الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

بدنيّة (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بشؤم معاصيكم التي صدرت منكم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من تلك العاصي بإزاء هذه الآفات والبلايا الواردة على العاصي بأن يجعلها كفّارة لكثير من ذنوبه رحمة ولطفا منه تعالى على العباد ويؤخّر بعض الذنوب ليوم الحساب لأنها ذنوب لا يطهّر العبد منها إلّا بالنار بمصالح لا يعلمها إلّا الله عزوجل ، ولذا قيّد العفو (بكثير) ولم يطلقه. نعم لا يعاقب على ما عفا عنه ثانيا. وفي المجمع عن عليّ عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، خير آية في كتاب الله هذه الآية ، ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلّا بذنب ، وما عفا الله عنه في الدّنيا فهو أكرم من أن يعود فيه ، وما عاقب عليه في الدّنيا فهو أعدل من أن يثنّي على عبده. وقال بعض أهل التحقيق : الآية مخصوصة بالمجرمين وإن خرجت مخرج العموم لأن الأطفال والمجانين ومن لا ذنب له من المؤمنين قد يصابون بمصائب شديدة مع أنه لا ذنب لهم ، وإن الأنبياء والأئمة يمتحنون بالمصائب وليس ذلك لأجل الذنوب بل لأسباب أخر منها التعريض للثواب العظيم والدّرجات العالية. أقول : هذا السبب ، أي التعريض ، بالنسبة إلى المكلّفين لا بأس به وأمّا بالنسبة إلى غيرهم كالأطفال والمجانين المصابين بأنواع المصائب فلا يقوم به هذا الجواب. نعم يمكن أن يقال إن مصائبهم لرفع درجات والديهم وأوليائهم من أجدادهم ومن يحذو حذوهم في غير الأحرار.

٣١ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) ... أي يا مشركي العرب لستم بقادرين أن تعجزوني ولو كان بعضكم لبعض ظهيرا ولا أن تسبقوني هربا في الأرض وفي هذا ترهيب لهم وتوعيد بإنجاز ما قضى به عليهم إن لم يؤمنوا بالتوحيد والرّسالة (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي لا يكون من يقدر أن يتولّى أمر حراستكم وحفظكم غير الله سبحانه (وَلا نَصِيرٍ) أي ولا معين يغيثكم في دفع الشدائد عنكم.

* * *

٣٢١

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

٣٢ و ٣٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) ... أي من حججه الدالة على اختصاصه سبحانه وتعالى بصفات لا يشركه فيها أحد هي السّفن الجارية في البحر (كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال لأن المراد من الأعلام الجبال. قالت الخنساء ترثي أخاها :

وان صخرا لتأتم الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار

والحاصل أنّ هذه السّفن التي كالجبال تجري على وجه الماء عند هبوب الأرياح الموافقة جريا سريعا بأسرع ما يكون هي التي تدل على التوحيد الصّفاتي بل والّذاتيّ ، ومرادنا من التوحيد الصّفاتي هو الذي قلناه سابقا من انحصار بعض الصّفات واختصاصها به سبحانه بحيث لا يشاركه فيها أحد (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي لو أراد الله وتعلّقت مشيئته بأن يسكن الرّيح فيوقفها عن جريانها وهبوبها فتصير السّفن رواكد أي ثوابت متوقّفة على سطح الماء. فمحرّك الرياح ومسكنها هو الله ، إذ انه لا يقدر أحد على التحريك والتسكين غيره سبحانه ، وذلك يدل على وجود الصانع القادر الحكيم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيما ذكر من آياته تسخير الرّياح وإجراء السّفن وتسكينها دلالات واضحات على وجود الصّانع وتوحيده للصّابرين الذين حبسوا أنفاسهم على النظر في آيات الله تعالى ، والشاكرين كثيرا على

٣٢٢

آلائه ونعمائه. وهذان الوصفان من أوصاف المؤمن الكامل في إيمانه على ما ورد في الحديث من أن الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر.

٣٤ ـ (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) ... عطف على جملة (يُسْكِنِ الرِّيحَ) أو (إن يشأ يوبقهن) اي يهلكهنّ بأهلهنّ بهبوب الأرياح الشديدة بحيث تغرق السفن بما فيها عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من أهلها بإنجائهم تفضّلا منه سبحانه وتعالى عليهم.

٣٥ ـ (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) ... عطف على العلّة المقدّرة. وتقدير الكلام أنه تعالى يوبق أهل السفن ويغرقهم لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون أي يخاصمون نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (فِي آياتِنا) في دلائل قدرتنا وتوحيدنا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لا يمكن الفرار من حكومتنا عند نزول عذابنا ووقوع العقاب. وهذا تهديد وتخويف شديد بالهلاك والعذاب ، والعطف على العلة ليس بعزيز في القرآن الكريم.

* * *

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))

٣٦ ـ (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ... أي ما أعطيكم ممّا

٣٢٣

يتعلق بدنياكم من الأموال والأولاد وكلّ شيء ترغبون وتتنافسون فيه فهو ممّا ينتفع به من عروض الدّنيا وأنتم تمتّعون به زمن حياتكم ولكنه غير باق ، بل ينقضي عن قريب (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة ونعيم الجنّة (خَيْرٌ وَأَبْقى) إذ لا ينقص ولا ينقطع ، وهذا وجه كونه أبقى. وأما وجه كونه خيرا فلأنّه متاع دار البقاء واحتياج الإنسان فيها أزيد من دار الفناء ، فمتاع تلك الدار خير من متاع هذه الدار الفانية بمراتب كثيرة لأنه باق وهذا فان ، والباقي لو كان خزفا أحسن من الفاني وإن كان ذهبا ولذا اختصّ سبحانه ما عنده بالمؤمنين كما يقول سبحانه (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والتوكّل على الله هو تفويض الأمور إليه باعتقاد أنها جارية من قبله على أحسن التدبير ، مع الفزع إليه بالدّعاء من كل ما ينوب.

٣٧ ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) ... عطف على الموصول وصلته ، فالمعطوف محلّه النّصب والتقدير : إن ما عند الله للّذين يجتنبون الكبائر : والكبائر فيها أقوال ، والمشهور أنّها ما ذكر في القرآن وأوعد عليه النّار. وعن ابن عباس : كبير الإثم هو الشّرك ، وقيل المراد بالكبائر ما يتعلّق بالبدع واستخراج الشّبهات ، (وَالْفَواحِشَ) ما يتعلّق بالقوة الشّهويّة وفواحش جمع فاحشة ، وهي أقبح القبائح كالشّرك أو إنكار الصانع تعالى أو الزنى ، ولها مراتب على تفاوت مراتب القبائح. وقوله (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) هو ما يتعلّق بالقوّة الغضبيّة ، ففي القمّي عن الباقر عليه‌السلام قال : من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة. قال : ومن ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا غضب حرّم الله جسده على النّار.

٣٨ ـ (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) ... أيضا عطف على ما قبله ، ومعناه : الّذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من الإيمان به وبنبيّه (ص) وبما جاء به. والقمّي قال في إقامة الإمام (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي

٣٢٤

ذو تشاور ولا يقدمون عليه حتى يتشاوروا فيه ويجتمعوا عليه وذلك من فرط تيقّظهم في الأمور ويختاروا بعد جمع الآراء أقربها للصواب وأقومها وأوفقها للمقصود حتى لا يصبحوا نادمين في عملهم. ووصف المؤمنين بأنّهم في أمورهم يتشاورون ليدل على أنّ الاستبداد في الحكم ليس من نظام الدّين ولا من شأن المؤمنين. والمشاورة في الأمور هذه من دساتير الله سبحانه لعباده في أمورهم ولعلّ عقل البشر كان قاصرا عن إدراك فوائد المشورة لو لا تنبيه الله تعالى عليها وأمره بها. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرّشد ويستفاد من الحديث أن الله سبحانه يلقي في قلب المستشار ما هو الصّواب والواقع حتى يقوله له فيهدى المشاور إلى ما فيه خيره. وعن النبيّ (ص): ما شقي عبد قطّ بمشورة ولا سعد باستبداد. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يبذلونه في طاعة الله وفيما هو مرض للخالق تعالى ، وروي : ما خاب من استخار وما ندم من استشار.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ... أي إذا أصابهم من الكفار ظلم وتعدّ فيتكاتفون عليهم حتى يأخذوا منهم بحقّهم ، و (يَنْتَصِرُونَ) أي ينتقمون من المشركين لأنهم إذا لم ينتقموا منهم ، يروا إن الصّبر والعفو ذلّ وهوان عليهم فلا يخضعون لهم ، مع أن الخضوع والعفو من شيمة المؤمن وعادته ومن أوصافه ، لكن في موارد خاصّة لا في مورد يصير سببا لجرأة الكفرة ومزيد بغيهم عليهم ، ويحمل على الخوف من المشركين مع أنه تعالى وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمّهات الفضائل. وهو لا ينافي وصفهم بالغفران لأن الغفران ينبئ عن عجز المغفور له ، والانتصار ينبئ عن مقاومة الخصم ، والحلم عن العاجز ممدوح وعن المتغلّب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي والعدوان كما أشرنا آنفا. ألا ترى أن العفو عن المصرّ يكون كالإغراء له فيصير العفو في غير محلّه ولا

٣٢٥

يكون ممدوحا بل هذا العفو مذموم.

* * *

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

٤٠ ـ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ... هذه الكريمة تبيّن واجب المنتصر بأنه لا يجوز التعدّي في مقام الانتصار عما جعله الله له ، أي (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أيضا نظير ما نحن فيه قوله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ)(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي عفا وتجاوز عن حقّه ، وأصلح بينه وبين خصمه إذا كان من أهل الايمان وبشرط القربة لله ، فيقع أجره على الله وهو خير له من الانتصار. وفي التبيان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليدخل فيقوم عنق من الناس فيسأل الملائكة عنهم بأنّه أيّ أجر لكم على الله؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمّن ظلمنا من المؤمنين ، فيقال لهم ادخلوا الجنّة بغير محاسبة عن أعمالكم. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) في هذه الجملة إشعار بأن الانتقام من المنتصر ليس بمأمون من

٣٢٦

التجاوز والاعتداء فيقع المنتصر في مهلكة الظلم والعدوان ، خصوصا في حال الغضب والتهاب العصبيّة والحميّة ، لأن المجازي ربّما يصير مسلوب الشعور بكثرة الغضب وفوران الدّم ، ونعوذ بالله من تلك الحالة. ولذا فضّل الله العفو على الانتقام بقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) خوفا من صدور التجاوز عن المثليّة المشروعة ، فيحسب المنتقم في من لا يحبّهم الله من الظالمين.

٤١ ـ (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) ... أي بعد ما ظلم وتعدّي عليه فانتصر لنفسه وانتصف من ظالمة في أخذ حقه (فَأُولئِكَ) أي فالمنتصرون (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي من إثم وعقوبة وذمّ. وفي الخصال عن السّجّاد عليه‌السلام : وحقّ من أساءك أن تعفو عنه ، وإن علمت أنّ العفو يضرّ انتصرت! قال الله تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) ، الآية. وعن الصّادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك : السفلة ، والزوجة ، والمملوك. وفي الحديث : إيّاك ومخالطة السّفلة فإن مخالطتهم لا تؤول إلى خير.

٤٢ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) ... أي سبيل المؤاخذة والمعاتبة والمعاقبة على الذين يظلمون الناس ويبتدءونهم بالإضرار ويطلبون منهم ما لا يستحقّون تجبّرا عليهم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) أي يتكبّرون ويفسدون فيها ويظلمون الآخرين بغيا وجورا وبلا حجة وبرهان وبلا مجوّز دينيّ ولا عقلي ، بل نخوة وفسادا. ولذا أوعدهم الله بقوله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ظلمهم وبغيهم كونهم مفسدين في أرض الله.

٤٣ ـ (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) ... أي صبر على الأذى وتحمّل المشاقّ وغفر أي صفح ولم ينتصر ولم ينهض للانتقام مع قدرته على ذلك (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الصّبر والصّفح من الأمور الثابتة التي يحبّها الله وأمر بها

٣٢٧

ولم ينسخها ، ويقال : معزومات الأمور. مهمّاتها وواجباتها التي أهتمّ بها.

* * *

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

٤٤ ـ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) ... أي يخلّيه وضلاله ، فليس له ناصر يتولّى أمره من بعد خذلان الله له سواء خذله في الدنيا أو في الآخرة (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين يرونه معاينة (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) أي إلى رجعة إلى الدّنيا ، ولعلّ هذا القول لسان حالهم وإن كان لا يبعد أن يكون بلسان مقالهم.

٤٥ ـ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) ... أي يا محمد ترى الظالمين يوم حشرهم يعرضون على النّار ، أي يظهرونهم في معرض إيقاعهم فيها ، أي في النّار المعلومة العذاب حيث إنهم قبل دخولهم إليها يعذّبون بأليم العذاب

٣٢٨

الدالّ على أنهم من أهل النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) أي متواضعين تواضع ذلّة وحقارة (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي يتطلّعون نحو النّار من طرف أعينهم لا بتمامها بحيث لا يحسّ نظرهم إلّا من تحريك أجفانهم كالمصبور ـ أي المقتول صبرا والمحكوم عليه بالإعدام ـ ينظر إلى سيف الجلّاد خوفا من النار وهوانا في نفوسهم (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي بالتعريض للعذاب المخلّد. فأمّا أنفسهم فبعبادة الأوثان ، وأمّا أهاليهم فلإضلالهم إيّاهم ومنعهم عن الإيمان بالله والرّسول (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي فليعلم أن المشركين في عذاب دائم لا ينقطع أبدا ، اما من كلامهم ، أو تصديق من الله تعالى لهم فهو قول الله عزوجل. قال الرازي : إن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر ، قال تعالى (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولكن لا يخفى إنّ هذا الاستدلال لا يثبت مدّعاه وهو دلالته على حصر الظالم بالكافر إذا أطلق ، بل يدل على أن الكافر ظالم ، وأمّا كلّ ظالم إذا أطلق فالمراد به الكافر فلا ، بل هو أعمّ منه ومن الفاسق كما هو مقتضى وضعه الأول وكما يستدلّ بهذه الآية الكريمة (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) التي يستفاد منها العموم. وقال القاضي عبد الجبّار بأنها تدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما.

٤٦ ـ (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) ... أي ليس للظّالمين غير الله تعالى أنصار يدفعون عنهم عقاب الله ونكاله ويعملون لنجاتهم من النار. و (يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي كلّ من يخلّيه الله مع ضلالته لجحوده وعناده فليس له طريق إلى الهداية والرشاد والنجاة.

* * *

٣٢٩

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨))

٤٧ ـ (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ) ... أي أجيبوا داعي ربّكم وأطيعوه ، يعني نبيّ الله محمدا (ص) فيما دعاكم إليه من المصير إلى طاعته والانقياد لأمره (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا رجوع للدّنيا بعده ولا يردّه الله بعد إتيانه (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي من معقل وملاذ ومفرّ (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي إنكار لتغيير العذاب لما اقترفتموه ، فهو مثبت في صحائف أعمالكم وتشهد عليه جوارحكم فمن يقدر على إنكاره وعلى فرض إنكاره ، أو يغيّر العذاب المثبت؟ فإن الإنكار الكاذب لا يسمع ولا يترتّب عليه الأثر.

٤٨ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ... أي فإن تولّوا وأدبروا ولم يسمعوا حين أمرتهم بأن يجيبوا داعي ربّهم ، ولم يقبلوا هذا الأمر (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي حافظا وحارسا لهم من كفرهم إجبارا وإكراها وسوقهم إلى دائرة الإيمان ، فلا تحزن على إعراضهم عن الإجابة (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي تبليغ الأحكام وإيصالها إلى أفهامهم وبيان ما فيه رشدهم وهدايتهم وقد بلّغت وفعلت ما كان عليك (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) أي بطر وسرّ برحمة ربّه. والمراد بالإنسان هو الجنس بقرينة قوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ

٣٣٠

كَفُورٌ) أي كثير الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البليّة ويستعظمها ولا يتأمّل في سببها حتى يتعقّل أن السيئة هو بنفسه مسبّب لها ، والرّحمة هي من عند الله وبفضله وكرمه. وقد وضع الظاهر مقام الضمير للدّلالة على إن هذا الجنس موسوم بكفران النّعمة ومعروف بذلك إلا إذا أدبه الله ووفّقه لشكران نعمه سبحانه.

* * *

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

٤٩ و ٥٠ ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي له أن يقسم النّعمة والبليّة كيف يشاء فليس للإنسان أن يغترّ بملكه من المال والجاه لأنه إذا علم أن الكلّ ملك له تعالى وما عنده هو تعالى أعطاه وأنعم به عليه ، يصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة والإقبال على العبادة ، بخلاف ما إذا اعتقد أن ما هو واجد له من النعم إنما هو بسبب عقله وجدّه فيصير مغترّا بنفسه معرضا عن طاعة ربّه ، وبالنتيجة يقع في حفر الضّلالة وتيه الغواية فلا يتنوّر بنور الهداية. ثم انه سبحانه ذكر بعض أقسام تصرّفه في ملكه بقوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ. يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) هذه الجملة بدل من يخلق ، بدل بعض من الكلّ (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أي فقط (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) تفسير هذه الجمل هو ما روى القمّي عن الباقر

٣٣١

عليه‌السلام : يهب لمن يشاء إناثا يعني ليس معهنّ ذكر ، ويهب لمن يشاء الذكور يعني ليس معهم أنثى ، أو يزوّجهم ذكرانا وإناثا أي يهب لمن يشاء ذكرانا وإناثا جميعا يجمع له البنين والبنات ، أي يهبهم جميعا لواحد.

أما تقديم الإناث على الذكور مع تقدّم الذكور على الإناث ذاتا ، فقد ذكروا فيه وجوها أكثرها غير مقنع. والوجه الوجيه أن يقال إن أعراب الجاهلية كانوا لا يرون للإناث اعتبارا ، وكانوا يعاملون الإناث معاملة البهائم غير المحترمة النّفس ، ولذا كانت المرأة إذا ولدت أنثى فكأنّما ولدت بهيمة ليست بذات حرمة أو أنها ليست من جنس الإنسان ، من أجل ذلك كان أبوها يتغيّر حاله ويسودّ وجهه كما قال سبحانه وتعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) وكان ذلك المولود عارا عليه وتقبيحا لحظّه. فالله سبحانه إرغاما لأنوف جاهليّتهم الرّعناء ، وتأديبا لهم ، قدّم ذكر الإناث أولا ، ثم أخّره ثانيا ، وعرّف الذكور ونكّر الإناث للدلالة على أن الواقع هو ما تتعلّق به مشيئة الله لا مشيئة الناس ، ولكي يفهمهم أن البنات في نظام الخلقة أكفاء للبنين ، وليعلّمهم آداب الدّين الإسلامي وأنّ في شرع سيّد المرسلين شأنا خاصّا للبنات وحرمة كحرمة البنين. ولمّا أخرّ الذكور تدارك تأخيرهم بالتعريف ، لأن التعريف تنويه وتكرمة ، ثم نكّر الإناث لأن التنكير تحقير نوعا ، ثم أعطى كلّا من الجنسين حقّه من التقديم والتأخير ليعلم أن تقديمهنّ لم يكن لتقدّمهنّ ، ولكن لغرض آخر ولحكمة اقتضت ذلك ، والله أعلم بما قال (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي من الرجال والنساء وهو الذي لا يلد ولا يولد له (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي عارف بمصالح الأمور وبما في الأرحام ، وقادر على ما يهب ويعطي تمام القدرة.

* * *

٣٣٢

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

٥١ ـ (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) ... أي ليس لأحد من البشر أن يكلّمه الله سبحانه على وجه أن يراه البشر كما يرون غيره حينما يكلّمهم ، وهذا محال عقلا ونقلا لأنه يلازمه التجسّم وهو محال حيث إن التجسّم والتركيب مباينان لمعنى الألوهيّة على ما برهن في محلّه ، فلا يمكن أن يحمل التكلّم على معناه الظاهري ولا بدّ من أن يكون المراد إمّا أن يوحى إليه وحي إلهام كما في قضية داود عليه‌السلام الذي ألهم في صدره فزبر الزّبور ، فليس لأحد أن يكلّمه الله جلّت قدرته (إِلَّا وَحْياً) ووحيا منصوب بناء على أنه مفعول للفعل المقدّر وهو «يوحي» والوحي هو الكلام الخفيّ الذي يدرك بسرعة ، ومصاديقه إمّا بأن يلهم الإنسان ما هو المقصود ، أو بطريق المنام كما أوحى الله إلى أمّ موسى أي ألهمها بإلقاء ولدها في البحر ، وإبراهيم حينما رأى في المنام ذبح ولده ، وإمّا من وراء حجاب كما قال تعالى (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كتكليم موسى عليه‌السلام الذي كان سماعا بدون رؤية والمقصود بالحجاب حجب السّامع لا المتكلّم ، فالله تعالى عن أن يحجب منه حجاب أو يستر ساتر ، وإمّا

٣٣٣

بإرسال الرّسل قال تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) والرسول هو جبرائيل عليه‌السلام لأنه رسول الله إلى أنبيائه وهم رسل الله إلى سائر خلقه (بِإِذْنِهِ) أي بامره تعالى (ما يَشاءُ) الله (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي أعلى شأنا من أن يكون على صفات المخلوقين من وقوع الرؤية عليه أو أن يتكلّم مع خلقه مشافهة كما يتكالمون هم كلّ واحد مع الآخر ، كذلك أو يأكل ويشرب ويمشي في الشوارع والأسواق كما قال بعض المتصوّفة الجهلة بهذه الأباطيل والخرافات (حَكِيمٌ) يفعل ما تقتضيه حكمته البالغة والمصلحة العامّة أو الخاصّة في موارد خاصّة.

٥٢ و ٥٣ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ... أي كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك هكذا نوحي إليك ونرسل (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) في الكافي عن الصّادق عليه‌السلام في هذه الشريفة ولعلّه سئل عن الروح كما يستفاد من قوله (ع) فقال : خلق من خلق الله عزوجل أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمة عليهم‌السلام من بعده. وفي رواية منذ أنزل الله ذلك الروح على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صعد إلى السماء وإنه لفينا (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما كنت تعرف القرآن ولا الشرائع ومعالم الدّين قبل الوحي أو قبل نزول القرآن (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) أي القرآن أو الرّوح. وقيل المراد من الرّوح هو القرآن ، وتسميته روحا لأنه حياة قلوب المؤمنين كما أنه بالأرواح تحيا الأبدان ، فعلى هذا لا فرق في رجوع الضمير إلى القرآن أو إلى الرّوح (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي بالقرآن نرشد العباد من حيرة الضّلالة والغواية إلى سبيل الهداية وطريق النجاة ، لأن القرآن إذا كان نورا فإنه كما يهتدي الإنسان بالنور الذي هو ظاهر بنفسه ومظهر لغيره ، يهتدي الإنسان بالقرآن بتوفيقه سبحانه ويهتدي سائر العباد. فإطلاق النور على القرآن حقيقة لا أنّه مجاز. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أنه

٣٣٤

سئل عن العلم أهو شيء يتعلّمه العالم من أفواه الرّجال أم في الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمونه؟ قال عليه‌السلام : الأمر أعظم من ذلك وأعجب ، أمّا سمعت قول الله عزوجل (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً) ، الآية؟ قال عليه‌السلام : أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية أيقرءون أنه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت : لا أدري جعلت فداك ما يقولون. فقال : بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتى بعث الله عزوجل الرّوح التي ذكر في الكتاب ، فلمّا أوحاها إليه علم به العلم والفهم ، وهي الرّوح التي يعطيها الله عزوجل من شاء ، فإذا أعطاها عبدا علّمه الفهم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إنك بعد وحينا إليك وتعلّمك الكتاب والإيمان لتدعو الناس إلى صراط عدل لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام والإيمان. وفي بعض الروايات : وعليّ هو الصراط المستقيم (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هذه الشريفة بدل من قوله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومعناها أن الصّراط المستقيم هو الطريق إلى الحق وإلى الدّين والشرع المقدس ، لا أمر شرقيّ ولا غربيّ ، فلله ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا يختصّ به (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي اعلموا أن أمور الخلائق مصيرها يوم الحشر إليه تعالى ولا يشاركه فيها أحد. وفي الشريفة وعيد للكفرة ووعد للمؤمنين.

* * *

٣٣٥
٣٣٦

سورة الزخرف

مكيّة إلّا الآية ٥٨ فمدنيّة وآياتها ٨٩ نزلت بعد الشورى.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

١ إلى ٣ ـ (حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ... أي أقسم بالقرآن المظهر للحلال والحرام والمبيّن لما يحتاج إليه الأنام من شرائع الإسلام (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه قرآنا بلسان العرب حتى يكون سهل التّناول والتفاهم ، فلا يبقى لهم عذر إن لم يعملوا به معتذرين بانا لا نفهمه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

٣٣٧

أي تتدبّرون لكي تفهموا معانيه وتعملوا به من حيث إن الحجة تمّت عليكم.

٤ ـ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) ... أي أن القرآن مثبت في اللّوح المحفوظ الذي عندنا (لَعَلِيٌ) أي لرفيع شأنه. وإنّما يقال للّوح أم الكتاب لأن الأم هي بمعنى أصل الشيء ، وحيث إن جميع الكتب السماوية تستنسخ منه فهو أصل الكتب ، وإنما يتّصف اللّوح بالحفظ لأنه محفوظ من التغيير والتّبديل. وقيل إنّ قوله (لَعَلِيٌ) لأن القرآن يعلو على سائر الكتب السّماوية المنزلة على المرسلين ، ولما اختصّ به من كونه ناسخا للكتب السماويّة ويجب العمل به وبما تضمّنه من الفوائد لكونه معجزة باقية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره (حَكِيمٌ) أي محكم عن تطرّق النقص وطروء النّسخ أو الزيادة ، أو معناه : ذو حكمة بالغة وهو مظهر للحق والصّواب. ثم إنه تعالى على سبيل الإنكار يخاطب أهل الجحود والشّرك بقوله :

٥ ـ (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) ... قال صاحب الكشاف : الفاء في قوله (أَفَنَضْرِبُ) للعطف على محذوف تقديره : (أنهملكم فنضرب عنكم الذكر) أي فنصرف عنكم القرآن صرفا ونمسك عن إنزال الوحي فلا نعرّفكم ما يجب عليكم لتتمّ الحجة عليكم من أجل سرفكم في كفركم وعنادكم؟ وبعبارة أخرى أفنمسك عنكم نزول القرآن إمساكا لأنكم قوم مسرفون في الكفر وارتكاب المعاصي؟ والاستفهام إنكاريّ ، أي لا يصير كذلك. والتعبير في الآية بالضرب لأنّ الدابّة إذا أرادوا أن يصرفوا وجهها عن طريق إلى طريق يضرب وجهها بسوط أو خيزران أو بأمثالهما ، فبهذه المناسبة وضع الضرب موضع الصرف والعدول. وضمنا تستفاد نكتة وهي أنه تعالى أنزل المشركين منزلة البهائم فاستعملها وساق الكلام مساق ما يستعمل مع الدوابّ ، ويدل على ما ذكرنا من التنزيل قوله سبحانه

٣٣٨

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) ، (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي لكونكم أهل الإسراف في التّجاوز عن حدود الشرع والغور في وادي الضّلالة والغواية. ثم إنه تعالى تسلية لنبيّه عن أذى قومه باستهزائهم وسخريتهم به يقول :

٦ ـ (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) ... أي كثيرا من الأنبياء بعثناهم في الأزمنة الماضية لأممهم الذين كانوا متّسمين بسمة الإسراف والإشراك وبفرط الغواية ومتّصفين بالكفر والإلحاد ، ومع هذا ما خلّيناهم بل أرسلنا إليهم رسلنا متعاقبين وأنزلنا كتبنا متوالية لإلزام الحجة وإتمامها عليهم.

٧ و ٨ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ... أي كما استهزأ قومك بك ، فلم نضرب عنهم صفحا لأجل استهزائهم بالرّسل بل كرّرنا الحجج وأعدنا الرّسل وكذا نفعل بقومك فنكرّر عليهم الحجج والبراهين حتى تتمّ الحجة ونفحمهم في الخصومة (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي أن من القوم المسرفين السابقين الذين كانوا أقوى من قومك المسرفين من لم تمنعنا قوّتهم وشوكتهم من تعذيبهم ، فكيف بالمسرفين من قومك ، فتعذيبهم أيسر وأسهل شيء علينا (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي سلفت في مواضع عديدة في القرآن قصّتهم وأخبارهم العجيبة وأنّهم كيف عملوا مع أنبيائهم وأيّ طريق سلكوا معهم ، ونحن كيف فعلنا بهم من التعذيب والإهلاك والإفناء. وفيه وعد للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنّصر ، ووعيد للمشركين بمثل ما جرى على الأوّلين المسرفين فليحذروا وليتهيّأوا للعذاب الشديد والنكال الذي يكون عبرة لغيرهم. ثم إنّه سبحانه على سبيل إلزام الحجّة على أهل مكة يقول :

* * *

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

٣٣٩

لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

٩ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... أي يا محمد لو سألت قومك من المبدع لخلق السماوات والخالق للأرض لأقرّوا واعترفوا بأنه هو الله (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي الغالب على جميع الأشياء والعالم بمصالح الخلق والمكوّنات جميعا ، وهذه الشريفة تدل على غاية جهالتهم وحماقتهم حيث إنهم مع إقرارهم الكاشف عن علمهم بأن خالق الأشياء طرّا هو الله ، مع ذلك تركوا عبادة من هو المستحقّ للعبادة ويعبدون الجماد الذي هو العاجز المطلق وأدنى الأشياء كالأصنام والأوثان. ثم إنه عزوجل لمزيد إثبات الحجة عليهم يقول في وصف ذاته المقدّسة ما في آية الذليل :

١٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) ... أي موضعا ومستقرّا مبسوطا لكونكم مرتاحين فيه ، ومتهيّئا لتعيّشكم وإصلاحكم لأموركم. وهذه نعمة

٣٤٠