الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

١٤ ـ (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ...) أي من جميع جوانبهم وكلّ جهاتهم جاءوهم بالإنذار والحجج أو حذّروهم بما مضى من هلاك الكفرة وما يأتي من عذاب الآخرة. والحاصل أن الرّسل كانوا مأمورين بإبلاغ التوحيد والرسالة إلى الناس طرّا ولذا كانوا يقولون لهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فأجابوهم و (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي لو أراد الله أن يرسل إلينا رسولا فلا بدّ أن يبعث إلينا من غير نوعنا بل من نوع الرّوحانيّين فإنّهم يناسبون للرسالة من عنده سبحانه لا أنتم فإنكم بشر مثلنا ولا فضل ولا ترجيح لكم علينا (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي على زعمكم (كافِرُونَ) حيث نظنّكم كاذبين فيما ادّعيتم به.

١٥ ـ (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ...) هذا تفصيل قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) أي قوم عاد استكبروا أي رأوا أنفسهم ذوات كبرياء وتجبّر بالإضافة إلى أهل بلادهم بغير استحقاق وجهة كانت موجبة لاستكبارهم وعتوّهم على غيرهم فكان تعظّمهم على ما لا ينبغي والمراد بالأرض هو أرض الأحقاف اسم قصبة من اليمن وعاد كانوا ساكنين في تلك البلاد (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فاغترّوا بقوتهم الظاهريّة وسطوتهم. وقيل كانت قوّتهم بمثابة أن الرّجل منهم يقلع الصّخرة العظيمة بيده بلا آلة من الجبال ، وربّما يرميها إلى مكان بعيد (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي الذي كان أعطاهم تلك القوّة والقدرة هو يقدر أن يسلبها منهم ويهلكهم في أقل من لحظة (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي يعرفونها أنها حقّ وينكرونها.

١٦ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ...) أي عاصفا شديد الصّوت من الصّرّة وهي الصّيحة وقيل ريحا باردة من الصّر الذي هو البرد قال الفرّاء : هي الباردة تحرق كما تحرق النّار. قال الباقر عليه‌السلام : الصّرصر : البارد (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي مشؤومة عليهم وهي الأيّام التي تجري الرياح

٢٦١

المتصعصعات عليهم بحيث صاروا من الرّيح مستأصلين لأن الريح كانت تحركهم من مكانهم ومواقفهم يمينا وشمالا وترميهم على الجدران والأشجار والصّخور والجبال فتهلكهم ، وكان جريان الأرياح إلى سبع ليال وثمانية أيام. ونقل أنّه قبل هبوب الأرياح المدهشة المهلكة انقطع عنهم الأمطار سبع سنوات وحدث فيهم قحط شديد بحيث ما بقي فيهم حيوان إلّا وقد أكلوه بل صاروا يعيشون بأكل أوراق الأشجار وحشرات البراري وسباع الجبال يصطادونها ويأكلونها وكثير منهم ماتوا بذلك القحط والغلاء الشّديد وبعد ذلك جاءتهم الرّيح الصّرصر العاصف وذهبت بهم إلى دركات الهاوية. ويحتمل أن يكون المراد بالأيام النحسات هي أيام القحط التي كانت مصاحبة للأرياح لكنها غير صرصريّة أو كانت منحوسة وأيام عذاب باعتبار شدّة برودتها لأن العرب يسمّون البرد نحسا. وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : الرّياح ثمان ، أربع منها عذاب : العاصف ، والصّرصر ، والعقيم ، والسّموم. وأربع منها رحمة : النّاشرات ، والمبشّرات ، والمرسلات ، والذاريات. (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي عذاب الهوان والذّل ، وهو الذي يجزون به في مقابل استكبارهم في الدّنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) أي أفضح وأذل من ذلك بمراتب كثيرة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ليس لهم ناصر ولا معين حتى يدفع عنهم العذاب فهم معذّبون أبدا. قال ابن عباس : ما أرسل الله من الرّيح عليهم إلّا قدر خاتمي. وقيل إرسال العذاب عليهم في الأيام النّحسات كان آخر شوّال من الأربعاء إلى الأربعاء. وما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء ثم إنه حصل اختلاف بين المنجّمين والمتكلّمين ، فالأوّلون قالوا بأنّ الأيام بعضها نحس ذاتا ويستدلون بهذه الآية ويقولون بأن الآية صريحة في ذلك ، وأجاب المتكلّمون بأن النّحاسات هي الأيام التي تكون ذوات غبار وتراب ونحوستها بهذا الاعتبار لا باعتبار ذاتها ، بل عرضيّة لا ذاتية وأيضا كون هذه الأيام نحسات لأن الله أهلكهم فيها فلذا تشاءمّوا

٢٦٢

بها وسمّوها نحسات. وأجاب المنجمون بأن النحس في وضع اللّغة هو المشؤوم لأنّ النحس يقابله السعد والكدر يقابله الصّافي فالقول بأن النحوسة باعتبار كونها ذات غبار وتراب لا يساعده التعبير بالنحسات بل المناسب هو التعبير بالكدرات هذا وثانيا أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات فلا بدّ وأن يكون قبل العذاب نحوسة مغايرة لذلك العذاب كما لا يخفى على أولي الألباب.

١٧ ـ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ...) أي فدلّلناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرّسل وإظهار البراهين والمعجزات على ألسنتهم وأيديهم (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي آثروا على الهداية الضلالة أي ضلالة الكفر والطّغيان (فَأَخَذَتْهُمْ) أي شملتهم وتناولتهم (صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي عذاب الذلّ والحقارة. وإضافة الصّاعقة إلى العذاب بيانيّة (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب شركهم وتكذيبهم نبيّهم صالحا وعقرهم الناقة ثم إن الرّازي بعد ما عثر على استدلال المعتزلة بالآية في الردّ على الجبريّة فقد نهض في الرّد عليهم واستدل على صحّة مذهب الجبريّة بدليل أضعف من بيت العنكبوت وهو أنّه قال إنّ أحدا لا يحبّ العمى والجهل مع العلم بكونه جهلا ، ومقصوده من هذا البيان أنّ جهله بإجبار الله إيّاه يجعل الآية من أدلّة مذهبه. والعجب من الرّازي أنّه كيف صار جبريّا وأدلّته على مدّعاه من هذا السنخ وكلماته ما أقربها إلى الشعوذة لأنه بهذه التقريرات قد أراد أن يثبت أن الكفر والإيمان يحصلان من الله جبرا لا من العبد ، ومراده أنّ أحدا لا يختار العمى والضّلالة مع العلم بأنها ضلالة فحينئذ يلزم أنّ جميع المعاصي الصّادرة من العباد غير مأخوذ بها لأنهم لا يعتقدون أنها جهل وعماية وكلّ حزب بما لديهم فرحون. فإن قيل كيف أنذر قومه بمثل صاعقة عاد وثمود مع العلم بعدم تعذيب أمته به وقد صرّح الله بذلك إذ قال تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وفي

٢٦٣

الأحاديث الصّحيحة أن الله رفع عن هذه الأمّة هذه الأنواع من العذاب؟ وقد أجيب أن قومه لمّا شاركوا وساووا قوم عاد وثمود بسبب إنكارهم التوحيد والنبوّة فاستحقّوا مثل تلك الصّاعقة وتخويفهم بالعذاب مثل أولئك ، وجاز حدوث ما يكون من جنس ذلك. وفي هذا الجواب ما لا يخفى حيث أن إشكال الخصم أنّه بمقتضى الآية والروايات أنّ مثل عذاب الأمم السّابقة مرفوع عن هذه الأمّة المرحومة بأيّ ذنب ارتكبوا ما دام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم تعظيما لشأنه وتكريما لعلوّ مقامه (ص) بين الأنبياء والمرسلين بمقتضى وعده تعالى ، وهذا كيف يناسب قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) مع العلم بعدمه؟ والمجيب يقبل تعذيبهم ويجيب عن سبب تعذيبهم وأنه إنكارهم التوحيد والنبوّة وأنّهم لذلك استحقّوا سنخ عذاب عاد وثمود فأين هذا عن جواب الخصم المدعي لرفع العذاب الدنيوي عن الأمة المرحومة سواء استحقوا أم لم يستحقّوا؟ فالجواب المقنع للخصم الحاسم الرافع لإشكاله يمكن أن يكون من وجوه : الأوّل أن يقال بأن الله تعالى أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإنذارهم وتخويفهم بما فعل بالعتاة والعصاة من الأمم الماضية مع كونهم أقوى وأشدّ من هؤلاء العصاة والمردة من أهل مكة فكما أهلكهم كذلك بتلك السطوة وذلك القهر ، يمكنه أن يهلك هؤلاء المشركين ؛ وهذه مرحلة الإنذار والتهديد. والإنذار لا يلازم نزول العذاب كما أنّ الوالد الرّؤوف ينذر ابنه بقوله يا بنيّ لا تفعل كذا وكذا وإلّا أضربك أو يخوّفه بالحبس أو يهدّده بالقتل إذا كان المنهيّ عنه أمرا ذا أهميّته ، مع أنه يعلم أنّه إذا فعل الابن الأمر المنهيّ عنه لا يضربه فضلا عن الحبس والقتل. والحاصل أن تلك التهديدات والتخويفات في مقام التأديب والإرشاد والهداية أمر عقلانيّ متعارف بين الناس من الموالي إلى العبيد ومن الآباء إلى الأولاد ، وكذلك من الرّسل إلى

٢٦٤

الأمة ، وليس بين الإنذار ونزول ما يخاف منه أي ملازمة ، بل الإنذار والبشارة في ذاتهما مرحلة من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمقام الإنذار غير مقام نزول العذاب. هذا ، وثانيا أن الآية أي (ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) والرّوايات التي تدلّ على هذا المعنى ظاهرة في أن النبيّ (ص) ما دام فيهم لا يعاقبون مثل ما عوقبت الأمم السّالفة لا أنهم لا يعاقبون مطلقا ، فبعد وفاته يمكن أن يعاقبوا بمثل عقاب الأمم الماضية ولا منافاة بين الآيتين حيث إن آية (فَإِنْ أَعْرَضُوا) لا تدل على عقابهم في زمن حياة النبيّ (ص) بل من هذه الجهة كانت مطلقة ، فهي قابلة للتقييد بما بعد وفاته بمقتضى الآية الشريفة (ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) ولو أغمضنا عن هذا الجواب أيضا فنجيب ثالثا بأنّه تعالى بشّر نبيّه برفع العذاب عن أمّته وتابعيه في الدنيا إذا عصوا وعملوا عملا بتسويل الشّيطان والنفس الأمّارة يستحقّون به عقاب الأمم الماضية تبجيلا له صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكريما لمقامه العالي. وأمّا هؤلاء الكفرة والجاحدون فليسوا من أمته صلوات الله عليه وآله فأيضا لا تنافي بين الشريفتين فإن الأمّة هي الجماعة والجيل فإذا أضيفت إلى نبيّ أو رسول فأريد منهم الذين يقصدونه ويميلون إليه ويتابعونه. فالذين يعرضون عنه لا يكونون من الأمّة ولا يحسبون منها حيث إن المراد بالأمة ليس مطلق البشر الذين يحسبون من معاصري النبيّ صلوات الله عليه وآله وسلّم.

١٨ ـ (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ... أي نجّينا المؤمنين بصالح وبما جاء قومه من الصاعقة (وَكانُوا يَتَّقُونَ) من الشّرك ومن مخالفة نبيّهم صالح عليه‌السلام. ثم أخبر سبحانه عن حال الكفرة يوم القيامة بعد بيان حالهم في الدنيا :

* * *

٢٦٥

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))

١٩ و ٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) ... أي يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرّقوا (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي إذا اجتمعوا ووقفوا قبالتها. وقد زيدت (ما) تأكيدا لمفاجأة الشهادة لحضورهم (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إذا جاءوا النار التي وعدوها وحشروا إليها ، سئلوا عن أعمالهم فأوّل ما يجيب ويشهد عليهم بإنطاق الله له هو السّمع ، وبعد ذلك الأبصار ، وبعدها الجلود كلّ بإنطاق الله له بما صدر عنهم من الأعمال القبيحة والأقوال السيّئة. ووجه تقديم بعض الجوارح على بعض في الآية هو أشرفيّته ، ويحتمل أن يكون سرّ التقدّم الاهتمام بشأنه لأنّ أكثر المعاصي تصدر منه إمّا مباشرة أو تسبيبا ، فإن السمع اجتمع فيه العنوانان. أمّا

٢٦٦

هذه الأعضاء فإنها قد تتصدّى إمّا بالمباشرة كالغيبة استماعا وكالأغاني والأباطيل من الكلمات واللهويّات والكذب والبهتان والافتراء ونحوها ممّا لا يجوز استماعه ، وإمّا بمنشئيّة صدور الحرام عن بعض الجوارح كاستماعها إن المرأة الفلانيّة صاحبة جمال مثلا فإذا استمع تميل نفسه إليها بحيث يمشي إليها فيقع فيما لا يرضى الله تعالى بصدوره عن عباده. فنوع الجوارح يقع في معصية الله والمنشأ هو السّمع ، وكذلك البصر فقد ينظر إلى ما لا يرضى الله النظر إليه ، فالأبصار تعصي وتصير باعثة لأن تميل النفس الأمّارة بالسوء ، فتجرّ الجوارح قهرا إلى صدور بعض القبائح عنها وفي الرواية أنّ النظرة سهم من سهام الشيطان ، ومعناها هذا. ففي مثل هذه النظرة يضاعف العقاب لمضاعفة الإثم. وأمّا الجلود فكناية عن سائر الأعضاء التي لها القابلية لأن تصدر منها المعاصي. وقال ابن عباس : المراد بالجلود هو الفروج على طريق الكناية كما قال سبحانه وتعالى : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) وأراد النكاح. وقال (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) وأراد قضاء الحاجة.

٢١ ـ (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) ... أي يقول الكفرة لجوارحهم على سبيل التّوبيخ أو التعجّب لأنهم ما كانوا مترقّبين من أعضائهم الشهادة عليهم ، فيقولون : لم شهدتم علينا مع أنّ لنا الحق عليكم حيث كنتم في دار الدّنيا في حفظنا وحراستنا ، واليوم نحن في صدر نجاتكم من النّار (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي الله تعالى أعطانا قوّة النطق وعلّمنا البيان وألهمنا الشهادة والاعتراف بما عملناه وفعلناه. وقال القمّي : نزلت في يوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون ما عملنا شيئا فيشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم. وقال الصّادق عليه‌السلام : فيقولون لله : يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ، ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله عزوجل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً

٢٦٧

فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع ممّا حرّم الله ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم الله عزوجل ، ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرّم الله ، وتشهد اليدان بما أخذتا وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرّم الله عزوجل ، ثم أنطق الله عزوجل ألسنتهم فيقولون هم لجلودهم لم شهدتم علينا ، الآية (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعني أنّ القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدّنيا هو أنطقكم وبعثكم في المرّة الثانية فهو الذي أنطقنا اليوم للشهادة عليكم. وهذا التفسير بناء على أنّ هذا الذيل من تتمّة كلام الجلود أو استئناف يقرّر ما قبله.

٢٢ ـ (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ... أي عند ارتكابكم القبائح كنتم تستخفون بها لكنّه لم يتهيّأ لكم ولم تتمكنوا من أن تستتروا بأعمالكم عن أعضائكم التي أنتم بها تفعلون ما كنتم تعملون ، فجعلها الله شاهدة عليكم في القيامة. ولا يخفى أن مفاد تلك الآيات ونظائرها من الرّوايات الدالة على شهادة الأمكنة التي يصلّي عليها الإنسان أو في باب الأذان واستحباب رفع الصّوت ، معلّلة بأن كل شيء يسمع يستغفر لصاحبه. وهذه في الأعصار السالفة بالنسبة إلى أن أكثر البشر كانوا يسبّحون الله عند سماعه وعند ما تقرع الأسماع هذه النغمات المقدسة ، لأنها عند المؤمنين صرف تعبد ، وأمّا غيرهم فينكرونها ويستهزئون بها. لكن اليوم في العصر الحاضر مع هذه الصنائع البديعة والمخترعات الحديثة كالتلفزيونات التي ترتسم فيها صور الأشخاص وتحفظ فيها الأصوات والمسجّلات التي تضبط فيها الأصوات على ما هي عليها فالأمر صار سهلا بحيث تتصوّر شهادة الجلود ونحوها من أعضاء الإنسان ويكون ملازما لتصديقها. فلو قيل إن جلد بدن الإنسان بمنزلة شريط المسجّلات التي

٢٦٨

تضبط فيه الأصوات أي الأقوال التي تصدر من الإنسان ، وأن هيكل الإنسان بمنزلة آلة المصوّرين في أخذ الصّور وانتقاشها وارتسامها فيها فكلّ عمل يصدر من الإنسان ينتقش في بدن الإنسان على جلده ، وفي يوم القيامة تجيء بتلك الصور المنقوشة فينفخ فيها فيتجسّم الصوت ولا غرو فيه ، بل قد تظهر الصورة بقدرة الله ، وإن كانت قد أثبتت في صحيفة الأعمال ، ولعلّ هذا هو معنى تجسّم الأعمال. فلو قيل به فليس ببعيد أن يقرع السّمع به فينكره كما كان ينكر قبل عصرنا هذا. بل لو ادّعى مدّع بأن العالم بحذافيره بمنزلة محفظة وتلفزيون كبير لارتسام صور البشر جميعا وانتقاشها فيه حال كونهم مشتغلين بأعمالهم إن خيرا وإن شرا ، ولضبط أصواتهم وأقوالهم ، فالفضاء تحفظ فيه الأصوات وغيرها من أجسامه العنصرية الكثيفة وترتسم فيها الصّور أو ترتسم في العلويّات صور الأشخاص ، حال اشتغالهم بالأعمال دلالة على هذا فليس بمنكر من القول (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) لأنكم لم تستتروا مخافة شهادة السمع عليكم (وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) يعني لم يكن استتاركم عند ارتكابكم للأعمال القبيحة خوفا من شهادة الأعضاء عليكم وإن يعلمه الله ، بل لأجل أنكم (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) خفاء ، ولهذه الجهة كنتم تخفون قبائح أعمالكم. وأمّا مسألة شهادة الجوارح فما كنتم تعقلونها ولا تقبلونها في دار الدّنيا لانكاركم البعث فكيف بلوازمها؟

٢٣ ـ (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) ... أي ذلك الظن بربّكم (أَرْداكُمْ) أي أهلككم (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) باستبدالكم بالجنة النار ، وبإيثاركم النار على الجنة ... والظن جاء بمعنى العلم والاستيقان ومنه (ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي (أيقنوا) وتأتي أيضا للدّلالة على الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض نحو (ظننت زيدا صاحبك) وهذا هو معناه الرّائج الذي تحمل عليه بلا احتياج إلى القرينة

٢٦٩

بخلاف المعاني الآخر وتستعمل في الشك والوهم والاتّهام. وقيل إن الظنّ هنا بمعنى اليقين. والظاهر أنه بمناسبة الحكم والموضوع بمعنى الوهم والتخيّل لأن الخطاب مع المشركين ، وهم ما كانوا من أهل اليقين بالله تعالى بل لم يكونوا من أهل الظنّ به سبحانه بمعناه المتعارف الرائج. نعم يحتملون ويتخيّلون أن يكون للعالم صانع غير ما هم عليه ، ولو تلفّظوا باسم الله أو الرّب أو غيرهما من أسمائه سبحانه إمّا أن يكون حكاية لقول المسلمين أو على زعمهم يتفاهمون ويتكلّمون بتلك الأسماء الشريفة التي ينطق بها المسلمون لأنهم يعتقدون بالمسمّى بها ، فكيف في مقام التسمية يمكن أن يقال إنهم يريدون معانيها الواقعية ومفاهيمها الثابتة الحقيقيّة ، وتكرار الظن للتأكيد في أن الموجب لهلاككم هو ظنّكم السّوء بربكم. وفي الآية تنبيه على أنّ العبد المؤمن في أوقات خلواته ينبغي أن لا يكون خوفه من ربّه أقلّ في ارتكابه المعاصي في جلواته ، بل كماله في أن يكون خوفه السّري أكثر من علنيّه حتى لا يدخل في سلك هؤلاء المشركين بل العبد المؤمن لا يكون له سرّ وعلن بالنسبة إلى ربّه فإنه يرى نفسه في جميع أحواله بين يدي ربّه والربّ مشرف عليه في كلّ أوقاته وحالاته وآناته. فأيّ وقت يكون هو غائب عن ربّه حتى يتحقّق له سرّ وخفاء بالنسبة إلى ربّه؟؟ وعن الصّادق عليه‌السلام أن العبد المؤمن ينبغي أن يخاف الله خوفا كأنّه يشرف على النار ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة ، إنّ الله يقول (ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي) ، الآية ثم قال عليه‌السلام : إن الله عند ظنّ عبده إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

ثم أخبر سبحانه عن حالهم في النّار فقال عزوجل :

* * *

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً

٢٧٠

لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))

٢٤ ـ (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ... أي فإن يصبروا على النار وآلامها وأمسكوا عن شكواهم أم لم يصبروا فالنّار مثوى لهم ومستقرّهم ولا ينفعهم صبرهم على عقوبات النيران فإنهم سيبقون مخلدين في جهنّم والنيران ملازمة لهم ، كما أنّ الجملة الاسميّة فيها دلالة صريحة على ذلك (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي لو طلبوا العتبى أي الرضى وقبول العذر فليسوا ممّن يرضى عنهم ويقبل عذرهم بعد ذلك ، فقد جفّ القلم بما هو كائن وثابت عليهم ، يعني أن جزعهم واستغاثتهم وشكواهم لا تفيدهم أبدا كما قال تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) والمعتب من يقبل عذره ويجاب إلى ما سأل. هذا بناء على كونه اسم مفعول وأمّا بصيغة الفاعل فهو المنصرف عمّن يغضب عليه لأجل ما كان عليه أو التّارك له أو المزيل عتبه لأجل ما كان عليه.

٢٥ ـ (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) ... أي قدّرنا لهم أخدانا من الشياطين ، وهو مجاز عن منعهم اللطف لكفرهم حتى استولت عليهم الشياطين. وقال القمّي : يعني الشياطين من الجنّ والإنس (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمور الدّنيا ومتاع الحياة وحظوظها ولذائذها وشهواتّها لأنهم يقولون إن الدنيا قديمة وإنه لا فاعل لها ولا صانع إلّا الطّبائع والأفلاك (وَما خَلْفَهُمْ) اي أمر الآخرة بأن القرناء يقولون لهم لا بعث ولا نار ولا جنّة ولا سؤال فينكرونها من أصلها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي الوعيد بالعذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي في جملة الأمم الماضية.

٢٧١

والجملة حال من ضمير عليهم. وحاصل المعنى وجب عليهم الوعيد حال كونهم كائنين في جملة أمم من المتقدّمين المكذّبين لرسلهم بما جاءهم من الأديان الإلهية فكانوا من الذين استحقوا العذاب (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لأنهم عملوا مثل أعمالهم (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) أي كما كان أولئك من الخاسرين قبلهم ، فالناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، سنّة الله التي جرت في عباده لا تختصّ بعصر دون عصر ولا زمان دون زمان.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

٢٦ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) ... أي قال رؤساء الضّلالة وكبراء الكفر والخباثة لأتباعهم لا تسمعوا لهذا القرآن (وَالْغَوْا فِيهِ) فلا تصغوا إلى كتاب محمد الذي يقرأه عليكم وانسبوه إلى التكلم باللّغو وخطئوه في قوله ، أو الغوا فيه يعني ارفعوا أصواتكم حينما يقرأ بالشّعر والأباطيل من الكلام لتخلطوا عليه قراءته وتغلّطوا في كلامه. وقال

٢٧٢

القمي : وصيّروه سخريّة ولغوا (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) بأن عجّزتموه عن مقاومتكم فلا يعارضكم بعد ذلك بقراءة قرآنه. وقيل معنى والغوا فيه أي قولوا بين ما هو يقرأ كلاما لغوا ولهوا فتخلّطوا أباطيلكم في قراءته. وحاصل جميع هذه التفاسير يرجع إلى أنه افعلوا عملا يمنع النبيّ (ص) عن القراءة ويتركها.

٢٧ ـ (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً) ... إن الله تعالى يهدّد أعداءه تهديدا شديدا في هذه الشريفة بأن القائلين بهذا القول لا بدّ وأن نعذّبهم بأشد العذاب كمّا وكيفا (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي نجزيهم بأقبح جزاء على قبح عصيانهم وهو الشّرك والكفر. قال ابن عباس : إن المراد بالعذاب الشديد هو يوم بدر حيث إن المشركين ابتلوا بالأسر والقتل ، وأسوأ العذاب هو يوم القيامة.

٢٨ ـ (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) ... اسم الإشارة إلى أسوأ الجزاء المتوعّد به وهو مبتدأ خبره (جَزاءُ أَعْداءِ) ، الآية وقوله (النَّارُ) عطف بيان للجزاء أو خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف أي : وهو النار (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي مسكن إقامتهم الدائميّ هو الجحيم لا غيره (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) وضع موضع يلغون إقامة السبب مقام المسبب.

٢٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا) ... أي أن رؤوس الكفر والضّلال يسألون حين يصيرون في النار من الله تعالى أن يريهم من أضلّهم في الدنيا ويقولون (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي شيطاني الجنسين الداعيين لنا إلى الضّلالة والعناد (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) أي نسحقهما وندوسهما انتقاما منهما وتبريدا لقلوبنا (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي في الدرك الأسفل من النار فنطؤهما بأقدامنا إذلالا لهما فيكون عذابهما أشدّ من عذابنا. ولمّا ذكر سبحانه وعيد الكفرة عقّبه بذكر الوعد للمؤمنين

٢٧٣

الأبرار فقال في الآيات الكريمة التالية :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) ... أي وحّدوه وصدّقوا رسله بما أدّعوا من الرّسالة والنبوّة والدّيانة ، ثم استمرّوا على هذا الأمر ولم يشكّوا فيه أبدا. وعن الرّضا عليه‌السلام : هي والله ما أنتم عليه. قال

٢٧٤

سفيان بن عبد الله الثقفي : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلت : أخبرني بخصلة حتّى أتمسّك بها. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قل ربّي الله فاستقم. ثم قلت أخوف ما لا بدّ من الاحتراز منه أيّ شيء يكون؟ فأخذ بلسانه الشريف وقال : حفظ اللّسان (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) في المجمع عن الصّادق عليه‌السلام والقميّ قال : عند الموت أو عنده وفي القبر والقيامة ، أي عند الشّدائد (أَلَّا تَخافُوا) أي يبشّرونهم بأن لا تخافوا ممّا أمامكم من العقبات والمواقف (وَلا تَحْزَنُوا) على ما أخلفتم من ولد وأهل وأموال جمعتموها بكدّ يمين وعرق جبين (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) هذه بشائر متعاقبة من الربّ الرحيم لعباده.

٣١ ـ (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ... أي نتولّى أموركم من حفظكم وإلهامكم الخير وغير ذلك مما تحتاجون إليه بإذن من الله في الحياة الدّنيا (وَفِي الْآخِرَةِ) بأن نشفع لكم ولا نفارقكم حتى ندخلكم الجنّة بأنواع الإكرام (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من أنواع النّعم واللّذائذ ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الدّنيا (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي ما تتمنّون وتطلبون. وهي من الدّعاء بمعنى الطلب.

٣٢ ـ (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) ... أي جميع ذلك نزل أي عطاء وفضل ذو بركة من ربّ كثير المغفرة والرّحمة. والمناسب للنّزل أن يتعاقبه بقوله (من جواد كريم) ولكنّه لما كان غفران ذنوب العاصين من أعظم أنواع الجود وكذلك الرحمة الرحيميّة من أحوج الأمور للعباد يوم المعاد فلذا أتى سبحانه وتعالى بهذين الوصفين إشارة إلى هذا المعنى الدقيق اللّطيف.

٣٣ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) ... صورته استفهام لكن المراد به النفي ، وتقديره : وليس أحد أحسن قولا ممّن دعا إلى توحيد الله وطاعته وأضاف إلى ذلك (وَعَمِلَ صالِحاً) ليقتدى به فيه. ويستفاد من الشريفة أن الإنسان في مقام العبودية لا بدّ له من أمور ثلاثة حتى يكمل

٢٧٥

إيمانه وعبوديّته : الأوّل الدّعوة إلى الله تعالى بقوله. والثاني العمل فإن القول بلا عمل ليس له كثير فائدة لأن الناس يرون أعمال القائلين والدعاة وفي الرّواية كونوا دعاة الى الله بغير ألسنتكم ، إشارة إلى هذا المعنى ، يعني بأعمالكم. والثالث أن العمل ينبغي أن يكون خالصا من كلّ ما يفسده فيكون صالحا قابلا للقبول. فإذا تمت الثلاثة كمل إيمان العبد وصحّ أن يطلق عليه العبد الصالح أي الكامل الإيمان (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأضاف إلى الدّعوة القوليّة والعمليّة الخالصة إظهار إسلامه ، فإنّه من إشاعة الحسنى ، وحكمته أنه يصير موجبا وسببا لرغبة الناس إلى الإسلام فيدخلون فيه ، وانكسارا للكفر وشوكته فيخرجون منه ولا سيما إذا كان هذا الشخص المظهر من العظماء والشخصيّات المعروفة والأكابر والأجلّاء الواجدين للأوصاف الثلاثة المذكورة. فلإظهاره الإسلام دخالة مهمّة لتأييده وتقويته ، لأن في هذا الإظهار قسما من الدّعوة القوليّة. نعم قد يوجد مورد يكون فيه الإخفاء مصلحة مهمّة تقتضي إخفاءه كاخفاء أبي طالب عليه‌السلام إسلامه لحفظ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وفي العيّاشي أن الآية في عليّ عليه‌السلام ، وعن مقاتل وكثير من المفسّرين أن المراد منها الأئمة الداعون الخلق إلى المناهج الإسلاميّة الحقة والطريقة المستقيمة النبويّة.

٣٤ ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) ... هذه الشريفة لترغيب العباد بقبول الإيمان ، وزيادة (لا) الثانية وإن لم يكن هذا مرادا فبلاغة الكلام تقتضي إلقاء لفظة (لا) الثانية على ما هو الظاهر. والمعنى الظاهري أن المراد بالحسنة أفرادها ، وكذلك السيّئة ذات أفراد. وليست أفراد الحسنة متساوية كما أن أفراد السيّئة كذلك. وأفراد الحسنة بعضها أرجح من بعض في الحسن كما أن أفراد السيّئة بعضها أقبح من بعض وأسوأ. وعلى هذا لا نحتاج إلى القول بزيادة لفظة (لا) الثانية والحمل على المبالغة في

٢٧٦

النفي حتى لا يلزم اللّغوية في كلام الله سبحانه ، فنقول : إنّ (لا) على معناها الحقيقي من النفي بلا أدنى احتياج إلى هذه التكلّفات. وهذا الصّدر من الآية توطئة لما في الذّيل من قوله (ادْفَعْ بِالَّتِي) ، الآية وقيل معناها لا تستوي الملّة الحسنة أي الإسلام ، والملة السيّئة وهي الكفر. وفسّرت الحسنة بالأعمال الحسنة ، والسيّئة بالأعمال القبيحة. وأيضا فسّرت بالخصلة الحسنة والسيئة ، أي لا يستوي الصبر والغضب ، والحلم والجهل ، والمداراة والغلظة ، والعفو والاساءة ، وقيل لا يستويان في الجزاء والمكافاة ، فإن الأول موجب لرفع الدرجات ، والثاني سبب للهبوط إلى الدّركات (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم إن النبيّ الأكرم لما كان مبعوثا من عنده تعالى فعليه سبحانه أن يعلّمه أحسن الطّرق وأقربها إلى نفوس البشر لكي يميلوا إلى الإسلام ، وأقرب الطّرق وأحسنها هو هذا المنهج الراقي والصراط السّامي الذي يبيّنه تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي ما يلزمك في مقام دعوتك الناس إلى دين الإسلام هو أن تقابلهم وتدفع عنك سيئاتهم حيث اعترضتك بالّتي أحسن من أفراد الحسنة ، كما أنه إذا أساء إليك مسيء أو آذاك مؤذ فإذا عفوت عنه فالعفو أمر حسن ، لكن الأحسن أن تحسن إليه بما يناسبه من الأموال أو الهدايا ، وإذا كان مليّا ولا يحتاج إلى الأموال فوضع الأحسن في موضع الحسن لكونه أقرب الطرق لإمالة النفوس إلى الإيمان وأبلغها في دفع السيّئة بالحسنة ، فإن من اعتاد أن تدفع السيئة بأحسن منها فما دونه أهون عليه. وعلى أيّ تقدير إنه تعالى يقول لنبيّه (ص) : إذا فعلت ومشيت على ما عملتك في طريق الدّعوة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) أي عداوة دينيّة (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي يصير العدوّ بسبب إحسانك إليه في مقابل إساءته كالصّديق المحبّ القريب. ولمّا كانت مقابلة الإساءة بالإحسان مستلزمة لتحمّل المشاقّ والمواجهة مع المكاره عن الأعداء وأمرا صعبا على النفوس الأبيّة ، فلذا يقول تعالى :

٢٧٧

٣٥ ـ (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) ... أي لا يعطى هذه الخصلة الحميدة ، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان ، إلّا أهل الصّبر ، حيث إن فيها منع النفس عن الانتقام مع القدرة عليه ، وكظم الغيظ ، وهما أمران تحمّلهما شاقّ وكلفة على النفس (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي الذين لهم حظّ ونصيب وافر من العقل وكمال الإيمان أو خير الدنيا والآخرة ، وهما أعظم الحظوظ مجتمعة.

٣٦ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ) ... (إِمَّا) مركّب من (إن) الشرطية و (ما) الزائدة أدغمت في (ما) الزائدة للتّأكيد. أي وإن أغراك الشيطان ووسوس لك وسوسة صارفة عمّا أمرت به من الدفع بالّتي هي أحسن بل ألجأك أن تقابل السيّئة بأسوأ منها (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي فالجأ إلى الله تعالى واطلب منه تعالى إنجاءك من مكره وكيده ، فلربّ شرارة أذكت نارا ضاع فيها كثير من النفوس مع أنها كلمة بسيطة كان علاجها بعضا من الحلم وقليلا من الكظم ، وليس ذلك إلّا من عمل الشيطان الغويّ المضل. ولا يخفى على صاحب القريحة الموهوبة من الله وعلى من أعطاه الله سبحانه حظّا وافيا من علوم القرآن أنّه سبحانه كيف علّم نبيّه إقامة الدّعوة وآداب المناظرة ، وجمع في الآية طريق السلوك مع النفوس القاصرة في إثبات الدّعوة والجدل لإثبات الحجج الحقة ، وكيف أدّب نبيّه بمكارم الأخلاق بحيث عجزت نفوس البشر وقصّرت عن أن تدرك وتعرف هذه الكيفيات وهذا القسم من الجدال العملي الذي هو أحسن من القولي ولا سيما لأرباب النفوس القاصرة والهمج من الناس. وهو سبحانه أيضا نبّه رسوله في مقام المخاصمة مع عدوّه القويّ على أن يستعين به عزوجل فإنه خير معين وأحسن ناصر والاستعانة بغيره سبحانه لا تغني من الشيطان شيئا. وهذه الآيات تنبيه وتعليم للعباد مطلقا وبالأخص لأهل العلم ، فإن كتاب الله العزيز وارد في مورد وجار في نظيره مع قطع النظر عن أن

٢٧٨

تعليمات القرآن وآدابه ومواعظه تكون نوعا من باب إياك أعني واسمعي يا جارة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك (الْعَلِيمُ) بنيّتك. وقال القمّي : المخاطبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنى للناس. ثم إنه سبحانه أخذ في بيان أدلة توحيده والبراهين التكونيّة والآثار الدالة على قدرته فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠))

٣٧ ـ (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) ... أي من آثار توحيده وعلائم قدرته

٢٧٩

التي أظهرها على جميع خلقه هي الليل الذي يحصل بذهاب الشمس عن بسيط الأرض والنهار الذي يوجد بطلوعها على وجهها والأول للاستراحة والثاني لكسب المعيشة. وهذان أظهر آثارهما وإلا فلهما آثار وخصائص لا يعدّهما العادّون ولا يحصيهما العارفون ، وقدّرهما تقديرا مستقرّا ودبّرهما على نظام مستمر. ومن آثار قدرته أن خلقهما (وَ) خلق (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) بما لهما ممّا اختصّا به من النور وغيره من الآثار التي لا نهاية لها ، وما ظهر فيهما من التدبير في التيسير والتقرير في العمل وتقديرهما فيه بحيث لا يزيدان ولا ينقصان في مرور الدهور ومضيّ العصور ، ومع هذه العظمة في هاتين الآيتين (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنّهما مخلوقان مأموران مثلكم ليس لهما مزيّة رتبة المعبوديّة عليكم بل لكم المزيّة عليهما بمراتب كثيرة (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) إنّما قال خلقهنّ وأورد الضمير جمعا مؤنّثا لوجهين : أحدهما أنّ حكم جماعة غير ما يعقل حكم جماعة الأنثى ، بل قيل حكم ما لا يعقل مطلقا حكم الأنثى. والثاني أن الضّمير يرجع إلى الآيات والآيات باعتبار لفظها مؤنث ، وكذا باعتبار معناها : أي الشمس واللّيل والقمر والنهار بالنظر إلى التغليب. وهذا الجواب جواب عن كون الضمير جمعا مؤنّثا لا عن كونه جمعا لما يعقل والآيات ممّا لا يعقل فلا يناسبها ضمير جمع المؤنث العاقل. فالجواب عن هذه الناحية هو الجواب الأوّل. وأما موضع السّجدة عند المشهور فعند قوله (تَعْبُدُونَ) وقيل عند قوله وهم (لا يَسْأَمُونَ) وحاصل معنى الشريفة أنه لو أردتم السجود لشيء فاسجدوا لله الذي خلق الأشياء بقدرته وأخرجها من كتم العدم إلى صفحة الوجود ، فهو أهل لذلك لا غيره (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) اي لو أردتم بعبادتكم أن تعبدوا الله ، فالله هو خالق الشمس والقمر وليسا أهلا للعبادة ، فإيّاه فاعبدوا ، لا المخلوق المحتاج الذي هو مثلكم.

٣٨ ـ (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) ... فإن استكبروا عن السّجود

٢٨٠