الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

على نفسه بقوله (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فلو لم تكن التربية في كل واحدة من تلك العوامل وكذا في العوالم الأخر بعد هذه العوالم لرجع الخلق إلى الفناء والعدم الأوّل. هذا في الإنسان ، وهكذا الأمر في كلّ موجود حتى الجمادات. والنتيجة أنه بعد أمر الخلقة يصير أحوج الأمور عند الموجود وأشدّها دخلا فيه ، مسألة التربّب أو التربية فعلى هذا حينما يدعو العبد المحتاج إلى ربّه الغنيّ المطلق لرفع احتياجه ، يكون لسان حاله (إن لم يكن مقاله) أنّه يقول : كنت في كتم العدم فأخرجتني إلى الوجود ، وبعده ربّيتني في جميع مراحل الوجود التي كنت في غاية الحاجة إليها ، فأنا أجعل ترببك وتربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخلّيني طرفة عين عن تربّبك وإحسانك القديم إليّ. فهذا وجه الأنسبيّة في لفظة (الرب) في مقام الدّعاء ، وهو تعالى أعلم. ولما انجرّ كلامنا إلى مسألة الدعاء ، والمشهور أن الكلام يجرّ الكلام ، فنقول : إن الداعي كما يحسن له أن ينادي الله بلفظة «يا رب» في مقام الدعوة فكذلك يحسن له الثناء عليه سبحانه بعد ندائه. وبعد ذلك يذكر حاجته منه تعالى ويطلب قضاءها ، لأن ذكره تعالى بالثناء والتعظيم له أثر عجيب في الإجابة كما أشرنا بذلك في ندائه بلفظة «رب» وهناك مطلب آخر يدلّ على اهتمامه سبحانه بها وعلى شرافة تلك اللفظة غاية الشرافة ، وهو أنه تعالى أمر نبيّه الخاتم صلوات الله عليه وآله أن يذكره في مقام تسبيحه وتنزيه ذاته ذاته المقدّسة في أهمّ عباداته وهي الصّلاة وفي أشرف مواقعها وهي حالة الرّكوع أو السّجود بتلك اللفظة وذلك بأن يقول : سبحان ربّي العظيم وبحمده في حالة الركوع وسبحان ربّي الأعلى وبحمده في حالة السجود ، ولا بدّ أن يتّبعه في هذا الأمر جميع الأمة الاسلامية.

* * *

٢٠١

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ ...) أي أن الملائكة ينادونهم يوم القيامة وهم في النار ، والمراد خزنة جهنّم : إنّ عداوة الله أكبر (مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) والمقت أشدّ العداوة والبعض. ومعنى الشريفة أنّ الكفرة لمّا رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم وأدخلوا النّار مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء ، وأصابهم المقت لسوء صنيعهم فنودوا لمقت الله إيّاكم في الدنيا (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم وبغضكم لها. وفي القمّي : إنّ الذين كفروا : يعني بني أميّة دعوا إلى الإيمان يعني إلى ولاية عليّ عليه‌السلام والصّلاة.

١١ ـ (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ...) الأولى في الدّنيا بعد الحياة فيها ، والثانية في القبر بعد الإحياء فيه للسّؤال فهاتان حياتان وموتتان. وقالوا فيهما أقوالا أخر لسنا في مقام بيانها ومن أراد فليراجع الكتب المبسوطة في المقام (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) بيّنّاهما آنفا فلا نعيدهما (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي بإنكارنا البعث وما يتبعه. ولمّا شاهدوا الأحياء والإماتة مرّتين والبعث ، وتوابعه ، اعترفوا بما أنكروا وقالوا : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي

٢٠٢

إلى الخروج من النّار ، أيوجد طريق نسلكه حتى نخرج ونتخلّص من هذا العذاب الشديد والجواب مقدّر أي : لا سبيل لكم. يقولون هذا من فرط التحيّر والعماهة والقنوط ، ولذا أجيبوا بما أجيبوا به ودلّ عليه قوله سبحانه :

١٢ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ ...) أي ذلكم العذاب الذي حلّ بكم بسبب أنّه كان إذا تفوّه المسلمون بكلمة التوحيد أي لا إله إلّا الله (كَفَرْتُمْ بِهِ) يعني بتوحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي تؤمنوا وتسلّموا بالإشراك به (فَالْحُكْمُ) في تعذيبكم والفصل بين المحق والمبطل (لِلَّهِ الْعَلِيِ) شأنه (الكبير) العظيم في كبريائه.

* * *

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

٢٠٣

١٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ...) أي الدالة على التوحيد والقدرة بل على ذاته المقدّسة في المرتبة المتقدّمة وبقية ما يجب أن يعلم (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) ولمّا كان أهمّ المهمات رعاية مصالح أديان العباد فراعى تلك الناحية بإظهار الدّلائل والبيّنات كما دلّ عليه صدر الشريفة وراعى مصالح أبدانهم أيضا بإنزال الرزق عليهم من السّماء كما يدل عليه ذيل الآية. فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان ، والآيات لحياة الأديان كالارزاق لحياة الأبدان وقوامها (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي ما يتّعظ ولا يتفكر في الأمور المذكورة إلّا من يرجع عن الشرك إليه تعالى ، ويقبل طاعته ويعمل عملا صالحا. ثم أمر المؤمنين بقوله :

١٤ ـ (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...) أي وجّهوا عبادتكم إليه وحده ونزّهوها عن الشرك (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي ولو مقتوا إخلاصكم وشقّ عليهم.

١٥ ـ (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ...) أي رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة أو أنه سبحانه عالي الصّفات (ذُو الْعَرْشِ) يعني مالكه وخالقه وربّه المستولي عليه. وقيل العرش الملك ، فهو تعالى ذو الملك (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) أي القرآن من عالم الأمر وكل كتاب أنزله الله على أنبيائه. وقيل الروح هو الوحي أي يلقي الوحي على قلب من يشاء من عباده الذين يخصّهم بالرّسالة ويجدهم أهلا وذوي قابلية لها. وقال القمّي : الرّوح هو روح القدس وهو خاصّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) أي يوم القيامة ، ليخوّف منه.

١٦ ـ (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ...) أي خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء ، أو بارزة سرائرهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي من أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)

٢٠٤

حكاية لما يسأل عنه ولما يجاب به بما دلّ عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط. وأمّا حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.

١٧ ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ...) إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) فإن المحاسب فيه هو الله وهو عدل العادلين ، ولذا جيء بلام نفي الجنس (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فلا يمكن أن يقع اشتباه حيث إن سرعة الحساب كناية عن كمال المهارة والحذاقة فيه ولا سيّما من لا يشغله ولن يشغله شأن عن شأن

* * *

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

١٨ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ...) كناية عن يوم القيامة ، وسمّيت آزفة لاقترابها ودنوّها ، من أزف بمعنى قرب ، إذ كلّ آت قريب فخوّفهم من ذلك (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) أي أنّها من فزع ذلك اليوم ترتفع عن أماكنها فتلتصق بحلوقهم ، فلا تعود إلى محلّها الأوّل فيتروّحوا ، ولا تخرج عن أفواههم فيستريحوا (كاظِمِينَ) أي ممتلئين غمّا وكآبة. وقال القمّي : مغمومين ومكروبين (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي قريب مشفق عليهم

٢٠٥

(وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي شفيع تقبل شفاعته وتجاب.

١٩ ـ (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ...) أي خيانتها بنظرها إلى ما لا يجوز النظر إليه وفي المعاني عن الصّادق عليه‌السلام ، أنه سئل عن معناها فقال : ألم تر إلى الرّجل ينظر إلى الشّيء وكأنّه لا ينظر إليه فذلك خائنة الأعين (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي ما تضمره الصّدور يعلمه تعالى وهو محيط به حيث إنه يعلم السّرائر والضّمائر. ثم إنه سبحانه بعد بيان أحوال أهل المحشر وأهواله ، وبيان عدله في ذلك اليوم وعلمه المحيط بالظواهر والضّمائر يتهكّم على أهل الشّرك بقوله عزوجل :

٢٠ ـ (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ...) أي لا يتعدّى على أحد ولا يحكم ظلما بنقص ثواب أو مزيد عقاب ، حيث إنّه مستغن عن الظلم والعدوان (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي المشركون الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأوثان (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي لا يحكمون بأمر من الأمور لأنّها جمادات لا يتصوّر ولا يعقل أن يصدر عنها الحكم. وهذا الكلام تهكّم منه تعالى عليهم ، وتوبيخ للمشركين عبّاد الأصنام.

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) هذه الجملة تقرير لعلمه بخائنة الأعين وقضائه بالحق ، ووعيد لعبّاد الأوثان على أقوالهم وأفعالهم ، وتعريض بحال المعبودين غيره تعالى.

* * *

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ

٢٠٦

بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

٢١ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) هذه الشريفة في معنى الأمر يعني : سيروا في الأرض وانظروا. ثم أنه سبحانه كثيرا ما أمر في الآيات الشريفة العباد بالسّير في الآفاق لأخذ العبر ممّن كان قبلهم فإنّ العاقل من اعتبر بغيره من الأمم الذين خالفوا أوامر ربّهم ونواهيه وقتلوا النبيّين بغير حق فأهلكوا بالدواهي السّماويّة والأرضيّة كعاد وثمود (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي قدرة وتمكنّا في أنفسهم. وقرئ منكم (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) مثل القلاع العالية والحصون المرتفعة والبلاد العظيمة التي هي في تلك الحدود وتلك الديار في مسيرهم وممرّهم حينما يسافرون إلى الشّامات من الحجاز (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم بإنكارهم الصانع أو بشركهم وسائر معاصيهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي بمنع العذاب عنهم ولا دافع يدفعه.

٢٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ...) أي ذلك الأخذ والعذاب لأنهم كانت تأتيهم رسل ربّهم بالحجج البيّنة والمعجزات الباهرة فجحدوا (فَكَفَرُوا) بالله وكذّبوا الرّسل (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أهلكهم (إِنَّهُ قَوِيٌ) قادر على كلّ شيء (شَدِيدُ الْعِقابِ) إذا عاقب. ولمّا لم يعتبروا بتلك المقولة فلمزيّة تنبيههم وتتميم الحجّة عليهم بيّن تعالى قصة موسى وفرعون لعلّهم من هذه يعتبرون فقال :

* * *

٢٠٧

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

٢٣ و ٢٤ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي بالمعجزات الواضحة (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي برهان بيّن. وإنما عطف السلطان على الآيات لاختلاف اللفظين تأكيدا. فقد أرسلناه (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) فكان موسى رسولا إلى كافّتهم ، إلّا أنّه خصّ فرعون لأنّه كان رئيسهم ، وكان هامان وزيره ، وقارون صاحب جنوده أو كنوزه ، والباقون من القبطيّين تبع له وسواد عسكره. (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يعنون موسى عليه‌السلام وفي الآية تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولما كانت براهين موسى (ع) صورة مشابهة للسّحر فقد ألقوا هذه الكلمة حتّى يشتبه الأمر على الناس لئلّا يميلوا إلى الحقّ كلّ الميل ويذروا فرعون وحده ، أو مع قليل من توابعه. فهذه الكلمة أوقفت الناس عن الميل إلى موسى عليه‌السلام.

٢٠٨

وأما وجه أنّ معجزاته ودلائل صدقه كان من سنخ ما يشبه السحر ، فهو إن سنّة الله جرت على أن تكون معجزات الأنبياء في كلّ عصر من سنخ ما يشتهر بين الناس وكانوا به يفتخرون ويتفاخرون الواحد على الآخر إذا كان هو أشهر من غيره فيما هو المشهور من الصنعة أو العلم بشيء خاص يفتقده الآخر ، مثل ما كان مشهورا في زمان عيسى من علم الطبّ ، وفي زمان موسى من صنعة السّحر ، وفي عصر خاتم الأنبياء من البلاغة والفصاحة ، ولذا قرّر أن تكون معجزة عيسى شفاء الأبرص والأعمى الذي عجز عن إبرائه الأطباء ، وإبراء الأكمه أي من زال عقله أو تولّد أعمى ، وكان في بعض الأوقات يحيي الموتى. ثم كانت معجزة موسى عليه‌السلام اليد البيضاء وتصيير العصا حيّة تسعى وكان الرائج في زمانه هو السّحر ، ولذا كان للسحرة مقام منيع في جميع البلدان. وفي زمان نبيّنا الخاتم كانت الفصاحة رائجة شائعة وكان للشعراء وجاهة عظيمة عند الناس ، فأنزل الله القرآن على النبيّ عليه الصّلاة والسّلام وتحدّى به جميع الفصحاء والبلغاء بأن يأتوا بمثله فلم يقدروا أن يأتوا به. وهكذا في كل عصر كانت المعجزات من سنخ ما اشتهر حتى يكون عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به نبيّ ذلك الزمان معجزة لنبيّهم ، فإذا لم يؤمنوا مع تماميّة الحجّة يأخذهم الله بعذاب فيهلكوا جميعا.

٢٥ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا ...) أي أتاهم بالدّين الحق الذي كان من عندنا ، وأمرهم بالتوحيد (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أعيدوا على بني إسرائيل القتل الذي كان عليهم أوّلا قبل ولادة موسى حين قال المنجّمون لفرعون إنّه سيولد في بني إسرائيل ولد يكون زوال ملكك بيده ، فحكم بأن يقتلوا كلّ مولود ذكر يولد في بني إسرائيل (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي خلّوهنّ حتى يخدمن القبطيّين. ووجه هذا القتل لكي يصدّوا. ويمنعوا ظهور موسى (ع) ويقلّ عدد جنوده وسواد

٢٠٩

عسكره ، أو يشتغلوا بذلك عن معاونة موسى عليه‌السلام. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي في ضياع. ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى فهو باطل ضائع لأنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده. ثم أخبر سبحانه عن نوع آخر من أنواع القبائح التي يرتكبها فرعون وهو أنّه قال :

٢٦ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ...) يستفاد من الآية أنه في خواصّ فرعون كان شخص مانعا له من قتله وإلّا لم يتعلّل عدم القتل بعدم الإجازة مع كونه سفّاكا في أهون شيء. وفي العلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية : ما كان يمنعه؟ قال : منعته له رشدته أي صحة نسبه ، ولا يقتل الأنبياء ولا أولاد الأنبياء إلّا أولاد الزّنى (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أي إن لم أقتله أخاف تغييره لدينكم الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام وعبادتي ، فإذا قتلته نستريح جميعا منه (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي فليستجر بالله وليشك إلى ربّه حتى يمنعني عن قتله. وقد قالها تجلّدا ولعدم مبالاته بدعائه ربّه إذ إنه لا يعتقد بربّ موسى عليه‌السلام (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي ما يفسد دينكم وعقيدتكم أو ما يفسد دنياكم كالإعلان للحرب وتهييج الناس مثلا. ولمّا انتشر في الناس أنّ فرعون عزم على قتل موسى (ع) فرح القبطيّون ووقع بنو إسرائيل في حيص وبيص وأصبحوا في همّ وغمّ.

٢٧ ـ (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي) ... أي قال لقومه لما سمع بعزم فرعون على قتله (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) تسلية لهم ، يعني لنا ملاذ وملجأ هو ربّنا وخالقنا وحافظنا من شرّ (كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) يعمّ ذكر هذا الوصف فرعون وغيره وما صرّح باسمه رعاية لحقّه القديم حيث ربّاه في بيته حتى بلغ الرّشد والكمال. وإيثار التكبّر على الاستكبار لأنه أكثر دلالة على فرط الطّغيان والظّلم ، فإنه لا يقصد قتل

٢١٠

النبيّ إلّا من أفرط في الطّغيان والاجتراء على الله. والحاصل أنه لمّا اهتمّ فرعون وهيّأ للقتل وشاع الخبر اضطرب المؤمنون ، ومنهم مؤمن آل فرعون الذي وقف وقال أمام فرعون وسائر رجال القبط :

* * *

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ

٢١١

مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

٢٨ ـ (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...) كان ابن خال فرعون أو ابن عمّه. وقال القمّي : بقي يكتم إيمانه ستّمائة سنة. وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام : التقيّة ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له. والتقية ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل. وفي المجالس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصدّيقون ثلاثة ، وعدّ منهم حزقيل مؤمن آل فرعون رضوان الله عليه وقد كان يكتم إيمانه تقيّه من فرعون ، وكان فرعون يعظّمه ويحترمه لأنه كان رجلا محنّكا عاقلا فطنا ذكيّا ذا بصيرة ومعرفة ، ولذا جاء وخاطبهم ولم يخف أحدا ، وسمع كلامه فرعون ورتّب الأثر عليه وانصرف عن القتل واتعظ بمواعظه المفيدة الكافية الوافية إذ قال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أي لأنه يقول ذلك؟ (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحات (مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لا يتعدّاه ضرره إلى أحد بل إليه يرجع لو كان فيه ضرر فلا حاجة إلى قتله. هذا الاحتجاج من باب الاحتياط وإلّا فإنه حينما قال (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) وأضاف الربّ إليهم بعد ذكر البيّنات احتجاجا عليهم واستدراجا لهم إلى الاعتراف به ، فقد أتمّ الحجة عليهم (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي لا أقل من أن يصيبكم بعضه وفيه هلاككم أو عذاب الدّنيا فإنه بعض ما يعدكم. وفيه

٢١٢

مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصّب ، ولذلك قدّم كونه كاذبا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) هذا يمكن أن يكون احتجاجا ثالثا ذا وجهين : أحدهما لو كان مسرفا كذّابا لما هداه الله الى البيّنات ولما أجرى تلك البيّنات على يديه لأن فيه إغراء الناس بمن ليس بأهل. والثاني : إن من خذله الله وأهلكه فلا حاجة بكم إلى قتله. ولعلّه أراد به المعنى الأوّل ، وخيّل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم وعرّض به بفرعون أنّه مسرف كذّاب لا يهديه الله سبيل الصّواب.

٢٩ ـ (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ...) لمّا بيّن على وجه التلطّف أنّه لا يجوز الإقدام على قتل موسى عليه‌السلام ولا يجوز التكذيب على الله تعالى بادّعاء الإلهية الكاذبة ، خوّفهم عذاب الله وبأسه فقال : أنتم اليوم قد علوتم الناس وأنتم أهل سلطان مصر وما والاه ، فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرّضوا لبأس الله وعذاب الله فابقوا (ظاهِرِينَ) أي غالبين عالين (فِي الْأَرْضِ) أي مصر وتوابعها (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) إنما أدرج نفسه فيهم في الحوادث ليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم. وهذا البيان وهذه المواعظ بهذه الكيفية تكشف عن غاية فطانته وكمال معرفته وقدرته على الخطابة والنّصح المؤثّر بحيث أقنع فرعون وأتباعه الذين كانوا معه في العقيدة ، فانصرفوا عن قتل موسى و (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم وما أدلّكم إلّا على الطريق التي أراها صوابا لي ولكم ، وأنا الصّلاح في قتل موسى (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.) أى ما أدلكم إلا على ما فيه رشدكم وصلاحكم. ولا ريب أن فرعون كان كاذبا في قومه لأنه كان مستيقنا بنبوة موسى وصحة آياته ولذا كان خائفا منه باطنا خوفا عظيما ، إلّا أنّه يظهر في الناس خلاف ما في باطنه ويتجلّد حتى لا يطّلع على باطن أمره أحد من خواصّه ، والدليل على ذلك انه مع كونه سفاكا قتّالا في أهون شيء بلا مشاورة أحد إلّا في أقل

٢١٣

القليل من الأمور ، لكنّه شاورهم في قتل موسى الذي يعرف انه هو الذي في صدد زوال ملكه وهدم سلطانه وانكسار جبروته وإخماد طنطنة ملوكيّته الواسعة في ذلك العصر. والحاصل أن حزقيل لمّا سمع هذا الكلام من فرعون عرف أنّه ما انصرف عن القتل كاملا بل عقيدته أنّ في القتل صلاحا ولذا خاطبهم ثانيا :

٣٠ و ٣١ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ ...) أي قال حزقيل (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أي في تكذيبه والتعرّض له (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي مثل أيام الأمم الماضية المتعرّضة للرّسل بالأذى والقتل بأنواعه (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) أي جزاء عادتهم على إيذاء نوح وتكذيبه فأهلكهم الله بالطّوفان والغرق (وَعادٍ وَثَمُودَ) أي مثل سنّة الله تعالى فيهم حين استأصلهم وأهلكهم جزاء بما كانوا يفعلون من الكفر وقتل الرّسل وإيذائهم (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم لوط وأهل المؤتفكة الذين صارت بلادهم مقلوبة عاليها سافلها وبالعكس (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) يعني تدمير هؤلاء كان على وجه العدالة وصدر منه تعالى ووقع في محلّه والظّلم وقوع الشيء في غير محله فهو تعالى لا يريد ظلما فضلا أن يظلمهم بل يريد أن يتعامل معهم بالعدل لا بالفضل.

٣٢ ـ (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) ... أي يوم القيامة ، وسمّي بذلك لنداء بعضهم بعضا بالويل والثبور ، أو لتنادي أهل الجنة وأهل النّار وبالعكس ، أو لأنه ينادى كلّ أناس بإمامهم ليستشفعوا به ويستعينوا به ، أو لأنه ينادى في أهل الجنّة : يا أهل الجنّة خلود ولا موت ، ويا أهل النّار خلود ولا موت.

٣٣ ـ (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ...) أي منصرفين عن الموقف إلى النّار ، أو فارّين عنها ولا يفيدهم الفرار حيث إنّهم يرجعون ولا يمكن الفرار من حكومته عزوجل (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي من عذابه ما لكم من مانع ولا دافع وهذا التهديد الذي نقله المؤمن إليهم ألهمه الله تعالى إياه

٢١٤

لأنه لا عاصم من غضب الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي يخلّيه وما اختاره من الضلالة بعد تماميّة الحجة عليه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) عن الضّلالة يردّه إلى الهدى.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ ...) أي جاء آباؤكم على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد ، أو على أن فرعون موسى فرعونه ، أو المراد بيوسف يوسف بن أفرائيم بن يوسف (مِنْ قَبْلُ) أي قبل موسى عليه‌السلام. ويمكن أن تكون هذه الشريفة من بقيّة كلام المؤمن ويجوز أن تكون ابتداء كلام من الله سبحانه. لكن الظاهر بقرينة السّياق كونها من كلام المؤمن إلى قوله تعالى (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ) ، الآية وهذه الكلمات من مواهب الله سبحانه جرت على لسان مؤمن آل فرعون وهي تكشف عن كمال إيمانه ، فإن فيها النّصح والعظة وإثبات الصانع وتوحيده والبعث والحشر والعذاب إلى جانب تهديدهم بهلكات الدّنيا والآخرة ، وفرض وجود الخالق تعالى أمرا مفروغا منه ، ورتّب عليه آثاره وآثار توحيده كما هو ظاهر كلماته لمن له أدنى دربة وحذاقة بصناعة الكلام. وفرعون أدرك وعرف هذا المعنى من مقالاته ولذا بعد إتمام الخطاب (قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ) ، الآية وهذا كلام من أيقن بوجود الخالق لكنّه يتجلّد ويتكلّم بما يقول حتى يشتبه الأمر على غيره لخبثه وسوء سريرته وكمال شيطنته وشقاوته. ومن ألطاف الرّب تعالى على المؤمن انصراف فرعون عن قتله مع مخاطبة فرعون ورجال ملكه بتلك الخطابات التي هي عين الدّعوة إلى إله موسى وتعريفه تعالى وبيان كمال قدرته ضمن الدّعوة ببيان تدميره سبحانه للأحزاب والأمم السّالفة وبقوله (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) وغيرهما ممّا يدل على قدرته تعالى (بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من دعوى الرّسالة والدّين وأحكامه (حَتَّى إِذا هَلَكَ) يوسف ومات (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي لمّا

٢١٥

أنكرتم رسالة يوسف وما سمعتم قوله فيما جاءكم من عند ربّكم وزعمتم أنه لا يجيء بعده نبيّ آخر من عند الله سبحانه يدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فقلتم لن يبعث الله من بعد يوسف رسولا إلينا خوفا من أن ننكره كما أنكرنا يوسف ، فثبتّم على كفركم وجحودكم وظننتم أن الله لا يجدّد لكم إيجاب الحجة ولا يبعث إليكم رسولا جهلا منكم بأن الله ليس بتابع لظنكم ولا يحتاج إلى عبادتكم ولا يعتني بكفركم وجحودكم ، بل خلق العالم وما فيه وجعل له أنظمة ، ومنها أن لا تخلو أرضه من حجّة أطاعه الناس أم لا (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضّلال الفظيع (يُضِلُّ اللهُ) عن طريق الحق والصّواب (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي من جاوز حدوده المقرّرة له في شرعه وشكّ في دينه الذي تشهد به البراهين الواضحة وأثبتته الرّسل بالمعجزات الباهرة. وهذا الكلام من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة بالنظر إلى فرعون فهو المصداق المتيقّن من المسرف والمرتاب.

٣٥ ـ (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ...) أي الذين يتخاصمون خصومة شديدة مع الرّسل في ما أتاهم من عند الله من المعجزات لإثبات دعواهم أثناء تحدّيهم للرّسالة (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بلا حجّة وبيّنة تأتيهم ، بل يجادلون تقليدا ، أو بكلمات لا طائل تحتها مثل الشبهات الداحضة (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) مقتا تمييز ، أي هذا العمل يبغضه الله بغضا شديدا وهو كبير عنده من حيث الفظاعة والشناعة (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي عندهم أيضا عظيم من حيث إنه عمل شنيع ومبغوض عندهم بغضا شديدا. وقرنهم بنفسه تعظيما لشأنهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع الذي فعله على قلوب تلك الجماعة هكذا ختم على قلب كل متكبّر جبّار (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) عرّض بكلامه بفرعون ، ومقصوده الأول منه هو وإن ساقه بحيث يعمّ غيره. ولما أتمّ المؤمن الوعظ والنّصح بأكمل وجه وأحسن بيان وأجمعه خاف فرعون من أن تؤثّر هذه

٢١٦

المقالات في أهل مجلسه فلذا موّه على الجلساء وأراد أن يشغلهم فقال لوزيره هامان :

* * *

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧))

٣٦ و ٣٧ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ...) أي بناية عالية مكشوفة ، وقيل مشيدة بالآجرّ والجصّ (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) ثم فسّر تلك الأسباب فقال : (أَسْبابَ السَّماواتِ) أي طرق الصّعود إليها من سماء إلى سماء ، أو أسباب الطّرق إليها. والسّبب كلّ ما يتوصّل به إلى شيء يبعد عنك (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) في ادّعائه. قاله إيهاما أو تمويها لقومه ، أو لجهله اعتقد أن الله لو كان لكان في السماء وأنه يقدر على بلوغها (وَكَذلِكَ) أي مثل ما زيّن لهؤلاء الكفار سوء أعمالهم (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) ظهر له ممكنا (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي طريق الهداية ، يعنى إبليس منعه عنه بناء على قراءة الآية مجهولة. وقرئت وصدّ معلوما ، أي على أنّ فرعون مسخ الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشّبهات الواهية (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي

٢١٧

مكائده في إبطال آيات موسى بحملها على السّحر ، أو بناء الصّرح ، أو تكذيب موسى بأن له إلها غير فرعون ، وتلبيس المطالب على النّاس بتلك التمويهات ، فجميع هذه المكائد الفرعونيّة لا تفيده ولا تنجيه إلّا أنها موجبة لهلاكه وخسارته الدّنيوية والأخرويّة. ثم إن حزقيل في جميع مناسبات فرعون وحفلاته ودخول موسى عليه أو خروجه من عنده أو غير ذلك ، كان حاضرا لأنه ظاهريا كان منهم ومن رجال التشاور لأنّه من أقرباء فرعون ومن القبطيّين وكان عريفا ، ولذا كان مسموع القول فيهم. والحاصل أنه إذا أحسّ بتوجّه أدنى ضرر على موسى أقدم على دفعه بكيفيّة عقلانيّة بحيث لا يلتفت القوم أنّه معه ، فلمّا رأى أنّ فرعون في مقام تمويه الأمر وتسويل المطلب على القوم قام وأخذ في تنبيههم بالموعظة الحسنة والنصائح الشافية الكافية كما حكى الله تعالى مقالاته في ما يلي :

* * *

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)

٢١٨

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

٣٨ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ ...) أي سيروا معي وفي أثري ولا تخالفوني (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) طريق الرشد من الغيّ والهداية من الضّلالة. ثم شرع على سبيل الشرح والتّفصيل يبيّن حال حقارة الدّنيا وحال عظم الآخرة :

٣٩ ـ (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ...) أي تمتّع أيام قلائل لسرعة زوالها وقلة بقائها (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي دار الخلود والحياة الأبديّة والباقي خير من الفاني. قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهبا فانيا والآخرة خزفا باقيا لكانت الآخرة الباقية خير من الدنيا الفانية ، فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق؟ فالعاقل لا يؤثر الفاني على الباقي.

٢١٩

٤٠ ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ...) عدلا من الله (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني جزاء السيّئة مقصور على المثل ، لكنّ جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن حدّ العدّ والحساب ، أي بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة.

٤١ ـ (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ ...) ثم إن المؤمن كشف عن تقيّته ستارها وكشط عنها غطاءها وأظهر لوازم كلامه التي هي أشدّ من التصريح أنّه مؤمن بإله موسى وكافر بربوبيّة فرعون ، فنادى فيهم في مجلس رآه خاليا من فرعون فقال (ما لِي أَدْعُوكُمْ) أي ما لكم؟ وهذا كما يقول الرجل (ما لي أراك حزينا) أي مالك تبدو حزينا؟ ومعناه : أخبروني عنكم ، كيف حالكم هذه؟ أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النّجاة من العذاب ، وأنتم تدعونني إلى الشّرك الذي عاقبته النار؟ ومن دعا إلى سبب الشيء فقد دعا إليه. ثم فسّر الدّعوتين بقوله :

٤٢ ـ (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ...) أي أنتم تدعونني لربوبيّة من ليس على ربوبيته دليل ، وليس لديه حجّة فهو باطل الربوبية ومدّعاكم بلا دليل ، وهو لا يسمع حيث لا يحصل للإنسان علم بتلك الدّعوى. وهذا هو المراد بقوله (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) فأنتم هكذا (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) الغالب على كلّ شيء والغفّار لمن تاب عن الشّرك.

٤٣ ـ (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...) أي حقّا إن آلهتكم لا تدعو إلى أنفسها لأنها جمادات لا تقدر على النّطق ولا تشعر بشيء فكيف بالدّعوة فليس لآلهتكم دعوة (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أي مرجعنا إليه سبحانه فيجازي كلّا بعمله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) بالشّرك وسفك الدّماء (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها يوم القيامة. وهذا تعريض بفرعون بهذا الذّيل حيث إنه كان سفّاكا كافرا ومشركا يأمر الناس بأن يعبدوه وهو كان يعبد

٢٢٠