الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

وعبادته تعالى وعن امتثال سائر أوامره ونواهيه (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي لا يزالون مشغولين بالامتثال لأوامره (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملّون من العبادة بأيّ كيفيّة كانت ، فلا يحتاج الربّ المتعالي إلى عبادة بني آدم وتقديسهم ، بل هو غير محتاج إلى عبادة أحد ، حيث إنه غنيّ على الإطلاق ، وعبادات المخلوقين يرجع نفعها إليهم لأنها سبب لرفع درجاتهم وتقرّبهم إليه جلّ وعلا. وقيل إن الملائكة أكثر من الجنّ بكثير وهؤلاء أكثر من الإنس بكثير.

٣٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) ... أي متذلّلة متهيّئة لما يرد وينزل عليها منه تعالى من اليبس والجفاف لعدم نزول المطر عليها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي تحركت بما نبت عليها وانتفخت بالنّبات كما أن العجين ينتفخ ويتورّم حينما تخبط به المادّة المرسومة المعروفة عند الخبّازين باسم الخميرة ، فإنه علامة للوقت الذي يخبز فيه ، فكذلك الأرض اليابسة إذا نزل عليها الماء تنشّطت وتحرّكت بنباتها واخضرارها ، وفي الحقيقة تحرّكت بحركة حياتها الطبيعيّة بعد موتها بعدم الخضرة والنّبات فيها (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي الذي هو قادر على إحياء الأرض بالنبات بعد إماتتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي هو قادر على إحياء البشر بعد الموت (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذه الجملة في موضع العلّة لإحيائه تعالى الأشياء بعد الإماتة ، أي لأنّه سبحانه قادر على جميع الأشياء ومنها الإحياء بعد الإماتة لأنّ قدرته تعالى متساوية بالنسبة إلى المقدورات كلّها لاشتراك في الممكنات كلّها وهي الإمكانيّة. ثم إنّه سبحانه بعد ذكر الآيات يهدّد الملاحدة والمشركين بقوله عزوجل :

٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) ... أي يميلون عن الدّين ويطعنون (فِي آياتِنا) ويحرّفونها ويؤوّلونها بالأباطيل وبآرائهم السخيفة (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي ميلهم عن الحق وتمايلهم إلى الباطل وما يفعلون بآياتنا. وهذا كلام فيه

٢٨١

تهديد شديد وكفى به وعيدا على مجازاتهم على إلحادهم (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) استفهام تقرير وتوبيخ وتهجين ، معناه أن الملحد الذي يلقى في النار كأبي جهل وأبي لهب ونظرائهما خير أم من يأتي يوم القيامة مأمونا كسلمان وأبي ذرّ وعمار وأمثالهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فكلّ عاقل يدري ويعرف أنهما ليسا بمتساويين حينئذ. وقد قال أمير المؤمنين عليه آلاف الصلاة والسّلام : فليختر كلّ واحد منكم لنفسه ما شاء من الأمرين ، فإن العاقل لا يختار الإلقاء في النار ، فإذا لم يختر ذلك فلا بدّ أن يؤمن بالآيات. ثم خوّفهم بقوله (اعْمَلُوا) مختارين من الطريقتين (ما شِئْتُمْ) أي ما أردتم فلكم الخيار. واللفظ أمر لكن معناه التهديد الشديد والوعيد المخوّف (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي كل شيء يصدر منكم فإن الله يعلمه ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم خفية أو علانية فيجازيكم بها.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى

٢٨٢

أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))

٤١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) ... أي بالقرآن ، وخبر إنّ محذوف أي ننتقم منهم ونجازيهم وقيل خبره (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) الذي يجيء بعد ثلاث آيات بعد هذه الآية (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي غالب بقوّة حججه أو معناه ، عديم النظير. وهذا أيضا معنى من معاني العزيز ، أي كفران الكفرة وتكذيبهم ذكرنا وكتابنا لا ينقص من رفيع مقامه شيء ولا يطفأ نوره بأفواههم وتكذيبهم ، فإنه من قوّة براهينه وحججه يتمّ نوره ويتضوّأ ويستنير بنوره العالم ، أو لأنه لا مثيل له في عدم قدرة قادر على غلبته وإطفاء نوره ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

ثم إنه سبحانه يعرّف كتابه بعد تعريفه بأنّه كتاب عزيز بالبيان الذي مرّ ذكره قبيل هذا بان كتابي هذا :

٤٢ ـ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) ... أي من ناحية التوراة ولا من قبل الإنجيل والزّبور (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله أو يتقدّم عليه بحيث ينسخه. والمراد أنه لا يجيئه من أيّ ناحية من النواحي ولا من جهة من الجهات باطل (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) لأنه نزل من عند ربّ حكيم ، أي عالم بجميع وجوه المصالح والحكم للعباد. وحميد : أي هو مستحق للحمد من كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمه وآلائه ، ومن أعظم نعمه هو هذا القرآن الذي فيه علوم الأولين والآخرين وفيه ما يحتاج اليه البشر إلى يوم الجزاء. فمثل هذا الكتاب لا بد أن يكون كما وصفه منزله تبارك وتعالى عن وصف غيره من الواصفين والحامدين وله الشكر والحمد لله رب العالمين ثم إنه جلّ جلاله بعد وصف كتابه في الجملة بما يليق به أخذ في تسلية نبيّه فيما يرد عليه من قومه في سبيل دعوته بقوله :

٢٨٣

٤٣ ـ (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ... أي أن الذي يقوله هؤلاء الكفرة من قومك لك ، ليس أمرا بعزيز ما له من نظير ، بل هذا هو الذي قد قيل للرّسل والأنبياء قبلك من تكذيب أقوامهم والجحد لنبوّتهم وإنكار فضائلهم وكتبهم من عندي ثم يزيد سبحانه في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي لأنبيائه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم. وقيل إن الآية عامة وإخبار عن جهة الوعد لمن آمن والوعيد لمن كفر ، فمن اللّازم أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته.

٤٤ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) ... أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أرسل بالكلام العجمي إلى من لا يعرفه من القوم العرب ، فحينئذ يكونون لهم في مقام الفرار من دين الإسلام والمعذرة عن القبول ، ولهم فرضا أن يقولوا (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) لأننا لا نفهمه لأنّه ليس بلغتنا. وقيل إن قريش قالوا لرسول الله : هلّا نزل القرآن بغير العربية. إذا كان دينك وكتابك عامّا وأرسلت إلى العرب والعجم ، ولماذا لم يكن بلغة العجم؟ فنزلت الآية جوابا لهم (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بيّنت بلغتنا حتى نفهمها ونعمل بها (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي لقالوا هل كتاب وكلام أعجميّ والمخاطب عربيّ والنبيّ عربيّ؟ هذا ما يصير. فأمر سبحانه نبيّه (ص) : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) من الضّلالة (وَشِفاءٌ) للقلوب المريضة بأمراض الشّك والرّيب تشفى به تلك الأمراض وتدفع به هذه الشبهات ، بل هو شفاء لكلّ الأمراض والأسقام كثيرا ما أذهب الآلام وأزال الأسقام ، وقد ورد أن الصّحابة كانوا يرقون بأم الكتاب اللّديغ فيبرأ لوقته ويقوم لساعته ، فأنعم به من هدى وأكرم به من شفاء ... (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي لمّا لم ينتفعوا به فكأنّهم في آذانهم ثقل وصمم إذ ليس لهم قابليّة الهداية ، وإلّا فالقرآن كتاب ليس فيه أقل قصور وأدنى نقص في الهداية وفي

٢٨٤

نوعيّة إرشاده لأنّه جامع لجميع الحجج والبراهين الظاهرة لمن أراد أن يهتدي به ، فالتقصير من ناحية الناس لا من ساحة القرآن فإنه منزّه عن ذلك (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي لتعاميهم وعدم استفادتهم من القرآن فكأنّهم عمي لا يبصرون آياته ودلائله الواضحة المرشدة إلى طريق الحقّ والحقيقة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي مثلهم مثل من كان في مسافة بعيدة بحيث كلّما يصاح به فلا يسمع النّداء ، وهؤلاء مع قربهم من النبيّ (ص) وقرآنه فإنهم لا ينتفعون بهما ولا يستفيدون منهما فكأنهم بعيدون عنهما بحيث لا يسمعون إذا قريء عليهم القرآن ، فإذا لا يهتدون. ثم إنه تعالى تسلية لنبيّه (ص) أخذ في بيان قضيّة موسى واختلاف قومه في كتابه فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

٢٨٥

٤٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أي كتاب التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) لأنه آمن به قوم وصدّقوه في رسالته وكتابه ، وكذّبه آخرون كما اختلف في القرآن. فلا تحزن لهذا الاختلاف فإنه في شأن الكتب السّماويّة عادة قديمة وسنّة جارية في الأمم الماضية لا يختصّ بقومك دون غيرهم.

وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال ناظرا إلى هذه الآية : اختلفوا كما اختلفت هذه الأمّة في الكتاب ، وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم عليه‌السلام الذي يأتيهم به ، حتى ينكره ناس كثير فيقدّمهم فيضرب أعناقهم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي الوعد بالإمهال لأمّة محمد صلوات الله عليه وآله (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لحكم بين الجاحدين والمشركين والمكذّبين باستئصالهم وإهلاكهم كالأمم السّابقة ، لكن سبقت الكلمة وتأخّر القضاء والعذاب عنهم إلى يوم لقاء الله كما في قوله تعالى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) وقوله (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقوله سبحانه (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وهذا القول الأخير خاصّ بزمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي إن قومك شاكّون بالقرآن أنّه كتاب من عندنا نزل عليك ، شكّا أوقعهم في الرّيب. والرّيب هو أفظع من الشكّ فإن الرّيب هو مرتبة من الشك فيها القلق واضطراب النفس ، والبعض يعبّر عن الريب بالظن الغالب ، فمن المفسّرين من قال : إنّ ظنّ الغالب منهم أن القرآن كذب وغير منزل من السّماء وهذا هو معنى (مُرِيبٍ) قال هذا المقول ، وجرّ (مُرِيبٍ) لأنه صفة للشّك.

٤٦ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) ... أي ثواب عمله راجع إليه لا إلى غيره (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من الفسوق والعصيان فضرره وعقابه ووباله على نفسه لا على غيرها (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي ليس يفعل بهم ما ليس له أن يفعل ، فمثلا ينقص من أجر المطيع ، أو يزيد في عقاب العاصي ، أو يعطي أجر المطيع للعاصي ويعاقب المطيع بدل

٢٨٦

العاصي. ولا يخفى أنّ ظلّام في هذا المقام مبالغة في النفي لا المنفي حتى يستلزم بقاء أصل الظلم. قال الطبرسي رضوان الله عليه إيثار (ظلّام) على (ظالم) للإشعار بأن صدور الظلم وإن قلّ من شخص ، فهو غنيّ مطلق وعالم بقبح الظلم ، وهو عظيم في غاية العظمة. فكيف بصدور الظلم العظيم منه وكذلك فهو تنبيه على أنّ مؤاخذة شخص بعصيان غيره وإثابة الغير بطاعة الآخر من الظلم العظيم. والحاصل أنه تعالى منزّه عن أن يفعل شيئا من ذلك وإلّا لكان ظلّاما لعظمة صدور هذه الأمور منه جلّ وعلا فلو صدر على فرض المحال واحد من الأمور المذكورة منه سبحانه فكأنّما صدر منه وقوع قبيح عظيم لأنه لا يجوز عليه الظّلم ، فيصير ظلّاما مع أن الأمر الصّادر جزئي في نفسه.

٤٧ و ٤٨ ـ (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) ... نقل أنّ عبدة الأصنام ومشركي قريش قالوا للنبيّ (ص) : لو أنك نبيّ وصادق في وعيدك لنا بالعذاب في الآخرة ، فقل لنا متى تجيء القيامة؟ فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أمره الله تعالى به ، وهو : إلى الله يردّ علمها. أي هذا ممّا خصّ سبحانه ذاته المقدسة به فلا يعلمه غيره وكان أهل الحجاز ، وبالأخص عبدة الأصنام من أهل مكة ، متعبّدين بأقوال الرّهبان والأحبار وبالأخصّ الكهنة منهم إذ إنّهم كانوا من أهل العلم في ذلك العصر وكانوا عارفين بالكتب السّماويّة وغيرها من أخبار ترد عليهم من بني الجان. وكان العرب في ذلك الزمان أمّيين لا يعرفون من المعارف شيئا وكانوا جهلة بالعلم فلذا كانوا يرجعون إلى هؤلاء فيما يرد عليهم من عجائب الأمور وغرائبها ويسألونهم عن المغيبات ويتعلّمون منهم ما كان محل حاجتهم فلا يزالون يسألونهم عمّا يخبرهم به النبيّ صلوات الله عليه وآله ، ومنها إخبارهم عن السّاعة ويوم البعث ، فرجعوا إلى الرهبان والأحبار في ذلك وقالوا إن محمدا يخبرنا بأن لله يوما يجزى فيه الناس بأعمالهم التي عملوها

٢٨٧

في الدنيا إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، فهل هو صادق في هذا أم لا؟ فقال الأحبار اسألوه عن الساعة متى تأتي؟ فإن عيّن وقتها بزمان خاص وساعة معيّنة فهو كاذب في دعواه ، وإلا فهو صادق. فلمّا أتوه وسألوه عن وقتها الذي تجيء فيه ، أجابهم بأنه ليس لي به علم وإنّما علمه عند ربّي لا غير ، فعلموا أنّه صادق. ولعل شأن نزول الشريفة كان في هذا المورد (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) جمع كمّ أي أوعيتها قبل أن تنشقّ عن الثمرة (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي كلّ ذلك مقرون بعلمه سبحانه واقعا حسب تعلّقه به ، فكما أن علم قيام السّاعة خاصّ بذاته المقدّسة ولا يعلمه إلّا هو سبحانه ، فكذلك علم الثمار والنتائج مخصوص به سبحانه. أمّا الثمار فمن حيث كيفيّة الأنواع وكبرها وصغرها وطعومها وروائحها وألوانها ونضجها ، وأمّا النتائج من حيث شأنيّة النّطف فبالنظر إلى مبدأ نشؤ النوع لكونها مبدأ نشوء الآدميّ وكيفيّة انتقال النطفة في الأرحام من حالة ومرتبة إلى حالة أخرى ومرتبة غير الأولى وتربيتها فيها وتغذيتها وانتقال الأجنة في الأرحام وكونها ذكورا وإناثا وتامة من حيث الخلقة أو ناقصة وحسنة أو قبيحة ، أو من حيث عدد أيّام الحمل وساعاتها وغيرها ممّا لا يعلمه إلّا الله. ثم إن قريشا بعد ما علموا أن السّاعة آتية لا ريب فيها وأن الله يجزيهم بما عملوا ، ومع ذلك ما تركوا عبادتهم لأصنامهم عنادا وجحودا وأنكروا نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ، فالله سبحانه أخذ يهدّدهم ويخبرهم عاقبة أمرهم ومآل فعلهم القبيح ، أي عبادتهم لجماد لا يضرّ ولا ينفع ولا يبصر ولا يسمع بقوله سبحانه (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) بزعمهم والسؤال للتّوبيخ ومتضمّن للتخويف (قالُوا آذَنَّاكَ) أي أعلمناك وأسمعناك! ولعلّ إعلامهم الله كان بلسان حالهم أو بقولهم (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) فهذا بيان لقولهم آذنّاك ، وهذا أظهر من احتمال الأول أي ما منّا أحد اليوم يشهد بأن لك شريكا بعد أن عاينّا ما عاينّا.

٢٨٨

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي غاب عنهم معبودهم الذي كانوا يعبدونه في الدّنيا من الأصنام والأوثان (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي أيقن المشركون أنه ليس لهم مهرب من عذاب ربّهم ، ولا بدّ من أن يذوقوا عذاب الحريق في ذلك اليوم ولا يمكن الفرار من حكومته سبحانه.

* * *

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

٤٩ ـ (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) ... قال القمّي أي لا يملّ ولا يعيا من أن يدعو لنفسه بالخير في الدّنيا من النّعم والصّحة والسّرور وفراغ البال ورفاهيّة الحال (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) بزعمه كالفقر والمرض والهموم والأحزان من العوارض الدنيويّة وحوادثها (فَيَؤُسٌ) أي آيس كثيرا من رحمة ربّه أو من إجابة الدّعاء ، ولا مانع من القول بكلا الأمرين فإنّ اللّفظ عامّ (قَنُوطٌ) أي يظنّ به تعالى ظنّ سوء وهذا من شيم الكفرة وديدنهم

٢٨٩

ولذا عبّر عن الإنسان في هذه الكريمة بالكافر ، ولا بعد لأن الإنسان مع قطع النظر عن كفره الأصليّ إن ييأس من رحمة الله فهو كفر ويصير كافرا. ولعلّ التفسير بهذه الجهة يحمل على الكافر ، قال تعالى (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وإن كان الظاهر من هذه الشريفة أنّ اليأس كاشف عن كفره الأصلي لا أنّه موجب لكفره ، لكن المشهور أن اليأس والقنوط موجبان للكفر.

٥٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) ... أي لئن رزقناه خيرا وعافية وغنى (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي هذه الرحمة حقّي وأنا أستحقّها بعملي. وقوله (لَيَقُولَنَ) جواب قسم مقدّر ، وقوله (لَئِنْ أَذَقْناهُ) فعله ولام (لَئِنْ) توطئة للقسم والتقدير : والله ، أو بذاتي ، أو بحقّي على عبادي وغيرها ممّا يناسب المقام لو رزقت الكافر نعمة من نعمائي بعد تفريج الضّراء عنه ليقولنّ ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي لست على يقين من قيام السّاعة والبعث ، ومعناه الإنكار (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) أي على فرض صحة ما يزعمه المسلمون وكان بعث وحشر وأنا بعثت وحشرت ولقيت ربّي على قول المسلمين بأن لنا ربا (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي لي عند الله الحالة الحسنة من الكرامة والنّعمة كما أكرمني وأنعم عليّ في الدّنيا ، فإنّ حسن حالي في الدنيا مقياس حالي في الأخرى ، وذلك لاعتقاد الكافر أن ما أصابه من نعم الدنيا فهو لاستحقاق لا ينفك عنه. ونقل الثعلبي عن إمامنا الحسن المجتبى سلام الله عليه أن للكافر تمنّيين عجيبين : واحد منهما في الدّنيا يقول إن نعم الجنّة في الآخرة لي لاستحقاقي إيّاها ، والآخر في العقبي حيث يقول يا ليتني كنت ترابا ، ولا يحصل له واحد منهما. والحاصل أن الله سبحانه يقول في جواب هذا القائل الذي يظنّ بنفسه ظنا حسنا بلا أي سبب : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) فلنخبرنهم بما عملوا من قبائح الأعمال ومساوئ الأقوال التي

٢٩٠

كانت موجبة لعقابهم ونكالهم خلاف ما ظنّوا لأنفسهم لفساد ظنّهم وعقيدتهم (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي عذاب في غاية الكثرة بحيث كأنّما صار متراكما ومتراكبا بعض العذاب فوق بعض بكيفيّة لا يمكن التخلّص منها ولا التقصّي عنها ، وهذا تهديد مهيب. ثم إنّه سبحانه يخبر عن نوع آخر من طغيان الكفار وكفرهم بقوله :

٥١ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) ... أي لمّا فتحنا أبواب نعمتنا من الصّحة والثروة على الكافر بتلك النّعمة (أَعْرَضَ) أدبر عن شكر النّعمة وانصرف بوجهه ولم يعتن بالشكر تكبّرا وتبخترا ونسي المنعم الحقيقيّ (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي انحرف بجنبه كناية عن الإعراض بنفسه تأكيدا ومبالغة في الإضراب عن نعم الله تعالى وتجبّرا وأنفة (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الفقر والفاقة والمرض والعاهة (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) لم لم يقل سبحانه دعاء طويل مع أنّ المناسب هو هذا؟ ذلك لأن العريض أبلغ حيث إن العرض يدل على الطول ولا عكس ، إذ قد يصحّ طويل ولا عرض له ولكن لا يصحّ العريض بلا طول له ، فإن العرض هو الانبساط في خلاف جهة الطول والطول هو الامتداد في أيّة جهة كان. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر والقائلين بأن الله سبحانه لا ينعم على الكافر فإنه تعالى أخبر في هذه الكريمة بأنه منعم على الكافر كما أنه ينعم على غيره من الخلق ، وأنه يعرض عن الشكر ويبعد عن المنعم. وتدل الشريفة على أن الكافر يسأل ربه بالتضرّع والدّعاء ليكشف ما به من الضّر والبلاء ويعرض عن الدّعاء في الرّخاء ، فالله تعالى يوبّخه على ذلك. والحاصل أن معنى الشريفة (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي دعاء كثير مستمرّ وقيل في وجه إيثار العريض على الطّويل لأن العريض امتداده في جهتين والطّويل في جهة واحدة فيدلّ على الأبلغيّة في كثرة الدّعاء واستمراره.

٥٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ... أي قل يا محمد لهؤلاء

٢٩١

المشركين أخبروني وقولوا لي إن كان هذا القرآن في نفس الأمر من عند الله كما أقول (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) عنادا وبلا تأمّل وتفكّر في آياته ودلائله المتقنة ، وبلا نظر واتباع دليل وبرهان مجوّز لكم على أن تكفروا به (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف عن الحقّ والصواب ، وبعيد عن الصلاح؟ يعني أنتم أضلّ الناس لأنكم تعاندون الحق وتكذّبون بالقرآن وتنكرون نبوّة النبيّ استكبارا وجهالة.

* * *

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

٥٣ ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) ... أي عمّا قريب نريهم العلائم والآثار الآفاقيّة ممّا يظهر من نواحي الفلك ويمسّ الأرض. هذا بيان للآيات التي تأتي من الآفاق ، وأمّا العلائم الآفاقية كالنّيرات وآيات الليل والنهار والأضواء والظّلال والظّلمة والعناصر الأربعة وانشقاق القمر والصواعق والأمطار والرعد والبرق والسّحاب والنجوم المذنبّة إلى غير ذلك ممّا لا نهاية لعدّه من الآيات الآفاقيّة العلويّة ، فإنها أعمّ من آفاق السماء والأرض ، وكذلك الآيات الأرضية كالزلازل والخسف في الأرض والجبال والبحار ونحوها ممّا لا يحدّه حصر. وقال ابن عباس : (فِي الْآفاقِ) أي منازل الأمم الخالية وآثارهم (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) يوم بدر ، أو من الآيات الأنفسيّة

٢٩٢

والخلق كتحويل النّطفة في مراحلها الخمس. ومثل هذه الآيات قد أطلعهم عليها في أنفسهم وفي الأمم الخالية ممّا نزل بها من الإهلاك بالآيات ، ولكنّهم لم يتفكّروا ولم يتدبّروا ولا تنبّهوا ولا نفعتهم الذّكرى ، ولذلك فانّنا سنريهم آيات آفاقيّة ننتقم منهم بها عمّا قريب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ولو قيل إن قوله (سَنُرِيهِمْ) قد يكشف عن أنه سبحانه ما أطلعهم على شيء من مثل ذلك الآيات؟ فالجواب أنهم قد اطّلعوا على كثير ممّا حلّ منها بالأمم الماضية ، ولكنه تعالى سيريهم ذلك في أنفسهم في المستقبل ، وستحلّ الآيات في ساحتهم ويصيبهم وبالها ، وحينئذ سيظهر لهم الحقّ جليّا بأن نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّ ، فليكونوا على علم بذلك لأننا قد قضينا بذلك وحتمناه (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ولعل المراد بالشريفة بعد حمل الاستفهام على أنه تقريري هو أنّ الكفار وإن أنكروا نبوّتك لكنّه سبحانه كاف لك في كونه شاهدا لنبوّتك ، وبأنه يظهر دلائل واضحة وبراهين ساطعة على صدق دعواك وإثبات نبوّتك وهو قادر على كلّ شيء ، فلا تحزن على تكذيبك وعدم قبولهم نبوّتك وكتابك وفي الآخرة هم مغلوبون وأنت الغالب لهم قبلوا أم جحدوك عنادا فلا يضرّونك أبدا. وجملة (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل من قوله (بِرَبِّكَ) والباء الزائدة لتأكيد كفايته سبحانه له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٥٤ ـ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) ... كلمة (أَلا) للتّنبيه والتّأكيد بأن الكفار بعد في شكّ من وجود الصّانع تعالى ومن يوم البعث ومجازاتهم وجميع ما نريهم من الآيات الآفاقية والأنفسية فلا تنفعهم ولا تفيدهم وهم يشكّون في كونها انتقاما منّا لرسلنا ، فدعهم وأرح نفسك فإننا على علم بما يقولون وما يفعلون (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) تأكيد بعد تأكيد بأن ربّك عالم ومحيط بكل شيء ، ولتنبيه العباد وتذكيرهم بوجود الصانع وأوصافه التي تدل على التوحيد كالقدرة التامّة والإحاطة الكاملة

٢٩٣

المنحصرة بذاته المقدّسة والتي لا تحصل لغيره تعالى فلا يفوته شيء في ثواب الأعمال. وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام : من قرأ حم السّجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره ، وسرورا ، وعاش في الدّنيا محمودا مغبوطا.

* * *

٢٩٤

سورة الشورى

مكية إلّا الآيات ٢٣ إلى ٢٧ وآياتها ٥٣ نزلت بعد فصّلت.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

١ و ٢ ـ (حم عسق) ... عن الباقر عليه‌السلام : عسق عدد سني القائم عليه‌السلام ، وق جبل محيط بالدّنيا من زمرّدة خضراء فخضرة السماء من ذلك الجبل ، وعلم كلّ شيء في عسق. وهذه الرواية ونظائرها

٢٩٥

من متشابهات الرّوايات التي يردّ علمها إليهم عليهم‌السلام ولعل فهم تلك الأخبار ممّا اختصّ بعصر القائم وزمان ظهوره عجّل الله تعالى فرجه الشريف ان شاء الله تعالى ، تشريفا لنفسه الزكيّة وترفيعا لمقامه السّامي وقد قلنا إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء للنبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلّ واحد منها بمناسبة ويرمز إلى سرّ من الأسرار لا يعلمه إلا الله ومن خوطب به والرّاسخون في العلم وها هنا جاء حديث في المعاني عن الصّادق عليه‌السلام أنه قال معناه : الحكيم ، المثيب ، العالم ، السّميع ، القادر ، القويّ. ولا منافاة بين الحديث الشريف وما قلناه فان للقرآن بطونا ومعاني تحت السّتار ولا يقدر أن يكشفها إلّا أهل بيت الوحي الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا. وقيل هذه الحروف رموز الى الفتن الحادثة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإشارة إلى الحوادث الواقعة في قرب عصر الظهور وزمان نزول عيسى عليه‌السلام من السماء كالخسف والمسخ والقذف وخروج الدّجال على ما ورد في الآثار عن الأئمة الأطهار عليهم صلوات الله وسلامه ، وأخبر بها النبيّ حين نزول هذه الشريفة على ما روي.

٣ ـ (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) ... أي مثل الذي في هذه السّورة من المعاني يوحي الله تعالى إليك (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء والرّسل (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الربّ الذي هو غالب على الأشياء طرّا بحيث لا يقدر أحد أن يصرفه عن إنزال الوحي ، وهو عالم بمن له الأهليّة للإنزال عليه فيؤثره على أبناء نوعه. وذكر الإيحاء بلفظ المضارع مع أنه حكاية عن حال الماضي للدّلالة على الاستمرار أي إدامة الوحي ، وللإشعار بأنّ مثل هذا الوحي ممّا تتضمّنه هذه السّورة من التوحيد والتصديق بالبعث والحشر ممّا جرت به عادة الله أن يلهمه لجميع الأنبياء والرّسل. ونقل عطاء عن ابن عبّاس أنه قال : ما من نبيّ الّا اندرج في كتابه مضامين هذه السورة بلسان

٢٩٦

قومه.

٤ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) أي هو مالكهما من العلويّات والسفليّات فإنه خالقهما والمنشئ لهما ولما فيهما من كتم العدم إلى ساحة الوجود ، وهو مدبّرهما بكمال التدبير والحكمة ، فلذا اختصّتا به سبحانه نوع اختصاص كما اختص كلّ مالك بما له من ملك. وتقديم الجارّ ومجروره لإفادة حصر المالكية ، أي ليس لأحد أن يتصرّف فيهما ولا بما فيهما إلّا بإذن من الله ورسوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) الذي كان علوّ شأنه وارتفاع مقامه بحيث لا يصل عقل ذوي الألباب إلى كنه معرفته جلّت عظمته ، وهو صاحب الكبرياء والجبروت بحيث يقصر فهم ذوي الأفهام عن إدراك حقيقة ذاته.

٥ ـ (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) ... أي قرب أن تتشقّق السّماوات من عظم أن دعوا للرّحمان ولدا أو لنسبة الشريك له أو القول بالتثليث أو غيرها من الأشياء التي يرتكبونها وهي غير مرضية له تعالى ، و (مِنْ فَوْقِهِنَ) يعني أن التفطّر يبتدئ من جهة الفوق ، وتخصيصه بكونه من أعلاهنّ للدّلالة على انفطار أسفلهن بالأولويّة ولزيادة التهويل.

ووجه الأولويّة أن هذه النسبة الشنعاء الصّادرة من أهل الأرض إن أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثّر في الجهة السفلى أولى. ثم إنّ الله سبحانه يقول (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزّهون الله عمّا لا يليق به حال كونهم يشتغلون بذكر ثنائه الجميل بما يليق به تعالى. ويستشعر من هذه الجملة أنه تعالى يريد أن يوبّخ وينبّه بني آدم ويؤدّبهم ويفهمهم بأن كلّ ما أنعمت عليهم بعد نعمة الإيجاد بنعم جزيلة كثيرة بحيث لا تحصى ولا تعد ، فهم لا يشكرون بل يكفرون بها عنادا أو ينسبون إليّ ما لا يجوز نسبته إليّ. أمّا الملائكة فهم المخلوقون مثلهم لكنّهم عباد يشكرون النّعم وينزّهون المنعم عمّا لا يليق به ويشتغلون بحمده ويستغفرون لبني آدم بأمر

٢٩٧

الله تعالى ، لأنّ ما يصدر عنهم كان لجهلهم بخالقهم والمنعم عليهم ، يفعلون ذلك بإغواء الشيطان. وفي القمّي قال : للمؤمنين من الشيعة التّوابين ، ولفظ الموصول في الآية عامّ لكنّ المعنى خاصّ. وفي الجوامع عن الصّادق عليه‌السلام : ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين. والحاصل إن الله سبحانه يقول (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الدالّ على وفور نعمه ورحمته على المذنبين والعاصين ، وكثير الغفران للتّوابين ، وهو أمره عزوجل للملائكة بالاستغفار لبني آدم الذين لا يستحقّون منه سبحانه إلّا العذاب الأليم. والإتيان بالضمير الفاصل بين الموصوف وصفته هو المبالغة في غفرانه وكثرة رحمته على خلقه.

٦ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ... أي اتّخذوا آلهة عبدوها من الأصنام وغيرها ممّا لم يكن بآلهة ف (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي محص ومراقب لأحوالهم وجميع شؤونهم فلا يفوته شيء منها وهو مجازيهم بها. وهذا منه سبحانه إنذار وتهديد شديد (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بمفوّض إليك أمرهم حتى تطالب بايمانهم وتدخلهم في الايمان قهرا ، إن عليك الا البلاغ والدعوة إلى الله مبيّنا سبيل الرّشد. فلا يضيقنّ صدرك بتكذيبك وعدم إيمانهم بك ، وفيه تسلية للنبيّ (ص).

* * *

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا

٢٩٨

نَصِيرٍ (٨))

٧ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ... أي مثل ما أوحينا إلى من تقدّمك من الأنبياء بالكتب التي أنزلناها عليهم بلغة قومهم ، أوحينا إليك قرآنا بلغة العرب لتفقّههم فيما فيه (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي أهل مكّة. وتسمية مكّة بأمّ القرى لانبساط الأرض طرّا من تحتها يوم دحو الأرض ، فهي أمّ البلدان وأصل جميع نواحي العالم وأقاصيها (وَمَنْ حَوْلَها) أي أطرافها. والحاصل أنك مبعوث من عندنا إلى جميع العالم لتنذرهم وتدعوهم إلى دين الإسلام (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي تنذرهم يوم يجمع فيه الخلائق ، أي يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شكّ في يوم الجمع. وهذه الجملة معترضة لا محل لها من الاعراب ، أقحمها سبحانه لأن يوم الجمع مقطوع بوقوعه (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي في ذلك اليوم يكون الناس على قسمين ليس لهم ثالث : قسم في الجنة ، وآخر في النار. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس ، ثم رفع يده اليمنى قابضا على كفّه ثم قال (ص) : أتدرون أيّها الناس ما في كفيّ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : فيها أسماء أهل الجنّة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة. ثم رفع يده اليسرى فقال : أيّها الناس أتدرون ما في كفّي؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : أسماء أهل النار وأسماء آبائهم إلى يوم القيامة ، ثم قال : حكم الله وعدل ، حكم الله وعدل ، فريق في الجنّة ، وفريق في السّعير.

فإن قيل : إن ظاهر صدر الآية يقتضي أن الله إنّما أوحى إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة ، وهذا يقتضي أن يكون مبعوثا إليهم فقط ، فلا يكون رسولا إلى ما سواهما من أهل العالم مع أنّه بنصّ الآيات والرّوايات رسول إلى كافّة الجنّ والإنس؟ فالجواب : إنّ التخصيص بالذّكر

٢٩٩

لا يدل على نفي الحكم عمّا سوى المذكور. نعم سلّمنا أن الآية تدلّ بظاهرها على كونه رسولا إلى هذه الطوائف خاصّة ، لكن قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) يدلّ بالصّراحة على كونه مبعوثا ورسولا إلى جميع الخلق ، والظاهر لا يقاوم الصّراحة كما بيّن في محلّه. هذا مضافا إلى أنه لمّا ثبت كونه رسولا ولو إلى واحد (فكيف بثبوت كونه رسولا إلى طوائف) يثبت كونه صادقا لأنه لا بدّ من ملازمة بين الرّسالة والصدق. ولمّا ثبت بالتواتر أنه كان يدّعي الرسالة إلى العالمين فوجب تصديقه للملازمة المتقدّمة وهذه تثبت المدّعى قهرا.

٨ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ... أي لو أراد الله لحملهم وقسرهم على دين واحد وهو الإسلام ، لكنّه لم يفعل لأنه مناف لأمر التكليف ويؤدّي إلى إبطاله ، لأن التّكليف إنّما يتحقق مع الاختيار. وقال القمّي : لو شاء أن يجعلهم كلّهم معصومين مثل الملائكة بلا طباع ، لقدر عليه (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي بالهداية لقبولهم الإيمان والطاعة. أو المراد بالرّحمة هي الجنّة. والحاصل أنّ مشيئته وحكمته تقتضيان أن يكون الناس طرّا مكلّفين مختارين حتى يعلم المطيع والمنقاد ويمتاز عن العاصي المعاند ، فالمطيع يستحق الثواب والعقاب على التكليف مع الاختيار (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي أهل الكفر والضّلالة لا وليّ لهم حتى يعفيهم ويحفظهم من العذاب ، ولا ناصر لهم فيعينهم ويدفع عنهم الشّدائد من العقاب.

* * *

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى

٣٠٠