة كما يصير الميراث إلى أهله هكذا. فلمّا كانت نعمة فرعون وقومه وصلت إلى بني إسرائيل بعد إهلاكهم كان ذلك إيراثا من الله لهم.

٢٩ ـ (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ... هذه الجملة يمكن أن تكون في مقام بيان تصغير قدرهم ، فإن العرب جرت عادتهم بأن يخبروا عن عظم المصيبة بالهالك بأنه بكته السّماء والأرض ، أو تقول : أظلم لفقده الشمس والقمر ، وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز :

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمر

وقالت الخارجيّة :

أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وذلك على سبيل الاستعارة التخييليّة مبالغة في وجوه الجزع والبكاء. وسئل ابن عباس عن هذه الآية وقيل هل يبكيان على أحد؟ قال : نعم ، مصلّى المؤمن في الأرض ، ومصعد عمله في السّماء. وروى زرارة بن أعين عن الصّادق عليه‌السلام أنه قال : بكت السّماء على يحيى بن زكريّا وعلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام أربعين صباحا ، ولم تبك إلّا عليهما. قلت وما بكاؤها؟ قال : كانت الشمس تطلع حمراء وتغيب حمراء. وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام : بكت السّماء على الحسين بن عليّ عليهما‌السلام أربعين يوما بالدّم. وبالجملة فالمراد من قوله (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ) التهكّم واستصغار القدر. والوجه الثاني في الشريفة أن يقال إن المراد : لم يبك عليهم أهل السماء والأرض لكونهم مسخوطا عليهم بحذف المضاف كقوله تعالى (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وقيل وجوه أخر نحن بصدد بيانها (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي ممهلين إلى وقت آخر.

* * *

٣٨٩

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

٣٠ و ٣١ ـ (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ... يعني خلّصناهم (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) ذي الإهانة والاحتقار كقتل الأبناء واستخدام النساء والاستعباد والتكاليف الشاقّة الأخر. وكلّ هذه من فرعون وقومه الطّغاة كما أخبر سبحانه : (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي متكبرا متجبّرا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين الحدّ في الطغيان ، وقد وصفه تعالى بأنّه عال وإن جاز أن يكون مدحا ، إلّا أنّه قيّده بأنّه عال في الإسراف ، والممدوح هو العالي في الإحسان ، والعالي في الإساءة مذموم.

٣٢ و ٣٣ ـ (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) ... أي اخترنا موسى وقومه بني إسرائيل وفضّلناهم بالتوراة وكثرة الأنبياء منهم (عَلى عِلْمٍ) أي على بصيرة منّا باستحقاقهم ذلك (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم. وقال القمّي : فلفظه عامّ ولكنّ المعنى خاص فقد اخترناهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) كانشقاق البحر بضرب العصا ، وإجراء الماء من الصّخرة الصمّاء أيضا بضرب العصا عليها في التيه التي كانت في البيداء ، وإنزال المنّ والسّلوى ، وإظهار اليد البيضاء ، وتصيير العصا أفعى وغيرها من المعجزات والآيات (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار ظاهر وامتحان باهر.

* * *

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ

٣٩٠

بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))

٣٤ إلى ٣٦ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ) ... هذا رجوع إلى أحوال كفّار قريش مع رسول الله (ص) فإن قصّة فرعون مع موسى عليه‌السلام كانت معترضة لبيان جهة أشرنا إليها سابقا. والمراد من اسم الإشارة هؤلاء هو كفّار قريش (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي المزيلة للحياة الدنيويّة (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بعد الموتة الأولى لا حياة أبدا ، لا حياة القبر ولا حياة البعث ، وما نحن بمبعوثين. وإن لم يكن كذلك (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرّسول والمؤمنين أي إن كان الأمر كما تزعمون فأحيوا لنا واحدا من آبائنا كقصيّ بن كلاب حتى نشاوره ونسأله عن صحة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن صحّة البعث فإن اعترف وأقرّ بهما فنحن نقبل أيضا ونصدقكم في وعدكم. وقيل إن المتكلّم بهذا هو أبو جهل ووجه اختيار قصيّ لأنه كان معروفا بالصّدق بين أهل عصره وكان شريفا.

٣٧ ـ (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) ... على وزن سكّر واحد التّبابعة من ملوك حمير ، سميّ تبّعا لكثرة أتباعه ، أو سمّوا بالتبابعة لأن الأخير يتبع الأوّل في الملك ، وهم سبعون تبّعا ملكوا جميع الأرض ومن فيها من العرب والعجم. وكان تبّع الأوسط مؤمنا بنبيّنا قبل ظهوره بسبعمئة عام وهو الذي نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن سبّه لإيمانه ، وهو تبّع الكامل وكان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب. ويقال إنه نبيّ مرسل إلى نفسه لما تمكّن من ملك الأرض. والدليل على ذلك أن الله تعالى ذكره عند ذكر الأنبياء فقال (وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وأسند

٣٩١

تكذيب الرّسل إلى قومه حيث إنهم كانوا كفرة ولذا ذمّهم دونه لأنه كان مؤمنا ولم يعلم أنه أرسل إلى قوم تبّع رسول غير تبّع وتبّع أوّل من كسا البيت بالأنطاع (جمع نطع وهو بساط من جلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب أو بالقتل) بعد آدم عليه‌السلام حيث كساه الشعر وقيل إبراهيم أول من كساه الخصف ، وأوّل من كساه الثياب سليمان عليه‌السلام ، فعن الصّادق عليه‌السلام أنّ تبّعا قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبيّ أمّا أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه. ويحتمل أن يكون مراده بهذا النبيّ أي الذي أخبر به الأحبار والرّهبان والكهنة في ذلك العصر. ومعنى الشريفة أن مشركي قريش أظهر نعمة وأكثر أموالا وأعزّ قوّة وقدرة أم قوم تبّع الحميريّ الذي سار بالجيوش حتى حيّز الحيرة ثم سار وأتى سمرقند فهدمها ثم بناها على أصول أرادها. وتبّع كان لقب كلّ ملك من ملوك اليمن كما يقال خاقان لملك التّرك وقيصر لملك الرّوم. والحاصل فإنهم ليسوا بأفضل وأقوى منهم وقد أهلكناهم بكفرهم ، وهؤلاء مثلهم بل أيسر منهم فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود (أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) كما أن كفار مكة مجرمون. وقوله (إِنَّهُمْ كانُوا) ، الآية هذا في مقام بيان علّة الإهلاك وهذا السبب موجود في كفرة قريش.

* * *

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى

٣٩٢

عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

٣٨ و ٣٩ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... ثم إنه سبحانه بعد تهديد كفرة قريش باستئصال قوم تبّع لعتوّهم وعنادهم وإنكارهم للبعث والمعاد ، يبيّن صحّة وقوع الحشر والجزاء بقوله : (خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) ليس على وجه اللهو واللّعب ولا عبثا ، بل خلقناهما على وجه المصلحة والحكمة. فإذا كان إيجاد جميع المخلوقات من العدم لمصلحة وحكمة فكيف بعد ذلك نهملهم ونتركهم ضياعا بلا يوم حساب وثواب وعقاب؟ والذي تزعمونه من أن خلقهما كان على وجه العبث ، هو خلاف الفرض ، فلا بدّ من يوم حساب وجزاء ليلقى الإنسان جزاء عمله إن خيرا وإن شرّا ؛ وهذا تفسير قوله (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ) ، إلى قوله سبحانه (لاعِبِينَ) أي لاهين وبلا مصلحة. وفيها تنبيه على ثبوت الحشر ليثاب المؤمن بعمله الصالح والكافر بعمله الطالح. فنحن (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي لغرض صحيح ومصلحة عامة هي الدّاعية لخلقهما (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لقلّة نظرهم وقصره على الدنيا ، أو لتركهم النظر والتفكّر في خلقتهما وأنهما لماذا خلقا.

٤٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ) ... أي فصل الحق عن الباطل ، أو المحق عن المبطل ، و (مِيقاتُهُمْ) موعدهم (أَجْمَعِينَ) أي جميع الخلق.

٤١ و ٤٢ ـ (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى) ... هذه الجملة بدل عن قوله (يَوْمَ الْفَصْلِ) يعني يوم الفصل يوم لا يدفع مولى بقرابة وغيرها عن مولى شيئا أي شيئا من الإغناء أو شيئا من العذاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا يمنعون منه ، ولا يعاونهم أحد من مواليهم وأصدقائهم في دفع

٣٩٣

العذاب. ولمّا كان المولى اسم جنس فلذا جمع الضمير الراجع إليه. فلا يدفع عذاب عن أحد (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي بالعفو عنه والإذن للشّفعاء بالشفاعة له. ويستفاد من الاستثناء أن المراد به هو المؤمن المذنب ، وإلّا فإن هذه الرّحمة إذا كانت من ناحية الشفاعة فلا تشمل أحدا من أصناف الكفرة وما لهم في الآخرة من نصيب (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) القويّ في الانتقام من أعدائه ، أعداء الدّين لأنه الغالب فيما يشاء ولا يغلب فيما أراد (الرَّحِيمُ) اللطيف بأوليائه وأهل طاعته. ولمّا كان سياق الكلام لتهديد الكفار فلذا في مقام الفصل بين الفريقين قدّمهم في شرح أحوالهم وقال فيما يلي :

* * *

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

٤٣ إلى ٤٦ ـ (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) ... الزّقوم شجرة مرّة كريهة الطّعم والرائحة يكره أهل النار على تناولها. وإنها شجّرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنّه رؤوس الشياطين على ما في الآية الشريفة وقد مرّ شرحها وهذه الشجرة (طَعامُ الْأَثِيمِ) قوت من له الإثم الكثير أي باعتبار أوراقها وأثمارها. فهو من باب المجاز في الحذف وقد قال القمّي : نزلت

٣٩٤

في أبي جهل. وعلى هذا فالمورد خاصّ لكن المعنى عامّ لا يختصّ به دون غيره من العصاة العتاة. وثمرها (كَالْمُهْلِ) وهو المذاب من نحاس ونحوه أو هو درديّ الزّيت. وقال القمّي : المهل الصّفر المذاب (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) قال القمّي : وهو الذي قد حمي وبلغ المنتهى. وقيل الحميم الماء الشديد الحرارة.

٤٧ ـ (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) ... أي يقال للزّبانيّة خذوا الأثيم وجرّوه بعنف وشدّة وغلظة ، والعتل هو الأخذ بمجامع الشيء والجرّ بقهر إلى (سَواءِ الْجَحِيمِ) أي إلى وسطه. وقال القمي : أي فاضغطوه من كلّ جانب ثم انزلوا به إلى سواء الجحيم.

٤٨ و ٤٩ ـ (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) ... إضافة العذاب بيانيّة. أي عذاب هو الحميم يصبّ عليه من فوق رأسه ثم يقول له الخزنة تقريعا وتهكّما (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي صاحب الكرامة بزعمك. وكان يقول أبو جهل لعنه الله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس بين جبلي مكة أعزّ وأكرم مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا ، وأنا اعزّ أهل الوادي. فيقول له الملك الموكّل بعذابه (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) استهزاء به وذلك لأن أبا جهل كان يقول أنا العزيز الكريم فيعيّره بذلك في النار.

٥٠ ـ (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) ... أي هذا العذاب هو ما كنتم به تشكّون وتمارون فيه. ثم إنه سبحانه بعد شرح أحوال أهل الكفر والنفاق شرع في بيان ما أعدّ للمتّقين بقوله :

* * *

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ

٣٩٥

(٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧))

٥١ و ٥٢ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) ... أي في موضع إقامة دائميّة يأمن صاحبه من الحوادث والآفات والمكاره ومن الغير والفناء. والمقام بالفتح أقوى ومعناه هو موضع القيام ومكانه وبالضمّ مقام موضع السّكون والإقامة. فالمتّقون آمنون (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي في بساتين وعيون المياه العذبة الصّافية النابعة فيها الجارية بين حدائقها وقصورها.

٥٣ ـ (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) ... أي من الدّيباج الرّقيق (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو الغليظ منه (مُتَقابِلِينَ) أي متواجهين في مجالسهم ومحافلهم ليستأنس بعضهم ببعض.

٥٤ ـ (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) ... أي هكذا كما وصفناه حال أهل الجنّة ، ونضيف عليها أنّنا (زَوَّجْناهُمْ) أي قرنّاهم (بِحُورٍ عِينٍ) جمع حوارء بمعنى البيضاء و (عِينٍ) جمع عيناء أي بيض واسعات العيون. وقد ذكر بعض المفسّرين في اوصافهن ما تعافه العقول وتمجّه الأسماع من أنهن من ياقوت ومرجان ، أو يرى مخّ سوقهن إلى غير ذلك من الأوصاف السمجة التي هي في الواقع حطّ من قدرهنّ وتنقيص من شأنهنّ. نعم لا بد أن يقال إنهن كأحسن ما يكون من النساء صفاء وجمالا وطهارة وليس فوق هذا مطمع لطامع ولا زيادة لمستزيد. وهذا يكفي في

٣٩٦

مقام الترغيب والتحريض وليس معنى هذا أنهنّ كسائر نساء الدنيا بل المراد أنهن من نوعهن مع الفارق فوق ما يتصوّر ويتعقّل من الصفاء والبهاء والرشاقة والحسن. والنعومة والأنوثة لأن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعث ربّ العزّة عليّا عليه‌السلام فأنزلهم منازلهم من الجنة فزوّجهم ، فعليّ والله الذي يزوّج أهل الجنة في الجنة وما ذاك إلى أحد غيره كرامة من الله وفضلا فضّله الله ومنّ به عليه عليه‌السلام.

٥٥ ـ (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) ... أي يطلبون ويرغبون بكلّ نوع من أنواع الفواكه التي يشتهون في كلّ وقت ومكان ، ولا يتخصّص شيء منها بمكان ولا زمان (آمِنِينَ) من ضررها وسقمها ووجعها ، كلّها شفاء ورحمة للمؤمنين.

٥٦ ـ (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) ... أي يبقون أحياء في الجنة لأنّه لا موت فيها. فالسّالبة منتفية لانتفاء موضوعها (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) نعم ذاقوا مرارة الموت الأول ولكنّه كان في الدّنيا. فالاستثناء منقطع (وَوَقاهُمْ) أي جنّبهم ربّهم (عَذابَ الْجَحِيمِ) تفضّلا منه وكرما جزاء بما كانوا يعملون. كما أشار إليه سبحانه بقوله :

٥٧ ـ (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) ... لأنه سبحانه خلقهم وأنعم عليهم وركّب فيهم العقل وكلّفهم وبيّن لهم من الآيات ما استدلّوا به على وحدانيته وحسن طاعته فاستحقّوا به النّعم العظيمة. ثم جزاهم الحسنة عشر أمثالها فكان ذلك تفضّلا منه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنّه خلاص من المكاره ونجاة من الحوادث وفوز بالمطالب والمقاصد.

* * *

٣٩٧

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

٥٨ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) ... حيث أنزلنا القرآن بلسانك وبلغة قومك ليفهموه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) اي يتّعظون بما فيه ويعملون بما أمر. وهذه فذلكة للسّورة.

٥٩ ـ (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ... أي فانتظر ما يحلّ بهم من العذاب (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحلّ بك من الدّوائر ولكن عليهم دائرة السّوء. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام أنه سئل : كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كلّ سنة؟ قال إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدّخان في كلّ ليلة مائة مرّة ، فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنّك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه.

٣٩٨

سورة الجاثية

مكيّة إلا الآية ١٤ فمدنيّة وآياتها ٣٧ نزلت بعد الأحقاف.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

١ ـ (حم) ... قد مرّ قولنا فيه مكرّرا سابقا تفسيره فلا نعيده.

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) ... أي أن إنزال القرآن كان من عند الله (الْعَزِيزِ) الغالب على جميع الكائنات (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة والتدبير في

٣٩٩

موجوداته وتنزيل الكتاب مبتدأ ، والظرف خبره كما فسّرناه على هذا التركيب ، وقيل بتراكيب أخر.

٣ و ٤ ـ (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ... الظاهر أنّ السّماوات والأرض أخذا بعنوان الظرفيّة (لَآياتٍ) والمراد بالآيات السّماوية هي النجوم السّيارة والكواكب الثّابتة المرئيّة. وأمّا ما فيها من الأمور غير المرئيّة فآيتيّتها ثابتة لمن يعلم بها من أي طريق وبأيّ سبب كان. وأمّا الارضيّة فهي عبارة عن الجبال الراسية والأشجار الثابتة والحيوانات الماشية وغير الماشية ، والبحار الراكدة والمياه الجارية والعيون النابعة والنّباتات القائمة على ساقها والمفروشة المبسوطة على وجه الأرض وغيرها من الأمور الدالّة على قدرة قاهرة من مقتدر مطلق نافذ في كلّ شيء. ويحتمل أن يكون المراد من الشريفة أنّ نفس السماوات والأرض (لَآياتٍ) أي لهما في حدّ ذاتهما آيتيّة على التوحيد لبداعة خلقهما وغرابة صنعهما. وبعبارة أخرى : في خلق السّماوات والأرض ، فالكلام على تقدير المضاف. ويؤيّد هذا التقدير قوله (وَفِي خَلْقِكُمْ) في الآية الآتية و (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فيهما لعلائم ودلائل تدلّ على الصّانع المقتدر الحكيم. وتلك الآيات دلائل على الخالق وعلى توحيده (لِلْمُؤْمِنِينَ) الّذين يصدّقون بالله وبالرّسل ، وهم المنتفعون منها لأنهم أهل النظر والتفكّر ، نظر اعتبار وتدبّر. وكذلك بالنسبة إلى خلق أنفسهم وتنقّلها من حال إلى حال ومن هيئة إلى هيئة ، فمن عروض هذه العوارض غير الاختياريّة ينتقلون إلى من بيده الأمر والاختيار والقدرة والتصرّف كيف يشاء وهذا وجه اختصاصهم بالذكر. (وَ) كذلك (فِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) معناه وفي خلقه إيّاكم بما فيكم من بدائع الصّنعة وعجائب الخلقة وما يتعاقب عليكم من الأحوال من مبدأ خلقكم في بطون الأمّهات إلى انقضاء الآجال ، (وَ) في خلق (ما يَبُثُ) أي يفرّق وينشر على

٤٠٠