الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

٥١ ـ (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) ... أي أذاع في ناديهم ، وفيما بينهم بعد كشف العذاب والأمن عنه ، مخافة أن يؤمن بعضهم بإله موسى (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) خداعا لهم بافتخاره بأمرين أحدهما كونه ملك مصر وسلطانها ، وثانيا جري الأنهار الأربعة من تحت قصوره بكيفيّة خاصّة بها (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) وكانت الأنهار التي تجري من تحت القصور أربعة كما قلنا آنفا. ولمّا كانت القصور مبنيّة عليها فقهرا تقع الأنهار تحتها وبهذه الجهة عبّر بجريها تحتها ، وكانت منشعبة ومنشقّة من النّيل ، وكانت الأنهار المنشقة منه كثيرة قيل إنها كانت تبلغ ثلاثمئة وستين شعبة. وهذه الأنهار الأربعة كانت معظمها وكانت تسمّى بالطّولون ونهري الملك ونهر دمياط ونهر تنيس. ولما احتجّ بقوّة جاهه وسطوته قال (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تعترفون بما قلت؟ وكان نظره أن يأخذ منهم الإقرار والتصديق حتى يترتّب عليه النتيجة بأنه أحق أن يكون

٣٦١

رسولا على زعم موسى بأنّ للخلائق إلها غير فرعون كما يصرح بذلك كما حكى الله تعالى قوله :

٥٢ ـ (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) ... تقدير الكلام أم تبصرون بأني خير؟ فعلى هذا (أم) متّصلة بما قبله ، أي أفلا تبصرون؟ ويحتمل أن (أم) منقطعة كما قال به أبو عبيدة ومعناه على هذا : بل أنا خير من هذا إلخ. والكلام السابق تمّ عند قوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) وقوله (أَمْ أَنَا) كلام مستأنف ، وبناء على الاتصال أقيم المسبب وهو (أَنَا خَيْرٌ) مقام سببه وهو (أم تبصرون) وبناء على الانقطاع (فالهمزة) لتقرير فضله الذي ذكر أسبابه (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي ليس عنده مال ضعيف حقير (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي يظهر كلامه وهذا لأثر بقي في لسانه من العقدة التي أصابته في الطفولة كما ذكرنا سابقا ، ولكن تلك الرتّة زالت عن لسانه حين أرسله الله كما أخبر الله تعالى في دعائه حين بعثه إلى فرعون (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) ثم أجابه سبحانه. (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ويمكن أنه عيّره اللعين بما كان في لسانه قبل ذلك.

٥٣ ـ (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ) ... أي هلّا طرح عليه أسورة الذهب إن كان صادقا في نبوّته ، وألقي إليه مقاليد الملك؟ وهذا لأنهم كانوا إذا سوّروا رجلا سوّروه بسوار من ذهب وطوّقوه بطوق منه ، ويعطونه المال والملك قدر شأنه. قال أمير المؤمنين سلام الله عليه في نهج البلاغة : ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون على فرعون وعليهما مدارع الصّوف ، وبأيديهما العصا فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه. فقال : ألا تعجبون من هذين يشترطان لي دوام الملك وهما بما ترون ، فهلّا ألقي عليهما أسورة وطوّقا بطوق من ذهب؟ (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي متتابعين يعينونه على أمره ويعضدونه فيه ويصدّقونه بصحة دعواه في نبوته. ثم قال سبحانه :

٣٦٢

٥٤ ـ (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) ... أي فوجدهم خفيفي العقل والرأي حيث أحسّ منهم القبول لما قال من المقدّمات الواهية لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل كقوله (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) إلخ ولو كانوا عقلاء لردّوا عليه قوله ولرفضوا هذه التسويلات الفاسدة والتخيّلات الرّكيكة فدعاهم إلى أطاعته في جميع أوامره ونواهيه (فَأَطاعُوهُ) أي قبلوه وأجابوه بانقيادهم له (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي أن القبطيين كانوا جماعة خارجين عن دائرة عبوديّة ربّ العالمين حيث آثروا فرعون على موسى وفضّلوا الدّنيا الفانية على الآخرة الباقية وعتوا على نبيّ الله ولم يقبلوا دعوته وخرجوا عن طاعته إلى حربه ومعاركته.

٥٥ ـ (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) ... أي آسفوا رسلنا ، على حذف المضاف لأن الأسف بمعنى الحزن وهو لا يجوز عليه سبحانه. وقوله (انْتَقَمْنا) أي اقتصصنا منهم ثأرا لأوليائنا ، لأنّ الانتقام من العدوّ لتشفّي القلب. وهذا المعنى لا يتطرق ولا يتعقّل فيه عزوجل فلا بدّ أن نحمله على ما فسّرناه في الموردين بقرينة المقام. والمشهور من المفسرين فسّروا الإيساف بالإغضاب أي أغضبونا (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) في اليمّ. وفي الكافي والتوحيد عن الصادق عليه‌السلام أنه قال في هذه الآية : إنّ الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا ، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضى نفسه وسخطهم سخط نفسه ، وذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه ، فلذلك صاروا كذلك. وللرواية تتمّة ونحن نقتصر منها على مقدار ما يؤيّد ما فسّرنا الشريفة به.

٥٦ ـ (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) ... أي قدوة لمن يوجد بعدهم من الكفرة والجحدة حتى لا يقتدوا بهم في الاستحقاق لمثل عقابهم (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي عبرة وعظة لهم ليعرفوا أن حالهم حال هؤلاء إذا أقاموا

٣٦٣

على العصيان. وقيل فجعلناهم (سَلَفاً) معناه متقدّمين إلى النار ، و (مَثَلاً) للآخرين مثلا سائرا وجاريا على الألسن حتى يعتبر الناس من التذكّر لقصّتهم العجيبة من شقّ اليمّ وعبور النبيّ موسى (ع) وإغراق فرعون ومن معه من القبطيّين بأجمعهم ، وقذف البحر لجسد فرعون وجده بعد إهلاكه للاعتبار وإظهارا لقدرته عزوجل حتى يعرفوا بذلك خالقهم ويصدّقوا نبوّة موسى سلام الله عليه عن يقين.

* * *

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))

٥٧ ـ (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) ... اختلف في المراد به على وجوه ، وكذلك في وجه مناسبة ذكره هاهنا بأية مناسبة ذكر. أمّا مناسبة ذكره فيمكن أن تكون لذكر آيات قبيل هذه راجعة إلى موسى عليه‌السلام ،

٣٦٤

منها قوله سبحانه : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) ومنها قوله : (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) وهذه الآية (لَمَّا ضُرِبَ) مع ما بعدها أي مع ذيلها (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) كانت مشتملة على ما اشتملتا عليه من المثل السّاري ، وضحك الأمّة على نبيّها عليه‌السلام استهزاء واستخفافا به. وبهذه المناسبة كانت هذه الآيات تتعقّب آيات قصّة موسى (ع). وأمّا المراد منها فإن معناها يتّضح بنقل رواية في الكافي عن أبي بصير قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس ذات يوم إذ أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له رسول الله (ص) : إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم ، ولو لا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من الناس إلّا أخذوا التّراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة. قال فغضب الأعرابيّان والمغيرة بن شعبة وعدّة من قريش معهم فقالوا ما رضي أن يضرب لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم؟ فأنزل الله على نبيّه (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) أي لمّا جعل النبيّ الأكرم عليّا (ع) شبيها بعيسى في جهات لم يقلها خوفا من الأمّة فقهرا يصير عيسى شبيها ومثلا لعليّ عليه‌السلام (إِذا قَوْمُكَ) أي قريش وأمثال قريش (مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي يضحكون على ما في المعاني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنه قال في هذه الآية : الصدود في العربيّة الضّحك وكان ضحكهم ضحك تمسخر واستهزاء على الظاهر. وقيل يصدّون أي يعرضون عن الحق ، وقيل يضجّون ويصيحون ، ولعل صياحهم من باب التّمسخر أو سرورا ونوحا لظنّهم أنّ الرسول صار ملزما ومفحما به. بيان ذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد مقالته في عليّ (ع) كما في الرّواية استشاط القوم حسدا ونفاقا وتغامزوا وضحكوا في المجلس وقالوا : ما رضي أن يضرب .. إلى آخر ما في الرّواية ، وزعموا أن الرّسول ملزم بذلك ثم قالوا : حيث إن عليّا (ع) إذا كان شبيها بعيسى ، فآلهتنا خير من عيسى. وإذا كان عيسى

٣٦٥

معبودا فآلهتنا أولى بذلك ، فحكى قولهم سبحانه (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ) أي من هذا المثل (يَصِدُّونَ) ونزلت أيضا :

٥٨ ـ (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) ... أي أم عيسى. فالضّمير راجع إلى عيسى عليه‌السلام وكان نظر القوم في هذه المجادلة والمخاصمة بقصد تحقير عليّ عليه‌السلام لأن معنى قولهم (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ) أم عيسى هو أن عيسى الذي كان عليّ شبيها به ومماثلا له ، فآلهتنا من الأصنام خير منه. وما قالوا هذا الكلام إلّا جدلا وعنادا لعليّ (ع) وللرسول (ص) أيضا. وبعد كلامهم هذا (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ ...) سكت النبيّ وما أجابهم انتظارا للوحي فظنّوا أن النبيّ صار ملزما ولذا ضحكوا سرورا زعما منهم بأن النبيّ أمضى كونهم على حقّ في عبادة الأصنام لأنها خير من عيسى ، فإذا كان هو معبودا للنصارى فالأصنام أولى بالعبادة. وفي المقام روايات كثيرة ونحن نذكر رواية أخرى منها تأييدا للمراد من الآية. ففي القمّي عن سلمان الفارسي رضوان الله تعالى عليه قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في أصحابه إذ قال : إنه يدخل عليكم الساعة شبيه عيسى بن مريم (ع) فخرج بعض من كان جالسا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون هو الدّاخل ، فدخل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال الرّجل لبعض أصحابه : أما رضي محمد أن فضّل عليّا علينا حتّى يشبهه بعيسى بن مريم؟ والله لآلهتنا التي كنّا نعبدها في الجاهلية أفضل منه أي من علي ، فأنزل الله في ذلك المجلس (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ) يضجون فحرّفوها (يَصِدُّونَ) وقالوا (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي شديد والخصومة حريصون على اللّجاج و (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما بيّنوا هذا العنوان والمثل إلّا ليخاصموك حيث يحبّون الخصام والجدال لا لتميز الحق عن الباطل ولا بحثا عن الحق. وعلى هذا التفسير فالضمائر الآتية راجعة

٣٦٦

إلى عليّ عليه‌السلام لكننا جعلناها لعيسى على ما هو الظاهر.

٥٩ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) ... أي ما عيسى إلّا عبد متّعناه بنعمة النبوّة (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) كما في الغرابة من خلقه ومولده من غير أب. وقد أشار سبحانه في هذه الشريفة إلى أن عيسى مخلوق مثلكم لا أنّه معبود ، ونحن خلقناه خلقة غريبة من غير أب بحيث صار مثلا لأولاد يعقوب حتى شرّفناه بمنصب الرسالة وجعلناه آية للنّاس يعرفون بها قدرة الله ويشبّهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله. وهذا معنى قوله تعالى (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وقيل في تفسيرها وجه آخر وهو أن المشركين ضربوا بابن مريم مثلا. بيان ذلك أنّه لمّا نزل (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) فقال المشركون أو ابن الزبعرى : إن النّصارى يعبدون عيسى وقد رضينا أن تكون آلهتنا معه. وإذا جاز أن يعبد عيسى فالملائكة أولى بذلك لأنه بشر والملائكة أشرف وهم أولى بذلك من البشر. ثم إنه سبحانه تنبيها على قدرته الكاملة وترهيبا للبشر قال :

٦٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) ... أي لو اقتضت الحكمة والمصلحة لأهلكناكم لنجعل بدلا منكم في الأرض ملائكة يخلفونكم ، يعني يقومون مقامكم. والحاصل أنّ خلق عيسى (ع) ولو كان عجيبا عندكم لكنّنا نقدر على أعجب من هذا من إهلاك جميع البشر وإفنائهم عن وجه الأرض وإبدال الملائكة منكم ، إمّا بإنزالهم من السّماء أو بإيلادهم منكم ، أو بابدالكم بهم ، أو بإيجادهم في الأرض خلق السّاعة ، وكلّها عند قدرتنا على السّواء ، والأمر سهل علينا لأننا إذا أردنا أن نقول لشيء كن فيكون قبل أن يرتدّ إليكم طرفكم ، أي بمجرّد إرادة الإيجاد. وبعبارة أخرى بمحض الإرادة يكون المراد موجودا في عالم الخارج ، والتقدّم بين الإرادة والمراد رتبيّ لا زمانيّ ، فلا فصل بينهما أبدا ، وهذه قدرة لا

٣٦٧

يتعقّل فوقها قدرة مطلقا.

٦١ ـ (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) ... أي نزول عيسى عليه‌السلام من السّماء من أشراط السّاعة وقرب يوم القيامة وبنزوله يعلم قربها (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي لا تشكّنّ فيها (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي اتّبعوا ما آمركم به فإنّ هذا دين قيّم وطريق للاهتداء ، وقال القمي : يعني أمير المؤمنين هذا هو الصراط المستقيم ، وإنه لعلم للسّاعة فلا تمترنّ بها.

٦٢ ـ (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) ... القمّي قال : لا يمنعنّكم عن أمير المؤمنين مانع من الناس (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي عدوّ متظاهر في عداوته لكم. ومعنى يصدّنّكم : يجعلكم معرضين عن الحق إلى الباطل.

* * *

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧))

٣٦٨

٦٣ و ٦٤ ـ (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) ... أي الآيات البيّنة نحو شفاء الأبرص والأكمه وإحياء الموتى وغيرها من الآيات الكثيرة الواضحة (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي بالرّسالة أو بالعلم وبالتوحيد والعدل والشرائع ، أو بكتاب فيه الحكم وما تحتاجون إليه وهو الإنجيل (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي من أمر الدّين والدنيا ، وقد جئت لأبينّ لكم الحقّ ولأرفع ما تختلفون فيه وأزيله عنكم. وبعبارة اخرى جئت لإصلاح ذات بينكم حتى تكونوا أمة واحدة فلا تتحزّبوا بعدي (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) فاتّقوا الله أي اجتنبوا معصيته في أوامره ونواهيه وأطيعوني فيما أدعوكم إليه واعلموا أنه لا ربّ لكم إلّا الله الذي تحقّ له العبادة فاعبدوه عبادة خالصة له ، ولا تشركوا به (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي أن تقوى الله وإطاعتي هو الدّين القيّم والطريق الموصل إلى الحقّ والحقيقة ، وخلافه هو الضّلالة لأنه يفضي بكم إلى النّار.

٦٥ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ... أي بعد تلك المقالات التي ألقاها عيسى عليه‌السلام من قوله قد جئتكم بالحكمة ولأبيّن لكم بعض الذي تختلفون فيه من بعدي ، وبيّنه بقوله (فَاتَّقُوا اللهَ) إلى قوله (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يفضي بكم إلى الجنّة وغيره يوصلكم إلى النار ، ومع ذلك كلّه تحزّبوا إلى فرق مختلفة : اليهوديّة والنصرانيّة ، والنصارى صاروا فرقا فرقة قالوا بأن عيسى هو الله ، وأخرى قالوا بأنّه ابن الله ، وطائفة قالوا بأقانيم ثلاثة ، وهو ثالث ثلاثة ، وهذا الاختلاف نشأ من اختلاف الأحبار والرهبان وهم الرؤساء الآمرون (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي المتحزّبين (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي القيامة. والأليم وصف ليوم باعتبار متعلّقه. وفي قوله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وضع مظهر في موضع مضمر للتّصريح بمنشإ العذاب وعلّته ومبالغة في وعيد الأحزاب. ثم إنه سبحانه لوعيدهم زيادة على السابق وللمبالغة في التهديد يقول :

٣٦٩

٦٦ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) ... أي ما ينتظر كفّار مكة غير الساعة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يعني لا يلتفتون إليها لغفلتهم عنها. ثم إنّه جلّ وعلا يصف بعض أحوال أهل المحشر بقوله :

٦٧ ـ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ... أي المتحابّون في الدنيا أصبحوا أعداء في الآخرة. وفي القمي : قال الصّادق عليه‌السلام : ألا كلّ خلّة كانت في الدنيا في غير الله عزوجل فإنها تصير عداوة يوم القيامة (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن خلّتهم لمّا كانت في الله فتبقى نافعة أبد الآباد. وفي مصباح الشريعة عن الصّادق عليه‌السلام : واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض وإن أفنيت عمرك في طلبهم ، فإن الله عزوجل لم يخلق أفضل منهم على وجه الأرض من بعد النبيّين ، وما أنعم الله تعالى على عبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم. قال الله تعالى : الأخلّاء.

* * *

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

٦٨ إلى ٧٠ ـ (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ... أي ينادى به

٣٧٠

المتّقون. والله تعالى يحكي لنبيّه (ص) تلك المناداة التي فيها غاية التلذّذ والسّرور لأهلها (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أيّها المتحابّون في الله في الدّنيا من (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) الموصول في محلّ النّصب على البدل من (عِبادِ) لأنه منادى مضاف. أو هو صفة له. ثم بيّن ما يقال لهم بقوله سبحانه (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) أي نساؤكم المؤمنات (تُحْبَرُونَ) أي تسرّون سرورا يبدو في وجوهكم حبوره وأثره. وفي القمّي : تحبرون أي تكرمون.

٧١ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) ... جمع صحفة ، أي القصعة (وَأَكْوابٍ) جمع كوب. كوز لا عروة له. أي أن الحور العين والغلمان لا يزالون يدورون على الأصدقاء في الله وبأيديهم صواع الذّهب والأكواب المملوءة من ماء الكوثر يسقون بها المتحابين والأصدقاء في الله وأيضا يحملون معهم قصاعا من الذهب فيها ألوان من الأطعمة واكتفى سبحانه بذكر القصاع والكيزان عن ذكر الطعام والشراب. (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أي ما تميل النفوس إليها من أنواع النّعم من المأكول والمشروب والملبوس والمشموم وما تلتذّ الأعين بالنظر إليه والتذاذ الأعين هو التذاذ الإنسان حيث إن التذاذها سبب لالتذاذه. ولا يخفى أنّه سبحانه تظهر فصاحة التعبير عن نعم الجنّة في كتابه الكريم غاية الفصاحة في مقام وصف الجنة من حيث جامعيّتها لأنواع النعم بحيث لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل ما انتظمه هاتان الصّفتان لم يقدروا على الإتيان بمثله (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذه صفة أخرى من أوصافها المهمّة ، ولذا فإنّه تعالى بشّر أهل الجنة بها ، ثم لمّا كان كلّ نعيم زائلا وموجبا لكلفة الحفظ وخوف الزّوال ومستعقبا للتحسّر في ثاني الحال ، فلا قيمة لمثل هذه النعمة الدّنيويّة ، بخلاف النّعم الدائمة الأخرويّة فإنها مبرّأة من ذلك كلّه ونذكر رواية تيّمنا في المقام عن الحجة سلام الله تعالى عليه وعلى آبائه

٣٧١

الطاهرين. ففي الاحتجاج عن القائم عجّل الله تعالى فرجه أنّه سئل عن أهل الجنّة هل يتوالدون إذا دخلوها؟ فأجاب عليه‌السلام : إن الجنة لا حمل فيها للنّساء ولا ولادة ولا طمث ولا نفاس ولا شقاء بالطّفوليّة ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين كما قال الله تعالى. فإذا اشتهى المؤمن ولدا خلقه الله بغير حمل ولا ولادة على الصّورة التي يريدها كما خلق آدم عبرة.

وروى القمّي أن الصّادق عليه‌السلام قال : إن الرّجل في الجنة يبقى على مائدته أيام الدّنيا ويأكل في أكلة واحدة بمقدار أكله في الدّنيا.

٧٢ و ٧٣ ـ (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ... يحتمل أن يكون اسم الاشارة مبتدأ والجنّة خبره ، والموصول وصلته صفة للجنّة. ويحتمل كون الجنّة صفة لاسم الإشارة والموصول وصلته خبر للمبتدأ ، ويحتمل كون الموصول صفة للجنّة مع عدم كونها صفة للمبتدأ والخبر قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وبناء على هذا الاحتمال الأخير فالجارّ متعلق بحاصل المقدّر أو بحصل. والمعنى على الاحتمال الأول : إن تلك الجنة الموعودة هذه التي أورثتموها اليوم. وبناء على الاحتمال الثاني : إن هذه الجنة التي أورثتم من قبل ، أي من إخوانكم الذين كانوا في الدنيا وما أجابوا دعوة الدّعاة إلى الله واختاروا الضلالة على الهداية ونوضح معنى الاحتمال الأخير أيضا حتى يكون من لا خبرة له بالعربية على بصيرة من تفسيرنا إن شاء الله ، وحاصله أنّ هذه الجنة التي أعطيتم على طريق التوارث حصلت ووصلت إليكم بسبب أعمالكم التي صدرت عنكم في الدنيا من أنواع الطاعات والخيرات والمبرّات ، وقد ورثتم المنازل التي كانت للكفّار لو أنهم آمنوا وعملوا صالحا. وعن ابن عباس قال : الكافر يرث نار المؤمن ، والمؤمن يرث جنّة الكافر لقوله أولئك هم الوارثون. والمعنى على الثالث واضح. ومعنى الشريفة ضمنا صار معلوما على جميع الاحتمالات. وإيثار الإيراث على الإعطاء لتشبيه

٣٧٢

الجنّة في البقاء على أهلها بميراث يتوارثه المستحقون ويبقى لهم أبدا (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) جمع سبحانه بين الطعام والشراب والفواكه وبين دوام ذلك فهذه غاية الأمنية. ثم أخبر عن أحوال أهل النار فقال سبحانه وتعالى :

* * *

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

٧٤ و ٧٥ ـ (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ) ... قال القمّي : هم أعداء آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين وهذا تأويله. وأمّا تنزيله فإن أرباب الخطايا والذنوب وكلّ من كان معذبا في جهنم ، و (خالِدُونَ) خبر (إِنَ) والجارّ مع ما يتعلّق به متعلّق به ، وقدّم عليه مبالغة بعذابهم كما أن الآية الآتية بعد هذه مؤكّدة لعذابهم تخويفا لهم ولرجاء رجوعهم عن كفرهم إلى الإيمان. فالمجرمون خالدون في العذاب وهو (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفّف عنهم ، وهم في العذاب محزونون آيسون من الرّحمة ساكتون في حيرة.

٧٦ ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ... أي نحن عذّبناهم بما

٣٧٣

كسبت أيديهم وبجرائمهم الموجبة له فكانوا هم الظّالمين لأنفسهم والجالبين لها العذاب.

٧٧ ـ (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ... أي يدعون خازن جهنّم ، فيقولون : يا مالك ليحكم علينا ربّك ، أي ليمتنا. وهو من «قضى عليه» أي (أماته) قال مالك بعد مائة عام أو ألف : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي أنتم باقون مخلدون في العذاب بلا موت ولا تخفيف.

٧٨ ـ (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) ... المراد من الحقّ هو القرآن ، أو دين الحق وهو الإسلام. يعني لقد جاءكم رسلنا بالحق من عندنا. وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره. ويحتمل أن يكون القائل هو مالك خازن النار ، وإنما قال جئناكم لأنه من الملائكة وهم من جنس الرّسل. وقال القمّي : هو قول الله عزوجل ثم قال يعني جئناكم بولاية أمير المؤمنين (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) قال يعني لولاية أمير المؤمنين كنتم كارهين لأن الحق خلاف مشتهياتكم والباطل موافق لما تميل إليه طباعكم ولذا تميلون إليه وتعرضون عن الحق فإن فيه كلفة التكاليف ، وفي الباطل راحة الحريّة. فأنتم بالطّبع تؤثرون هذه على تلك.

٧٩ و ٨٠ ـ (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) ... (أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) والكلام مبتدأ ناع على المشركين لأنهم لم يقتصروا على كراهة الحق فقط بل أتقنوا النفاق واتّفقوا على أمر وهو تكذيب الحقّ وإبطاله وتصديق الباطل وإثباته ، أو على كيد محمّد والمكر به صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعلى كلّ حال هدّدهم الله وأخبر نبيّه بذلك ، والتفت عن الخطاب إلى الغيبة لمزيد التهديد فقال (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي محكمون ومتقنون أمرا في مجازاتهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) أي حديث أنفسهم (وَنَجْواهُمْ) أي مسارّتهم. وكانوا في دار النّدوة يتشاورون سرّا في كيفية إهلاك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمكر به كما

٣٧٤

أخبره عزوجل بذلك في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ثم قال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ) ، الآية أي هل يظنّون أنّا لا نسمع سرّهم ونجواهم؟ (بَلى) نحن نسمع ذلك وندركه مضافا بأن (رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي الحفظة عندهم لا يزالون يكتبون ما يقولون ويفعلون. وقال القمّي : يعني ما تعاهدوا عليه في الكعبة أن لا يردّوا الأمر في أهل بيت رسول الله (ص) ولا يتنافى ما فسّرنا النجوى به مع ما قال به القمّي رضوان الله عليه ، لأنّهم في دار النّدوة ربّما كانوا يتشاورون في كلا الأمرين بل وفي أمور أخر كما أنّ ديدنهم كان على أن يقعدوا فيها ويتكلموا في مهامّ أمورهم. وعن الصّادق عليه‌السلام أن هذه الآية نزلت فيهم.

* * *

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣))

٨١ ـ (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ... أي فرضا إذا كان له ولد فأنا أولى بعبادة الولد لأنّ تعظيمه تعظيم الوالد والنبيّ مقدّم في كلّ حكم على أمّته.

٨٢ ـ (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... ثم إنه سبحانه نزّه نفسه المقدّسة عن صفات البشريّة التي يصفونه بها. وكونه ذا ولد يستلزم أن تكون ذاته قابلة للتجزّؤ والتبعيض ، وإذا كان ذلك محالا في حقّ إله العالم

٣٧٥

ذاتا بالأدلة العقلية والنقلية ، فامتنع إثبات الولد له. فقوله عزوجل (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) إشارة إجمالية إلى ما ذكرناه إجمالا. وبتوضيح آخر فإن هذه المبدعات منزهة عن توليد المثل فما ظنّك بمبدعها وخالقها؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. ولمّا بيّن سبحانه هذا البرهان التنزيهيّ هدّد المشركين والقائلين بالولد له وقال :

٨٣ ـ (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) ... أي دعهم منغمسين في باطلهم ومتلهّين في دنياهم التي تمرّ عليهم بأيّام قلائل (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ويوم القيامة حيث نجازيهم على خوضهم في الباطل واللّعب في أمور دنياهم.

* * *

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

٨٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) ... أي هو المعبود في السّماء للملائكة

٣٧٦

كلّهم والعبادة منحصرة به تعالى لا معبود فيها سواه (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) اي المستحق للعبادة في الأرض للإنس والجن هو سبحانه لا غيره ، حيث إن الألوهيّة والربوبية في العوالم العلويّة والسّفليّة لا تنبغي إلّا له عزوجل باعتراف جميع البشر الإلهيّين في قبال الطبيعيّين كما يجيء اعترافهم بذلك في ما بعد قريبا (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في صنعه وتدبيره لأمور عباده (الْعَلِيمُ) بمصالح خلقه بل بكلّ شيء تعاظم.

٨٥ ـ (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) ... أي تعاظم وتكبّر من له السّلطة على السّماوات وله التصرّف كيف يشاء فيها (وَ) في (الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي الرّجعة أو علم يوم القيامة (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي عاقبة أمرنا هي الرجوع إليه فيجازي كلّا بعمله. وقرئ بالتّاء وبناء على قراءة التّاء يكون الانتقال إلى الخطاب للتّهديد.

٨٦ ـ (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) ... أي الذين يعبدهم المشركون بدلا عن الله سبحانه لا ترجى الشفاعة منهم وليس لهم أن يشفعوا لعبدتهم لأن أمر الشفاعة بيده تعالى ولا يأذن للشفاعة (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) والمراد (مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) هم عيسى وعزيز والملائكة استثناهم سبحانه ممّن عبد من دون الله فإن لهم منزلة الشفاعة ولكنّهم لا يشفعون إلّا لأهل التوحيد. والمراد (بِالْحَقِ) هو التوحيد و (هُمْ يَعْلَمُونَ) أي ما شهدوا به. والحاصل إن هؤلاء الثلاثة لمّا كانوا من أهل التوحيد فلا يشفعون إلّا لأهل التّوحيد.

٨٧ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) ... أي إذ سألت المشركين من خالقهم (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي يعترفون بأن الله هو خالقهم لوضوحه بحيث لا يقدرون على الإنكار ، وهم مقرّون بأن آلهتهم لا تقدر على الخلق والإيجاد لتعذّر المكابرة فيه من فرط الظهور ، فإذا كان الأمر هكذا فقل لهم : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي فكيف يصرفون ويعرضون عن عبادته إلى

٣٧٧

عبادة غيره؟

٨٨ ـ (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) ... مصدر من (قال) يقول قولا وقيلا والضمير راجع إلى النبيّ ، أي : قول النبيّ (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) وهو عطف على السّاعة ، أي (عنده علم قول النّبيّ يا رب إلخ) فإنه صلوات الله عليه وآله لمّا ضجر من قومه وعرف إصرارهم على الكفر دعا ربّه عليهم وهذا القول قريب من قول نوح عليه‌السلام حيث قال : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) ثم إنه تعالى قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٨٩ ـ (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ... أي فأعرض عن دعوتهم وقل سلام. وقيل هذا سلام هجر ومتاركة لا سلام تحيّة وكرامة. ويحتمل أن المراد به يعني إذا خاطبوك بما يؤذيك فقل سلام ، على ما في قوله تعالى في وصف المؤمنين (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) وكقوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وقيل معناه قل يا محمد : سلام ، تسلم من شرّهم. وهذا ممّا علّمه الله من مكارم الأخلاق (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هدّدهم بيوم القيامة ، وممّا يعاينون من العذاب الذي يحلّ بهم.

* * *

٣٧٨

سورة الدّخان

مكيّة وآياتها ٥٩ نزلت بعد الزخرف.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨))

١ ـ (حم) ... قد قلنا سابقا إن هذه الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ واحد منها في كلّ سورة مبدوءة به يكون قد جاء لمناسبة من المناسبات ولجهة من الجهات التي لا يعلمها إلّا هو سبحانه ومن خوطب بها صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهذه أسرار وأسماء رمزيّة فعلى هذا تكون هذه الأسماء مناديات ، والتقدير : يا حم.

٣٧٩

٢ ـ (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ... الواو للقسم أي أقسم بالكتاب المبين المظهر لأحكام الحلال والحرام والمبين للحق من الباطل.

٣ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ... هذه الجملة جواب للقسم. لكن الطبرسي رحمه‌الله أنكر كونها جوابا وقال : إن جواب القسم قوله سبحانه (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) وقال لا يصحّ كون الجواب (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه ، فإن المنزل هو الكتاب. والمراد باللّيلة المباركة هي ليلة القدر ، ومن بركاتها نزول الكتاب الكريم الذي هو واسطة للمنافع الدنيوية والدينيّة ، في هذه اللّيلة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ومنها إلى النبيّ نجوما وقت وقوع الحاجة والمناسبة التي تقتضي ذلك. فبوركت لهذا ولنزول الرحمة ولتقسيم النّعم وإجابة الدعاء فيها وغيرها. (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة والإنذار : الاعلام بمواضع الخوف ليتّقى ، وبموضع الأمن ليجتبى ، فالله عزّ اسمه قد أنذر عباده بأتمّ الإنذار من طريق السمع والعقل. ونسبة الإنذار إلى ذاته المقدّسة باعتبار أنّ إنذار الرّسل بأمره ، إنذاره.

٤ ـ (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ... أي في ليلة القدر يفصل ويفرز ، ومنه فصل الخصومات. و (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي كلّ أمر من الحق والباطل أو يقدّر الله في تلك الليلة من أمور السّنة ما يحدث في تلك السّنة وله تعالى فيها البداء والمشيئة ، يقدّم ما يشاء ويؤخّر من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ، ويزيد فيه ما يشاء وينقص ، ويلقيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو إلى الأئمة ، حتى ينتهي إلى صاحب الزمان عليهم‌السلام ويشترط له فيه البداء والمشيئة والتقديم والتأخير. والمراد بالحكم المحكم ليس بشيئين إنما هو شيء واحد. أو المراد به أمر ذو حكمة. وقد قال الإمام الكاظم عليه‌السلام : حم : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والكتاب المبين : أمير المؤمنين

٣٨٠