الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

للمتكبّرين يقال له سقر ، شكا إلى الله شدّة حرّه وسأله أن يتنفّس ، فأذن له فتنفّس فأحرق جهنّم ، نعوذ بالله من حرّه وحرّ جهنم. ولعلّ المراد من إحراقه لها هو الاشتداد في الحرارة لأنّ الشيء الحارّ إذا مسّ شيئا أو وقع فيه فإن لم يكن في الممسوس حرارة حدثت فيه ، وإن كان فقهرا تزاد فيه الحرارة وأمّا حرق جهنّم فليس كحرق قطن أو عود كما هو ظاهر الرّواية ، بل ذلك بعيد أن يكون المراد من الرّواية على فرض صحّتها ، فلا بدّ من ردّها على أهلها. ولمّا أخبر سبحانه في الآية السّابقة عن حال الكّفار ، عقّبه بذكر حال الأتقياء الأبرار :

٦١ ـ (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ...) أي تجنّبوا الشّرك وغيره من المعاصي (بِمَفازَتِهِمْ) بالعمل الصّالح الذي هو سبب الفلاح والفوز وتسمية العمل الصّالح (بمفازة) من قبيل تسمية السبب باسم المسبب (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) يحتمل أن يكون هذا الكلام بيانا لفوزهم ، يعني فوزهم بأن لا يصل إليهم سوء ولا حزن من فقدان نعمة أو لذّة. وبعد ذكر الوعد والوعيد يبيّن عموم قدرته بقوله تعالى :

* * *

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ

١٨١

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

٦٢ و ٦٣ ـ (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...) أي موجده من العدم إلى الوجود (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قائم على حفظ المخلوقات ومتصرف فيهم ، أو المفوّض إليه أمر العباد ، المدبر أمرهم ومديرهم. وقال بعض أهل اللّغة متى وصف به الله تعالى كما في المقام يكون بمعنى الرّزاق الكافي. وأيضا إظهارا للقدرة التامّة يقول سبحانه (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جمع مقلاد بمعنى الخزينة أو الخزانة وجاء بمعنى المفتاح وفسّر : له مفاتيح خزائن السّماوات والأرض. والحاصل أن هذا الكلام كناية عن قدرته على حفظ السّماوات والأرض ومزيد اختصاصه بهما لأن الدّخل في الخزائن لا يتصوّر إلّا لمن تكون المفاتيح بيده وقيل إن المراد بقوله له مقاليد إلخ .. أي ملكهما وذلك كقولهم فلان تولى مقاليد الملك. وبالجملة يستفاد من الكريمة إنّ الله سبحانه هو المالك لجميع الأمور العلويّات والسّفليات وبيده أزمّة الأمور ، فله أن يفتح أبواب الأرزاق لمن يشاء ويغلقها على من يريد ، وينزل الرحمة على من يريد ويسدّها على من يشاء ، وكذلك الأمور الأخر. ولا بد لنا هنا من ذكر شيء عمّا تعرّض له سبحانه من الأمور الآفاقية ، فقد ذكر سبحانه في كتابه السّماء بلفظ الجمع بخلاف الأرض ، ولعلّه على ما ببالي لم يذكر لفظ الجمع في الأرض إلّا في غاية القلّة! والقدر المتيقّن أنّه تعالى يأتي بها مفردا نوعا. ولعل وجهه لإفهام نكتة وكشف سرّ من الأسرار المطويّة في كتابه الكريم. بيان ذلك أن أكابر علماء أهل فنّ معرفة السماء والأرض كالفلكيّين وأهل النجوم اختلفوا في كيفية طبقات السماوات والأرضين على ما ذكر في محله ولسنا في مقام ذكرها لأنه خارج عمّا نحن فيه ، ونحن الآن في مقام وجه الفرق بينهما بإتيان واحد منهما نوعا بلفظ

١٨٢

الجمع والآخر بلفظ الفرد ، فنقول : لعلّ الوجه بيان أن السّماوات طبقاتها منحازة كلّ واحدة عن الأخرى ، وبين كلّ طبقة وطبقة أخرى فاصل كبير بحيث قدّر في بعض الأخبار بخمسمئة سنة يمشي فيها الماشي السير المتعارف أو مع المركوب المتعارف ، بخلاف طبقات الأرض حيث إنّ كلّ طبقة منها موضوعة على الأخرى وملتصقة بها التصاق كلّ طبقة من العمارة الّتي تكون ذات طبقات فكأنّ الأرضين بواسطة اتّصال الطبقات بالكيفيّة المذكورة أرض واحدة بخلاف السّماوات فإن كلّ طبقة منها منفصلة عن الأخرى بفاصل كبير ، ولهذه النكتة أتى سبحانه بلفظ الجمع في السّماء وبالمفرد في الأرض والله تعالى أعلم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بدلائل قدرته واستبداده في أمور السّماوات والأرض أو ما يدل على توحيده وتمجيده وتنزيهه عن الشرك وعمّا يقول الكافرون (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم آثروا الحياة الدّنيا الفانية على الآخرة الباقية وباعوا نعمة الجنان بعقوبات النّيران ، فأيّ خسران أزيد وأعظم من هذا ، فوا سوأتاه عليهم وعلى أمثالهم.

٦٤ ـ (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ...) أي هل ينبغي أن يصدر منكم أمر لي بأن أعبد تلك الجمادات العجزة من المخلوقين ، مع أنكم تحسبون أنكم من العقلاء؟ وهل من حكم العقل أن يعبد العاقل من هو أدنى منه واحطّ ، ويترك عبادة خالق السماوات والأرض وواهب العقل والقوى جميعا؟ والاستفهام إنكاري ، أي لا يتعقّل عاقل بأن يعبد غير الله فضلا عن أن يأمر غيره بذلك ، ولذا خاطبهم بقوله سبحانه (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي بعواقب أموركم وبعجز آلهتكم عن إيصال نفع أو رفع ضرر حتى عن أنفسهم ، فكيف عن غيرهم؟ فعبادة هذه الأصنام يدلّ على غاية الجهل والغواية والمصير إلى الهاوية. وفي الجوامع روى أنّهم قالوا : استلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك فنزلت.

١٨٣

٦٥ ـ (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ...) قال ابن عباس : هذه الشريفة (يعني من أوّلها إلى آخرها) أدب من الله لنبيّه (ص) وتهديد لغيره ، لأنّ الله عصمه من الشّرك ، وهو كلام وارد على طريق الفرض والشرط ، وإفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد. واللام الأولى موطّئة لقسم والأخريان للجواب. فإن قيل : كيف صحّ هذا الكلام مع علمه سبحانه أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ فالجواب أن الكلام قضيّة شرطية والقضيّة الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها. ألا ترى أنّ قولك لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين ، قضيّة صادقة مع إن طرفيها غير صادقين؟ قال الله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) هذه قضية صادقة ولم يلزم من صدقها صدق القول بأن فيهما آلهة غيره ... وبأنهما قد فسدتا. ويمكن أن يقال إن الخطاب ظاهرا إلى الرّسل لكن بحسب الواقع والحقيقة هو متوجّه وراجع إلى أفراد الأمّة (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وهذا من باب عطف المسبّب على السبب ، والمراد بحبط العمل صيرورته سديّ ، أي باطلا وفاسدا ، وفي النتيجة عدم قبوله ثم إنه تعالى لمّا ذكر هذه بيّن ما هو المقصود فقال سبحانه :

٦٦ ـ (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ...) ردّ لما اقترحوه عليه صلوات الله عليه وآله من استلام ببعض آلهتهم فقال سبحانه : بئس ما أمروك به ولكن كن على طريق الحقّ وكن (مِنَ الشَّاكِرِينَ) نعمه عليك من الهداية والنبوّة والتوحيد والإخلاص في العبادة وغيرها. وقال القمي : هذه مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنى لأمته ، وهو ما قاله الصّادق عليه‌السلام : إن الله بعث نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، والدّليل على ذلك قوله تعالى (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وقد علم أنّ نبيّه (ص) يعبده ويشكره ولكن استعبد نبيّه بالدّعاء إليه تأديبا لأمّته. وعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن هذه ، أي آية (لَئِنْ أَشْرَكْتَ

١٨٤

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) فقال عليه‌السلام تفسيرها : لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية عليّ من بعدك ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين.

* * *

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

٦٧ ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) أي ما عرفوه حق معرفته ، إذ لو عرفوه ما عرفوا غيره وما أمروا نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعبادة غيره. هذا بالنسبة إلى المشركين. وأمّا المؤمنون أيضا فما عرفوه ، ولو عرفوه لما عصوه فيما أمرهم ونهاهم وقيل : معناه ما وصفوا الله حق صفته إذ جحدوا البعث ، فوصفوه بأنه خلق الخلق عبثا وأنه عاجز عن الإعادة والبعث ، وأنه جسم يقعد على السرير ويركب الحمار وأمثال ذلك من الأساطير

١٨٥

والخرافات (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) لفظ جميعا منصوب على الحال ، والقبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفّك. وقد أخبر سبحانه عن كمال قدرته وسطوته فذكر أن الأرض كلّها مع عظمها في مقدوره كالشيء الصغير الذي يقبض عليه القابض بكفّه ويطويه بيمينه فيكون في قبضته كالكرة الصغيرة وهذا تفهيم لنا على عادة التخاطب فيما بيننا لأننا نقول هذا في قبضة فلان أو في يده إذا هان عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه وكذا قوله (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منّا الشيء المقدور له طيّه بيمينه. وذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار ، واليمين كناية عن القوّة ها هنا ، ولأن أكثر الأشياء تصدر عن اليمين وهي اليد الفعّالة من اليدين فلذا يجاء بها للمبالغة في الاقتدار ويكنّى بها عن القوّة؟

وعبّر سبحانه في مقام إظهاره عن كمال قدرته في ناحية الأرض بأن الأرض جميعا في قبضته ، كما أن السّماوات مطويّات بيمينه ، ووجه الاختلاف في التعبير هو تعالى أعلم به وبما قال ويمكن أن يكون لكشف سرّ من أسرار الخلقة وصنعها وهو كرويّة الأرض وانبساط السّماء بيان ذلك أن الإحاطة في الأمور المكوّرة أشدّ منها في صورة المربّعات وغيرها ، فالإحاطة بتلك النسبة أعظم وأشد بخلاف ما إذا كان الشيء منبسطا فإن الاحاطة به أصعب. هكذا نرى في أمورنا الظاهريّة عرفا وعقلا ، والقرآن نزل على المتفاهمات العرفيّة والعاديّة ، فتغيير أسلوب اللفظ ليس في القرآن بلا جهة ولا نقتصر في الجهة على التفنّن في اللفظ فإنه ليس من شأن الربّ تعالى ولا من شؤون كتابه الكريم ، بل الجهة لا بدّ من كونها سرّا من أسراره ورمزا مهمّا من رموزه. والحاصل أن الإتيان بلفظ الجمع كما قلناه ، واتصاف السّماء بالطيّ يدلّنا على ما قلناه من كرويّة الأرض بجميع طبقاتها السّبع وانبساط السّماء بجميع طبقاتها. والمراد بالأرض ها هنا هو الأرضون

١٨٦

بقرينة (جَمِيعاً) فإنّ هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلّا على الجمع فإنّ الأوصاف إذا كانت جمعا تدل على أن الموصوف جمع فيستفاد من الكريمة الشريفة كون الأرض جملة أرضين منفصلة بعضها عن بعض ، وربما كانت كلها مسكونة أو غير مسكونة فعلم ذلك عند الله تعالى. وقول علماء الأرض بالنسبة لطبقاتها الملتّفة بعضها فوق بعض يعني أرضنا وحدها ، ولا تصدق على ما خلق سبحانه من أرضين سبع ، (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزّه تعالى شأنه نفسه المنزّهة عن شركهم وعمّا يضيفونه إليه من نسبة الشّبه والمثل والجسم ولوازمه ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام على سبيل الاستعجاب أي كيف يتفوّهون بالإشراك مع عظم قدره تعالى عنه وعلوّ ذاته من إضافة الشبه والمثل إليه ... وبعد إظهار القدرة بالإضافة إلى جميع مقدوراته من البعث والنشر اللّذين أنكروهما أشدّ إنكار ، يخبر سبحانه عن إيقاعه القيامة وبيان أحوال النشأة الأخرى فيقول عزّ من قائل :

٦٨ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ ...) يعني النفخة الأولى. والصّور قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام. ولعل وجه الحكمة في ذلك أنه علامة جعلها الله تعالى ، ليعلم النّاس آخر أمرهم في دار التكليف ، ثم بعد ظهور هذه العلامة يتجدّد الخلق. فشبّه ذلك بما هو المتعارف في الجيوش من بوق الرّحيل والنّزول. فكأنّه نفخ في الصور للخلق أوّلا لأن يموتوا ، وثانيا لأن يبعثوا ويحشروا (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يموت كلّ ذي روح في السّماوات وفي الأرض من شدّة تلك الصّيحة. ويقال صعق فلان إذا مات بحالة هائلة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أي شاء أن لا يموت بأن تأخّر موته كحملة العرش أو غيرهم كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم‌السلام على ما قال به ابن عبّاس وهو المروي. والآخر من الأقوال أنهم هم الشهداء ، وهناك أقوال أخر في المستثنى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) أي مرة أخرى (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)

١٨٧

أي يقلّبون أبصارهم في الجوانب كالذي بهت لا يدري أين يذهب ولماذا أخرج من مرقده. وفي القمّي عن السّجاد عليه‌السلام أنه سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال : ما شاء الله.

٦٩ ـ (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ...) أي بعدله المزيّن لها والمظهر للحقوق فيها كما أن بالنّور تزيّن الأمكنة المظلمة. وفي القمي عن الصّادق عليه‌السلام في هذه الآية ، قال : ربّ الأرض إمام الأرض. قيل : فإذا خرج يكون ماذا؟ قال : إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ، يجتزءون بنور الإمام عليه‌السلام. وفي رواية أخرى في ذيل حديث بهذا المضمون : وذهبت الظلمة (وَوُضِعَ الْكِتابُ) للحساب. والمراد جنس الكتاب ، أي صحائف الأعمال في أيادي أهلها. وقيل إن المراد بالكتاب هو اللّوح المحفوظ الذي يوضع يوم الحشر في أرض المحشر حتى يحكم على الناس بما فيه (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) لدعوى إبلاغ الأحكام وكلّ ما أمروا به الأمّة ، أو لإلزام الحجة عليهم (وَالشُّهَداءِ) أي الملائكة الموكّلين بالمكلّفين ليشهدوا على صحّة دعوى الأنبياء وتكذيب الأمّة لهم عليهم‌السلام ، أو الشهداء في سبيل الحق لمزيد شرافتهم ورفعة مراتبهم صاروا قرناء النبيّين. وقال القمي : الشهداء الأئمة عليهم‌السلام ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الحج (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) وتكونوا أي أنتم يا معشر الأئمة ، شهداء على الناس (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي يفصل بينهم ويوصّل إلى كلّ ذي حق حقه من غير نقيصة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا بنقص ثواب ولا بزيادة عقاب ، بل المثوبة تعطى بأضعاف الطّاعة والعقوبة بمقدار المعصية وهذا أعلى مرتبة العدل ، ويسمّى بالتفضّل والجود.

٧٠ ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ ...) أي تستوفي كلّ نسمة جزاء عملها إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ولا يبعد أن يكون قوله (وَوُفِّيَتْ

١٨٨

إلخ بيان لقوله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) من الخير والشرّ. وقوله تعالى (أَعْلَمُ) أي حتى من أنفسهم ، لأن بعض الأوقات يشتبه الأمر على الإنسان فإنه يعمل عملا يحسبه حسنة مع أنه سيّئة ، أو صحيحا مع أنّه فاسد بالرّياء والسمعة ونحوهما من مفاسد الأعمال. لكنه عزوجل لا يفوته شيء بحيث لا يحتاج إلى شاهد.

* * *

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

٧١ ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ...) أي يدفعونهم بعنف وشدّة كما هو المراد من الإتيان بالسّوق إلى النار أفواجا متفرقّة أي لا واحدا بعد واحد بل فوجا بعد فوج. ولعل التقدّم والتأخّر يكونان بحسب مراتب الضّلالة والمفاسد وكثرة العصيان وقلّتها أو كبرها وصغرها أو شدة العذاب وخفّته (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي تفتح أبواب جهنّم عند وصول هؤلاء الكفرة إليها. فامّا أن تفتح بطبعها لأن دار الآخرة دار حيوان كما يستفاد من الآيات الكريمة كقوله تعالى (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ

١٨٩

الْحَيَوانُ) ففي كلّ شيء منها حياة أبديّة حتى جماداتها فلها قوّة حسّاسة ، فعلى هذا بمجرّد وصول أهلها إلى بابها تشعر الباب وتحسّ بذلك فتفتح بلا احتياج إلى فاتح كما هو الظاهر من الكريمة ، ويحتمل أن يفتح لهم الموكّلون بها. والحاصل أنه إذا وصلوا بابها (قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي يقول لهم الخزنة ذلك تقريعا وتوبيخا لأن الملائكة يكرهون لقاءهم أشدّ الكراهة حيث إنّهم أعداء الله جحدوا وأنكروا البعث والنّشر وكذّبوا الرّسل والآيات جميعا ولذا يسألون : ألم يأتكم الرّسل الذين بعثهم الله إليكم لطفا منه بالعباد لهدايتكم وكانوا من أهاليكم وعشيرتكم وأهل بلادكم ولسانكم لتتمّ الحجّة عليكم و (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) أي حججه وما يدّلكم على معرفته وتوحيده ووجوب عبادته (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي نعم قد جاءتنا الآيات والرّسل وخوّفونا ذلك اليوم وهذه النار لكنّها تحققت ووجبت علينا كلمة العذاب أي قوله جلّ وعزّ (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وكنّا ممّن تبعه ـ أي إبليس ـ وتركنا الرّسل وما جاءوا به.

٧٢ ـ (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ...) أي أنّها مفتوحة لدخولكم. وظاهر الشريفة أنهم مجازون من أيّ باب يريدون يدخلون. ولعل هذا البيان يدل أنها كانت مفتوحة إلى طبقة واحدة ، وهؤلاء كانوا مشتركين في العذاب وكان عذابهم من نوع وسنخ واحد ، وإلّا فإن طبقاتها مختلفة من حيث شدة عذابها وخفته بحسب اختلاف معاصي العصاة شدّة وضعفا وكثرة وقلّة. ويمكن أن يدخلوهم أوّلا ، وبعد الدّخول يعيّن ويميّز مستقرّهم ومثواهم (خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي لا يزالون فيها ، وهي بئس موضع لأرباب الأنفة والترفع عن الحق والحقيقة. ولا يخفى أنّ إسناد البؤسيّة إلى الجحيم مع ثبوت حقّانيتها لتنفّر الطّباع من مشاهدتها ، بل من

١٩٠

استماع ذكرها ووصفها ، وهذا أمر وجدانيّ لا يحتاج إلى إقامة برهان عليه. ولمّا كان المقصد الأصليّ في هذا المقام وعيد الكفار والمشركين فلذا أخّر وعد المؤمنين وقدّم وعيدهم ، هكذا قيل ولكن أقول في وجه التأخير والله تعالى أعلم : اظنّ أن يكون الوجه من باب تعريف الأشياء بأضدادها فإن قدر الشيء من جميع جهاته يعرف إذا ابتلى الإنسان بضدّه. فمثلا قدر الصّحة ولذتها بتمام اللذة وكمالها يكون بعد ما ابتلي الإنسان بالمرض ، فالصّحة التي حصلت بعد مرضه ألذّ بمراتب من التي تكون غير مسبوقة بالمرض ، واستشمام الرائحة الطيبة وإن كان لذيذا لكنه بعد استشمام الرائحة الكريهة ألذّ ، وكذلك باب رؤية الأشياء الحسنة لرؤية حسن جميل بعد رؤية شخص كريه المنظر ألذ منها قبل ابتلاء الإنسان بمشاهدة هذا الكريه ، وكذلك استماع أمور يتلذّذ ويسرّ الإنسان بها تكون ألذ إذا استمع أوّلا ضدّها! فإذا ذكر أحوال أهل الجحيم وأهوال الجحيم نفسها وكيفيات عذاب المعذّبين ثم بعد ذلك ذكر الجنة ونعيمها وتنعّم أهلها بها كان ذلك أوقع في النفس وأشوق للإنسان إلى الجنة ، وهذا أمر وجداني لا برهاني ، ولذا يحتمل أن يكون وجه تأخير الوعد من الوعيد هذا والله تعالى أعلم.

* * *

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ

١٩١

نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

٧٣ ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ...) أي حثّوهم على المسير إلى مقرّهم الأبدي الذي هيّئ لهم. وقيل في وجه إتيان كلمة (سِيقَ) هنا كما في قضيّة الكفّار ورواحهم إلى الجحيم وجوه ، حيث إن هذه الكلمة تستعمل في سوق الشيء بعنف وشدّة ، وهذا المعنى في المتّقين يشكل ، ولذا ذكروا وجوها لا وجه لها لأن السّوق ليس في معناه العنف والإزعاج وإنّما أشربوا هذا المعنى فيه بقرينة المورد وإلّا فمعناه بحسب اللّغة حثّ الحيوان على السّير ، يقال (ساق) الغنم أي حثّه على السّير من خلفه بخلاف (قاده) وهو معنى يصحّ في المقامين بلا حاجة إلى التكلّفات التي لا فائدة فيها إلّا تضييع العمر أعاذنا الله منها. نعم فرق بين الحثّ في الموردين ، فإن الحثّ في الكفار توبيخيّ وتوهينيّ ، بخلاف الحثّ في المتّقين فإنه حثّ تشويق وتكريم إلى جنّات النعيم (زُمَراً) أي جماعة كثيرة تعقبهم جماعة أخرى كذلك بلا فاصل (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) الكلام في فتحها مرّ آنفا في الآية السّابقة على هذه الشريفة (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) أي بوّابوها من الملائكة الذين تسرّ الناظر إليهم رؤيتهم بحيث لو لم تكن نعمة غيرها لكفاهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) بشارة بالسّلامة من المكاره وطبتم نفسا أو طاب لكم المقام أو طهّرتم من الذّنوب وجواب الشرط مقدّر ، أي كان ما كان من الكرامات لهم.

٧٤ ـ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ...) أي وعده بالبعث والثواب ، أو الذي وعدنا على ألسنة الرّسل في قوله (أَلَّا تَخافُوا وَلا

١٩٢

تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنّة ، وعبّر عنه بالإرث لأن الجنة كانت في بدء الأمر لآدم فلمّا عادت إلى أولاده كان ذلك سببا لتسميتها بالإرث ، أو لأن الوارث يتصرّف فيما يرثه كيف شاء من غير منازع ولا مدافع ، فكذلك هؤلاء يتصرّفون في الجنة كما يشاءون ، والمشابهة علّة لحسن المجاز (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ننزل من الجنة كلّ مكان نريده ونسكن فيها. وهذا إشارة إلى كثرة قصورهم وسعة نعمهم ، والأجر هو الجنة.

٧٥ ـ (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ ...) أي محدقين (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ذاكرين له بوصف جلاله وإكرامه تلذّذا به ... وفيه إشعار بأن منتهى درجات العلّيين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بين الخلق به (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) والقائل هو الملائكة أو المؤمنون على ما قضي بينهم بالحق ، والظاهر هم المؤمنون.

١٩٣
١٩٤

سورة المؤمن

مكية إلّا الآيتين ٥٦ و ٥٧ وآياتها ٨٥ نزلت بعد الروم.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

١ ـ (حم ...) قد سبق تأويله بعنوان الحروف المبتدأة في أوائل السور فلا نعيدها لأنه تكرار بلا فائدة.

١٩٥

٢ و ٣ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ...) أي العزيز في سلطانه ، والعليم بكلّ شيء (غافِرِ الذَّنْبِ) أي للمؤمنين ، وهو للدّوام ، فالإضافة حقيقيّة فصحّ وصف المعرفة به وكذا (قابِلِ التَّوْبِ) مصدر التّوبة (شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) أي الفضل والإنعام أو الغنى. وقد وصف سبحانه نفسه بما هو جامع للوعد والوعيد والترهيب والترغيب (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع للجزاء. ولمّا علم أن تنزيل هذا القرآن من عند الله المتّصف بهذه الصّفات فيلزم اتّباعه والانقياد له ولا ينبغي الجحد وإنكاره ، فلذا يقول سبحانه ما قال في كتابه :

٤ ـ (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي ما يطعن في القرآن إلّا الذين كفروا وأنكروا نعم ربّهم وجحدوها. والمراد بهذه المجادلة هو الجدال بالباطل ، أي دفع الحجج والبراهين القرآنيّة وإدحاض الحق وإطفاء نوره كما قال تعالى (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) لا الجدال بمعنى البحث لحلّ مشاكل القرآن وبيان متشابهاته واستنباط حقائقه وقطع شك أهل الزيغ والنّفاق به والجدّ في فهم غوامضه ، فإنّ هذا من أعظم الطاعات ، ولما كان أهل الجدل والعناد مع وفور نعمهم واستغراقهم فيها مصرّين على كفرهم ونفاقهم ، هدّدهم بقوله (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي لا يخدعنّك أسفارهم في بلاد اليمن والشام للتّجارات المربحة واستفادات المنافع الكثيرة ، فإن إمهالي لهم ليس لإهمال عقوبتهم بل لازديادها ، فإنّي لبالمرصاد لهم ، وإنهم بعد أن صاروا مغمورين ومرفّهين بالنّعم فإنى آخذهم أخذ عزيز مقتدر كما عملنا بمن كان قبلهم من الأمم.

٥ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي كذّبت قوم نوح نوحا (وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي الطوائف الأخر بعد قوم نوح كذّبوا رسلهم كقوم عاد وثمود وأصحاب الأيكة (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ) أي قصدوا

١٩٦

قتله ومحاربته (لِيَأْخُذُوهُ) أي يؤذوه ويقتلوه فكأن الرسول عليه‌السلام يفرّ منهم ، وربما يتعقّبونه ويؤخذ فيقتل (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) يعني بما لا حقيقة له مثل قولهم (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) ونحو ذلك من الأباطيل (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي ليزيلوا الحق عن مقرّه ويحقّوا الباطل في مقرّه (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فانظر يا محمد (ص) حتى تعرف كيفيّة عقابي إيّاهم. وإن أصرّ قومك على الجدال والكفر بآيات الله فأفعل بقومك ما فعلت بهم بل أزيد عليهم لأنك أشرف المرسلين ، وأذى الأشرف عقابه أزيد وأشدّ. ثم قال سبحانه :

٦ ـ (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ...) أي كما وجبت العقوبة على الأمم السّابقة لتكذيبهم أنبياءهم ، وحقّت : يعني وجبت كلمة ربّك أي حكمه الحتمي بالعقاب والعذاب (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك بذاك الملاك من كفرهم وتكذيبهم إيّاك (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) هذا بدل الكلّ من الكلّ عن (كَلِمَةُ رَبِّكَ) يعني كذلك حكم ربّك (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) وقريش هم المكذّبون لك.

* * *

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ

١٩٧

مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

٧ ـ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ...) كأنّ هذه الشريفة في مقام دفع دخل مقدّر ، بيانه أن قريش لعلهم كانوا يزعمون أنهم إذا لم يؤمنوا فلا يطاع الرّسول ولا يعبد الله. وهذا يصير نقصا في ناحية الله تعالى ، ونبذا لدينه. فأراد سبحانه أن يفهمهم اني لا أحتاج إلى عبادة أحد ولا إلى عمل عامل ، وكلّ من أطاعني فيرجع نفعه إليه مضافا إلى أن مطيعيّ وعابديّ ومسبّحيّ وحامديّ متجاوزون حدّ الإحصاء والعدّ ، منهم (الَّذِينَ) ، الآية والحاملون لعرش العظمة هم ثمانية من الملائكة المقرّبين (وَمَنْ حَوْلَهُ) من الكروبيّين (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإكرام. وكلمة (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حال من ضمير (يُسَبِّحُونَ) أي متلبّسين بحمد ربّهم (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدّقون ويعترفون بربوبيّته ووحدانيّته (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فإذا كان حملة العرش والكروبيّون يسبّحون الله ويقدّسونه ويؤمنون به مع عظمتهم وكثرتهم ، فجدال أهل الشّرك وعدم إيمانهم وترك عبادتهم مع كونهم أخسّ المخلوقات وأرذلها وأدناها لا يبالي به ولا يقام له وزن ولا قيمة (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) هذه الجملة حال من فاعل (يَسْتَغْفِرُونَ) أي قائلين (ربنا) إلخ فمحلّها نصب. وقدّمت الرحمة لأنها الغرض الأصلي هنا. وحاصل المعنى : أنّه لمّا كانت رحمتك واسعة بحيث تشمل الأشياء طرّا ، وعلمك محيطا بكلّ شيء ، فلازمهما والتفريع عليهما أن يدعو الملائكة بقولهم (فَاغْفِرْ) .. وهذا مقتضى سعة الرّحمة (لِلَّذِينَ تابُوا) أي إذا علمت منهم التوبة لأنها أمر باطنيّ لا يعلمها إلا

١٩٨

علّام الغيوب ، فطلبهم التوبة متفرّع على إحاطة علمه سبحانه (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي مشوا على الجادة المستقيمة والدين الحق. ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى أن التوبة لا بدّ وأن يتعقّبها العمل الصالح ، وإلّا فلا يفيد مجرّد التوبة فإن التوبة من لوازم الإيمان ،! والإيمان لا يقبل إلا مع العمل الصّالح. ولذا نوعا قيّد قبوله به كما في الآيات الشريفة (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) هذا تأكيد لما سبق ، ويفيدنا أن إسقاط العقاب عند التّوبة تفضّل من الله إذ لو كان واجبا من باب استحقاق التائب فلا حاجة الى مسألتهم منه تعالى بل كان يفعله الله لا محالة.

٨ ـ (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ...) أي مع توبتهم وقبولها ووقايتهم النّار فحينئذ أدخلهم (جَنَّاتِ عَدْنٍ) ، إلى قوله : (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) وقد سألوه سبحانه دخول هؤلاء مع دخول التائبين ليتمّ سرورهم ولتعظيم التائبين وإعظام شأنهم ، ولتشويق الناس إلى التوبة والاستغفار (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يمتنع عليه مقدور (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ومن ذلك الوفاء بالوعد.

٩ ـ (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ...) أي عقوباتها ، وتسميتها بالسيّئات على المزاوجة كما قال (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ويحتمل أن يكون الكلام على تقدير المضاف ، أي الأعمال السيئة ، وهذا الكلام يصير من باب ذكر العام بعد الخاص لأن قوله تعالى قبل ذلك (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) يتناول عذاب جهنم فقط ، وعذاب السيئات يشمل ذلك وعذاب الموقف والقبر ومواقف يوم القيامة ، أي وجنّب جميع أهل الإيمان الأعمال السّيئة وجزاءها يوم القيامة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصونه من عقوبات أعماله وجزاء سيّئاته يوم الجزاء فقد رحمته ، لأنّ من انصرف عنه شرّ معاصيه فقد أنعم الله تعالى عليه بأحسن النّعم وأعلاها (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) في الكافي مرفوعا : إن اللهعزوجل

١٩٩

أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطي خصلة منها جميع أهل السّماوات والأرض لنجوا بها ، ثم تلا هذه الآية. وها هنا نكتة نستفيدها من المقام ومن غيره وهي أن الأحسن في الدعاء أن يكون مبتدأ بقول : ربّنا وربّ. بيان ذلك أنّنا نرى المقرّبين من الأنبياء. والملائكة هكذا يدعون ، قالت الملائكة (رَبَّنا وَسِعْتَ) الآية وقال آدم عليه‌السلام (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) وقال نوح عليه‌السلام (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) وقال أيضا (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) وقال أيضا (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وقال إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وقال أيضا (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ، الآية وقال أيضا (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) وقال موسى عليه‌السلام (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) وقال سليمان عليه‌السلام (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) ، الآية وقال عيسى عليه‌السلام (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) حتى أنه تعالى أمر نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعوه هكذا (قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) والمؤمنون قالوا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) وكرّروا هذه اللفظة في الآية خمس مرّات. فيظهر أنه تعالى يحبّ أن يدعوه العباد هكذا لأن الدعاء يكون أقرب إلى الإجابة ، وأنسب للداعي ، ولو لا ذلك لما أمر نبيّه ان يدعوه حينما يدعوه بهذه اللفظة. ووجه الأنسبيّة يمكن أن يكون أنّه تعالى لطفا بالعباد ومنّة عليهم خلقهم من كتم العدم المحض والنفي الصّرف إلى عالم الوجود ، وبعد ذلك فالذي هو العمدة والمهم ، بل أهم الأشياء إلى المخلوقين هو تربيته سبحانه لهم ، وإلّا فإن مجرد إيجادهم بلا تربيتهم أمر عبث ، بيان ذلك أن مجرّد إيجاد النّطفة مثلا لو لم يربّها حتى تصير علقة والعلقة لم يربّها إلى كونها مضغة أو المضغة لو يخلّيها في تلك المرحلة ولم يربّها إلى أن تترقّى بحيث يوجد فيها عظام ، أو لو لم يكس العظام لحما أو لم ينفخ فيها الرّوح إلى أن تكمل الخلقة وتترقّى مرتبة مرتبة حتى صارت قابلة لأن يثني جلّ وعزّ

٢٠٠