الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

ونعمة أخرى هي : (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا وفجاجا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم ، أو المراد من الاهتداء هو الهداية إلى حكمة الصّانع وإلى قدرته الكاملة بالنظر في هذه الأمور.

١١ ـ (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) ... أي بمقدار نافع لا يضرّ ، يعني بمقدار حوائج الموجودات بلا زيادة ولا نقيصة ، فإن الزيادة تفسد والنقصان يضرّ ، وفي ذلك دلالة على أن هذا التنزيل من حكيم قادر مختار قد قدّره على مقتضى حكمة اقتضته لعلمه الكامل بذلك (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أي فأحيينا بذلك الماء المنزل (بَلْدَةً مَيْتاً) أي يابسة جافة ، وإحياؤها باخضرارها بالنبات والأشجار والثّمار على اختلاف أنواعها وأصنافها (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي كما كنّا قادرين على إحياء الأرض الميتة بأن نخرج نباتها وأشجارها بأسبابها العاديّة حيث إن الدنيا دار أسباب وعلل ، كذلك نحن قادرون على إخراجكم من مراقدكم يوم البعث والنشر أحياء ، لأن قدرتنا على السّواء بالنسبة إلى جميع شؤون المكوّنات وذواتها. وهذه ، أي تنزيل الماء من السماء وإحياء البلاد وإحضار الناس يوم البعث من النعم الجسيمة.

١٢ ـ (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) ... أي أصناف المخلوقات كلّها ، أو المراد أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، لكن الظاهر بقرينة السّياق هو الأول. ويحتمل أن التعبير بالأزواج يكون للإشارة إلى أن أصناف الكائنات كلّها أزواج من ذكر وأنثى ، غاية الأمر أن زوجيّة كلّ شيء بحسبه وما يناسبه ، فزوجية الحيوان بكيفيّة مركّبة من ذكر وأنثى حقيقيّة ، والأشجار بكيفيّات أخرى كما في النخل كيفيّة تلقيحه المعروفة ولو لا التلقيح لما أثمر الشجر ، ففي أيام الربيع تجري الرّياح الملقّحة عليه ومنه على الآخر من الأشجار. وهذه القضية يعرفها الفلاحون وأصحاب البساتين وجميع من

٣٤١

عنده معرفة بعلم النبات. وبالجملة فإن كون الأشياء بحذافيرها مزوّجة مطلب مبرهن عليه في كتب علم الأشياء ، وأيضا يستفاد من بعض الآيات الشريفة أن الموجودات كذلك بتمامها وكمالها والله سبحانه أعلم بما خلق. ثم إنه تعالى يذكر نعمة أخرى من نعمه العظيمة بقوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) فهو تعالى يشير إلى حكمة وهي أنه خلق الأنعام للركوب ، وجعل لنا الفلك من أجل الاستواء على ظهورها كما يقول سبحانه :

١٣ و ١٤ ـ (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ...) أي لتستقرّوا عليها في البحر والبرّ في الحضر والسفر ولتستقيموا على ظهورها ، والضّمير يعود إلى الموصول وهو لفظ (ما) وذكر الاستواء بعد قوله (ما تَرْكَبُونَ) من ذكر الخاصّ بعد العامّ فإن الاستواء على ظهره هو الاستقرار والاعتدال على ظهر الدابّة ، والركوب أعمّ من تلك الحالة (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي إذا اعتدلتم واستقررتم عليها بأن استرحتم فلا بدّ من ذكر هذه النعمة التي منّ الله تعالى بها عليكم حيث نجّاكم وخلّصكم بها من وعثاء السفر وكآبة حمل أثقالكم من بلد إلى بلد (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) فالإنسان إذا تذكّر حالته قبل خلق هذه النّعم ، يشكر الله على حالته بعد وجدانها واستفادته منها لأنها تسهّل تنقّلاته وينبغي شكرها بل العبد المنصف المطيع له تعالى يلتذّ ويشتهي شكر نعمة ربّه وبالأخصّ هذه النّعم الجسيمة. ولعل المراد (بذكر النعمة) هو التذكر بالقلوب والاعتراف بها حامدين عليها بالألسن وذلك ان يذكروها بقلوبهم معترفين بها حامدين عليها وبألسنتهم على ما علّمهم الله تعالى في كتابه (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي جعله مطيعا ومنقادا لنا (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مقاومين له وقرناء معه في القوّة ، فلا طاقة لنا به لو لا أن الله سخّره لنا (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ولمّا كان الركوب على

٣٤٢

المراكب لا يخلو من نخوة وتفاخر ولا سيّما الركوب على بعض الأفراس وبعض أفراد البواخر المعدّة للرّكوب والسّفن البحريّة العصريّة والطيارات الجويّة السريعة غاية السرعة والسّيارات التي يجد الراكب عليها في نفسه من التبختر والتكبّر ما لا يجد الراكب على غيرها والماشي على رجليه كما هو المشاهد بالوجدان ، ينبّه عباده لطفا منه سبحانه عليهم في جميع حالاتهم بأنّ آخر مراكبكم من مراكب الدنيا هي الجنازة التي تنقلكم من عالم الفناء إلى عالم البقاء وهي النقلة العظمى لا النقلات اللواتي تحصل بالمراكب الدنيويّة من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ، فلا ينبغي للإنسان العاقل أن يفتخر ويتكبّر بركوب شيء عمّا قريب يفنى ويزول وتعقبه الجنازة ، ولهذا اتّصل بكلامه السابق وعقّبه بقوله : (إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي إنّا إليه راجعون. وبعض أرباب التفاسير ذكروا وجوها لاتصال هذه الجملة بما قبلها ومن أراد فليراجعها ، ولعلّ ما ذكرناه كان أحسن الوجوه وأوجهها والله أعلم. ولنختم الآية الشريفة برواية مباركة وردت في مقام ذكر خواصّها وهي ما في الكافي عن الرّضا عن أبيه صلوات الله وسلامه عليهما : إن خرجت برّا فقل الذي قال الله عزوجل (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا) ، الآية فإنّه ليس من عبد يقولها عند ركوبه فيقع من بعير أو دابّة فيصيبه شيء بإذن الله.

* * *

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ

٣٤٣

وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠))

١٥ ـ (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) ... أي بقولهم مع اعترافهم بأنه خالق الأشياء كلّها : الملائكة بنات الله ، أو عيسى بن الله ، لأن الولد جزء من أبيه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة منّي يؤذيني من يؤذيها ومن يؤذيني فقد آذى الله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي جاحد لنعم الله مظهر لكفره بنسبة الولد إليه. قال ابن عباس : إن قريشا زعموا أن الملائكة بنات الله.

١٦ و ١٧ ـ (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) ... أنكر سبحانه ذلك عليهم ، لأن الاستفهام للإنكار. فيكون بمعنى (بل) وترجمة الآية أنه قال تعالى على سبيل التوبيخ والتعجب : بل اتّخذ مما يخلق البنات اللواتي هنّ بزعمهم في غاية الدّناءة وهنّ أخسّ وأنقص الأولاد (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي وآثر البنين لكم وهم أشرف الأولاد. فأيّ عاقل يقبل ويعتقد بأن يكون أولاد المخلوق أشرف من أولاد الخالق عزوجل لكنها أنقص وأخس بل كانت أبغض الأولاد بل أبغض الأشياء عندهم كما أخبر سبحانه وتعالى (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) كناية عن البنات ، يعني إذا بشّر بأنه وضع لك بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) بما يلحقه من الهمّ والحزن ولما يعتريه من الكآبة (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء من الغيظ والكرب. والمراد بقوله (بِما ضَرَبَ) أي بالجنس الذي جعله شبها لأن الولد من جنس الوالد وشبهه ومماثله.

٣٤٤

١٨ ـ (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) ... يوبخهم سبحانه بنسبة البنات إليه بقوله هذا. أي أينسبون إليّ من نشأ ونما في الزينة ويتربّى في النعمة ، يعني البنات اللّواتي همّهنّ زينة الحياة الدنيا (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي والحال أنه في مقام إثبات الحجة على خصمه عاجز ولا يقدر على الإتيان ببرهان ليتمّ الحجّة على الخصم وهذا ليس إلّا لنقصان عقلها وضعف فكرها ورأيها. ونقل عن قتادة أنّه قال قلّما تكلّمت المرأة فأرادت أن تتكلّم بحجّتها إلّا تكلمت بالحجة عليها لا لها. فهل الذي كان بهذه الحالة قابل لأن يتّخذه الله عزوجل ولدا؟ وإذا أراد نعوذ بالله اتّخاذ الولد فيتّخذ أحسنه فكرا وأصوبه رأيا أي البنين. والاستفهام إنكاريّ كما لا يخفى ، أي لا يكون ذلك أبدا. والعجب كلّ العجب من الحكومات العصرية التي تعتقد أنها ترقّت في آرائها وأفكارها أكمل الرقيّ ، اتخذت في إداراتها ومختلف شؤونها النساء وهي تؤثرهنّ على الرجال في تفويض الأمور إليهن. والحاصل أن الكفرة نسبوا إلى الله سبحانه الولد ونسبوا إليه اخسّ النوعين وهو البنات ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وتذكير الضمير باعتبار لفظ (مَنْ).

١٩ ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ) ... هذه الجملة تشنيع وتوبيخ آخر منه تعالى لهؤلاء الجهلة الجحدة حيث قالوا إن الملائكة الذين هم أكمل العباد وأكرمهم على ربّهم (إِناثاً) فجعلوهم أنقصهم رأيا وأخصّهم صنفا. ولذا ردّا لقولهم السّخيف وإنكارا له وتوبيخا للقائلين يقول سبحانه : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي هل كانوا حاضرين مشاهدين حين خلقهم؟ لأن العلم بالأنوثة لا يتصوّر بلا مشاهدتها. وهذه الجملة تجهيل وتهكّم وسخرية بهم. ثم إنّه سبحانه هدّدهم وتوعّدهم بقوله عزوجل : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) الكاذبة بأنهم إناث (وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم يقوم الأشهاد. ثم يذكر تعالى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم نسبوا

٣٤٥

عبادتهم للملائكة إلى إرادة الله على ما حكى الله عنهم :

٢٠ ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ... ومن الآية يستفاد أنهم كانوا قائلين بمذهب الجبر وهو سبحانه يردّ قولهم فيما قال (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي لا يعلمون صحّة ما يقولونه لأنه دعوى بلا دليل فتكون هذه المقالة في الاصطلاح مجادلة ، وإذا كانت مع الدليل فحجة ومن ذلك يظهر فساد قول المجبرة أنّ كفر الكافر يقع بإرادة الله فأبطل سبحانه قولهم وزيّف هذا الاعتقاد بقوله : (ما لَهُمْ) إلى قوله (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلّا يكذبون. وتدلّ الآية على أن الجبر والشّرك بمثابة توأمين فالمجبرة تحسب مشركة. ولما كان إثبات الدّعوى إمّا بدليل عقليّ أو نقليّ ، وكان مدّعى بني مليح خاليا عن كليهما وعاريا عن الاثنين فلهذا نراه سبحانه ، بعد ذكر عدم الدّليل العقليّ على مدّعاهم ، يذكر عدم البرهان النقلي أيضا عليه. ويقول سبحانه ما يلي :

* * *

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ

٣٤٦

قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

٢١ و ٢٢ ـ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) ... هذا استفهام بمعنى التقرير لهم على خطئهم ، والتقدير أهذا الذي ذكروه شيء تخرّصوه وافتعلوه ، أم آتيناهم كتابا من قبل القرآن ينطق بصحة ما قالوه (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي محتجّون به لإثبات دعواهم؟ وقد تقرّر أن كتابا مشتملا على هذه الدعوى ما نزل على أحد من الماضين فلا حجة نقلية أيضا لهم ، نعم تمام دليلهم على مدّعاهم هو قولهم : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة ودين وملّة كانت مقبولة عندهم (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي نحن نعتقد ونعتمد أنهم كانوا على الحق فنتّبع إثرهم في هذه الدعوى ونقتدي بهم ونحذو حذوهم ، ونعلم بأنّا على الهدى لا الضلالة. ونستفيد من المباركة أنّ بني مليح كانوا جامعين لصفات الشّرك والجبر والتقليد. ثم إنه سبحانه تسلية للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

٢٣ ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) ... أي كما أنّ هؤلاء من شرفاء قومك لا مستند لهم في الكفر إلا التقليد فإننا ما أرسلنا في الأمم السابقة في القرى والبلدان نذيرا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي أرباب الأموال وأهل الشرف منهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فما كان للسابقين من الأمم جواب إلّا التقليد لآبائهم. وفي تخصيص المترفين إشعار بأنّ حبّ المال ونخوة الرّئاسة وحبّها أوردهم وادي الضلالة والتقليد ، وصرفهم عن استماع دعوة الرّسل وأعرضوا عن قبولها وكانت عاقبة أمرهم نارا ، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة ولمّا استمع النبيّ (ص) هذا الكلام منهم ، أمره سبحانه أن يقول :

٣٤٧

٢٤ ـ (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى) ... أي أتتّبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم. وإيراد لفظ (بِأَهْدى) من باب حسن التلطّف في الدعوة ومع ذلك (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قالوا هذا في مقام الجواب إقناطا للسّائل كيلا ينظر أو يتفكر في أمرهم بعد ذلك. فلمّا جحدوا وأجابوا جواب يأس وإقناط هدّدهم الله تعالى تهديدا شديدا بقوله :

٢٥ ـ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) ... أي بإهلاكهم والتعجيل في عقوبتهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) للأنبياء والرّسل وما جاؤا به من عند ربّهم ، فلا تكترث ولا تحزن لتكذيبهم. ولمّا ذمّ سبحانه التقليد في أمر الدّين ، أي في أصوله ، وأمر باتّباع الحجة والدّليل ، فلذا عقّبه بقصّة إبراهيم عليه‌السلام الذي كان تابعا للدّليل والحجة في دعواه ، وقال :

* * *

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

٢٦ و ٢٧ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ... أي واذكر يا محمد الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه وقومه (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) براء مصدر وصف به عليه‌السلام. وقيل إن المراد بأبيه هو عمّه آزر وكان

٣٤٨

قومه يعبدون الأوثان والكواكب ، فلمّا خرج إليهم ورآهم يعبدون غير الله أفضى إليهم أنني رسول الله إليكم وأنا بريء من هذه الأشياء التي تعبدونها وأنها الآلهة بزعمكم ولا إله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي لا إله إلّا الذي خلقني ، فإنه هو الذي يهديني إلى الدّين الحق وطريقته المستقيمة وهو أهل لأن يعبد لا الأخشاب المنحوتة والأحجار المنقورة أو الكواكب المخلوقة العاجزة المسخّرة.

٢٨ ـ (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) ... جعل الله ، أو إبراهيم ، الكلمة الّتي قالها (أي القول بأنه لا إله إلّا الّذي فطرني) وهي كلمة التّوحيد وأرادها أن تبقى (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي في ذريّته ليكون فيهم دائما من يوحّد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، ويكون إماما وحجة على الخلائق (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يتوبون ويرجعون عمّا هم عليه من الشّرك إلى أبيهم إبراهيم بالاقتداء به في توحيد الله كما اقتدى الكفار بآبائهم في الشّرك ، أو يرجعون إلى عبادة الله تعالى. ثم إنه سبحانه بعد ذكر قصّة إبراهيم يذكر نعمه على قريش ويقول لم أعجّل ، بسبب كفرهم وإشراكهم ، في عقوبتهم وإهلاكهم كما كنت أفعل بالأمم السالفة الجحدة للرّسل بل أمهلتهم لإتمام الحجة عليهم :

٢٩ ـ (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) ... أي أمهلتهم متنعّمين في عصر النبيّ الأكرم وآباءهم بالمدّ في أعمارهم والإكثار في نعمهم ، فاغترّوا بذلك وانهمكوا في الشّهوات (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي القرآن المشتمل على الآيات الدالّة على الصّدق أو الدالّة على كلمة التوحيد أو على كليهما كما هو الظاهر. والمراد بالرّسول المبين هو نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو ظاهر ومبان بمعجزاته ، أو مبيّن للآيات الدالّة على التوحيد والنبوّة.

٣٠ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) ... أي القرآن المميّز بين

٣٤٩

الحق والباطل أو الرسول الذي لا يقول إلّا الحق ، أو الكلمة الحقة : وهي كلمة لا إله إلّا الله. والحاصل أنه لما جاءهم الحقّ لتنبيههم من غفلتهم وجهالتهم ما أذعنوا له وما عملوا بوظائف شكر المنعم بل جحدوا وزادوا في جحودهم وإنكارهم بحيث (قالُوا هذا سِحْرٌ) أي القرآن الذي جاء به محمد سحر (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي منكرون ، وزادوا على ذلك قولهم :

* * *

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

٣١ ـ (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ) ... أي إذا كان هذا القرآن من عند الله العظيم فلا مناص من أن ينزل على الأشراف والأعاظم ، أي (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) والمراد بالقريتين مكة والطّائف.

٣٥٠

ومرادهم بالرجل العظيم الذي له مال كثير وجاه عريض وشهرة عند الناس. لكنهم أخطئوا وفاتهم أن العظيم هو الذي يكون عند الله عظيما ، وهم يعتبرون مقياس العظمة الجاه والمال وهذا رأي الجهلة الغفلة في كل زمان ومكان. وأمّا مقياس العظمة الحقيقية فهو عند الله تعالى وعند العقلاء هو عظمة النفس وسموّ الروح ، ومن أعظم نفسا وأسمى روحا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يتركه الله تعالى ويأخذ غيره لرسالته وأمره؟ لا والله ، إنه لا يوجد في جميع عوالم الكون بعد مرتبة الرّبوبيّة مرتبة أو مقام أعلى وأسمى من مقام الرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهنيئا لأمّته وتابعيه. وبسبب خطأ أولئك المعاندين في تشخيص من له الأهليّة للرّسالة ومنصب النبوّة ، أنكر سبحانه قولهم وردّ مقالتهم في تشخيصهم وقال :

٣٢ ـ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ... أي هل القرشيون المعاندون أخذوا بأزمّة أمور العالم بيدهم وصاروا مقسّمين لرحمة ربّك في النبوّة فيضعونها حيث شاؤوا ، ويعطونها لمن أرادوا ، فصارت مفاتيح الرسالة في قبضة اختيارهم واقتدارهم؟ وهذا الاستفهام إنكاريّ ، فيه تجهيل وتعجيب من تحكّمهم (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نحن نقسم الأرزاق في المعيشة على حسب ما علمناه من مصالح عبادنا ، وهم عاجزون عن تدبيرها لعدم علمهم بالمصالح وعدم قدرتهم على إيجادها. فإذا كانوا عاجزين عن تدبير قسمة أرزاقهم التي ترجع الى مصالح دنياهم فكيف يتدخلون في امر الرسالة التي هي من أعلى وأسمى شؤون الإنسانيّة والرّوحانيّة ، وتعيينها من وظائف عالم الرّبوبيّة ، وليس لأحد أن يتحكّم في شيء من ذلك ويتدخّل فيه. ونحن كما فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق فكذلك اصطفينا للرّسالة من نشاء ، ولذلك أكّد سبحانه وتعالى القول المذكور بقوله : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ

٣٥١

دَرَجاتٍ) أي في الرزق ، فواحد مبسوط له الرزق يعيش مرفّه الحال ، وآخر مقبوض عليه رزقه وهو في ضنك من العيش ، وثالث بحريّته مشغوف ورابع في قيد العبوديّة راسف ، وهذا في كمال القوة ، وذاك في غاية الضعف ، والناس بين القبض والبسط والرفع والخفض ، وليس ذلك إلّا لمصلحة مهمّة يترتب عليها نظام العالم كما أشار إليه سبحانه بقوله (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي مسخّرا من التّسخير لا من السّخرية ، فيستخدمه في حوائجه فينتفع كلّ بالآخر فينتظم بذلك أمر عالم الملك. وهذه الدرجات المختلفة وما يترتب عليها ممّا ذكرنا من أعظم المصالح وأهمّها (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) لأن ما يجمع من أموال الدنيا وزخارفها يفنى وإن بلغ ما بلغ بخلاف نعمة النبوّة فإنها من حيث آثارها وتوابعها كلها باقية إلى الأبد والباقيات الصالحات خير من الفانيات المهلكات. ثم إنه تعالى يخبر عن هوان الدنيا وقلّة قدرها عنده سبحانه بقوله :

٣٣ إلى ٣٥ ـ (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ... أي لو لا كراهة اجتماع الناس على الكفر لحبّهم الدنيا طبعا فيكونون كلهم كفارا على دين واحد ويحرصون عليها حرصا شديدا (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) أي كنّا نجعلهم قادرين ونوسّع عليهم بحيث يبنون سقف بيوتهم (وَمَعارِجَ عَلَيْها) أي مصاعدها وأدراجها من الفضّة كما يقول سبحانه (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) أي يصعدون (وَ) كذلك نجعل (لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً) أي جعلناهم أثرياء قادرين بحيث يجعلون أبواب البيوت التخّوت التي عليها يجلسون والسّرر التي (يَتَّكِؤُنَ) عليها كلّها من فضّة وبالملازمة العاديّة. فيكون المراد أنّنا نمكّنهم أن يبنوا البيوت ولوازمها من الفضّة ، مشيرا سبحانه إلى تفاهة الزائل ، ومريدا أن يبيّن لنا حقارة الدنيا عنده عزوجل ، إذ لو كان للدنيا عنده قدر بمقدار جناح

٣٥٢

بعوضة لما شرب الكافر منها قطرة ماء أبدا على ما يستفاد المعنى من الأحاديث المشهورة. والوجه في كراهته سبحانه كون البشر على دين واحد ، أي ملّة واحدة هي ملة الكفر ، أنّ ذلك يكون خلاف المصالح الكثيرة والحكم العديدة. هذا إجماله والتفصيل موكول إلى محلّه وأهله (وَزُخْرُفاً) عطف على محل (مِنْ فِضَّةٍ) أي وجعلنا بيوتهم مزخرفة مزّينة موشاة بالذهب من قولهم : زخرف البيت أي زيّنة بالزخرف. وهو الذهب أو المراد به مطلق الزّينة. وحاصل المعنى أننا كنّا نمكّنهم من الذهب كما مكّناهم من الفضّة ليعيشوا في غاية الرّفاهية وفي رغد العيش ، لكن المصلحة غير مقتضية لذلك ولم نخلق الدنيا دار دوام ولا دار مقام ، وليست بذات قيمة عندنا إلّا بمقدار ما يتمّ فيها امتحان الصالح والطالح. ونحن في المقام نذكر بعض الرّوايات التي أشير فيها إلى بعض تلك المصالح التي أشرنا إليها إجمالا. ففي القمّي عن الصّادق عليه‌السلام : لو فعل الله ذلك بهم لما آمن أحد ، ولكنّه جعل في المؤمنين أغنياء وفي الكافرين فقراء ، وجعل في المؤمنين فقراء وفي الكافرين أغنياء ثم امتحنهم بالأمر والنهي ، والصّبر والرّضاء. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : ما كان من ولد آدم عليه‌السلام مؤمن إلّا فقيرا ولا كافر إلّا غنيّا حتّى جاء إبراهيم عليه‌السلام فقال ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فصيّر الله في هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إِنْ) نافية وكلمة (لَمَّا) بمعنى (إلا) إذا قرئت مشدّدة ، أي ليس كلّ ما ذكر غير متاع يتمتّع في الدّنيا به ما دام الإنسان حيّا ، وبعد موته يفنى المتاع جميعا وعلى قراءة التخفيف (لَمَّا) قال الواحدي (ما) زائدة والتقدير : لمتاع الحياة الدنيا (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي الجنّة الباقية عنده تعالى خاصّة بهم ومعدّة لهم.

* * *

٣٥٣

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩))

٣٦ ـ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) ... العشو أصله النظر ببصر ضعيف ، يقال عشا يعشو عشوا إذا ضعف بصره وأظلمت عينه كأنّ عليها غشاوة. أي من يعرض ويتعامى عن القرآن أو الآيات والحجج بناء على إنّ المراد بالذّكر هو هذه شبّههم بالأعشى ، حيث لم يبصروا الحقّ والقرآن. فمن يكن كذلك (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي نسلّط عليه شيطانا فهو يصاحبه ويغويه ويدعوه إلى الضّلالة فيصير هو قرينه بدلا عن ذكر الله والدّعوة إلى الهداية. وروي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيّرهما الله إلى النّار. والظاهر إن هذا هو شيطانه الذي كان في الدنيا قرينه ويغويه ويدعوه الى الضلال. وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من تصدّى بالإثم أعشي عن ذكر الله تعالى ، ومن ترك الأخذ عمّن أمره الله بطاعته قيّض له شيطان فهو له قرين.

٣٧ ـ (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) ... أي أن الشياطين ليصرفون أهل العشوّ عن طريق الحقّ والحقيقة وعن دين الله القويم ويمنعونهم عن صراطه المستقيم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي العاشون يحسبون أنّهم على الحق. ولمّا كان العاشي والشيطان في المقام اسم جنس فلذا يجوز في

٣٥٤

الضمير الرّاجع إليهما أن يؤتى به بصورة الإفراد أو الجمع ، كما أنّه سبحانه تارة أتى به مفردا في المقام ، وأخرى جمعا. ويحتمل أن يرجع الضمير في انهم ومهتدون إلى الشياطين. والمعنى أن العاشين يحسبون أن الشياطين من أهل الهداية ، ولهذا الظن الفاسد لا يزالون يتبعون قرناء السّوء.

٣٨ ـ (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) ... أي إذا جاءنا العاشي وقرئ جاءانا أي العاشي وقرينه بموقف الجزاء وساحة الحساب يقول العاشي لقرينه يا ليت (بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعد ما بين المشرق والمغرب ، وقد غلّب المشرق فثني ، وقيل أراد مشرق الشتاء ومشرق الصّيف. وقال الرّازي في وجه المشرقين : إن الحسّ يدل على أن الحركة اليوميّة التي تشكّل اليوم ، إنّما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب. وأمّا القمر فإنه يظهر في أوّل الشهر في جانب المغرب من الشمس ، ثم لا يزال يتقدّم إلى جنب المشرق من الشمس. وبالأخير يغرب فيه ، وبعد ليلتي المحاق يطلع من مغرب الشمس. وذلك يدلّنا على إن مشرق حركة القمر هو مغرب حركة الشمس ، ومغربه هو مشرقها ، وبهذا التقدير يصحّ تسمية المغرب والمشرق مشرقين. وهذا مبالغة كاملة في بعد المسافّة (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي كنت لي في الدّنيا. حيث أضللتني رفيقا سيّئا ، وفي هذا اليوم أوردتني النار. فإنهما يكونان يوم الحشر مشدودين في سلسلة واحدة زيادة عقوبة وغمّ كما عن ابن عباس ثم يقول الله سبحانه في ذلك اليوم للكفّار :

٣٩ ـ (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) ... أي ما كنتم تتمنّونه اليوم لن يفيدكم ، ولن يجيركم من النار ولا من غضب الجبّار أحد ، ولا يريحكم من العذاب اشتراككم فيه ولا شماتة كلّ واحد منكم بصاحبه. ونقل عن واحد من الزّهاد أنه قال : كان لي صديق مؤمن من بني الجانّ وكنّا جالسين في مسجد فسألني الجنيّ وقال : كيف ترى هؤلاء الجماعة من

٣٥٥

الناس القاعدين في هذا المسجد؟ قلت أرى بعضهم نائمين وبعضا غير نائمين. قال ما ترى على رؤوسهم؟ قلت : لا أرى شيئا. فمسّ بيده على عينيّ فرأيت على رأس كلّ واحد منهم شيئا. فلمّا تعمّقت في النظر رأيت على رأس كل واحد غرابا. فعلى بعض منهم وضع جناحه على عينيه بحيث لا يرى شيئا ، وعلى بعض آخر كان الغراب يضع جناحه ويرفعه يفعل بهم هكذا دائما. فسألت ما هذه؟ قال : هذه الغربان شياطين سلّطها الله عليهم فإنه بمجرّد غفلتهم عن ذكر الله يستولون عليهم ويضلّونهم ويغوونهم ثم قرأ الآية (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) فهؤلاء هم قرناء السوء. فلا ينفعكم (إِذْ ظَلَمْتُمْ) أي ظلمتم أنفسكم بكفركم في الدنيا. وقيل هي بدل من اليوم (أَنَّكُمْ) مع قرنائكم (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) روى القمّي عن الباقر عليه‌السلام : نزلت هاتان الآيتان هكذا : حتى إذا جاءانا ، يعني فلان وفلان ، يقول أحدهما لصاحبه حين يراه : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) فقال الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قل لفلان وفلان وأتباعهما : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) آل محمد صلوات الله عليهم حقّهم (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).

* * *

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ

٣٥٦

لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

٤٠ ـ (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) ... شبّهوا بهم لعدم انتفاعهم بالسمع والبصر بعد تمرّنهم على الكفر وتوغّلهم في الضلالة (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بيّن فإنك لا تقدر على جبرهم على الإيمان فلا تحزن على كفرهم وضلالتهم. وهذه الآيات تسلية للنبيّ الأكرم صلوات الله عليه وآله. وقوله (وَمَنْ كانَ) عطف على (الْعُمْيَ) باعتبار تغاير الوصفين.

٤١ و ٤٢ ـ (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) ... أي نتوفينّك قبل تعذيبهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) بعدك إمّا في الدنيا أو في الآخرة (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أي وعدناهم به من العذاب في الدّنيا ، فلا تحزن ولا تغتمّ لعدم إيمان قومك فانّ ولعهم بالضلالة مانع لهم عن الهداية (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي لا يعجزوننا بضلالتهم وعدم إيمانهم عن الانتقام منهم. والحاصل أننا ننتقم منهم إمّا في حياتك أو بعد مماتك ، ولسنا عن الانتقام منهم بعاجزين إمّا بك أو بعدك بعليّ بن أبي طالب. فاستشعر صلوات الله عليه وآله من هذه الآية الشريفة بأنها بعده ستقع فتن عظيمة وملاحم شديدة وتتراكم على أهل بيته ولا سيما على عليّ عليه‌السلام مصائب كثيرة فظهرت آثار الحزن والملال على جبهته الشريفة ، وبعد ذلك ما شوهد منه ما دام حيّا طلاقة وجه ولا أثر ضحك. وبعد نزول هذه الآيات المذكورة التي كانت وعيدا وتهديدا للمعاندين والمشركين زاد جحودهم ونفاقهم ولم يتنبّهوا أبدا فالتفت النبيّ (ص) إلى ما قضاه الله من أمر المعاندين فتأثّر كثيرا صلوات الله عليه وآله فنزلت :

٣٥٧

٤٣ ـ (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) ... هذه تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أمره بالتوسل والتمسّك بالقرآن وبأن يتلوه حقّ تلاوته ويتتبّع أوامره وينتهي عمّا نهى فيه عنه قائلا له : (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على دين حقّ وصواب وهو دين الإسلام ، أي الدّين القّيم. وفي القمّي عن الباقر عليه‌السلام : إنك على ولاية عليّ عليه‌السلام ، وعليّ هو الصّراط المستقيم.

٤٤ ـ (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ... أي إنّ القرآن لشرف أو لصيت لك ولقومك المؤمنين أو لمطلق القرشيين (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن أداء شكر هذه النّعمة التي جعلها الله لكم شرفا ، أو عن القرآن وعمّا يلزمكم من القيام بحقّه. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام : نحن قومه ، ونحن المسؤولون. وعن الصّادق عليه‌السلام : إيّانا عنى ، ونحن أهل الذّكر ونحن المسؤولون. والرّوايات كثيرة بهذا المعنى.

٤٥ ـ (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) ... قوله (مِنْ رُسُلِنا) بيان لقوله سبحانه (مِنْ قَبْلِكَ) أو بدل الكلّ من الكلّ. وقيل المراد من قوله (مِنْ قَبْلِكَ) هو الأمم ، وهذا خلاف الظاهر بقرينة (مِنْ رُسُلِنا) فإنهم ليسوا بمرسلين بل إنهم مرسل إليهم. والحاصل أن الأنبياء قد جمعوا له ليلة الإسراء والأمر بالسؤال قبل تلك الليلة ، أو في نفس تلك الليلة على قول البعض. ويؤيّده ما في الكافي والقمّي عن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية. من ذا الذي سأله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟ ... فتلا هذه الآية : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ...) إلى قوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) قال : فكان من الآيات التي أراها الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله له الأوّلين والآخرين من النبيّين والمرسلين ، ثم أمر جبرائيل فأذّن شفعا ، وأقام شفعا ثم قال في إقامته حيّ على خير العمل ، ثم تقدّم محمد

٣٥٨

(ص) فصلّى بالقوم فأنزل عليه : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) ، الآية فقال لهم رسول الله (ص) على ما تشهدون ، وما كنتم تعبدون؟ فقالوا : نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّك لرسول الله أخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا. والمسؤول عنه هذا (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي هل حكمنا بعبادة غير الله في مللهم؟ والغرض أنّ بيان التوحيد دين أطبق عليه الرّسل ولم يبتدعه رسولنا الكريم ، فكيف يكذّب ويعادى لأجله. والظاهر أن إعادة ذكر قصّة موسى (ع) ها هنا تكرارا كان بمناسبة ذكر حكاية حال نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قومه وتكذيبهم له ، فتسلية له وتطييبا لقلبه الشريف بيّن سبحانه قصة موسى عليه‌السلام وتكذيب قومه له واستهزاءهم به وضحكهم فقال تعالى :

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

٤٦ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ... أي الحجج الظاهرة على صحة دعواه النبوّة بحيث لا يشك فيها عاقل (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي إليه وإلى

٣٥٩

أشراف قومه ، وتخصيص الأشراف بالذّكر لتبعيّة ما عداهم لهم (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي مبعوث منه سبحانه إليكم.

٤٧ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) ... أي لمّا أظهر المعجزات التي هي اليد والعصا ، أو المراد آيات العذاب كالطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع وغيرها ، أو الأعم (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزاء بها.

٤٨ ـ (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) ... أي من الآية التي قبلها أو مثلها ، فكل آية كانت بعد أخرى كانت أكبر ممّا قبلها في الآيتيّة ، وكانت الآيات مترادفة متتابعة (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي بتلك الآيات المنذرة لهم بالعذاب (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بأمل أن يعودوا عن عنادهم وكفرهم.

٤٩ ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) ... فلما اشتدت عليهم أنواع العذاب المتعاقبة وخافوا منها على أنفسهم نادوه بذلك ، ويعنون بهذا النداء (يا أيّها العالم) حيث إن الساحر كان عندهم عظيما ، فلذا تعظيما له راحوا يسمّونه عالما. ولم يكن السّاحر صفة ذمّ في ذلك العصر. وقيل قالوا له ذلك ونادوه بهذا النداء استهزاء به عليه‌السلام. وعن القمي : أي يا أيّها العالم (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي اطلب من ربّك بما لك عنده من الكرامة ليكشف العذاب عمّن آمن و (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) لو كشف عنّا العذاب فإنّنا حينئذ نؤمن بربّك يا موسى.

٥٠ ـ (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ... أي أذهبناه بدعاء موسى ، وقد رفع الله العذاب عنهم ولكنّهم لمّا ارتفع عنهم العذاب نقضوا عهدهم وقولهم بالاهتداء ورجعوا إلى ما كانوا عليه.

* * *

٣٦٠