الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

٧٧ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصّبر على أذى قومه والثبات على الحق وبشّره بقوله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وعده بإهلاك الكفار وتعذيبهم وأنه ثابت لا محالة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) لفظ (ما) زائدة لتأكيد معنى الشرط. يعني : فإننا نريك بعض عذابهم الموعود في حياتك من القتل والأسر. وجواب الشرط محذوف أي : فذاك جزاؤهم العاجل. وإنما قال (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) لأن المعجّل من عذابهم هو بعض ما يستحقّون كما أن القتل والأسر وقع في بدر الكبرى في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) فنجازيهم على أعمالهم بما يستحقونه ثمّة.

٧٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ...) نقل أن كفّار قريش كانوا ، جدالا وعنادا ، يقترحون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آيات كثيرة كإجراء العيون ، وإيجاد البساتين مع أنواع الفواكه فيها ، والصعود إلى السماء في حضورهم ، وكلها بمشهدهم كما سبق ذكرها في سورة بني إسرائيل ، فأنزل الله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) ، الآية وهذه الشريفة نزلت لتسلية النبيّ (ص) واجمالها أن الرّسل الذين أرسلناهم قبلك منهم من تلونا عليك ذكره ومنهم

٢٤١

من لم نتل عليك ذكره كما قال سبحانه (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) واختلفت الأخبار في عدد الأنبياء ، ففي الخصال عنهم عليهم‌السلام أنّ عددهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وفي بعض الروايات أن عددهم ثمانية آلاف نبيّ ، أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من غيرهم ، والمذكورة قصصهم أفراد قليلون ، والمشهور من عددهم عليهم‌السلام هو ما في الخصال (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المعجزات مواهب وعطايا قسّمها الله بينهم على ما اقتضت الحكمة والمصلحة بحسب الأزمان والأعصار ، وعلى مقتضى شؤون الرّسل ومراتبهم كما قلنا سابقا من أن كلّ عصر يقتضي نبيّا ومعجزة مناسبة لذلك الزّمان ولذاك النبيّ ، ولا اختيار للرّسل في اختيار معجزة دون أخرى ولا حق لهم في إيثار بعض على الآخر ، أو الإتيان بالمقترح بها. فلا جرم ليس للناس دخل في إيثار شخص للنبوّة دون شخص ولا في اختيار معجزة واقتراحها على النبيّ ثم قال (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب عاجلا أو آجلا (قُضِيَ بِالْحَقِ) أي حكم بالعدل بين المحق والمبطل بإنجاء الأوّل وتعذيب الثاني. وهذا وعيد وردّ عقيب اقتراحهم الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها ، ولذا يقول سبحانه (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي المعاندون باقتراح الآيات. ثم إنّه تعالى لإلزام قريش وإتمام السلطان عليهم شرع في تعداد نعمه العظيمة عليهم ، فإن المنعم بنعمة يعدّ محسنا ، وجزاء إحسان المنعم هو شكر نعمه من حيث وصف منعميّته ، ومن حيث وصف محسنيّته هو الإحسان إليه ، ولا بدّ من أن يكون الإحسان إلى كلّ محسن له بحسب ما يليق بشأنه فالإحسان إلى الملك لا بدّ أن يكون مناسبا لمقام الملوكيّة كجوهرة عديمة النظير ، وفي غاية النّدرة مثلا ، وإلى الوزير كتقديم قرية أو قصر جميل في غاية النضارة والحسن ، إلى أن ينتهي الأمر إلى التاجر والكاسب وهذا من مخلوق محتاج إلى مثله محتاج آخر ، وأمّا منه إلى الخالق الغنيّ المطلق الذي لا يتعقّل في ساحته وصقع ذاته احتياج أبدا فالإحسان

٢٤٢

إليه هو الخضوع له والامتثال لأوامره ونواهيه ، والتعبّد بتوحيده جلّ وعلا. وبهذا البيان ذكر النعم موجب لإتمام الحجة وإلزام الخصم الجاحد المعاند الكافر لنعمه تعالى ومن نعمه سبحانه ما ذكر في الشريفة التالية :

* * *

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

٧٩ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ ...) جمع النّعم أي الإبل ، ويطلق على البقر والغنم والخيل والبغال لأن المراد بها هنا مطلق ذوات القوائم الأربع بقرينة المقام حيث إنه سبحانه في مقام بيان نعمه من هذا الجنس من دون فرق بين فرد وفرد ، لأن الأفراد جميعها من نعمه سبحانه ، فقد خلق لكم هذه الحيوانات المباركة (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فإن منها ما يؤكل كالغنم ، وإنّ منها ما يركب كالخيل والبغال والحمير ، وإنّ منها ما يركب ويؤكل كالإبل والبقر.

٨٠ ـ (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ...) أي منافع أخرى غير الأكل والركوب كالألبان والجلود والأوبار والشعور (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) كالتجارة في البلاد المتقاربة والمتباعدة والزيارة وحج بيت الله وغير ذلك من

٢٤٣

الأمور الدنيويّة والدينية (وَعَلَيْها) أي على ذوات القوائم كالإبل التي يعبّر عنها بالسّفن البريّة (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي السّفن البحريّة تركبون مع ما كان معكم من الأحمال والأثقال. فالأنعام من أعظم النعم الإلهيّة ومن أحوج الأشياء كانت ، ولا سيما في الأزمنة القديمة ، حيث إن الناس كانوا يحملون أثقالهم على ظهورها إلى البلاد البعيدة التي لم يكونوا بالغيها إلّا بشقّ الأنفس.

٨١ ـ (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ ...) أي هو سبحانه يعرّفكم آياته ودلائل قدرته وتوحيده ورحمته ، فأيّ آيات الله تنكرون بعد وضوحها بحيث لا ينكرها ذو ادراك ولا ذو شعور ، ولمّا كان المذكّر والمؤنّث فرقهما في أسماء الأجناس في الاستعمال قليل ، فما أتى بلفظة (أية) مكان «أي». ثم إنّه تعالى يهدّد أهل العناد والإلحاد والشرك والنفاق بقوله :

* * *

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ

٢٤٤

الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

٨٢ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي أفلم يسيروا في الأرض حتى ينظروا إلى بلاد عاد وثمود حين تجارتهم إلى اليمن والشام فيعتبروا منهم كيف فعلنا بهم وبمساكنهم (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية التي أهلكناها ، وهم قد (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا وعدّة (وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) من قصور مشيّدة ومصانع عالية وحصون مرتفعة. وقيل إن المراد بأشدّيّة آثارهم علائم أقدامهم في الأرض حيث تدلنا على كبر أجرام أجسامهم ومع ذلك كلّه لمّا كذّبوا الرّسل وقتلوهم بغير حق وأنكروا الآيات استأصلهم الله تعالى بالعذاب المهلك وأفناهم دون آثار مساكنهم ومنازلهم ، فقد بقيت للاعتبار وما أفنيت (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من جمع الأموال والجنود والأبنية فإنها جميعا صارت معرضا للهلاك والفناء.

٨٣ ـ (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) بيّن سبحانه أن أولئك الكفّار لما جاءتهم رسلهم الذين أرسلهم الله تعالى إليهم ، ونسبة الرّسل وإضافتهم إليهم يعني أنهم منهم كما في قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من جنسهم عربيّا أمّيا لأن العرب نوعا كانوا لا يقرءون ولا يكتبون. والأميّون هم الأعراب. فالرّسل المبعوثون إليهم كانوا مثلهم في الأميّة ومن أهل بلادهم أو من عشيرتهم أو أقاربهم ، فبهذا الاعتبار أضيفوا إليهم. والحاصل أنهم حين مجيء الرّسل (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي بما زعموه علما من شبههم الباطلة في نفي البعث وإنكار الصّانع وتكذيب الرّسل والكتب السماويّة ، وفرحوا بالشّرك الذي كانوا عليه تقليدا لآبائهم الذين كانوا من قبلهم في ضلال مبين بإشراكهم ، وأعجبوا بما عندهم وظنّوا أنه علم وكان جهلا محضا مركّبا. والمراد بالفرح

٢٤٥

شدّة الإعجاب بما كان في أنفسهم فكانوا يدفعون بجهلهم المركّب علوم الأنبياء ويزاحمونهم في تبليغاتهم من قبل الله سبحانه. ويحتمل أن المراد بعلومهم علوم الفلاسفة في تلك الأعصار ، فإن تلك العلوم كانت رائجة وكان الفلاسفة إذا سمعوا بوحي من الله عن أحد أنبيائه صغّروه. وعن سقراط المعروف أنه لمّا سمع بمجيء بعض الأنبياء قيل له ، ولعل القائل بعض تلامذته ، لو هاجرت إليه ، فقال نحن قوم مهديّون مستغنون عنه وهم مبعوثون إلى ضعفاء العقول والأديان. وفي رواية أنّ النبيّ المبعوث إلى أهل زمان سقراط كان موسى عليه‌السلام. وبالجملة كانوا يستحقرون علم الأنبياء ويستهزئون به (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل عليهم وأحاط بهم العذاب جزاء لاستهزائهم وسخريتهم بالرّسل وعلومهم.

٨٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا ...) أي لمّا شاهدوا شدّة عذابنا قالوا صدّقنا (بِاللهِ وَحْدَهُ) وآمنّا بأنه لا إله إلّا هو (وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي مشركين بالله بعبادتنا للأصنام.

٨٥ ـ (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ ...) لأن الإيمان الاضطراريّ والإلجائيّ لا يقبل وايمانهم حدث وأعلنوه حين صاروا ملجئين إليه كما قال تعالى : إنهم آمنوا (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي ما دام لم يروا العذاب ما آمنوا ، ولا كانوا يؤمنون إذا لم يشاهدوا العذاب الشديد (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سنّ الله ذلك سنّة جارية ماضية في الأمم ، فلن يبدّل عادته المطّردة في كلّ الأمم بأن الإيمان عند البأس لا يقبل (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) كلمة (هُنالِكَ) اسم مكان وقد أستعير للزمان أي وقت رؤيتهم العذاب. وفي العيون عن الرّضا عليه‌السلام أنّه سئل : لأيّ علّة أغرق الله تعالى فرعون وقد آمن به وأقرّ بتوحيده؟ قال لأنّه آمن عند رؤية البأس ، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول ، ذلك حكم الله

٢٤٦

تعالى ذكره في السّلف والخلف. قال الله عزوجل (لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) إلخ ... وفي الكافي قدم إلى المتوكّل رجل نصرانيّ فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم. فقيل : قد هدم إيمانه شركه وفعله. وقيل : يضرب ثلاثة حدود ، وقيل غير ذلك. فأرسل المتوكّل إلى الهاديعليه‌السلام وسأله عن ذلك ، فكتب عليه‌السلام : يضرب حتى يموت. فأنكروا ذلك وقالوا هذا شيء لم ينطق به كتاب ولم تجيء به سنّة ، فسألوه ثانيا البيان ، فكتب هاتين الآيتين بعد البسملة ، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات.

* * *

٢٤٧
٢٤٨

سورة فصّلت أو السجدة

مكية وآياتها ٥٤ نزلت بعد غافر.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧))

١ ـ (حم ...) قد قلنا ما هو المختار في معنى هذا وأمثاله فلا نعيده. وإن كان مبتدأ فخبره : تنزيل من الرّحمان الرّحيم ، وإن كان عدد حروف كما

٢٤٩

قيل في تفسيره ، فتنزيل مبتدأ خبره كتاب. وعلى الأول هو بدل منه أو خبر بعد خبر.

٢ ـ (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ...) خبر مبتدأ محذوف أي : هذا تنزيل ، الآية. ولعلّ هذا الاحتمال مقدّم على ما ذكر آنفا. وكتاب أبدل منه.

٣ و ٤ ـ (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ...) أي ميّزت وبينت أحكاما وقصصا ومواعظ. وقال القمي : أي بيّن حلالها وحرامها وأحكامها وسننها (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي حال كونه قرآنا ، فنصبه على كونه حالا من الكتاب أو منصوب على المدح ، أي على تقدير : أمدح قرآنا ، وعربيّا صفة للقرآن. وسمّي قرآنا لأنه قد جمع فيه علوم الأوّلين والآخرين ، وقرن فيه ما يدل على ذاته تعالى وتوحيده وسائر صفاته ، وفيه أحوال البشر من آدم ومن دونه إلى انقراضه وأحوال سائر الحيوانات وأحوال النباتات والجمادات ، وبالجملة فيه أحوال جميع المكوّنات من الدّرة إلى الذّرة وأسرارها ، وقد نزل بأحسن اللغات من جهات ولو وفّقنا الله لذكرنا بعضها بحوله تعالى في محلّه (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي من العرب أو المراد منهم هم العلماء وقد أنزلناه (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي مبشّرا للمطيعين بالثواب ومنذرا للعاصين بالعقاب واطلاق اسم الفاعل على القرآن مع أنه فيه البشارة والإنذار لا أنه المبشر والمنذر بل المبشر والمنذر هو المنزّل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو ظرف للوصفين ، كما أن فيه غيرهما من القصص والأخبار والمواعظ ونحوها ، لكن لا يطلق عليه أنه واعظ أو مخبر أو قاص ، إلّا بالعناية والمجاز لفائدة كما فيما نحن فيه حيث إنّه أطلق عليه الاسم للتّنبيه على أنه كامل في صفة البشارة والإنذار كما يقال شعر شاعر وكلام قائل (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن التدبّر فيه والتفكّر في كشف أسراره ورموزه وإمعان النظر في معانيه (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يستمعون إليه حينما قرأ القرآن عليهم بل كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا كلامه صلوات الله عليه وآله

٢٥٠

وإذا سمعوه بغتة ما كانوا يتأمّلون ولا يفكرون فيه.

٥ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ...) أي في أغشية وأستار كأنّ القلوب ملفوفة بها فلا يؤثر فيها القرآن ولا كلمات النبيّ صلوات الله عليه وآله وقلوبنا مغشاة لا تعي شيئا (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) هذا اعتراف منهم بأنهم لا يتأثّرون بالقرآن ولا يستفيدون منه ولا من غيره من الآيات ودلائل التوحيد (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم ، وأصله الثقل (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ستار ومانع يمنعنا عن التواصل والتقارن. وقال القمّي : أي تدعونا الى ما لا نفهمه ولا نعقله. قيل هذه العناوين كنايات وإشارات عن امتناع مواصلتنا وموافقتنا معك (فَاعْمَلْ) على دينك (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا ولا نتّبعك أبدا فلا تتّبعنا كذلك.

٦ و ٧ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...) أي من ولد آدم ، وإنّما خصّني الله تعالى بنبوّته وميّزني عنكم بأن (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ولو لا الوحي ما دعوتكم إلى شيء ولا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا ، فإن شرّفكم الله تعالى بالتوفيق والهداية لقبول التّوحيد والرسالة تنالكم السّعادة في الدارين وإن رددتموه وما قبلتم التوحيد ونبوّتي يلحقكم الخسران والخذلان (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي كونوا على الجادّة المستقيمة المعتدلة متوجّهين إليه بالتوحيد والإخلاص في عبادتكم إيّاه غير معرضين عن الحقّ والحقيقة بالإشراك أو الإنكار مطلقا عتوّا واستكبارا ، بل استغفروه من الشّرك والجحود والعناد ومما أنتم عليه الآن وكنتم عليه في سوابقكم (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) تهديد لهم بالويل وبنار جهنّم. وقد خسر (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي لا يعطون المفروضة. وفيه دلالة على أن الكفّار مكلّفون بالفروع ومخاطبون بالشّرائع ، وهذا هو الظاهر من الروايات وحكم العقل. أما الرّوايات فلا بدّ من الرجوع إليها ، وأما حكم العقل فقد فصّل في محلّة أي في علم الكلام ومن أراد التفصيل فليراجعه ولو وفّقنا

٢٥١

في مورد آخر نتعرض إجمالا لذلك التفصيل إن شاء الله تعالى. ولمّا كان الإتيان بالوظائف الشرعيّة المقرّرة الراجعة إلى الماديّات تكليفا شاقّا على نفوس نوع البشر ولا سيّما على غير المؤمنين منهم ، فلذا اختصّ سبحانه عدم إتيانهم الزكاة بالذكر ، وإلّا كانت الصّلاة من حيث الوظائف المقرّرة الشرعيّة أهمّها وأعظمها عنده سبحانه ، والدليل على ما قلناه في وجه التخصيص أنّنا نرى من المؤمنين من يصلّي ويصوم ويحجّ ، لكنّه في المقرّرات الشرعيّة الرّاجعة إلى الأمور الماديّة غير عامل بشيء منها أو يعمل ببعض دون بعض ، فكيف بمن لا يؤمن بالله ولا برسوله ولا بالشريعة؟ ويمكن أن يكون وجه الاختصاص بالزكاة دون الصلاة والصّوم وسائر العبادات لأن منعهم للزكاة يكشف عن صفة الشّح والحرص ، والله تعالى يريد أن يعرّفهم بأنّهم من المتّصفين بتلك الصفة الدنيئة الخسيسة الرذيلة ، فلذا وصفهم بهذه الصفة أي منعهم للزكاة الذي يكشف عن بخلهم وعدم إشفاقهم على بني نوعهم مضافا إلى أنّ ذمّهم بذلك موجب لرغبة المؤمنين في ألّا يشاركوا المشركين كيلا يشتركوا معهم في الذم ويحسبوا من المانعين للزكاة وفي الرواية : البخيل بعيد من الله وبعيد عن الناس وبعيد عن الجنّة ، والجواد قريب من الله وقريب الى النّاس وقريب إلى الجنة. وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الزكاة قنطرة الإسلام ، من عبرها نجا. وفي بعض الرّوايات : إنّ ليوم القيامة مواقف أشدّها بعد موقف الصلاة هو موقف الزكاة ، ولذا جعلت الزكاة قرينة الصلاة في كتابه العزيز عزّ وعلا. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تكرار الضّمير لتأكيد كفر المشركين بالخصوص بعالم البعث والحساب. وظاهر الشريفة يدل على أنّ الكفّار مكلّفون فروعا وأصولا خلافا للبعض من الأعاظم وتبعا لظاهر بعض الرّوايات. ثم إنه سبحانه وتعالى بعد وعيد الكفّار ذكر وعد المؤمنين في الآيات التالية :

* * *

٢٥٢

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) أي الذين صدّقوا بالله وبرسوله وبالبعث والنشور والثواب والعقاب ، وفعلوا الأعمال المرضية لله ولرسوله من الطّاعات والعبادات المفروضة والمقرّرة من الأمور الراجعة إلى الماليّات وغيرها (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع ، بل متّصل دائما ، من مننت الجبل أي قطعته. أو معناه لا أذى فيه بأن يمنّ فيه عليهم من المنّ الذي يكدّر الصّنيعة. ثم إنه تعالى في مقام توبيخهم يقول على وجه الإنكار لهم والتعجّب منهم.

٩ ـ (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ...) أي كيف تجحدون وتكفرون بنعمة من (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فهو الذي بهذه القدرة الكاملة وهل يعقل أن تكون الأحجار المنحوتة أو الأخشاب المصوّرة التي لا شعور لها ولا إدراك آلهة؟ وكيف تدّعون البشريّة (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً)

٢٥٣

أي شركاء وأشباها من تلك الأحجار والأخشاب التي تنحتونها وتصنعونها صورا وتماثيل فتعبدونها في قبال خالقكم وخالق السماوات والأرضين؟ فإن هذا العمل خارج عن رتبة الإنسانية ومقام البشرية وشؤونها حيث كرّمكم الله تعالى وشرّفكم بقوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) فإن الإنسان المكرّم لا يعرض عن عبادة ربّه إلى عبادة الجماد الذي هو أخسّ المخلوقات وأدناها ، وهذا عمل لا يعمل به ذو شعور فكيف بذي عقل وإدراك يميّز بين الحسن والقبح والحق والباطل؟ اللهم إلّا أن تشمله ضلالة الله ومن يضلل الله فلا هادي له حتّى يخرجه عن تيه الضلالة إلى ساحة الهداية. والمراد باليومين اللّذين في قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) هو حدّهما الزّماني من أيّام الدنيا وهذا التحديد للتّنبيه على كمال قدرته حيث إن إيجاد هذا الخلق العظيم وهذه الأرض الوسيعة في تلك المدّة القليلة من أعجب العجاب ، ويدلّنا على قدرة لا نتصورها لكمال عظمتها فهي خارجة عن صقع فكرنا وإدراكنا. فمن هذه قدرته وعظمته هو الذي يستحق العبادة وينبغي أن يعبد لا أدنى المخلوقات وأخسّها وأين التراب من ربّ الأرباب؟ فيا أيّها الإنسان لم لا تنتبه من نومتك ولا تتفكّر في أمرك فعمّا قريب ترد على ربّك شئت أم ما شئت (ذلِكَ) أي الذي بهذه القدرة والقوّة (رَبُّ الْعالَمِينَ) هو خالق الكائنات ومالك التصرّف فيها فينبغي أن يعبد وحده حيث لا شريك له في الإلهيّة ولا ندّ له في الرّبوبيّة. وإن قيل من استدلّ على شيء لإثبات شيء فلا بدّ أن يكون المستدل به مسلما ثبوته عند الخصم حتى يصحّ الاستدلال به ، وفيما نحن فيه كونه تعالى خالقا للأرض في يومين وهو المستدل به أمر غير ثابت لأن إثباته بالعقل المحض لا يمكن لأنه أمر ليس للعقل طريق إليه وإنّما طريقه السّمع ووحي الأنبياء وهم كانوا منازعين لهم في الوحي والنبوّة ، فكيف يستدل بكونه خالقا للأرض في يومين على إثبات وجوده تعالى فضلا عن كونه رب العالمين؟؟ والجواب أنّ كفّار مكّة كانوا معتقدين بأهل الكتاب في كونهم أصحاب العلوم

٢٥٤

والحقائق ، وكانوا قد سمعوا منهم هذه المعاني ولذا اعتقدوا أن ما أخبر النبيّ به حقّ ثابت وهم لا يشكّون فيه. فهذا الاستدلال حسن والإشكال غير وارد. ولعلّه لهذا استدل الله به تعالى على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم مستقرّ في أذهانهم وهم لا يناقشون فيه.

١٠ ـ (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ...) أي خلق في الأرض جبالا ثابتات راسخات ، من الرّسوّ وهو الرّسوخ. ومنه رسخ الوتد في الأرض والحبر في القرطاس. فالتّعبير عن الجبال بالرّواسي للتّنبيه على تلك النكتة الدّقيقة ، أي كما أن الأوتاد لها رسوخ وتمكّن في الأرض فكذلك الجبال لها عروق تحت الأرض وهي أصولها وفروعها فوق الأرض. ولذا يقال إن الجبال أوتاد الأرض خلقها الله عليها لسكونها ، ولو لا الجبال لما استقرّت الأرض ولما كان الناس مرتاحين فيها وعليها. وجعلها فوق الأرض لتكون بادية للناس ليعتبروا بها ويتوصّلوا إلى منافعها ولو لم تكن فوق الأرض أي ظاهرة فيها لما ترتّب عليها ما ذكر وغيره من المصالح والحكم المترتبة على الظهور و (بارَكَ فِيها) أي أكثر خيرها بالمياه والمعادن والزرع والضّرع (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي النّاشئة منها للناس والبهائم. هل الضّمير الذي في (بارَكَ فِيها) وفي (قَدَّرَ فِيها) وفي (أَقْواتَها) هذه الضّمائر الثلاثة راجعة إلى الرّواسي أو إلى الأرض؟ والظاهر هو الأخير ويحتمل التّبعيض بمناسبة كلّ واحد منهما ، وتقدير الأقوات هو إيجادها بإنزال المطر وإخراج الحبوب والثمار والخضار من الأرض ، أو تقسيمها وتعيينها بحسب البلاد أو الأنواع أو الأفراد ، فإن كل فرد إذا خلص قوته ورزقه المعيّن له يموت ، وكلّ من الأمور المذكورة يحتمل بطور مانعة الخلوّ (في أربعة أيّام) أي غير الأوّلين أو معهما ، ويظهر من بعض الرّوايات أن الأربعة غير الأوّلين. ونذكر الرواية تبّركا بها ونجعلك أيّها القارئ حاكما. قال القمّي : معنى يومين أي وقتين : ابتداء الخلق وانقضائه قال وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها أي لا

٢٥٥

تزول ، وتبقى في أربعة أيّام سواء ، يعني في أربعة أوقات ، وهي التي يخرج الله عزوجل فيها أقوات العالم من الناس والبهائم والطير وحشرات الأرض وما في البرّ والبحر من الخلق ، من الثمار والنّبات والشجر وما يكون فيها معاش الحيوان كلّه وهو الرّبيع ، والصّيف ، والخريف ، والشتاء ، ففي الشتاء يرسل الله الرياح والأمطار والأنداء والطّلول من السّماء فيلقّح الأرض والشجر وهو وقت بارد. ثم يجيء بعد الربيع وهو وقت معتدل حارّ وبارد ، فيخرج الثمر من الشجر وتعطي الأرض نباتها فيكون أخضر ضعيفا ثم يجيء وقت الصّيف وهو حار فتنضج الثّمار وتصلب الحبوب التي هي أقوات العالم وجميع الحيوان. ثم يجيء بعد وقت الخريف فيطيّبه ويبرّده ولو كان الوقت كلّه شيئا واحدا لم يخرج النبات من الأرض لأنّه لو كان الوقت كلّه ربيعا لم تنضج الثّمار ولم تبلغ ، ولو كان كلّه صيفا لاحترق كلّ شيء في الأرض ولم يكن للحيوان معاش ولا قوت ولو كان الوقت كلّه خريفا ولم يتقدمه شيء من هذه الأوقات لم يكن شيء يتقوّته العالم فجعل الله هذه الأقوات في أربعة أوقات في الشتاء والخريف والربيع والصيف ، وقام به العالم واستوى وبقي. وسمّى الله هذه الأوقات أيّاما للسّائلين يعني المحتاجين ، لأنّ كلّ محتاج سائل. وفي العالم من خلق الله من لا يسأل ولا يقدر عليه من الحيوان كثير فهم سائلون يعني بلسان الحال وان لم يسألوا بلسان مقالتهم (سَواءً) أي الأربعة متساوية ليس لواحد على الآخر زيادة ولا منه نقيصة. ونصبه على الحال من أربعة أيام ، و (لِلسَّائِلِينَ) هذا الحصر جواب لجماعة يسألونك عن ان خلق الأرض وتقدير ما فيه في أيّ مقدار من الزمان؟ ويحتمل أن يتعلّق الجارّ ومجروره (وَقَدَّرَ) أي تقديره الأقوات للذين يسألون أرزاقهم. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : إنّ الله سبحانه خلق الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق الأشجار والمياه يوم الأربعاء ، فتلك الأيام الأربعة. وخلق

٢٥٦

السّماوات في يوم الخميس ، والشمس والقمر والنّجوم والملائكة وآدم في يوم الجمعة. واختلف في وجه إيجاد الأشياء تدريجا مع قدرته تعالى أن يوجدها آنا ما قيل وجه ذلك أنّه لتعليم البشر ألّا يستعجلوا في الأمور ، ويؤيده قولهم (التأنّي من الرّحمان ، والعجلة من الشيطان) أو ليعلم أن صدور هذه الأمور كان عن فاعل مختار عالم بالمصالح والحكم حيث إن الصّدور لو كان عن فاعل موجب لكان دفعيّا لا تدريجيّا. هذا ويمكن أن يقال إن الخلق التدريجي أقرب إلى سمع القبول لنوع النشر لأنّ معارف الخلق قاصرة وعقولهم ناقصة والقرآن نزل على مقتضى (كلم الناس على قدر عقولهم) فالله سبحانه لتلك الحكمة اختار الخلق التدريجيّ على الدفعيّ لأن الدفعيّ يثقل على عقولهم قبوله فلا يتحملون أن يقال لهم أنه تعالى خلق الأرض وما عليها وما فيها في أقل من طرفة عين ، فإن هذا يقرع أسماعهم لقصور معرفتهم فلا يقبلونه لكمال قدرته بخلاف الأمور التدريجيّة. وهذا أمر وجداني لعامّة البشر بلا تخصيص في عصر دون عصر وأمّة دون أمّة.

١١ ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ...) أي قصد وتوجّه إلى أن يخلق السّماء قصدا جازما لا رجعة عنه ، وهذا بعد خلق الأرض لا بعد دحوها. و (ثُمَ) لتفاوت ما بين الخلقتين رتبة لا للتراخي في المدّة إذ لا مدّة قبل خلق السّماء ، فقد استوى لها (وَهِيَ دُخانٌ) أي أجزاء دخانيّة أو بخارات متصاعدة من المياه ترى من البعيد كأنّها دخان كما عن ابن عباس من أنّ الله تعالى خلق السّماء من أبخرة الأرض يعني أبخرة مياه الأرض. ولمّا فرغ من خلقهما لإظهار قوّته وكمال قدرته أمرهما سبحانه : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي بما خلقت فيكما من النّيرات والكائنات سواء كنتما طائعتين أو مكرهتين ، أي لا بدّ من إتيانكما طائعتين (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) وهذا السّؤال والجواب ليسا على الحقيقة بل هذا القسم يعدّ من المجاز

٢٥٧

التمثيليّ. فالمراد بإتيانهما امتثالهما التكوينيّ الذاتيّ ، كما أن المراد بإطاعتهما هي التكونيّة الذاتيّة. وعند البعض أنّه تعالى أقدرهما وأمكنهما من التكلّم وبعد ذلك خاطبهما. فعلى هذا إن السؤال والجواب حقيقيّان. وفي القمّي : سئل الرّضا عليه‌السلام عمّن تكلم الله معه لا من الجنّ ولا من الإنس؟ فقال : السّماوات والأرض في قوله (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

١٢ ـ (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...) أي صنعهنّ بإحكام وإتقان حال كونهنّ سبع سماوات. ف (سَبْعَ) منصوب على الحال من مفعول (قضى) أي خلقهنّ خلقا إبداعيّا (فِي يَوْمَيْنِ) قال القمّي : يعني وقتين بدءا وانقضاء وقيل هما الخميس والجمعة وهما مع تلك الأربعة ستّة كما في آيات أخر. ثم إنّه سبحانه آثر (قضى) على (خَلَقَ) و (جَعَلَ) ونحوهما مما يناسب المقام ، لنكتة وهي أن (قضى) من معانيه التي تناسب المقام هو صنع كما فسّرناه به ، لكن مع إحكام وإتقان لا مطلق الصّنع وإلّا لآثره. وأصل الصّنع هو إيجاد الشيء وإبداعه مباشرة أي بيده ، فالصّانع من يعمل بيديه على ما في اللّغة. فإيثار القضاء في المقام لكشف سرّين من اسرار خلقه للعوالم العلويّة أحدهما الإحكام والإتقان بكيفيّة تخصّها ، فإنّها لم تزل ولن تزال ثابتات غير متغيرات ولا متبدّلات من يوم الخلقة إلى وقت البعثة ، والثاني اختصاص خلقتها بذاته المقدّسة وبمباشرته الخاصّة حيث لم يكن حينئذ زمان ولا زماني وهذا هو الفارق بين خلق العلويّات والسّفليّات حيث عبّر في الأولى بقوله (قضى) وفي الثانية بقوله (خَلَقَ) وهذا الاختلاف في التعبير في كتاب الله لم يكن بلا وجه وحكمة مسلّما. والحمل على التفنن في التعبير لا ينبغي الله ولا لكتابه فإنه تعالى أعظم شأنا من التفنن وكتابه أجلّ مقاما ورتبة. نعم فالوجه الثاني من الوجهين يحتمل أن يتأتّى في العالم السّفلي ، لكن نحتمل احتمالا قويّا

٢٥٨

إن كيفيّة المباشرة في العلويّات لها خصوصية ليس في السّفليّات فمع تلك الخصيصة يتمّ الحصر المستفاد من الآية (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي ما بها يتعلّق أو لا يتعلّق بأهلها من الطاعات والعبادات. وهذا الوحي وحي تقدير وتدبير. ويحتمل أن يكون الوحي وحي تكليف بناء على كون البيان من الأمر هو الأمر لأهلها من حيث العبادة والطاعة فإنه يفهم من الرّوايات أن أهل السماوات مكلّفون بتكاليف خاصّة ، بعضهم بالقيام وبعض بالرّكوع ، وبعض بالسجود فقط. قال السدّي ولله في كل سماء بيت يحج ويطوف به الملائكة محاذ للكعبة ، بحيث لو وقعت منه حصاة ما وقعت إلّا على الكعبة عينها (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي النّيرات التي تضيء كالمصابيح أي السّرج (وَحِفْظاً) أي حفظناهن حفظا عن المسترقة أي عن صعود الشياطين الذي يدّعون استماع كلمات الملائكة واستراقها (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي أن كلّ ما ذكر من بدائع الصّنايع هو خلقه صانع العالم وموجده من العدم الغالب على كلّ شيء ، والواجد لكمال العلم وتمامه. وفي الإكمال عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النّجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النّجوم ذهب أهل السماء. وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض. ويؤيّد ذيل هذا الحديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لا الحجة لخسفت الأرض بأهلها أو لساخت الأرض ثم إنه تعالى بعد تعداده للآيات العظيمة الدالّة على ربوبيّته سبحانه وألوهيّته المطلقة الوحيدة توعّد أهل الشّرك والنّفاق والجحود والعناد بقوله خطابا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

* * *

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ

٢٥٩

تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

١٣ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ ...) أي إذا أعرضوا عن الإيمان بعد إتمامنا الحجة عليهم على الوحدة والقدرة والعلم والحكمة وغير ذلك من الأمور الراجعة إلى إلهيّتنا وربوبيّتنا الوحيدة (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي يا محمد قل للمشركين إن ربّي هكذا يقول : كما أهلكنا عادا بريح صرصر عاتية وثمود بصيحة جبرائيل المدهشة المهلكة كذلك هؤلاء الكفرة نهلكهم بأشدّ عذابنا وأيسر ما يكون عذابهم وإهلاكهم علينا.

٢٦٠