الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

قوله (قَدَّرْناهُ) منازل ، أي مسيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل كلّ ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه. والتقدير : وجعلنا القمر ذا منازل ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذه المنازل من البروج الاثني عشر ، وتزايد نور القمر وتناقصه على حسب بعده من الشمس وقربه ، فكلّما بعد في منازله من الشمس يزيد نوره ، وكلّما قرب بها لينقص تدريجا ويميل إلى التقوّس إلى أن يعود في آخر الشهر وآخر منازله دقيقا بحيث يرى كالعرجون وهو أصل العذق أي أصل العنقود ، (الْقَدِيمِ) الذي يعوجّ لثقل العذق تدريجا فيميل إلى المركز أي الأرض ويبقى على النخل يابسا بعد التقاط التمر والرّطب عنه ، ثم يخفى القمر يومين آخر الشهر وهما يسمّيان بليالي المحاق ، وقيل هي ثلاث ليال ، والمشهور ليلتان ، وفيهما يقرب القمر باجتماعه مع الشمس ويحصل له تمام القرب في آخر منزله بحيث يضمحل نور القمر وينمحي تحت شعاعها كما في الشمعة التي توضع تحت السّماء في رابعة النهار (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) والمراد بالقديم : قيل هو مضيّ ستّة أشهر لأن العذق أصله يصير كذلك في هذه المدّة وقيل معناه المعوجّ العتيق. قال رجل حين موته : كلّ مملوك لي قديم فهو حرّ لوجه الله. وسئل الرّضا (ع) عن ذلك فقال : كلّ مملوك دخل في ملكه وبقي ستة أشهر فيه فهو حرّ. فسئل من أين تقول هذا؟ قال إن الله يقول : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وعذق النخل يصير كذلك في مدة ستة أشهر. ثم إنه تعالى أخذ في بيان تعاقب الشمس والقمر وتتالي الليل والنهار الذي يفيد الحيوانات والذي تكوّن النباتات منوط به ومعلق عليه فقال :

٤٠ ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها ...) أي لا يصحّ ولا يتأتّى (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سرعة سيره لإخلال ذلك بالنظام الأحسن ، فإن القمر أسرع سيرا من الشمس لأنه يقطع البروج الاثني عشر في شهر ، والشمس في

٢١

سنة. فلو كانت الشمس في سرعته تختلّ فصول السنة عن وضعها الطبيعيّ فيقع الخلل بتكوّن النباتات وأثمار الأشجار من حيث الوجود والنضج ويؤثر ذلك على الحيوانات. وإن قيل إن المراد من الإدراك هو الإدراك في مقامه ومرتبته ، فالأمر أفسد وأشكل لأن القمر في الفلك الأوّل باصطلاح قدماء الهيويّين ، والشمس في الرابع من الأفلاك السبّعة فتختلّ الأمور السماويّة والأرضيّة عن أوضاعها المطبوعة عليها المخلوقة على طبق المصالح العامّة الإلهيّة التي لا يعلمها إلّا هو سبحانه وتعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا يسبق الليل النهار ولا يجتمعان فيكون ليلتان ليس بينهما يوم بل يتعاقبان ولا يخفى أن الشمس لما كانت لا تقطع فلكها إلّا في طول السنة بخلاف القمر فإنه يقطع فلكه في كل شهر فلذا اتّصفت الشمس لتباطئها بالإدراك والقمر لسرعته بالسّبق. قال العياشي في تفسيره ما حاصله أنه سأل الفضل بن سهل في مجلس المأمون في خراسان الإمام الرضا عليه‌السلام أنه : هل النهار خلق أوّلا أو الليل؟ فقال (ع) : من القرآن أجيب أم من الحساب؟ قال : منهما. فقال عليه‌السلام : أمّا من الحساب فاعلم أن طالع الدنيا كان السرطان حينما كانت الكواكب في شرف الارتفاع فكان زحل في الميزان والمشتري في السرطان والشمس في الحمل والقمر في الثور ، وهذا يدلّ على كينونة الشمس في الحمل في وسط السماء ، فاليوم كان قبل اللّيل مخلوقا. وأمّا من القرآن فقرأ الكريمة : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) إلخ .. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) السباحة هي السير والحركة الانبساطيّة الطبيعية ، كسير الأسماك وحركتها في المياه. أي أن الشمس والقمر والنجوم في مدارها وفي أفلاكها تسير بانبساط وسهولة ، وكلّ من انبسط في شيء فقد سبح فيه ، ومنه السّباحة في الماء. قال ابن عباس كلّ من الشمس والقمر والكواكب يجري في فلكه كما يجري المغزل في فلكته ، أي يدور في مداره ، وفلك الشيء مداره. ولما كان سير النّيرين وسائر الكواكب في مدارها ، في الانتظام والإتقان ، على نسق

٢٢

كفعل ذوي العقول فلذا استعمل فيها صيغة جمع ذوي العقول ، أو أنها لها أنفس تعقل ونفس الآية الكريمة تؤيّد هذا القول ، وقوله تعالى (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) من صيغ القلب ، فإنها إذا تقلب هذه الحروف تكون عين المقلوب منه. وللكراجكي كلام لا بأس بالاشارة إليه في المقام ، فإنه ذهب إلى أن الأفلاك غير السماوات كما هو ظاهر بعض الأحاديث الواردة عنهم عليهم‌السلام وبالجملة قال في فصل عقده في ذكر هيئة العالم : اعلم أن الأرض على هيئة الكرة ، والهواء يحيط بها من كل جهة ، والأفلاك تحيط بالجميع إحاطة استدارة ، وهي طبقات يحيط بعضها ببعض. ثم عدّ أفلاك السيّارات ثم قال : ويحيط بهذه الأفلاك السّبعة فلك الكواكب الثابتة وهي جميع ما يرى في السّماء غير ما ذكرناه ، ثم الفلك المحيط الأعظم المحرّك جميع هذه الأفلاك ، ثم السمّاوات السّبع تحيط بالأفلاك ، وهي مساكن الأفلاك ومن رفعه الله تعالى إلى سمائه من أنبيائه وحججهم عليهم‌السلام. وللجميع نهاية. انتهى موضع الحاجة من كلامه وقد ذكرناه ليكون الطالب على بصيرة في الجملة في الأمور السّماويّة. ثم أنه تعالى لمّا بيّن فنون نعمه الدالة على وجوب العبوديّة له وكمال قدرته أخذ يذكر بعضا آخر من أنواع نعمه فقال :

* * *

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ

٢٣

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧))

٤١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ ...) أي حجّة وعلامة لهم على كمال اقتدارنا أنّا حملنا ورفعنا آباءهم وأجدادهم بواسطة سفينة نوح ونجّيناهم من الغرق (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي بأن أدخلناهم في تلك السفينة المملوءة بالناس ومن كل شيء يحتاج إليه نوح عليه‌السلام ومن كان معه في الفلك فأبقيناهم بعد الطوفان. وتسمية الأجداد والآباء ذرّية يمكن أن يكون باعتبار أنّهم أصول خلقتهم ، واشتقاق الذرّية من ذرأ باشتقاق الكبير كما لا يخفى على أهل الأدب ، فالذرّية من ذرأ الله الخلق أي خلقهم ، فإن الأبناء والأولاد خلقوا منهم فالآباء ذرّية الأبناء بهذا الاعتبار. أو أن المراد بحمل الذرّية هو حمل آبائهم الأقدمين لهم وهم في أصلابهم ذرّيّاتهم. وتخصيص الذرّية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجّب مع الإيجاز.

٤٢ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ...) أي خلقنا للناس من أهل مكّة وغيرهم مثل سفينة نوح ، أي السفن التي على هيئة فلك نوح وصورتها أو من جنسها ، ممّا (يَرْكَبُونَ) كالزّورق وغيره. وقيل إن المراد من (مِنْ مِثْلِهِ) هي الإبل فإنّها سفائن البرّ ، أو مطلق ما يركب من الانعام والدوابّ ، وتشمل الآية عموم ما يركبون من مراكب في جميع الأزمان كعصرنا الحاضر وما يجيء بعده من السّيارات والطيارات ونحوها مما هو موجود بالفعل أو سيوجد بعد عصرنا.

٢٤

٤٣ و ٤٤ ـ (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ...) أي لا مغيث لهم ينصرهم ولا حارس يحرسهم من الغرق (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي ينجون من الموت لو أردنا أن نهلكهم (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً) أي لا يغاثون ولا ينقذون إلا أن تشملهم العناية الرّحمانية منّا حسب ما نرى من المصالح والحكم في من علمنا منه خيرا وأنّه مؤمن أو سوف يؤمن أو سيولد منه مؤمن ونحو ذلك من المقتضيات للنّجاة والحراسة ، فنمتّعه متاعا قليلا في الدنيا إلى (حِينٍ) أي إلى زمان قدّرناه لهم لتقضى آجالهم ، فالمغيث والمنقذ هو هذا فقط لا غيره.

٤٥ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ...) أي وقائع الأمم الماضية (وَما خَلْفَكُمْ) أي أمر الساعة أو ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخّر ، أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، أو عكسه. وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام : معناه اتّقوا ما بين أيديكم من الذّنوب وما خلفكم من العقوبة. وجواب (إِذا) محذوف دلّ عليه ما بعده ، أي : لا يتّقون ويعرضون. ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى :

٤٦ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ...) أي من حجة وبرهان على صدق ما يدّعيه الرّسول (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ، إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) عن التفكّر في الحجج والمعجزات (مِنْ) الأولى هي التي تزاد بعد النفي للتّأكيد والاستغراق ، والثانية للتّبعيض ، أي : ليس آية تأتيهم إلا أعرضوا عنها ، وذلك سبيل من ضلّ الهدى وخسر الآخرة.

٤٧ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ...) أي من ماله على خلقه المحاويج الذين هم عيال الله (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) هذا القول إيهام بأنّ الله لما كان قادرا على أن يطعمهم فلم يطعمهم ، فنحن أحقّ بأن لا نطعمهم أيضا. وهذا الكلام من فرط

٢٥

جهالتهم لأنّ الله تعالى يطعم البشر بأسباب ، منها الإيجاب على الأغنياء بإطعام الفقراء وتوفيقهم له ، وما جرت عادة الله تعالى أن يشقّ سقف بيوت الفقراء وينزل عليهم منه أرزاقهم وإن كان قادرا على ذلك ، لكن المصلحة اقتضت خلاف ذلك وأن تجعل أرزاقهم على أيادي الأغنياء حتى يمتحنهم ويأجرهم ويثيبهم على ذلك بعد أن يمحّصهم ويختبرهم بأنّهم يؤدّون ما فرض عليهم إلى مصارفه المقرّرة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا من تتمّة قول الكفرة لمن أمرهم بالإطعام. وقيل إنه قول الله حين ردّوا هذا الجواب.

* * *

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠))

٤٨ إلى ٥٠ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) أي الوعد بالبعث متى يتحقّق إذا كنتم صادقين في قولكم؟ ولكنهم للأسف (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أجابهم تعالى : ما ينتظرون ، وما يمهلون إلّا أن تأخذهم الصيحة الواحدة (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) يتنازعون ويختصمون في أمورهم ومعاملاتهم في غفلة عنها ، ويمكن أن تكون الواو حاليّة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) بشيء (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) يعودون من

٢٦

أسواقهم أو بساتينهم أو بيوت أقاربهم أو أمثالها وهي النفخة الأولى. وفي المجمع : في الحديث : تقوم الساعة والرّجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتى تقوم السّاعة ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم. والقميّ قال : ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة وهم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلّهم في مكانهم لا يرجع أحد إلى منزله ولا يوصي بوصيّة.

* * *

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

٢٧

٥١ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أي مرّة ثانية للبعث (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي من قبورهم يسرعون إلى خالقهم يعني إلى الموضع الذي يحكم الله فيه ولا حكم لغيره تعالى هناك.

٥٢ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ...) الكفرة منهم قالوا يا ويلنا أي هلاكنا وفي الجوامع عن عليّ عليه‌السلام أنّه قرأ من بعثنا على (مَنْ) الجارّة والمصدر والمرقد مكان الرقود أي المنام (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) يحتمل كون هذا صفة لمرقدنا وما وعد الرّحمان خبر لمبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، ويمكن كون (ما) مصدرية وعلى هذا ، فالمصدر خبر لهذا ، أي : هذا وعد الرّحمان ، والمصدر بمعنى المفعول. وقيل : هذا قول الملائكة ، أو المؤمنين يقولون للكفّار على وجه التقريع ، أي هذا هو الوعد الذي أخبر به الرّسل وأنتم تكذبونهم وكنتم تقولون إنكارا لهم واستهزاء : متى هذا الوعد. ثم إنّه تعالى أخبر عن سرعة البعث وكمال قدرته في بعثهم ونشرهم بقوله :

٥٣ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ...) أي ما كان بعثهم إلّا بصيحة واحدة ، وهي النفخة الأخيرة التي تتمّ بصرف النفخ في البوق وهي إعلان على رؤوس الأشهاد لحضور الأشخاص (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) هذا التفريع يدل على غاية السّرعة في حضور الخلق الأولين منهم والآخرين في عرصات القيامة وموقف الحساب بلا فاصل بين النفخ والحضور ، وأيضا يدلّ على تهوين أمر البعث وأنّه أهون وأسهل شيء عنده سبحانه وتعالى ، ومن ثم فهو ردّ على منكري البعث الذين يعدّونه أمرا محالا ويحسبونه من الأساطير والموهومات التي لا واقع لها ، ولذا اهتّم سبحانه في ردّ زعمهم الفاسد وجاء بهذه الجملة الوجيزة المتضمّنة المعنى الراقي الرائع المبطل لعقيدة الخصم الذي هو ضدّ لما هو عقيدتهم بكمال الضدّية. فإذا حضروا المحشر فالله تعالى يبسط بساط عدله ويخاطبهم بقوله الذي ظاهره الغيبة

٢٨

وباطنه الخطاب :

٥٤ ـ (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ...) أي لا ينقص من ثواب المثاب شيء ، ولا يزاد على عقاب المعاقب من مقدار استحقاقه شيء ، لأنه تعالى يجري جميع الأمور على مقتضى العدل التامّ (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول سبحانه على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ما حاصله : يا أهل الموقف إنّما الجزاء على طبق الأعمال إن خيرا فخير وإن شرّا فشر وكلّ حسب مرتبته علوّا واقترابا ، أو دنوا وابتعادا. وقوله (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ) ليأمن المؤمن ، وقوله (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا) ... الآية لييأس الكافر. ثم ذكر سبحانه حال أوليائه فقال عزّ من قائل :

٥٥ ـ (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) أي الذين فازوا وسعدوا في الدّنيا بالعمل الصالح ، هم في يوم القيامة (فِي شُغُلٍ) في سرور وملاذّ (فاكِهُونَ) ناعمون لأنهم ذوو نعمة ، أو متمازحون ، فإنه جمع فاكه من الفكاهة بمعنى الممازحة أي المداعبة. والقميّ قال : في افتضاض العذارى فاكهون. وقال يفاكهون النساء ويلاعبونهنّ وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام شغلوا بافتضاض العذارى ، قال : وحواجبهنّ كالأهلّة وأشفار أعينهنّ كقوارم النّسور.

٥٦ ـ (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ ...) أي لا يصيبهم حرّ الشمس ، جمع : ظلّ أو ظلّة ، وهي المظلّة وما يستر به من حرّ الشمس أو المطر وما يستظل به منهما. أو المراد بها ظلال أشجار الجنّة ، أو المراد هي المواضع التي تستتر بها حليلة المؤمن مع زوجها عن أعين النّاس. وهم على سبيل التنعّم (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي على السّرر المزيّنة في الحجال ، وقيل هي الوسائد يتّكئون عليها.

٥٧ ـ (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ ...) المراد هو جنس الفاكهة من الأنواع المختلفة

٢٩

(وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) افتعال من الدّعاء أي ما يتمنّونه ، من قوله : ادّع عليّ ما شئت ، أي تمنّ منّي. ويؤيّد القول الأخير ما نقل عن ابن عباس من أن أهل الجنّة كلّ ما يخطر ببالهم يكون عندهم بلا مقال ، أي علمه بحالهم كفى عن مقالهم.

٥٨ ـ (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ...) السلام على أهل الجنّة هو البشارة بإبقائهم هناك مخلّدين متنعّمين متلذّذين بجميع أنواع النّعم والمشتهيات والمتلذّذات ، وهو على أهل الدنيا هو التحيّة بطول العمر والسلامة من الحوادث والآفات. وأهل الجنّة مستغنون عن ذلك فتحيّتهم والسلام عليهم غير تحيّة أهل الدنيا. والسّلام هو التحيّة المتعارفة بين الناس ، ومعناه دعاء من المسلّم على المسلّم عليه بطيب العيش ورفاهيّة الحال ومتضمّن لاحترامه له. ولذا فكلّ شخص يحبّ الآخر يحبّ أن يسلّم عليه ويلتذّ به طبعا. وإذا كان المسلّم شخصيّة عظيمة جليلة فإنّ سلامه يكون ألذّ وأوقع في النفس ، وهذا أمر وجداني لا حاجة إلى البرهان على صدقه. فإذا كان الأمر هكذا فسلام الله تعالى ألذّ من كلّ لذيذ ، وألذّ اللذائذ عند أهل الجنّة هو سلامه تعالى وتحيّته عليهم. ونقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : إذا جاء النّداء من ساحة القدس الرّبوبي ب (السلام عليكم يا أهل الجنة) فهذه غاية أمانيهم ونهاية مدّعاهم. وقد نقلنا الرواية بالمعنى وقيل سلامه تعالى عليهم يكون بواسطة الملائكة. وسلام يحتمل أن يكون ، مبتدأ وخبره محذوف ، أي (عليهم سلام) أو خبره : (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) و (قَوْلاً) حال بمعنى مقول ، أو نصبه على الاختصاص بتقدير (أعني) وفي قوله (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) رمز إلى اختصاص رحمته الرحيميّة في ذلك اليوم بالمؤمنين لا تشمل غيرهم. فإذا افتهموا تلك الخصيصة يزيد فرحهم ، كما أنّ الكفرة ييأسون من الرحمة فيزيد ذلك في حزنهم وهمهم ، فيكون هذا

٣٠

عذابا فوق عذابهم بكفرهم وعصيانهم.

* * *

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

٥٩ ـ (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ...) أي انفردوا وانفصلوا أيّها العصاة عن المؤمنين وذلك عند اختلاطهم بهم في المحشر حينما يسيرون مع المؤمنين إلى الجنّة فيجيء النّداء من قبله سبحانه بالامتياز والتفريق بينهم وبين المؤمنين. وقيل إن لكلّ كافر بيتا في النار يدخل فيه فيردم ويسدّ بابه لا يرى ولا هو يرى أحدا ، أعاذنا الله من جهنم فإنها ساءت مستقرّا

٣١

ومصيرا. ثم خصّهم بالتّوبيخ فقال :

٦٠ و ٦١ ـ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ...) أي ألم أنهكم على ألسنة الأنبياء والرّسل في الكتب المنزلة أن لا تطيعوا الشيطان فيما يأمركم به وينهاكم عنه؟ وقد جعل تعالى إطاعة الشيطان عبادة له لأنّه الآمر بها المزيّن لها. وقد ثبت أن كلّ من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده. فعن الباقر عليه‌السلام : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يروي عن الله فقد عبد الله عزوجل ، وإن كان الناطق يروي عن الشيطان فقد عبد الشيطان (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) هذا تحذير للنّاس منه لعنه الله وأخزاه وأعاذنا منه. فأمرتكم بترك عبادة الشيطان (وَأَنِ اعْبُدُونِي) قوموا بعبادتي. و (هذا) إشارة إلى عبادة الله التي هي (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا عبادة غيري فإنها عبادة للشيطان لأنه الآمر بها.

٦٢ ـ (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا ...) أي جرّ إلى الكفر والضلال خلقا كثيرا. و (جِبِلًّا) فيه لغات : بضمّتين بالتّشديد والتخفيف. وبالضّم والسّكون ، وبكسر الجيم وفتح الياء والتخفيف ، جمع جيلة كخلقة وخلق ، وجيل واحد الأجيال. وقرئ بجميع هذه الصّيغ. وهذه الكريمة تنبيه للبشر حتّى يكونوا على حذر منه ولا يغفلوا آنا ما ، وإلّا اختلسهم الخبيث واجتذبهم بسرعة بحيث لا يمهلهم أبدا. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)؟ أي ألم تتعقّلوا أنه يغويكم ويصدّكم عن الحق ويضلكم عن الصّراط السويّ؟ أفلا تتنبّهون؟ وهذه صورة استفهام ومعناه الإنكار عليهم والتبكيت لهم. وفي الآية بطلان مذهب أهل الجبر حيث إنه سبحانه لم يرد إضلالهم لأنه أنكر عليهم إضلال الشيطان إياهم ، ووبّخهم على متابعتهم إيّاه وأمرهم بعبادة ذاته المقدّسة وطاعته. ثم بيّن سبحانه ما يقال للكفرة يوم الحشر حين تظهر جهنّم ويرونها رأي العين ويصيرون على شفيرها :

٣٢

٦٣ و ٦٤ ـ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ...) أي توعدون بها على ألسنة الرّسل. فها هي أمامكم (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) احترقوا بها ، أو التزموا عذابها (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم وتكذيبكم رسلنا وكتبنا ما دمتم في الدنيا. وهذا أمر إهانة وتنكيل كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.) وقيل معنى الكريمة : ادخلوها وقاسوا فنون عذابها وذوقوا شديد حرّها.

٦٥ ـ (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ...) يحتمل قويّا أن لا يكون المراد من الختم هو المعنى المعروف المشهور بين الناس ، بل المراد به هو نتيجة الختم بأن يقيم هو تعالى البراهين والحجج عليهم. بحيث لا يقدرون على ردّها ويعجزون عن الجواب ويلجمون بالبراهين والشواهد. ومن أقوى الشواهد وأتمّ الدلائل والآيات على تقصيرهم واستحقاقهم أشدّ العذاب ، شهادة الأعضاء واعتراف الجوارح بالمعاصي التي صدرت عنها ، فحينئذ كأنه ختم على اللسان لأنه لا يقدر أن ينكر ويردّ واحدا من تلك الحجج أو الشواهد ؛ ويمكن أن يحدث في اللسان فتور من عنده سبحانه فلا يقدر الإنسان على تحريكه والتكلم به فكأنه ختم عليه ولذلك فسّر الختم بعضهم بمنع الألسن عن الكلام وإن كان منعها أعم من أن يحدث فيها فتور. ويحتمل أن يكون قوله سبحانه (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) ، الآية عطفا على (نَخْتِمُ) عطف بيان له. أي اليوم (يوم القيامة) تتكلم الأعضاء والجوارح معنا ، وبالأمس كان اللسان يتكلّم في الدنيا. وتكلّم الجوارح من خصائص يوم القيامة. واختلف في كيفيّة تكلم الجوارح على وجوه ، منها أنه تعالى يمكّنها حتى تقدر على التكلّم وأداء الشهادة كما مكّن اللّسان على النطق. ومنها أنه سبحانه يوجد فيها الكلام بنحو إيجاد الأصوات في الأجسام الجماديّة كإيجاد الكلام في الشجر والنّسبة إليها لأنه لا يظهر إلّا من جهتها. ومنها أنه تعالى يجعل فيها آثارا ودلائل دالّة على أنّ

٣٣

صاحبها فعل فعلا قبيحا كذائيّا فسمّي ذلك شهادة. ومنها كما يقال عيناه تشهدان بكذا وكذا. وأنه كان نائما مثلا أو مريضا. والذي يقوى في النظر هو الأوّل وإن كان الجميع من المعقول إلّا أن يجيء أمر في ذلك من ينابيع العلم والحكمة فهو الحق. وقال القمّي : إذا جمع الله عزوجل الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه (أي قائمة عمله) فينظرون فيه فينكرون أنهم عملوا من ذلك شيئا فتشهد عليهم الملائكة فيقولون يا ربّ إن ملائكتك يشهدون لك ، ثم يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا. وهو قول الله عزوجل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) فإذا فعلوا ذلك ختم الله على ألسنتهم وتنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام : وليست تشهد الجوارح على مؤمن ، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب. فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عزوجل (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

٦٦ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ...) أي لاستأصلنا أثرها كأن لم يكن لهم أعين في صفحة وجوههم أبدا فيصيرون ممسوحي الأعين (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي فاستطرقوا الطريق التي كانت تبدو معتادة لهم سلوكها (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) فكيف يبصرون بعد ذلك طريق الهدى وكيف يقدرون المشي إليها والسير نحوها ، أي أنهم لا يبصرونها أبدا فهم لا يزالون في ضلالة وغواية.

٦٧ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ ...) أي كأنّ قائلا يقول : إنّ الأعمى قد يهتدي بالأمارات العقليّة أو النقليّة أو الحسيّة غير حسّ البصر ، كاللّمس باليد على الجدران ونحوه ، فقال سبحانه : ولو أردنا لمسخناهم قردة وخنازير أو حجارة بتغيير صورهم وإبطال قواهم (عَلى مَكانَتِهِمْ) أي في مكانهم الذي هم جالسون فيه بحيث يجمدون. وفي القمّي : يعني في

٣٤

الدنيا (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء ، وقيل يعني تصيبهم العاهة الّتي تعطّل القوى بحيث لا يقدر الإنسان على الحركة ؛ والكريمتان تهديد من الله سبحانه للكفرة ، والمكان والمكانة واحد. ثم بعد بيان قدرته على الطمس والمسخ ذكر تنبيها لضرب آخر من القدرة الكاملة فقال عزوجل :

٦٨ ـ (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ ...) أي من نجعله ذا عمر طويل (نُنَكِّسْهُ) نردّه إلى ما خرج منه من انتقاص بنيته وضعف قوّته الظاهريّة والباطنيّة كما كان عليه بدء أمره وزمن طفوليّته إلى أوان شبابه ورشده وكمال قواه وتزايدها التام الى أن بلغ حدّ الهرم فيردّ إلى حالة الصّباوة (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أن من قدر على ذلك فهو قادر على الطّمس والمسخ فانه مشتمل عليهما وزيادة ، أو قادر على البعث والحشر. وقيل إن القرآن لمّا نزل وقرئ على أهل مكة ورأوا أنه على أسلوب غريب وتركيب بديع ونظم عجيب قالوا : إنّ محمدا شاعر ، فردّ هو تعالى عليهم ونزّهه ممّا قالوا فيه بقوله :

* * *

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))

٦٩ و ٧٠ ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...) يعني أنّه أمّي ، فلو كان شاعرا لا بدّ له من معلم يعلّمه أوزان الشعر وبحوره وعروضه التي هي معروفة ومتعارفة بين الشعراء. ولو كان له معلم فهو ليس غيرنا ، ونحن ما علّمناه

٣٥

الشعر بتعليم القرآن ، وليس ما أنزلناه عليه من صناعة الشعر في شيء ممّا يتوخّاه الشعراء من التخيّلات المرغّبة والمنفّرة ونحوهما ممّا لا حقيقة له ولا أصل بل هو تمويه محض (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي لا تنبغي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الصّناعة الشعريّة أو للقرآن أن يكون شعرا ، فإن نظمه ليس على نظم الشعر. على أن القرآن يدلّ أسلوبه وتركيب كلماته أنه ليس بشعر لأن الشّعر كلام منسوج على منوال الوزن والقافية ، مبنيّ نوعا على أمور واهية خيالية ، ومثل هذا لا يصلح للنبيّ المرسل لهداية البشر كافّة كما جعلناه أمّيا لا يهتدي للخط ولا لقراءة الكتب ليكون للحجّة أثبت والشبهة أدحض. نعم قد صحّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسمع الشعر ويحبّه ويحثّ عليه إذا كان شعر حكمة. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسّان بن ثابت : لا تزال يا حسّان مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي نصح وعظة من عند ربّ العالمين وليس بشعر ولا رجز ولا خطبة. والمراد بالذّكر أنّه يتضمّن ذكر الحلال والحرام والدلائل على التوحيد وأخبار الأمم الماضية وقصصهم للاعتبار ، فجمع سبحانه هذه الأمور فيه لاختلاف فوائدها (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي مبيّن للأحكام والبراهين الدالّة على وجود الصّانع وتوحيده (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي لينذر القرآن أو النبيّ من كان مؤمنا حيّ القلب فإنّه المتعقّل المتفكّر لأن الكافر الغافل كالميّت لا ينتفع لا بالقرآن ولا بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بل الكافر أقلّ من الميت لأن الميت لا ينتفع ولا يتضرّر والكافر هو أيضا لا ينتفع بدينه ويتضرّر به (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي يجب ويلزم القول ، ولعلّ المراد بالقول هو قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بقرينة قوله سبحانه (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) فسّر القول هنا بقوله (لَأَمْلَأَنَ) الآية و (الْكافِرِينَ) أي المصرّين على كفرهم من الذين لم يكونوا في دنياهم مخلّدين ولذا خلّدوا في النار طبق عقيدتهم ونيّاتهم وهذا هو معنى : نيّة الكافر شرّ من عمله ، لأنّه لو كان عقابه على طبق عمله

٣٦

كان لعقابه غاية حيث كان للعمل نهاية ، لأن الأعمار كان لها في الدنيا غاية وقصيرة مغيّاة بغايات محدودة فالأعمال على ميزان الأعمار بخلاف النيّات ، فإنّ المرء قد ينوي ما لا يدركه مثل الكافر فإنه ينوي أن يعصي الله تعالى عنادا وجحودا لو بقي في الدنيا مخلّدا ، فإنه وإن لم يدرك الخلود لكن الله سبحانه يؤاخذه طبق ما نواه ويعذّبه على ما أراد. فهذه شرّ له من عمله ، وهذا ما أجاب عليه‌السلام عنه في السّؤال عن أن نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله. ولمّا لم يتنبّه الكفرة بالأدلّة المذكورة إلى ما هو المقصود من ذكرها من وجود الصّانع تعالى وتوحيده ولا سلكوا طريق الحق ، عطف هو سبحانه زمام الكلام إلى أدلّة التوحيد فقال :

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

٧١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ ...) أي ألم يعلموا علما يقينيّا متاخما للمعاينة أنّا لأجلهم خلقنا (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) أي باشرنا إحداثها بالذات من غير وليّ ولا معين. وذكر الأيدي من باب الاستعارة لإفادة

٣٧

التفرّد والاختصاص في العمل. وإسناد العمل إليها للمبالغة في تفرّده وتوحّده سبحانه بالإحداث. وقال القمّي : أي بقوّتنا خلقنا الأنعام ، واختصّها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وعجائب الخلقة وكثرة المنفعة (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) يتصرّفون فيها وهم متملّكون لها قاهرون لها بتسخيرنا إيّاها لهم مع كمال ضعف الإنسان وغاية قوتها ... أقول : فإذا يعلم ويعرف كلّ من يتدبّر ويتعقّل أنه لا بدّ من قوة قاهرة فوق قوى الطبيعيّة تسخّر الأنعام وغيرها من ذوات القوى الغالبة على قوة الإنسان ، للإنسان الضعيف خلقة كما أشار إلى ما ذكرنا بقوله عزوجل :

٧٢ ـ (وَذَلَّلْناها لَهُمْ ...) أي صيّرناها منقادة ومسخّرة لهم غير نافرة ، فانظروا إلى الإبل وهي في تمام القوة وعظيم الجثّة. يسوقها صبيّ وكذلك الثور الذي يقاوم الأسد وربّما يغلبه فترى أن الإنسان الضعيف يخلّي على رقبته الضخمة الخشبة ويفلح عليه ويزرع الأرض وهو في كمال الانقياد والذّل ، فأيّ قوة تقدر أن تذلّله أو يسخّر غير من هو خالقه وفاطر السّماوات والأرض وما فيهما (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي هي الركوب ، وهذه منفعة مهمّة يمنّ بها الله تعالى على عباده على ما أشار في قوله سبحانه (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي إلى بلدان بعيدة لم تكونوا واصلين إليها إلّا بجهد ومشقّة هما فوق طاقتكم (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي هي معدّة للأكل كالأغنام فإن من منافعها المهمّة أكل لحمها وإن كانت لها منافع أخر على ما أشار إليه تعالى بقوله :

٧٣ ـ (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ...) فمن منافعها لبس أوبارها وأصوافها وأشعارها والاكتساب بها وبجلودها ومنها شرب ألبانها وأكل لحومها والكسب بها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ألا يشكرون المنعم على هذه النّعم الجزيلة؟ ثم بيّن سبحانه جهلهم وكمال حماقتهم ، يقول سبحانه :

٧٤ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً ...) أي وضعوا الشّرك مكان الشّكر ،

٣٨

والمعصية بدل الإطاعة (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) اي التجأوا واستعانوا بالتراب عن ربّ الأرباب لعلّ الجمادات أي الأصنام والأوثان يعينونهم وينصرونهم. فأيّ حماقة تبلغ مرتبة حماقتهم نعوذ بالله منها.

٧٥ ـ (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ...) أي هذه الآلهة التي عبدوها من أصنامهم وأوثانهم لا يقدرون على نصرهم والدفع عنهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) بل الكفّار جند للأصنام يغضبون لهم ويحضرون لخدمتهم ولحفظهم والذبّ عنهم في الدنيا مع أن الأصنام لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرّا ، لأن الجماد لا يشعر بشيء. وقيل إن الآلهة مع العبدة في النار محضرون لأن كل حزب مع ما عبده من دون الله كالأوثان والأصنام فإنها تكون في النار ، ولا الجند يدفعون عنها الإحراق ولا هي تدفع عنهم العذاب كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).

٧٦ ـ (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ...) لا تغضب لمصارحتك بالشّرك والإلحاد ، ولا لمقابلتك بالتكذيب والجنون والسّحر. وهذه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والالتفات من الغيبة إلى الخطاب تأكيد لعدم اعتنائه بهم وعدم اعتباره لأقوالهم وأفعالهم. وأكّد هذا بقوله : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي علمنا محيط بأسرارهم من الحقد والبغض للمؤمنين وإعلانهم الأقوال الموجبة لكفرهم وعصيانهم فسوف نجازيهم عليهما أشدّ الجزاء ونعذّبهم بأليم العذاب وكفى بذلك تسلية لك.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ

٣٩

نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

٧٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ ...) أي ألم يعلم أنّا خلقناه (مِنْ نُطْفَةٍ) اي من ماء عفن متعفّن يستقذره كلّ من يراه (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) في القمي أي ناطق عالم بليغ يجادل في البعث والنشر وينكره مع أنه إذا تدبّر وتفكّر يعلم بأنّ من يقتدر على خلق الإنسان من ماء مهين يقدر على البعث لأن الإعادة أسهل من الإنشاء أو خصيم مبين معناه شديد الخصومة.

٧٨ ـ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ...) أي بيّن لنا في إنكار البعث أمرا عجيبا بعقيدته وتشبّث بالعظم البالي وفتّته بيده وتعجّب ممّن يقول إنّ الله يحييه بعد فنائه. ففعل الإنسان ذلك واعتبره دليلا على عدم إمكان البعث. وفي العيّاشي عن الصّادق عليه‌السلام قال : جاء أبيّ بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط وفتّته ثم قال : يا محمد إذا كنّا عظاما ورفاتا أإنّا لمبعوثون خلقا جديدا؟ فنزلت فيه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي بدأ خلقه فلذا تعجّب (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فقد نسي

٤٠