الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

٩ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ... كلمة أم للإضراب. والمعنى أنّ الكفرة لا أنّهم لا يؤمنون فقط ، بل مضافا إلى ذلك اتّخذوا غير الله أولياء من الأصنام والأوثان مع أنه لا يتأتّى من قبلها لهم نفع ولا ضرّ ، فإن أرادوا من أخذهم الوليّ أن ينتفعوا ويستفيدوا منه (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) الذي له الأهليّة لأن يستفاد منه وينتفع به كلّ النّفع ، فلا بدّ من أخذه وليّا لأنّ قدرته فوق قدرة كلّ قادر وقوّته فوق القوى كما بيّن ذلك بقوله (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) فالذي بتلك المرتبة من القدرة بأن يعطي الأموات الحياة ، فهو ـ وحده سبحانه وتعالى ـ يليق بأن يؤخذ وليّا. أمّا الجماد الذي يكسر ويحرق ويرمى برماده إلى أيّ مكان ولا يشعر بذلك ، ولا قدرة له أن يدفع عن نفسه الضرّ فهو أخسّ من أن يؤخذ وليّا ، فالله هو الوليّ (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لا ينبغي أن يترك هذا الذي بهذه الصّفة ويؤخذ ذاك الذي هو أعجز من كلّ عاجز وأضعف من كلّ ضعيف ، فالذي هو قدير على الأشياء طرّا وأزمّة أمورها بيده هو أحقّ بالولاية على الأشياء كلّها على ما يحكم به عقل كلّ عاقل وفهم كلّ فهيم لا غيره ، كالأحجار المنقورة والأخشاب المصنوعة.

٣٠١

١٠ ـ (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) ... أي من أمور دينكم أو دنياكم (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي مفوّض إليه يفصل بينكم بإثابة المحق ومعاقبة المبطل (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) فالذي يتّصف بصفة الحكومة الحقّة ولا يجور في حكمه أبدا هو الله وهو ربّي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي اعتمدت عليه ووثقت به في أموري جميعا دنيويّة كانت أم أخرويّة (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع إليه حيث إنّه مرجع العباد طرّا لا الغير.

١١ ـ (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... يمكن أن يكون رفعه باعتبار كونه خبر (ذلِكُمُ) بعد الخبر ويحتمل كونه مبتدأ وخبره جملة (جَعَلَ لَكُمْ) أي الذي خلق السّماوات والأرض (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) من جنسكم نساء ، أو المراد بالأزواج هو الذكور والإناث والتعبير (بجعل) لعلّه للتّنبيه على أن حكمة خلقهنّ لجعلهنّ أنيسات للرّجال ولتحصيل الرجال منهنّ الأولاد والأتباع والله أعلم ، (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي ذكرا وأنثى لازديادها وكثرة الانتفاع بها (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي ينشركم ويكثّركم في الجعل المدلول عليه بقوله تعالى (جَعَلَ لَكُمْ) أو الضّمير راجع إلى النّسل الذي يحصل من الذكور والإناث كما فسّره القمّي ، وهذا أقرب بالنظر إلى (يَذْرَؤُكُمْ) وأنسب كما لا يخفى على أهل النظر. و (يَذْرَؤُكُمْ) من الذّرء بمعنى الخلق والتكثير في الشيء ، وضمير الخطاب عامّ يشمل العباد والأنعام على سبيل تغليب ذوي العقول على غيرهم ، والمناسب هو التعبير بباء السببيّة ، لكنّه لمّا كان هذا التّدبير ، أي خلق الأزواج الذي هو منشأ التزاوج والتناسل بمنزلة المنبع والمعدن اللّذين يخرج منهما المياه والفلزات وتخرج الأشياء بعناوينها المختلفة فلذا عبّر بقوله (فِيهِ) نظير قوله سبحانه (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) فيحمل الظرف على معناه الحقيقي. ولمّا لم يكن إيجاد السّماوات والأرضين وتكثير الخلائق بالتّزاوج مقدورا لأحد سواه تعالى فلهذا يقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قيل

٣٠٢

بزيادة حرف الجر والإتيان به لتأكيد النفي. وقيل إن المراد بلفظ المثل هو المثل الفرضيّ ، يعني لو كان له مثل فرضا لم يكن كمثله شيء وقيل أريد بمثله ذاته كقولهم مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل. والحاصل من قوله ليس كمثله شيء أنه متفرّد في صفاته وفي ذاته القدسيّة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يسمع المقولات ويبصر المبصرات فكل من يريد أن يقول منكرا من القول أو يفعل قبيحا من العمل فليقل وليفعل ، فإن الربّ لبالمرصاد ، وهذا تهديد منه سبحانه للعباد.

١٢ ـ (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي مفاتيح خزائنهما ، وقيل مفاتيح الأرزاق وأسبابها فتمطر السّماء بأمره وتنبت الأرض بإذنه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي يوسّعه (وَيَقْدِرُ) أي يقتّر ويضيّق ، كلّ ذلك على طبق مشيئته (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي منه مصالح البسط والتقتير فيفعله على ما ينبغي.

* * *

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣))

١٣ ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) ... أي سنّ لكم

٣٠٣

شريعة ونهج منهاجا وأوضحه لكم وأظهره ، وهو ما وصّى به نوحا ، فهو بيان عن دين نوح وشريعته. والخطاب إلى أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أي يا أصحاب محمد إنّ الله سبحانه اختار لكم من ناحية الدّين دين نوح ودين محمد وإبراهيم وموسى وعيسى. وإنّما خصّ هؤلاء الخمسة بالذّكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشّرائع العظيمة والأتباع الكثيرين. والمراد من الدّين ها هنا هو أصول الدّين المشتركة بين هؤلاء الخمسة ، بل المتّفق عليها بين الكلّ من التوحيد والمعاد والإلهيّات ، غير التكاليف والأحكام لأنّها مختلفة متفاوته كما قال سبحانه (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) فلا بد أن يكون المراد من الدّين الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع والأزمان (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الجملة في محل النصب بناء على أنها بدل عن مفعول شرع ، أي شرع لكم أن أقيموا الدّين أي أصوله. أي تمسكوا به جميعا وخذوا به ولا تختلفوا فيه فتتشتّتوا وتتفرّقوا فيسلّط الله عليكم من لا يرحمكم (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي عظم عليهم وصعب ما تدعوهم إليه من التوحيد والنبوّة والمعاد وترك الأصنام ورفض دين آبائهم الأوّلين (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ) أي يختار إلى دينه (مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يوفّق إلى دينه من يقبل إليه ويقبله ويستقبله بقلبه ، ولا يوفّق إليه المعاند والجاحد. وقال القمّي : المراد بمن (يَجْتَبِي) و (مَنْ يَشاءُ) و (مَنْ يُنِيبُ) هم الأئمة الذين اختارهم واجتباهم. وعن الصّادق عليه‌السلام (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) قال : الإمام عليه‌السلام : ولا تتفرقوا فيه : كناية عن أمير المؤمنين ، ما تدعوهم إليه : من ولاية عليّ عليه‌السلام ، من يشاء : كناية عنه.

* * *

٣٠٤

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

١٤ ـ (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ... لقائل أن يقول : إن الله تعالى أمر (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا) فما السبب في أن نجد الأمم متفرّقين؟ فيجيب سبحانه عن السؤال المقدّر بقوله : (وَما تَفَرَّقُوا) ، الآية أي تفرّق أهل الكتاب أو أهل الأوثان والأديان بعد العلم والعرفان بصدق الأنبياء وحقانيّة ما جاؤوا به (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة وحسدا بين الرّسل وبينهم ، أو بين بعضهم مع البعض الآخر طلبا للرئاسة ، فحملتهم الحميّة النفسانيّة والعصبيّة الشهوانيّة على أن لا يسمعوا دعوة داعي الله وعلى أن يخالفوا أوامره ونواهيه ، فذهبت كلّ طائفة إلى مذهب ، ومشى كلّ قوم إلى سنّة سيّئة جعليّة ، فحصل الاختلاف. فجملة (بَغْياً

٣٠٥

بَيْنَهُمْ) علّة للاختلاف ، ونصب (بَغْياً) بلام التعليل المقدّر ، أي اختلفوا بعلة الحسد والعدوان بعد علمهم بصدق الأنبياء وحقّانيّة كتبهم ، أو اختلفوا للبغي ولأجله. ثم أخبر سبحانه أنّهم استحقّوا العذاب بسبب هذا العمل الشنيع والفعل القبيح الصادر عنهم ، إلّا أنّه جلّ وعلا أخّر عذابهم وأمهلهم لمصلحة اقتضت ، ولأنّ لكلّ عذاب أجلا مسمّى وزمانا خاصّا ، ولذا قال سبحانه (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) والمراد بالكلمة هو الوعد بالإمهال وتأخير عذاب الأمّة المرحومة أو مطلق الأمم لأن الآية عامّة. والأجل المسمّى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة وهو الأجل المعهود والمراد بالقضاء عليه بينهم هو إهلاك المبطلين والحاسدين المعاندين الجاحدين الملقين للخلاف بين الأمّة. وفي القمّي : لو لا أنّ الله قد قدّر ذلك أن يكون في التقدير الأوّل ، لقضي بينهم إذا اختلفوا ولأهلكهم ولم ينظرهم ، ولكن أخّرهم إلى الأجل المسمّى المقدّر (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي اليهود والنّصارى الذين أورثوا الكتاب أي التوراة والإنجيل ، من بعد قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ومن بعد أحبارهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي من القرآن أو من محمّد (ص) ومريب صفة ظاهرة للشّك ، ومعناه لفي شكّ مؤدّ إلى الرّيبة أي الظنّ فإنها مرتبة من مراتبه يعني ظنهم غالبا أنّ القرآن أو الإسلام أو محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على غير الحق. والقمّي قال : كناية عن الذين نقضوا أمر رسول الله وعهده.

١٥ ـ (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ... أي لأجل الاختلاف الذي صار سببا للتفرّق موجبا لتشكيل المذاهب المختلفة التي عمّ شؤمها للإسلام والّتي أخبر بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال (ص): ستفترق بعدي أمّتي سبعين فرقة ، واحدة ناجية والباقي في النار ، أو مع تفاوت يسير في اللفظ (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) قال بعض أعلام علم النحو كالفرّاء والزجّاج

٣٠٦

جاء : دعوت لفلان وإلى فلان أي استعمل اللّام بمعنى إلى ، فلذا قيل إنّ حرف الجرّ في قوله (فَلِذلِكَ فَادْعُ) بمعنى إلى ، ومعناه فإلى الدّين الذي شرعه الله تعالى ووصّى به أنبياءه فادع الخلق يا محمد. وقيل أن اللام للتعليل كما فسّرناه والإشارة إلى الشك الذي حصل لهم أي فلأجل الشك الذي هم عليه فادعهم إلى الحق حتى تزيل شكّهم. وعن الصّادق عليه‌السلام : يعني إلى ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي امض كما أمرت وصمّم على أمرك ولا تصغ إلى كلام أحد فيما أمرت به من دعوتك الناس إلى التوحيد وتبليغ الرّسالة والنبوّة ، ولا تخف من أحد فإن الله ناصرك ومعينك. والحاصل ان قوله تعالى فاستقم أي كن ثابت القدم في أمر مولاك. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي لا توافقهم فيما يميلون إليه ولا تسر على أثرهم أبدا قال في التبيان : إن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارجع عن دينك ودعوتك حتى أهبك نصف مالي ، وكان مليّا. وقال شيبة بن عتبة : إن رجعت عن دعوتك أزوّجك ابنتي ، فنزلت الآية (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) المراد لعلّه الجنس ، أي قل لهم : إني آمنت بجميع الكتب السماوية التي نزلت عليّ وعلى سائر الأنبياء الذين كانوا قبلي وصدّقتها وإنها حقة محقّة ، فكيف أتّبعكم فيما دعوتموني إليه من أديانكم الباطلة وأهوائكم السخيفة ، فدين الله أحقّ أن يتّبع (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي بأن أعدل بينكم بأن أدعوكم إلى التوحيد والوحدة وتقولوا جميعا لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، من الأشراف والوضعاء والأعالي والأداني ، فهذا أمر سويّ وطريق مستو بينكم في تبليغ الحكم. وقل للكفرة إنكم معترفون بأن (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لكلّ عمل جزاؤه (لا حُجَّةَ) أي لا محاجّة ولا خصومة (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لظهور الحقّ فلا وجه لها بعده (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) وبينكم يوم فصل القضاء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

٣٠٧

١٦ ـ (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) ... أي يخاصمون في دين الله وهم اليهود والنّصارى قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبيّنا قبل نبيّكم ونحن خير منكم وأولى بالحقّ. وإنما قصدوا بما قالوا دفع ما أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي لرسوله من بعد ما دخل الناس في الإسلام وأجابوه إلى ما دعاهم إليه أو بعد إجابة اليهود والنصارى لدين الله وقبولهم له يوم الميثاق أو في الدّنيا قبل أن يبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم استمعوا نعوته في التوراة وآمنوا به ولمّا بعث (ص) أنكروه بغيا وعدوانا وطلبا للرئاسة ، (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي باطلة ، فإنّهم زعموا إن دينهم أفضل من الإسلام وذلك أن اليهود قالوا للمسلمين ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى مما ليس كذلك ، فنبوّة موسى وحقيّة التوراة معلومة بالاتفاق بيننا وبينكم ، ونبوّة محمد وكتابه مختلف فيهما فيجب أن يؤخذ بدين موسى وباليهوديّة. فبيّن سبحانه أنّ هذه الحجّة فاسدة سفسطائيّة لأنها بعد ظهور الحق بالحجج والبراهين الواضحة بحيث قال تعالى (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) تمّت الحجة عليهم ولا تسمع منهم هذه السفسطات والأساطير أبدا (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) من ربّهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بمعاندتهم ومجادلتهم في إدحاض الحق وإحياء الباطل وتغيير السّنة الحقّة وتبديلها بالباطلة.

* * *

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها

٣٠٨

وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))

١٧ ـ (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ... أي جنس الكتاب أو القرآن ، بالحق أي متلبسا بالغرض الصّحيح (وَالْمِيزانَ) كناية عن منهج الشرع المعتدل المستوي ، أو المراد به ما هو المتعارف بين الناس الذي توزن به الأشياء ، وعطفه على الكتاب لجامع بينهما وهو اشتراكهما في تسوية الأشياء ، والتميّز بين الحق والباطل. والمراد بإنزاله هو تعليمه سبحانه للخلق كيفيّة وزن الأشياء به حتى لا يقع حيف على البائع والمشتري ، وكيفيّة التعليم إما بالوحي والإلهام أو بواسطة أنبيائه الذين هم وسائط بين الخالق والمخلوقات فيما يحتاجون اليه. والقمّي قال : الميزان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولمّا ذكر سبحانه إنزاله الكتب السماويّة التي هي موازين الحقّ والباطل في أعمال الخلق وأقوالهم وجميع أمورهم في الدنيا حيث إنها دار عمل وليس فيها حساب ، وأمّا الآخرة فهي دار حساب ولا عمل فيها ، نبّههم وذكّرهم بأن القيامة يمكن أن تكون قريبة حتى لا يتسامحوا في تحصيل ما يفيدهم في الآخرة بقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي قادمة ولكنها غير موقتة بوقت تعرفونها لأن علم الساعة خاصّ بذاته المقدّسة وما عرفها أحد من خلقه ، فلا بد للخلق أن يعلموا بحيث يحسبون كأنّهم يموتون غدا أو بعد غد أو قبل غد.

٣٠٩

١٨ ـ (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ... لمّا كان الرّسول يهدّدهم بمجيء يوم القيامة وأكثر القول في ذلك ، وأنّهم ما رأوا منه أثرا لذلك ، لذا قالوا سخرية : متى تقوم القيامة؟ فقال تعالى (يَسْتَعْجِلُ بِهَا) ، الآية أي استهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون ووجلون منها لعلمهم بأنه يوم جزاء الأعمال وباب التوبة مسدود في ذلك اليوم ولا ناصر ولا مغيث فيه إلّا العمل الصّالح والقلب السّليم (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي الواقع الثابت بلا ريب (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي اعلموا أن المشركين الذين ينازعون ويجادلون في القيامة إنكارا لها لفي الضلالة البعيدة عن الصواب كمال البعد.

١٩ ـ (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) ... أي يعمّهم ببرّه بحيث إنهم لا يدركونه ، ولم يعاجل مسيئهم بالعقوبة لعلّه يتوب ويستغفره فيغفر له ، وهذا غاية اللطف منه عزوجل بعباده العاصين وغيرهم (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) على مقتضى حكمته الغامضة ومصلحته الخفية ، فيختصّ كلّ صنف وفرد بنوع من النّعم ، ويعطى الواحد الولد والآخر المال وهكذا طبق ما يرى الخالق فيه وحسب ما تقتضي المصلحة الذاتية التي خلق عليها ولا يعلمها إلّا الخالق والمدبّر الذي جعل نظام عوالم الكون على المصالح حتى لا يلزم اللّغويّة في خلقها وتدبيرها على هذا النسق الخاص والترتيب المنظّم ، فتبارك الله أحسن الخالقين والرازقين ليس أحد من المخلوقين إلّا وهو متنعّم على سفرة نعمه ومرزوق من خوان إحسانه (وَهُوَ الْقَوِيُ) أي صاحب القوّة الغالبة على الأقوياء في اللطف والرّحمة (الْعَزِيزُ) الغالب في الإرادة على وجه الحكمة والمصلحة بحيث لا يغلب أبدا.

٢٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ) ... أي الذي كان في الدنيا طالبا لثواب الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي نضاعف له الواحد بعشرة. ووجه الشّبه بالزّرع لأنّ الفائدة تحصل بعمل الدّنيا ، ويؤيّده قوله : الدّنيا

٣١٠

مزرعة الآخرة (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي ما قسمنا له وقدّرناه في دنياه (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ الأعمال بالنيّات. وفي القمّي عن الصّادق عليه‌السلام : المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله لأقوام. وفي الكافي عنه عليه‌السلام : من أراد الحرث لمنفعة الدّنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدّنيا والآخرة. وكلمة (مَنْ) في الآية للتبعيض تدلّ على من أراد نفع الدنيا بكسبه أو بعلمه لا يعطى إلّا الشيء القليل. والتعبير عن منافع الدنيا وثواب الآخرة ب «الحرث» تنبيه لنا بأن تحصيل كلّ واحد منهما لا يتأتّى إلّا بتحمّل المشاقّ لأن الحرث يحتاج إلى البذر وشق الأرض وإثارتها وتقليبها ، ثم إلى السقي بعد إصلاح الأرض برفع موانع البذر ودفع الحوادث مهما أمكن ثم التنمية بتهيئة أسبابها ومقدّماتها التي تحت قدرة الحارث والزارع ، ثم الحصد ، ثم التنقية. فلمّا سمّى الله كلا القسمين حرثا علمنا أنّ كلّ واحد منهما لا يحصل إلا بالمتاعب والمشاقّ.

* * *

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ

٣١١

لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

٢١ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) ... لمّا بيّن سبحانه القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدّنيا والآخرة أردفه في هذه الآية بما هو الأصل في باب الشقاوة والضّلالة فقال (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) فالاستفهام للتقريع والتقرير أي : بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم بالتسويل دينا (لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) لم يسمح ولم يرض به كالشّرك وإنكار الصّانع من بعض وإنكار البعث ، والشركاء هم شياطينهم الذين زيّنوا لهم الشّرك والعمل للدّنيا (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لو لا الوعد بتأخير الجزاء والفصل بين المؤمنين والكفرة يوم القيامة لفرقنا وفصلنا بينهم في الدنيا ، لكن اقتضت المصلحة التأخير. وهذا نظير قوله تعالى سابقا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) ، الآية وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : لو لا ما تقدّم فيهم من الله عزّ ذكره ما أبقى القائم منهم أحدا. أقول يعني القائم في كلّ عصر فإن لكل عصر قائما ولو لاه لخسفت الأرض بأهلها (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي أعدّ لهم العذاب الشديد يوم الفصل ويوم الفرق.

٢٢ ـ (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) ... أي خائفين يوم القيامة حين كشف الغطاء ومعاينة العذاب الأليم ممّا ارتكبوا وعملوا من القبائح والمنكرات (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي والحال أنّ ما يخافون منه واقع وقد حلّ

٣١٢

بهم العقاب الذي يستحقّونه ، والخوف في ذلك اليوم لا ينفعهم. ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر أحوال أهل العقاب من العاصين ، بيّن أحوال المطيعين وأهل الثواب فقال (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أن الشرط في قبول إيمان المؤمن أمران : التّصديق باللسان ، والعمل بالأركان فاذا اجتمعا فهم (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي في حدائق الجنان متنعّمون بأكمل النّعم وأتّمها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي حال كونهم عند ربهم فإن لهم ما يرون من النعيم. ويحتمل أن يكون الظرف مرفوع المحلّ بناء على الخبرية للمبتدأ المحذوف ، أي هم عند ربّهم. والمراد هو القرب الرّتبي لا المسافتي أي المكاني (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ما ذكر من كرم الله وتفضّلاته على عباده الصالحين هو إحسان جليل عظيم لا يعادله إحسان غيره.

٢٣ ـ (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) ... الإشارة إلى الفضل الكبير وهو مبتدأ خبره جملة الموصول مع صلته (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان للعباد المبشّرين بالنّعم المذكورة آنفا أي بشرهم الله به وقد حذف الجارّ والعائد (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) قال الثعلبي عن قتادة : إن جماعة من المشركين كانوا مجتمعين في مجلس فقال بعضهم : هل تدرون أن محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت الآية أي قل لهم يا محمد : لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التّبليغ نفعا وأجرة (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي أهل بيتي. فعن الصادق عليه‌السلام : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إن الله تعالى قد فرض لي عليكم فرضا فهل أنتم مؤدّوه؟ قال فلم يجبه أحد منهم ، فانصرف. فلمّا كان من الغد قام فقال مثل ذلك فلم يجبه أحد ، وكذلك في الثالث فلم يتكلم أحد ، فقال : أيّها النّاس ليس من ذهب ولا من فضّة ولا مطعم ولا مشرب ، قالوا فألقه إذا. قال : إن الله تبارك وتعالى أنزل عليّ (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقالوا أمّا هذه فنعم. قال

٣١٣

الصّادق عليه‌السلام : فو الله ما وفى بها أحد إلا سبعة نفر : سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وعمّار ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، ومولى لرسول الله ، وزيد بن أرقم. فإن قيل إنّ طلب الأجرة على تبليغ الرسالة لا يجوز لأنه كان واجبا عليه وطلب الأجرة على الأمر الواجب غير جائز كما قال نوح (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) على أنّ طلب الأجرة يوجب التّهمة ، وذلك لأن طلب الأجرة يدلّ على أنّه طالب للدّنيا ولا يقصد بعمله الخلوص وهذا المقام مناف للنبوّة والرّسالة الإلهيّة ، فأجيب : أوّلا بأن الاستثناء منقطع فحينئذ كلمة (إِلَّا) بمعنى بل. والثاني أنّه على فرض اتّصاله لكنّه لمّا كانت المودّة في القربى أمرا واجبا في الإسلام فلا تكون أجرا لتبليغه الرسالة وهو من باب قول النّابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بها من قراع الدّار عين فلول

فيصير المعنى في الشريفة : أنا لا أطلب منكم على تبليغي للفرائض والسّنن إلّا فريضة أخرى أوجب الله عليّ تبليغها إليكم وهي فرض عليكم ، هي المودّة الكائنة في القربى. والثالث من الأجوبة أنّ الأحكام الشرعيّة أمور تعبديّة سنّها الله تعالى على عباده وبيده سبحانه خيار جعلها وعدمه ورفعها ومحوها وإثباتها ، فله أن يجعل لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أجرة على واجب من واجباته التي أتى بها ويجعل هذا من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا ليس أمرا مستنكرا بحيث يكون مخالفا للعقل أو للشرع حتى يستوحش الفقيه من القول به. ولذلك نظير في الشريعة كما في باب الجهاد فإنه واجب على النبيّ فإذا ظفروا وكان في الغنيمة خصائص للملك أو للأمير أو للزعيم كانت تلك الأشياء مختصّة بالقائد الأعظم من نبيّ أو وصي نبيّ أو إمام لقائديّته مع أنه واجب عليه بعد إفراز تلك الخصائص له أن يقسّم الغنيمة على الأفراد على ما فرضه الله. هذا مضافا إلى أننا

٣١٤

نقول : هناك فرق بين الأجر والأجرة لغة ، فإن الأجر هو الثواب على الأعمال العباديّة تفضّلا كما هو الحق في قبال القول بالاستحقاق ، وهذه وظيفة جعلها الله على ذاته المقدّسة كرامة وفضلا على عباده ولا ربط لها بالمخلوق. ويؤيّد هذا قول نوح عليه‌السلام (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فقد حصر عليه‌السلام أجره بربّه ونفاه عن المخلوقين لأنه منفيّ عن ساحتهم ، حيث إن أمر الثواب والعقاب منحصر بذاته المقدّسة. وامّا الأجرة فهو الكراء والعوض ، ومثله الاجارة وما يأخذه الخادم بعوض عمله وشغله وخدمته المقرّرة ، وهو واجب على المؤجّر أن يقدمه كواجبه الآخر. وهذا هو السرّ في تعابيرهم وإيثارهم الأجر على الأجرة عليهم صلوات الله.

والحاصل أن آية المودّة قال في بيانها صاحب الكشّاف : روي عن النبيّ أنه قيل له : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ وفاطمة وابناهما ، فثبت بهذا أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ وهم مخصوصون بمزيد التعظيم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها. وثبت بالنّقل المتواتر عن النبيّ أنه كان يحبّ عليّا وفاطمة والحسن والحسين ، فوجب على الأمّة كلّها مثله لقوله (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ونعم ما قال الشّاعر :

لو أن عبدا أتى بالصّالحات غدا

وودّ كلّ نبيّ مرسل ووليّ

وصام ما صام صوّام بلا ملل

وقام ما قام قوّام بلا كسل

ما كان في الحشر يوم البعث منتفعا

إلّا بحبّ أمير المؤمنين عليّ

وفي تفسير منهج الصّادقين ، عن أبي حمزة الثمالي عن عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما قدم المدينة جاءه أكابر الصحابة وقالوا : يا رسول الله أنت ملاذنا ومقتدانا

٣١٥

وهادينا ، ونحن نرى أن مصارفك كثيرة لأنّ الوفود ترد عليك وليس عندك ما يكفيهم حيث إنّ دخلك قليل فأذن لنا أن نقدّم إليك أموالنا ونخلّيها تحت اختيارك فتصرّف فيها كما تشاء ، فنزلت آية المودّة وأنه ليس لي طمع في أموالكم غير أني أحبّ أن تحبّوا اقاربي في حياتي وبعد مماتي (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي يكتسب مودّة آل الرّسول كما ورد عن الحسن المجتبى أنه قال عليه‌السلام في خطبة : أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم فقال (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) ... إلى قوله (حُسْناً) قال : فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت. وعن الباقر عليه‌السلام : الاقتراف التسليم لنا والصّدق علينا وأن لا يكذب علينا. وقيل إن اقتراف الحسنة هو اكتساب مطلق الطّاعة (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي بتضعيف الثواب في الحسنة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للسيّئات (شَكُورٌ) للحسنات. واطلاق الشكور على ذاته القدسيّة نوع مجاز لأن الشاكر الحقيقي هو الذي يصل إليه نفع من المشكور له ، والله تعالى في غنى عن ذلك. فالمعنى أنه يتعامل مع عباده معاملة الشاكر في توفية الحق كأنه ممّن وصل إليه النفع فشكره شكرا كثيرا.

* * *

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

٣١٦

الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

٢٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ) ... أي بل يقولون افترى وكذب محمد على الله كذبا بأن يقول إن القرآن من عند الله أو بادّعائه الرّسالة من عنده سبحانه ، والافتراء هو التهمة بالباطل (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي لو حدّثت نفسك بأن تفتري على الله كذبا لطبع الله على قلبك ولأنساك القرآن ، فكيف تقدر بأن تفتري على الله ، وهذا كقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) أي هذا على سبيل الفرض والتشبيه من هذه الجهة. أو المعنى : أو يربط على قلبك بالصّبر على أذاهم (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أي يزيله ويرفعه بإقامة الدّلائل على بطلانه (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يثبته بالكلمات النّازلة في قرآنه من الحجج والدلائل والبراهين ، وقيل بوحيه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بضمائر القلوب وما يخطر فيها من الخير والشر ، فيثاب صاحب الخير ويعاقب صاحب الشر. قال عبد الله بن العباس : لمّا نزلت هذه الآية ندم أهل الافتراء وجاؤوا إلى النبيّ نادمين من قولهم وقالوا نشهد إنك رسول الله وصادق فيما جئتنا وما قلت لنا ونحن تبنا مما نظنّ بك ونجدّد إيماننا فنزلت الشريفة (هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ).

٢٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) ... هذه الآية الكريمة أرجى آية في كتاب الله حيث إنها مطلقة من ناحية قبول التوبة عن العصيان وإن جلّت وعظمت المعصية ، وإن بلغت ما بلغت في العظمة فإنه سبحانه وتعالى يقبل التوبة عنها والإقلاع عن العودة إلى مثلها لأنه يقبل التوبة النّصوح (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) بالغا ما بلغت السيئات فإنه تبارك وتعالى يتجاوز عنها. ثم إن قبول التوبة يستلزم العفو عن السيّئة كما هو واضح ، فذكر العفو بعد القبول للتصريح بالعفو بالدلالة المطابقية ، ولو لم

٣١٧

يكن مستلزما كما هو مذهب البعض ، فذكره بعده لترجّي العباد وتأميلهم لفضله وإحسانه عليهم ، وذكر العلم بأفعال عباده للتّنبيه على عدم اغترارهم وأمنهم. وبالجملة لا بدّ من أن يكون العبد بين الخوف والرجاء في كلّ الأحوال. وأمّا ما قلناه من أن هذه الشريفة هي أرجى آية في القرآن الكريم ، فقد استفدناه من شأن نزولها ، فإنها قد نزلت في أهل الافتراء ونسبة الكذب إلى النبيّ الأعظم صلوات الله عليه وآله كما ذكرنا قبل قليل. وهذه النّسبة من أعظم الذنوب وأكبر السيئات ، ومع ذلك فإن المفترين بعد ندامتهم وتوبتهم واعترافهم للنبيّ (ص) بذنبهم نزلت في مقام توبتهم والعفو عنهم مطلقا وخصوصا بعد مثولهم في حضرته المقدّسة وإعلان اعترافهم بذنبهم مع البكاء والنّحيب والندم على ما في رواية العيون عن الحسين الشهيد عليه صلوات الله وسلامه ... هذا وقد أتى بالجملة الاسميّة التي تدلّ دلالة واضحة على الإدامة والاستمرار بالنسبة إلى كلّ تائب وعن أيّة سيّئة من السيّئات وفي كل وقت (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي من خير وشرّ فيجازيكم على ذلك.

٢٦ ـ (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي يجيبهم إلى ما يسألونه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قلنا إن الإيمان بلا عمل لا يقبل لأنه يكشف عن أنّ الإيمان لساني لأنّ الإيمان الحقيقيّ لا ينفكّ عن العمل الخارجيّ وكذلك العكس (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي على ما فعلوا واستحقّوا بالطّاعة أو بالاستجابة. وقد سئل إبراهيم الأدهم : ما لنا ندعوه فلا نجاب؟ قال : لأنّه دعاكم فلم تجيبوه ، فقرأ هذه الآية (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، إلخ وقيل إن الاستجابة بمعنى قبول الطاعة والإنابة ، والزّيادة باعتبار الثواب (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) استحقّوه بكفرهم ومعاداتهم لمحمد وأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

٣١٨

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨))

٢٧ ـ (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) ... أي وسّعه عليهم (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي لبطروا وأفسدوا في الأرض ظلما وعدوانا وتغلّب بعضهم على بعض ولعلا بعضهم على بعض وخرجوا عن الطاعة. قال ابن عباس : بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة ، أو دابّة بعد دابّة ، وملبسا بعد ملبس. وفي القمّي عن الصادق عليه‌السلام : لو فعل لفعلوا ، ولكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض ، واستعبدهم بذلك. ولو جعلهم كلّهم أغنياء لبغوا (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي بمقدار أنه يصلحهم في دينهم ودنياهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي يعلم ويرى ما يناسبهم في أوضاعهم وأحوالهم على حسب مصالحهم نظرا منه تعالى إليهم بالرأفة والرحمة ، ويؤيّده الحديث القدسيّ عن النبيّ عن جبرائيل عن الله تعالى : إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السّقم ولو صحّحته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصّحة ولو أسقمته لأفسده ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ، وذلك أنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم ، الحديث بطوله ...

٢٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ... الغيث هو المطر الّذي يكون نافعا في وقته ، لأنّ المطر يكون نافعا تارة وضارّا أخرى ، فالذّي يكون نافعا يعبّر عنه بالغيث كالمطر الذي يغيثهم من الجدب (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي بعد يأسهم. والوجه في إنزاله بعد القنوط أنّه أدعى إلى الشكر وأوقع لتعظيم الآتي به ، ولمعرفة الآلاء والنّعم من منزلها لأنه لا يقدر على إنزال الغيث

٣١٩

وإعطاء سائر النعم غيره سبحانه ، فهو الذي ينبغي أن يطاع ويعبد ويشكر (وَ) هو الذي (يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي في كلّ ما يحتاج إليها (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) الذي يتولّى أمر عباده بإحسانه ونشر رحمته ويستحقّ الحمد والثناء.

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

٢٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي من الدّلائل الدّالة على التوحيد والقدرة التي ليس فوقها قدرة ولا يتعقل أن تكون ، لأنه لا يقدر على خلقهما غيره قادر ، لما فيهما من عجائب الصّنع وغرائب الخلقة ، والمواد التي لا يقدر عليها قادر ، والأجناس التي لا يعرفها صانع من البشر ولا غيرهم (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي فرّق فيهما ونشر ، من بث الشيء إذا فرّقه (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي أنه تعالى على حشرهم وبعثهم إلى الموقف بعد إماتتهم قادر متمكّن بأيسر وأسهل ما يكون في أيّ وقت شاء ، ولا يتعذر عليه ذلك أبدا.

٣٠ ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) ... ثم إنه تعالى بعد تعداد نعمه العظيمة وإنعامه بها على عباده يبيّن بأن ما يصيبهم من بليّة أو آفة ماليّة أو

٣٢٠