الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

الصنم.

٤٤ ـ (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ...) أي عمّا قريب تفتهمون قولي عند معاينة العذاب والوقوع في العقاب (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النّصح والعظة. وقد قال ذلك لهم على وجه التخويف والتهديد لعلّهم من هذه الناحية يتأثّرون ويتوبون مما هم فيه (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي أسلّم أمري إليه وأعتمد على لطفه ليعصمني من كلّ سوء (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يعلم أفعالهم وأقوالهم من الطاعة والمعصية والخير والشرّ فيحرس المطيع ويخلّي العاصي ونفسه ، وهذه المقالة جواب لتوعّدهم إيّاه الذي يستفاد من قوله جلّ وعلا :

٤٥ ـ (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ...) أي صرف الله عنه سوء مكرهم فنجا مع موسى حتى عبر البحر معه. وقيل إنهم بعد تلك النصائح والكنايات التي هي أظهر من التصريح همّوا بقتله فهرب إلى جبل فبعث فرعون رجلين في طلبه فوجداه قائما يصلّي وحوله الوحوش صفوفا فخافا ورجعا خائفين هاربين. وفي الاحتجاج عن الصّادق عليه‌السلام في حديث له قال : كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله ونبوّة موسى وتفضيل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع رسل الله وخلقه وتفضيل علي بن أبي طالب والخيار من الأئمة عليهم‌السلام على سائر أوصياء النبيّين وإلى البراءة من ربوبيّة فرعون ، فوشى به الواشون إلى فرعون وقالوا إن حزقيل يدعو إلى مخالفتك ويعين أعداءك على مضارّتك ، فقال لهم فرعون : ابن عمّي وخليفتي على ملكي وولّي عهدي إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره بنعمتي ، وإن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشدّ العذاب لإيثاركم الدخول في مساءته فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه وقالوا أنت تجحد ربوبيّة فرعون الملك وتكفر بنعماه؟ فقال حزقيل : أيّها الملك هل جرّبت عليّ كذبا قطّ؟ قال : لا. قال : فاسألهم من ربّهم؟ قالوا فرعون هذا.

٢٢١

قال : ومن خالقكم؟ قالوا فرعون هذا. قال ومن رازقكم الكافل لمعايشكم والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا فرعون هذا. قال حزقيل : أيّها الملك فأشهدك وكلّ من حضرك أن ربّهم هو ربّي ، وخالقهم هو خالقي ، ورازقهم هو رازقي ، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي ، لا ربّ لي ولا رازق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم. وأشهدك ومن حضرك أنّ كلّ ربّ ورازق وخالق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريء منه ومن ربوبيّته وكافر بإلهيّته. يقول حزقيل هذا وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي. ولم يقل إنّ الذي قالوا إنّه ربّهم هو ربّي. وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّم وتوهّموا أنّه يقول فرعون ربّي وخالقي ورازقي. فقال لهم فرعون يا رجال السّوء يا طلّاب الفساد في ملكي ، ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّي وهو عضدي ، أنتم المستحقون لعذابي لإرادتكم فساد أمري وإهلاك ابن عمّي والفتّ في عضدي. ثم أمر بالأوتاد فجعل في ساق كلّ واحد منهم وتدا وفي صدره وتدا ، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم فذلك ما قال الله تعالى (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي بالمؤمن لمّا وشوا به إلى فرعون ليهلكوه (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي أحاط بقوم فرعون ومن معه عذاب السوء ، أي الغرق أو النار أو كلاهما في الدّنيا وفي الآخرة. والظاهر أنّ المراد بسوء العذاب هو النار بقرينة آية بعد هذه الآية ، والآيات يفسّر بعضها بعضا أو هم الذين وشوا بحزقيل إليه لمّا أوتد فيهم الأوتاد ومشط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط وهذه الوقاية كانت بنتيجة قوله (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ).

٤٦ ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا ...) القمّي قال : عنى ذلك في الدّنيا قبل يوم القيامة ، وذلك لأنه في القيامة لا يكون غدوّ وعشيّ ، لأن الغداوة والعشيّة ، إنما يكون في الشمس والقمر وليس في جنان الخلد ونيرانها شمس ولا قمر. وعن الباقر عليه‌السلام : إن لله تعالى نارا في المشرق

٢٢٢

خلقها لتسكنها أرواح الكفار فيأكلون من زقّومها ويشربون من حميمها ليلهم ، فاذا طلع الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له البرهوت أشدّ حرّا من نار الدّنيا كانوا فيه يتلاقون ويتعارفون. فإذا كان المساء عادوا إلى النّار. فهم كذلك إلى يوم القيامة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يقال لهم (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) هذا أمر للملائكة بإدخالهم في أشد العذاب وهو عذاب جهنّم.

* * *

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

٢٢٣

٤٧ ـ (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ ...) معناه واذكر يا محمد لأمّتك الوقت الذي يتخاصم فيه أهل النار فيها ، فالله سبحانه يفسّر مخاصمتهم وجدالهم بقوله (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) جمع تابع كخدم جمع خادم. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) أي هل تدفعون عنّا أو تخفّفون عنّا قسطا من النّار والعذاب الذي نحن فيه بتبعيّتنا لكم؟ ومن شأن الرؤساء أن يدفعوا عن المرؤوسين والأتباع ما يتوجّه إليهم من الحوادث والرّزايا.

٤٨ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ...) قال أمير المؤمنين (ع) في خطبة له : الاستكبار هو ترك لمن أمروا بطاعته ، والترفّع على من ندبوا إلى متابعته (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي لو كنّا قادرين على ذلك لكنّا ندفع عن أنفسنا ، وحيث لسنا قادرين على ذلك فكيف ندفع العذاب عنكم؟ (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بذلك ، وبأن لا يتحمّل أحد عن أحد ، وإنّه يعاقب من أشرك به لا محالة ولا معقّب لحكمه فيجازي كلّا بما يستحقّه. ثم عند هذا الجواب حصل اليأس للأتباع من المتبوعين. فرجعوا جميعا إلى خزنة جهنّم كما أخبر سبحانه عن حالهم ومقالهم :

٤٩ ـ (قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ...) أي أخذوا يستغيثون بخزنتها ويطلبون الدعاء منهم ويتوسّلون بهم بقولهم (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ).

٥٠ ـ (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) قالوا هذا توبيخا وإلزاما (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والبراهين (قالُوا بَلى ، قالُوا فَادْعُوا) أي نحن لا نقدر أن ندعوا ربكم ونشفع لكم عنده بعد أن أتمّ عليكم الحجة بإرسال الرّسل وإنزال الكتب وإجراء المعجزات على أياديهم ، فأنتم ادعوه. فهذا جواب يأس لهم ، ومع ذلك فهم يضجّون ويفزعون وينادون

٢٢٤

ربّهم لكنه (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي في ضياع وعدم التفات. وجواب هذه الجملة إمّا مقول قول خزنة جهنّم ، أو كلام الربّ تعالى. ثم إنه سبحانه يخبر عن نصرته لرسله والمؤمنين بقوله :

٥١ ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) أي ننصرهم بوجوه النصر الذي قد يكون بالحجة وقد يكون أيضا بالغلبة في الحرب ، وذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة الالهيّة ، وقد يكون بالألطاف والتأييد وتقوية القلب ، وقد يكون بإهلاك العدوّ. وكل هذا قد يكون للأنبياء والمؤمنين من قبل الله ، وقد يكون النصر بالانتقام من أعدائهم كما نصر يحيى بن زكريّا لمّا قتل ، فقد قتل به سبعون ألفا ، فهم لا محالة منصورون بأحد هذه الوجوه (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي في يوم القيامة ، جمع شاهد وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنون يشهدون للرّسل بالتبليغ وعلى الكفّار بالتكذيب. وعن الصّادق عليه‌السلام : ذلك والله في الرجعة. أما علمت أنّ أنبياء كثيرين لم ينصروا في الدّنيا وقتلوا ، والأئمة عليهم‌السلام من بعدهم قتلوا ولم ينصروا وذلك في الرّجعة.

٥٢ ـ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ...) أي عذرهم لو اعتذروا لأنه باطل ، فهو غير مقنع والعذر غير المقنع لا يقبل (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد عن الرّحمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) جهنّم. ثم إنه تعالى بعد ذكر النّصرة إجمالا بيّن نصرته لموسى عليه‌السلام وقومه فقال :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً

٢٢٥

وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

٥٣ و ٥٤ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ...) ما يهتدى به في الدّين من المعجزات والتوراة والهداية إلى الدّين ، وفيها الشّرائع التي يحتاجون إليها كلّها والنبوّة الّتي هي أعظم المناصب الإلهية (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي أورثنا من بعد موسى لبني إسرائيل الكتاب ، أي التّوراة وفيها هداية ودلالة يعرفون بها معالم دينهم ، وهي (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأنهم الذين يتمكّنون من الانتفاع بها وبغيرها من الدّلائل والبراهين فهي هادية ومذكّرة ، أو هي للهدى والتّذكير لذوي العقول الواعية.

٥٥ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) خاطب سبحانه نبيّه بالصبر والسلوى وبشّره بما وعده من النصر فقال اصبر على أذى قومك فإن وعدنا لك بالنصرة والظفر على المشركين حقّ ثابت لا ريب فيه ، فاعتبر بقصّة موسى وهي كافيتك للعبرة (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وإن لم تكن مذنبا ، بل انقطاعا إلى الله سبحانه ، ولتستنّ بك الأمّة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي سبّح متلبّسا بالثناء الجميل على ربّك دائما ، أو كناية عن الصلوات الخمس ، فإن العشيّ هو المغرب والعشاء ، والإبكار هو الصّبح والظهران ، أي صلّ تلك الصّلوات المفروضة الخمس. وهذا القول نقل

٢٢٦

عن ابن عباس.

٥٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ...) فلمّا ذكر سبحانه في أوّل السّورة حال المجادلين والمكذّبين بآيات الله ووصل البعض بالبعض في النسق ، نبّه سبحانه في هذه الآية الى الداعية التي حملتهم على المجادلة فقال : الذين يخاصمونك في أمر البعث والنبوّة والقرآن بلا حجة ولا سلطان ، إنّما يحملهم على هذا الجدال الباطل الكبر الذي في صدورهم. ومنشأ هذا الكبر هو التخيّلات الفاسدة التي تخطر ببالهم من أنّهم لو سلّموا بنبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت أوامرك ونواهيك. وكبرهم الباطني وحسدهم يمنعانهم عن ذلك ، ولذا يجحدون بآيات الله (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) عامّ في كلّ مجادل مبطل وإن نزلت في مشركي مكة أو اليهود على ما قيل ، وعلى تفصيل في المقام بالنسبة إليهم (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) أي عظمة وتكبّر عن الحق والحقيقة (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) فهم ليسوا بالغي مرادهم ومقصدهم (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شرورهم ومكائدهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) السامع لأقوالهم والناظر لأحوالهم وأفعالهم وما يخطر ببالهم.

* * *

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ(٥٨)

٢٢٧

إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

٥٧ ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ...) ولمّا كان جدل المجادلين في آيات الله مشتملا على إنكار البعث ، بل كان هذا أصل المجادلة ومدار المخاصمة مع أنهم كانوا مقرّين ومعترفين بأن الله هو خالق السماوات والأرض ، ولذلك يردّ سبحانه عليهم ويجادلهم بالذي هو أحسن وأقوى ويقول خلفهما للّذين يعترفون بأن الله خلقهما ، أكبر من خلق النّاس ، لأن خلقهما ابتداء كان من غير أصل ومادّة ، وإعادة الإنسان تكون من أصل ومادّة فالذي يقدر خلق شيء بلا مادّة هو على خلق ما له مادّة قادر بالأولى. وهذا برهان جليّ على إفادة المطلوب ، لأنّ الاستدلال بالشيء على غيره على أقسام ثلاثة ، أحدها : إنه قد يقال لمّا قدر على الأضعف فيقدر على الأقوى وهذا فاسد. وثانيها : أن يقال لمّا قدر على الشيء قدر على مثله فهذا صحيح لما ثبت في المعقول من أنّ حكم الشيء حكم مثله. وثالثها : أن يقال لمّا قدر على الأقوى الأكمل فبأن يقدر على الأضعف الأنقص كان أولى. وهذا الاستدلال أتمّ وأكمل الأقسام الثلاثة. وبهذا استدل سبحانه فيما نحن فيه في المقام. ومع هذا البرهان الجليّ الكامل قال الله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي مغمورون في الجهل والغيّ بحيث لا يتوجّهون إلى الأمور الواضحة كالشمس في رابعة النهار من ناحية ذاتها والدّلائل عليها ولفرط غفلتهم واتّباع أهوائهم أعرضوا عن التفكّر والتدبّر وإلّا فالأمور أهون من ذلك.

٥٨ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ...) ثم إنه تعالى بعد الجواب على مجادلتهم بالجدال المقرون بالبرهان يبيّن أحوال المؤمنين والمشركين بضرب مثل فيقول : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى) ، الآية يعني الكافر الجاهل الغافل عن دلائل التوحيد لعدم التدبّر فيها ، فهو لا يستوي مع المؤمن العاقل

٢٢٨

العارف بالتوحيد عن أدلتها والحجج الدالة عليها. فهما ليسا مساويين والفرق بينهما كالفرق بين الأعمى والبصير لا يحتاج إلى بيان (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي لا يكون المحسن العامل بالأعمال الصّالحة مساويا للمسيء (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) لفظة قليلا منصوبة بناء على أنها صفة لمفعول مطلق ، أي : تتذكّرون تذكّرا قليلا. و (ما) زائدة للتّأكيد لجهة القلّة.

٥٩ ـ (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ...) وبما أن الدنيا دار تكليف لا جزاء ، فلا بدّ من عالم آخر حتّى يجزى المحسن بثواب عمله ، والمسيء يعاقب بأعماله السيّئة على مقتضى عدله جلّ وعلا ، ولذا يقول سبحانه (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ، الآية أي تأتي بلا شكّ ولا شبهة لدلالة العقل والنقل على وقوعها وإجماع جميع الرّسل على الوعد بها ، ومع وضوح مجيئها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدّقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسّون به وحصره في تقليد آبائهم وتقيّدهم بعدم النظر في الدلائل والبراهين وهذا هو المانع الأقوى لعدم تصديقهم بأقوال رسلهم وكتبهم السماوية. ثم إنّه تعالى لترغيب العباد في قبول الإيمان ولحضّهم على اتّباع الرسل قال فيما يلي :

* * *

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ

٢٢٩

النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))

٦٠ ـ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...) أي ادعوني في جميع مقاصدكم وعند دفع البلايا والمحن وكشف الأضرار حتّى أستجيب لكم لو كان في الاجابة مصلحة مقتضية لها ، وإلّا فلا تستجاب الدعوة. بل ربما تكون فيها المفسدة والداعي لا يعرفها. ويمكن أن يحمل الدّعاء هنا على العبادة والتوحيد ، يعني اعبدوني ووحّدوني أجزيكم ثواب أعمالكم ويؤيّد هذا الاحتمال ظاهر قوله تعالى في ذيل الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) أي لا يعبدونني استكبارا وأنفة (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) يعني مهانين أذلّاء. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : هو الدّعاء ، وأفضل العبادة الدّعاء. وعنه عليه‌السلام ، أنّه سئل : أيّ العبادة أفضل؟ فقال : ما من شيء أفضل عند الله عزوجل من أن يسأل ويطلب ما عنده ، وما من أحد أبغض إلى الله عزوجل ممّن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده. ويستفاد من الرّوايات أنّه يطلق على الدعاء عبادة كما هو صريح ما في الصّحيفة السّجاديّة بعد ذكر هذه الشريفة (فسمّيت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين) وفي الاحتجاج عن الصّادق عليه‌السلام أنّه سئل : أليس يقول الله أدعوني استجب لكم؟ وقد نرى المضطر يدعوه ولا يجاب له والمظلوم يستنصر على عدوّه فلا ينصره. قال ويحك ما يدعوه أحد إلّا استجاب له. أمّا الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب. وأمّا المحق فإذا دعاه استجاب له وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه ، أو ادّخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته

٢٣٠

إليه وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيرا له إن أعطاه ، أمسك عنه. والمؤمن العارف بالله ربّما عزّ عليه أن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ.

٦١ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ...) أي لاستراحتكم فيه بأن خلقه باردا مظلما لتأديته إلى ضعف المحركات أو هدوء الحواسّ (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) يبصر فيه ، وإسناد الإبصار إليه مجاز فيه مبالغة. ووجه مناسبة هذه الآية مع ما سبق أنه تعالى بعد أمر العباد بالعبادة والدّعاء شرع في بيان توحيده وتعداد نعمه لترغيب العباد في العبادة ورفع الحاجة إليه سبحانه لأنه القادر على كلّ شيء وذو الجود والكرم على الخلائق أجمعين. ومن جملة نعمه وفضله عليهم خلق اللّيل والنهار وجعل واحد منها محلّ راحة للأعضاء التّعبة من أشغال اليوم حتى بالنسبة إلى القوى الظاهريّة والباطنيّة ، فإنها أيضا تبعا للأعضاء مشتغلة بأشغالها المقرّرة لها ، فقهرا تكون تعبانة وكسلانة ، فإذا غشيها الليل تصير مرتاحة وناشطة للاشتغال في يومها الآتي ، وجعل واحدا آخر سببا لإبصار الناس للاشتغال بأمور معاشهم ومعادهم وذلك تقدير العزيز الحكيم فلتنبه العباد لهاتين النعمتين العظيمتين يقول سبحانه (اللهُ الَّذِي) ، الآية ، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي فضل عظيم لا يوازنه فضل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فيا ليت كانوا لا يشكرون فقط بل يكفرون بآياته الدالة على ذاته المقدّسة وعلى أحديّته ويجحدون نعمه جحدا يكشف عن غاية شقاوتهم وكمال خباثتهم لأن عقل كل عاقل يحكم بأن جزاء الإحسان هو الإحسان بل ذوو الشعور يدركون هذا المعنى كما يشاهد في الكلب العقور إذا يعطى لقمة خبز أو قطعة لحم فلا يؤذي الإنسان! وهؤلاء المشركون أخبث وأنجس وأشقى من كلّ شقيّ وأدنى من كلّ دني. فإن قيل إن الموافق لرعاية السياق أن يقال في صدر الآية (لتبصروا) كما قال (لِتَسْكُنُوا)؟

٢٣١

وأيضا : فما الحكمة في تقديم ذكر الليل مع أن النهار أشرف من الليل؟ فيقال إن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدميّة في الجملة فهو غير مقصود كما أن الظلمة طبيعة عدميّة والنور طبيعة وجوديّة والعدم في المحدثات مقدّم على الوجود كما قال سبحانه (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وأما الجواب عن الإتيان بالاسم دون الفعل فقال بعض الأفاضل : من فنّ علم النحو في كتاب دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على الكمال أقوى من دلالة الفعل عليه ، فهذا هو السبب في هذا المقام. ولمّا ذكر سبحانه بأن القيامة حق وصدق ولا ينتفع العباد فيها إلّا بالطاعة لله تعالى فلذا أمر بالدّعاء لأنه أشرف أنواع الطاعات عقلا ونقلا وكتابا وسنّة ، ولا بدّ أن يكون الداعي ذا معرفة بدلائل معرفة الآيات الآفاقيّة والفلكيّة مثل وجود اللّيل والنهار اللّذين يدلّان على ذاته ووجود الصّانع تعالى وتعاقبهما الذي يدلّ أيضا على الصّانع العليم القدير وكمال تدبيره وحكمته. ولما بيّن سبحانه الدلائل المذكورة على وجوده وقدرته وسائر أوصافه الكماليّة قال تعالى :

٦٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...) قال صاحب الكشّاف (ذلِكُمُ) أي المعلوم المميّز بالأفعال الخاصّة التي لا يشاركه فيها أحد ، هو الله ربّكم خالق الأشياء جميعا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذه جمل خبريّة مترادفة دالّة على أنّه الجامع لهذه الأوصاف من الإلهيّة والرّبوبيّة والخالقيّة والوحدانيّة الأحديّة. وهذا تعريف لا يتصوّر فوقه تعريف لذاته المقدّسة ولذا يقول (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تنصرفون وتعرضون عنه وعن عبادته مع وضوح الدّلائل على ذاته وتوحيده واستحقاقه للعبادة دون غيره؟ والحاصل أن الحجّة تامّة على جميع الخلق وليس لأحد عذر.

٦٣ ـ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا ...) أي كما أنكم انصرفتم وأعرضتم عن دين الإسلام ، هكذا ينصرف ويعرض كلّ من يجحد وينكر آيات الله ، أي أن رؤساءهم يصرفونهم عن الآيات ويردّونهم إلى غير دين الحق. ثم

٢٣٢

إنّه سبحانه بعد ذلك يستدل بأمور خاصّة لذاته القدسيّة على ربوبيّته وألوهيّته وقدرته الكاملة ويقول :

* * *

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

٦٤ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً ...) أي مسكنا ومستقرّا

٢٣٣

تسكنون فيها وهي منزلكم أحياء وأمواتا إلى يوم لقاء الله (وَالسَّماءَ بِناءً) أي كالقبّة المضروبة على الأرض قائمة ثابتة. ومن مننه على العباد أنه جعل السماء مرتفعة ولو جعلها رتقا مع الأرض لما كان يمكن الانتفاع في ما بينهما ، بل لما كان للخلق أن يعيشوا على وجه الأرض (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لأنّ صورة بني آدم طبق صورة أبيهم وهي أحسن صورة الحيوانات : قال ابن عباس خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده ويتناول بها ، وغيره يأكل بفيه بادي البشرة ولذلك سمّي بشرا منتصب القامة متناسب الأعضاء متهيّئا لاكتساب الصّنايع والكمالات. ولكون هذه الصّورة من بدائع عالم الكون وأعاجيبه قال تعالى (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وما قال ولن يقول في شيء من بدائع الخلقة مثل هذا التبريك لذاته المقدّسة. ومن هذا نستكشف كشفا تامّا أن تلك الصّنعة أعظم وأعجب صنائعه وأكمل مخلوقاته السماويّة والأرضيّة ، وقد شبعنا الكلام في هذا الإبداع سابقا ولا نعيده (رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني تعيّن وتميّز أرزاقكم ممّا جعل للحيوانات الأخر ، فرزقكم أنواع الفواكه اللذيذة ومن النباتات الطيّبة من حيث الطعم والريح ، ومن الحبوب ذوات الخواصّ والآثار المفيدة (ذلِكُمُ) أي الخالق لهذه الأشياء والمنعوت بهذه النعوت الخاصّة (اللهُ رَبُّكُمْ) أي الجامع لصفات الجلال والجمال والمتّصف بصفة الرّبوبيّة بالإضافة إليكم خاصّة ، ولا ربّ لكم سواه وبالنسبة إلى جميع العوالم (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) إنّه تعالى يقدّس نفسه بربوبيّته لجميع العوالم كما أنه بارك وقدّس ذاته بخليقته البديعة بأجمعها.

٦٥ ـ (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) أي المتفرّد بحياته الذاتيّة لا إله إلّا هو بمعنى لا أحد يساويه في ذاته وفي ألوهيّته (فَادْعُوهُ) يعني تفرّع على صفاته الخاصّة به المذكورة الّتي لا تليق بغيره أن العبادة منحصرة به فلذا أمر عباده أن يدعوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي بشرط كونها خالصة من

٢٣٤

الشّرك والرّياء وهذا شرط قبولها وإذا وفّقوا لذلك فحينئذ يقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ولما كانت قريش بل الكفّار مطلقا بكلمة واحدة كثيرا ما يرغبّون الرسول الأكرم في أن يدخل في ديدنهم ودينهم قال الله سبحانه وتعالى :

٦٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ...) أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين : أنا منهيّ عن عبادة آلهتكم التي تعبدونها حال كونهم غير الله الذي هو خالق كلّ شيء. فأدّب المشركين بألين بيان ليصرفهم عن عبادة الأوثان وبيّن أنّ وجه النّهي ما جاءه من البيّنات كما قاله سبحانه (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي بعد مجيء البراهين الواضحة والدلائل السّاطعة على حقّانيّة معبودي وديني من صفات القدرة والخلق والرزق ، والعقل يحكم بأن العبادة لا تليق إلّا لمن كان موصوفا بهذه الصّفات ، ويستنكر كمال الاستنكار ويستقبح غاية القبح أن يعبد أشرف المخلوقات أدنى المخلوقات وهي الجمادات ويجعله شريكا لمن هو الواجد للصّفات المذكورة ، فأين التراب وربّ الأرباب؟ (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أخلص له وانقاد لأمره الذي يملك تدبير الخلائق والعوالم بحذافيرها. ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر ما سبق من الأدلة الدالة على التوحيد وإبطال الشّرك ، بل أعاد ذكر الأدلة الأخر مبالغة وتأكيدا لما سبق وإتماما للحجّة على الكفرة المتمرّدين على الحق والجحدة لنعمه فقال سبحانه :

٦٧ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) أي خلق أباكم آدم من تراب وأنتم سلالته وإليه تنتمون. هذا وما بعده من المراتب والدرجات حجج ملازمة لذات البشر بحسب العادة النوعيّة ، وكل عاقل ومتدبّر إذا تدبّر في خلقته بهذه الكيفيّة يعترف ويقرّ إذا لم يكن من أهل الجحد والعناد بأن له خالقا قادرا يستحق العبادة ، وغيره ليس بشيء (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي أنشأ

٢٣٥

من الأصل الذي كان مخلوقا من التراب النطفة ، وهي الماء القليل من الرجل والمرأة يختلط في رحمها (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي قطعة من الدم شبيهة بالعلقة يتشكّل المنيّ بعد مضيّ أربعين يوما بها (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) ترك ذكر المراتب الأخر إلى أن ينفصل من بطن أمّه لأنه تعالى ذكرها في الآيات الأخر ، أي أطفالا. والطفل يطلق على الواحد والجماعة ، قال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي كمال قوتكم. والجارّ متعلّق بمقدّر ، أي يبقيكم لتبلغوا. وبلوغ الأشدّ هو منتهى سنّ الشّباب من الثلاثين إلى الأربعين ، وعلى هذا القياس قوله تعالى (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) يعني من سنّ الشّباب يبقيكم إلى أن تصيروا شيوخا والشيخ أحد معانيه الذي هو محلّ حاجتنا في المقام من استبان فيه الشيب وهو بياض الشّعر (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي قبل وصول الإنسان للمراتب الثلاث المذكورة بعد ولوج الرّوح على سبيل مانعة الخلّو (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) متعلّق بفعل مقدّر أي يفعل ذلك ، أو يبقيكم لبلوغكم آجالكم المعلومات عند بارئكم جلّ وعلا (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تتعقلون تلك العوالم الماضية وهذه الانتقالات من عالم إلى آخر ، وبتلك الحجج والعبر تستبصرون وتستبين لكم معرفة إلهكم وخالقكم.

٦٨ ـ (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ...) أي الذي أحياكم وخلقكم من تراب بالكيفيّة المزبورة هو الذي يميتكم ويرجعكم إلى أصلكم ، فأوّلكم من تراب وآخركم إلى التراب ، كما قال تعالى (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) ، (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي فإذا أراده وحكم عليه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي يفعل ذلك بلا تجشم كلفة وبلا صوت وبلا احتياج إلى كلام ونطق حتى بحرف ، ومن غير عدّة فهو بمنزلة أن يقال له كن فيكون فبابه من باب التنزيل لا أنه بحسب الواقع لفظ يكون أو

٢٣٦

كلام في البين لأنّه سبحانه يخاطب المعدوم في عالم الأمر بالتكوّن والمخاطبة في ذاك العالم لا تكون بلفظ بل خطابه قصده ومقارنا لتلك الإرادة. والمراد أن الموجود يكون بلا فصل زماني ، بل الإرادة والمراد مقترنان في الوجود تمام المقارنة. والتعبير بالفاء التي تدلّ على التقدّم والتأخّر الزمانيّ من باب التفهيم والتفاهم لعامّة الناس وتقريب المقصود إلى أفهامهم والمطالب الدّقيقة إلى أذهانهم ، وإلّا فلم يكن بين إرادة الله ومراده في الإيجاد تقدّم ولا تأخر زماني. نعم التقدم والتأخّر الرّتبي لا بدّ وأن نقول به حيث إنه ما لم يكن قصد لم يكن مقصود ، وبالجملة فاستدل سبحانه بهذه الصفات على كمال القدرة ، وعبّر عن الإيجاد والإعدام ، وإن شئت قلت عن الإحياء والإماتة بقوله : كن فيكون ، أي الانتقال من كونه ترابا إلى النطفة وإلى كونه علقة ، وإلى العظام. وفي هذه الانتقالات على مقتضى الحكمة حصول تدريجي. وأمّا تعلّق جوهر الرّوح به فذلك يحدث دفعة واحدة. ولا يخفى أن تلك المراتب من عالم الخلق ولكن قضية تعلق الزمان من عالم الأمر فلعلّه لذلك عبر بقوله كن فيكون.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما

٢٣٧

كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

٦٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ ...) ثم أن الكفّار مع كثرة الدلائل والبراهين الواضحة لمّا كانوا في مقام المنازعة والمخاصمة ولم يتوقفوا عنها لذلك قام في صدد تهديدهم يقول على سبيل التعجّب مخاطبا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا ترى إلى هؤلاء المشركين المعاندين المخاصمين في آياتنا بلا حجة ولا سلطان (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي كيف يصرفون عن التّصديق بها مع كثرتها ووضوحها.

٧٠ إلى ٧٢ ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ ...) أي بالقرآن أو المراد جنس الكتاب فيشمل جميع كتبه السّماوية (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) إذا كان الكتاب هو القرآن فالمراد بالموصول هو الكتب السّماوية الأخر ، وإن كان المراد هو الجنس فهو الوحي والشريعة ، يعني أن الكفّار ما صدّقوا بالكتب والشرائع (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة عدم تصديقهم وسوء خاتمة أمرهم ووبال تكذيبهم قريبا فيعرفون حينئذ أن ما دعوتهم إليه حق وما ذهبوا إليه وارتكبوه كان ضلالا وفسادا ، فسيرون سوء مصيرهم (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) كلمة (إِذِ) ظرف زمان يستفاد منها التسويف وبيان زمان كشف معلومهم والمعلوم هو كون الأغلال في أعناقهم وسحبهم بالسّلاسل وهذا غاية الذّل والهوان وإيراد الكلام بصورة الجملة الاسميّة الدالة على

٢٣٨

ثبوت كون الأغلال في الأعناق في الأزمنة الثلاثة لتيقّنه ، لأن الأمور المستقبلة المتيقّنة في قوّة الماضي والحال كقوله سبحانه (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) أي يجرّون في الماء الحار الذي قد انتهت حرارته في الشدّة (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) من سجر التنّور إذا ملأه من الوقود. ويستفاد من هذا الكلام أنّ بطونهم تملأ نارا في تلك الحالة إذ يحرقون في النار ويحتمل أن يكون المعنى أن بطونهم تملأ من الوقود ثم يحترق الوقود بحيث تحترق جميع أعضائهم في الجحيم من شدة الحرارة المكانيّة والجوفيّة.

٧٣ و ٧٤ ـ (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ...) أي يسأل خزنة جهنّم أو غيرهم من الملائكة أهل الشّرك والعناد : أين الذين كنتم تعبدونهم من دونه تعالى؟ وهذا سؤال توبيخ وتوهين فيجيبون بما حكى الله تعالى (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي غابوا عنّا بحيث لم نجدهم وكنا نزعم أنهم ينفعوننا ويدفعون عنّا الضّرر ، واليوم ضاعوا عنّا وهلكوا ثم يستدركون بقولهم : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) ويفهم أن هذا الاستدراك للاسترحام والاستعطاف. والحاصل من الكريمة بعد سؤال المشركين عن آلهتهم والجواب عنهم أن الآلهة ضلّوا عنّا فلم نجد ما كنّا نتوقع منهم ، وقالوا ثانيا : بل لم نكن نعبد في الدنيا شيئا نستفيد وننتفع اليوم بعبادته كما كنّا في الدنيا غير مستفيدين ولا منتفعين بهم وبعبادتهم. بل ليس ببعيد أن يكون استدراكهم اعترافا بأنّا في الدنيا كنا عالمين بأن عبادتنا للأصنام كانت لا تنفعنا لأنّها جمادات وليست بشيء يعتنى به ، لكن العصبيّة الجاهلية دعتنا إلى هذا فأعرضنا عن عبادة ربّنا وخالقنا إلى عبادة ما ليس بشيء قطّ. وفي القمّي عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين إمامكم الذي اتّخذتموه دون الإمام الذي جعله الله للناس إماما؟ وفي البصائر عنه عليه‌السلام ، قال : كنت خلف أبي وهو على بغلته ، فنفرت بغلته ، فإذا هو بشيخ في عنقه سلسلة ورجل

٢٣٩

يتبعه ، فقال : يا علىّ بن الحسين اسقني. فقال الرّجل لا تسقه لا سقاه الله. وكان الشيخ معاوية أسكنه الله الهاوية (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أي كما أنه سبحانه أبطل ما كان مطمع نظر كفرة مكة من انتفاعهم بعبادتهم لأصنامهم كذلك يفعل بجميع أصناف الكفار الذين يترقّبون النفع بأعمالهم من العبادة للأصنام وغيرها ممّا هو دونه تعالى.

٧٥ ـ (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ ...) أي هذا العذاب في هذا اليوم جازاكم الله تعالى به بسبب أنكم كنتم تفرحون (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) يعني بفرحكم في الدّنيا بأمر لم يكن حقّا ، من عبادتكم للأوثان ، الى تكذيبكم بالرّسل وبما جاءكم من الحجج والبيّنات والكتب السماويّة المحتوية للأحكام الإلهية وغيرها مما كنتم تحتاجون إليه. وهذا الخطاب من الملائكة للكفرة على سبيل التوبيخ والتّوهين لهم (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) عطف على جملة (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ) أي هذا العقاب لنشاطكم حينما تقع المكاره والآلام على الأنبياء والرّسل عليهم‌السلام فكنتم تبطرون من غير حق. والفرق بين الفرح والمرح ان الفرح قد يكون بحقّ فيمدح عليه ، لكن المرح لا يكون إلّا باطلا ، أي في الأمور الباطلة وفي اللهو.

٧٦ ـ (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ...) وهي سبعة أبواب ، فادخلوها لتستقرّوا (خالِدِينَ فِيها) فهي مقدّرة للخلود والتأبيد فيها (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحق ، وبئس مقامهم جهنّم. وإنما جعل لها أبواب كما جعل لها دركات تشبيها لها بالدنيا وطبقات بنائها ، فإن في خلق الطبقات أهوالا تكون أعظم في الزّجر كما في اختلاف درجات السّجون كذلك. وانّما أطلق عليه اسم الفعل «بئس» مع أنه بالنسبة إلى أهله كان حسنا لأنّ الطبع يتنفّر عنه كما يتنفّر العقل عن القبيح ، فمن هذه الحيثيّة يحسن إطلاق اسم بئس عليه.

* * *

٢٤٠