الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

٢٨ ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ...) قرآنا حال مؤكّدة لهذا من قبيل : جاءني زيد رجلا صالحا أو إنسانا عاقلا و (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) ليس فيه اختلاف وانحراف عن الحقّ ، بل هو طريق موصل إلى الحق والحقيقة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكون هذا القرآن على صفة الاستقامة والموصليّة إلى الحق بلا اعوجاج فيه ولا ميل عن الحق إلى الباطل لأن يجتنبوا الكفر والطغيان ويأتوا بما فيه إرضاء الله تعالى وطاعته. ثم يأتي سبحانه بمثل لعبدة الأصنام وأهل التوحيد فيقول عزّ من قائل :

٢٩ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ ...) هذا مثل جاء به سبحانه للمشركين الذين يعبدون الآلهة المتعدّدة ، فحالهم كحال رجل قد اشترك فيه (شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي موال كثيرون وهم شركاء في ملكيّته وبينهم تنازع واختلاف كثير يتجاذبونه ويتداولونه في مهامّهم المختلفة ، فهذا المولى يأمره والآخر ينهاه والرجل متحيّر في أمره ، وإذا احتاج العبد لأمر من أموره فكلّ واحد يردّه إلى الآخر فهو لا يعرف أيّهم أولى بأن يطلب رضاه ، وأيّهم أولى بأن يقوم بحوائجه حتى يأتي إليه ويطلبها منه ، فهو لهذا السّبب في عذاب دائم ما دامت حياته ، وفي تعب شديد. والشكس سوء الخلق والتّباغض. وكذلك المشرك متحيّر في الآلهة فأيّهم أولى بأن يعتكف بخدمته ويقيم بعبادته وطاعته وأيّهم أولى بأن يعتمد بربوبيته ويعتقد بآلهيته ومن أيّهم يطلب إنجاح طلبته وقضاء حاجته ولأيّ منهم يتوجه ، فلا يرى أثرا من نجح طلبه فيتصوّر أنه قصّر في الخدمة ولذا لا يعتنى به فلا زال متحيّرا في أمر رزقه ومعاده ومعاشه ، بخلاف الموحّد (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) أي خالصا له ويخدمه على سبيل الإخلاص ، وذلك المخدوم يعينه على مهمّاته الدنيويّة والأخروية بلا أيّ مسامحة في أموره ، فالعبد يخدم مولاه ودائما يكون في طاعته وهذا مثل للموحّد. أمّا هذا المثل فضربه الله في قبح الشّرك وحسن التوحيد. ثم قال سبحانه : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي لا

١٦١

يستويان. والاستفهام للإنكار ، إذ رضا الواحد ممكن ورضا الجماعة المختلفة ممتنع عادة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) المستحق للحمد والثناء ، وهو الله حيث إنه ضرب المثل الذي ألزم العباد الحجّة وليس له شريك في ذاته ، وهو المنعم الحقيقي. وقيل : الخبر بمعنى الأمر ، أي احمدوا الله على نعمه التي لا تحصى. ومنها تلك الأمثال في كتابه فإنه بها يهتدي المهتدون وتتم الحجّة على المشركين والجاحدين (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة نعمة التوحيد ، ولفرط الجهالة يشركون به ويجعلون له شركاء من الملائكة والبشر والجماد. ونقل بأن كفار مكة كانوا يقولون نتربّص ريب المنون أي نترقب وننتظر موت محمد حتى نستريح منه ومن همّه فنزلت الكريمة : (إِنَّكَ مَيِّتٌ).

٣٠ و ٣١ ـ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ...) أي كلكم في صراط الموت والفناء وترقّب الفاني لموت فان مثله ، وشماتته به لا معنى لها ، حيث إنّ الراجي لموت غيره يحتمل أن يموت قبله بزمان طويل ومدّة مديدة (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي تحتجّ عليهم بأنك قد بلّغت رسالات ربّك وأنّهم كذّبوا ، ويعتذرون بما لا يجدي نحو قولهم (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) وقولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) وهل هذه الخصومة تكون بين المسلمين والكفّار أو أعم من كل محق ومبطل وظالم ومظلوم؟ قال أبو العالية هذه الخصومة بين أهل القبلة ، وقال أبو سعيد الخدري في هذه الآية كنا نقول ربّنا واحد ونبيّنا واحد وديننا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين وشدّ بعضنا على بعض بالسّيوف قلنا نعم هو هذا. وقال ابن عباس : الاختصام بين المهتدين والضّالين والصّادقين والكاذبين. وقال القمّي يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن غصبه حقّه.

* * *

١٦٢

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))

٣٢ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ ...) هذه الكريمة يحتمل أن تكون مؤيّدة للقول بأن الاختصام في الآية التي قبلها بين الصّادقين والكاذبين فإن الآيات الشريفة يفسّر بعضها بعضا. وعلى كلّ حال إنّه تعالى يبيّن في هذه الكريمة نوعا آخر من قبائح أفعال المشركين وهو أنهم أثبتوا له تعالى ولدا وشركاء. والاستفهام إنكاريّ ، أي لا أحد أظلم ممّن كذّب (عَلَى اللهِ) بنسبة الولد والشريك إليه (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي القرآن (إِذْ جاءَهُ) حين أتاه فأنكره بلا تروّ فيه ، يعني بما جاء به رسول الله من الحق وولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام فالله تعالى أردف تكذيبهم بالوعيد والتهديد بقوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي مقاما ومستقّرا لهم في جهنّم وبئس المصير والمأوى.

١٦٣

٣٣ ـ (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ...) أي أتى بالقرآن فإن القرآن كلام إلهيّ نزل على محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وآله وتمامه صدق وحقّ جاء النبيّ به (وَصَدَّقَ بِهِ) أي خاتم الأنبياء ومن تبعه. وعن ابن عباس ومجاهد وأبي نعيم : إن المراد (بصدق به) علي بن أبي طالب. وفي حديث ذكره المخالف والمؤالف أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الصّديقون ثلاثة : حزبيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النّجار صدّيق آل يس ، وعلي بن أبي طالب صدّيق آل محمد صلوات الله عليهم (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي المصدّقون هم المتقون العاملون بما أمروا به والتاركون لما نهوا عنه. ثم إنه تعالى منّ عليهم بما أعدّ لهم من النّعم فقال :

٣٤ و ٣٥ ـ (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) من النّعم في الجنّة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما ينالون من جهة لطفه (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) ما ذكر من حصول ما يشاءونه بإزاء إحسانهم الذي فعلوه في الدّنيا وأعمالهم الصالحة أعطاهم الله ذلك كله من فضله (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) اللّام من صلة قوله سبحانه (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقيل هو لام القسم ، والتقدير : والله ليكفّرنّ ، فحذفت النّون وكسرت اللّام ، أي أسقط الله عنهم عقاب الشّرك والمعاصي التي فعلوها قبل ذلك بإيمانهم وإحسانهم ورجوعهم إلى الله سبحانه والإتيان بفعل التفضيل ليدلّ على أنّه إذا كفّر السّيّء فغيره أولى به فهو يكفّر الأسوأ بمنّه وكرمه ورحمته (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يعادل حسناتهم بأحسنها فيضاعف أجرها. ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما ذكر معايب آلهتهم الباطلة كانوا يخوّفونه بأنّ آلهتنا قد يضرّونك بضرر لا يجبره شيء ولا يكفيك أحد إذ قالوا نخاف أن تخبّلك آلهتنا لسبّك إيّاها ، فنزلت الآية الكريمة التالية :

٣٦ و ٣٧ ـ (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ...) أي : نعم فإنه سبحانه

١٦٤

كاف لعباده ولا يحتاج العباد إلى غيره تعالى. فالاستفهام إنكاريّ والنتيجة هو الإثبات لأن نفي إثبات وإن شئت قلت إنّ الاستفهام تقريريّ. ويمكن أن يراد من العبد خصوص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويمكن أن يراد الجنس كما هو الظاهر (وَيُخَوِّفُونَكَ) أي عبدة الأصنام يهدّدونك (بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) بآلهتهم ، والتعبير (بِالَّذِينَ) مع أنّه لذوي العقول يحتمل أن يكون باعتبار الغلبة لأن بعض معبوديهم من ذوق العقول كعيسى وعزيز والملائكة ، فبلحاظ هؤلاء لشرافتهم عبّر بالذي هو مستعمل في ذوي العقول وإمّا لأن «الذين» استعماله غالبا في ذوي العقول لا أنّه منحصر فيها ، والحاصل أن تخويف أهل مكة للرّسول بالأصنام كاشف عن غاية غوايتهم ونهاية جهالتهم وضلالتهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من يخلّيه الله وضلاله فلا يقدر أحد أن يهديه إلى سبيل الرّشاد ، بيان ذلك أن الله تعالى لما خلق الخلق بمقتضى حكمته وكلّفهم بتكاليف فيها صلاح لهم على ما اقتضت الحكمة والمصلحة للنفس الأمريّة أي الواقعية فأرسل رسلا مبشّرين ومنذرين لهدايتهم وإراءتهم طريق الغيّ والرشد لطفا منه على عباده حيث إن العباد ليست لهم الأهلية لأن يتفاهموا ويتشافهوا معه تعالى بلا واسطة ، ولبيان هذا الأمر مقام آخر في الكتب الكلامية ولسنا في مقام تفصيله في كتابنا هذا. والحاصل أن الرّسل وسفراء الله صلوات الله عليهم ما قصّروا في إبلاغ رسالاتهم وما أمرهم الله بإبلاغه إلى الناس ، والله تعالى ما اضطرّهم ولا أجبرهم على قبول أوامره ونواهيه بل جعلهم مختارين في القبول والردّ أيضا للحكمة ، ثم أتمّ الحجّة عليهم بواسطة الرّسل ، فإذا اختاروا سبيل الغيّ والضلال بسوء اختيارهم حسدا وجحودا بحيث قال بعضهم : (اللهمّ إن كان هذا فأرسل علينا حجارة من السّماء أو أمتنا بعذاب أليم) من عندك فهو سبحانه استجاب دعاءه وجعله عبرة للآخرين ، ومع ذلك ما رجعوا عمّا كانوا عليه من الكفر والجحود والشرك فلم يظلمهم سبحانه إذ يعذّبهم. ومعنى إسناد

١٦٥

الضّلالة إليه تعالى بهذا الاعتبار يعني أنه يخلّيهم وضلالتهم وهدايتهم فمن شاء فليكفر ومن شاء فليشكر بقبول قوله تعالى على لسان سفرائه ، فإنّهم لا ينطقون عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى. (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أي يهديه ويلطف به لكونه أهلا للّطف والرحمة ، لأنّه بعد إرسال الرّسل وإتمام الحجة عليه يؤمن بالله والرسل ويترك سبيل الجحد والعناد والغيّ والنفاق ، فلا يقدر أحد أن يضلّه عمّا هو عليه إذ لا رادّ لتوفيق الله وفعله (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) غالب قادر لا يقدر أحد على مغالبته (ذِي انْتِقامٍ) صاحب قوّة قاهرة قادر بها على الانتقام من أعداء دينه والمنكرين له ولرسوله. وهذا الاستفهام تقريريّ وفي هذه الآية وعيد لكفار مكة ومن يحذو حذوهم من المشركين ، بأنه سبحانه عمّا قريب ينتقم منهم. كما أن فيها وعد للمؤمنين بالنّصر ثم أنه تعالى لإيضاح البرهان على تفرّده في الألوهية ووحدته في الخالقية يقول :

* * *

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

٣٨ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي الخالق

١٦٦

للسّماوات والأرض هل يعقل أن يكون غيره تعالى (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي لأجابوا بلا تردّد : الله تعالى هو الخالق ولا يقدرون أن ينكروا مع كمال جحدهم وعنادهم لوضوح البرهان على تفرّده في الخالقيّة وليس له تعالى شريك في هذا الأمر بحيث لا ينكر أحد. وإذا أخذت الاعتراف من أهل الشّرك والنّفاق بتفردي بالخالقيّة اسألهم شيئا آخر (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام وغيرها من الآلهة (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) يعني اسألهم هل يدرون بأن آلهتهم يقدرون بأن يدفعوا عنّي ضررا توجّه إليّ من قبل الله إن أرادني بضرّ ، أو هل لهم القدرة والاستطاعة أن يمنعوا عنّي رحمة الله إذا أرادني بها كالصّحة والغنى والأولاد وغيرها فلا بدّ أن يكون الإقرار منهم بعدم قدرتهم على ذلك وعجزهم. فتركهم عبادة القادر المطلق وخالق العالم وعبادة الجماد الذي هو عاجز مطلق ، كاشف عن غاية السّفاهة وكمال الجهالة. ولا يخفى أن (الكاشفات) و (الممسكات) اللتين هما من صيغ التأنيث بعد قوله تعالى قبلهما (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) تنبيه على نهاية ضعف الآلهة الباطلة وكمال عجزها عن كشف الضرّ وإمساك الرّحمة. بيان ذلك أن الأنوثة من باب اللين والرّخاوة كما أن الذكورة من باب الشدّة والصّلابة ، وبالمقابل فإن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لما سألهم عن ذلك عجزوا عن الجواب ولم يستطيعوا جوابا ، فلمّا أفحمهم قال الله سبحانه (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كاشفا للضّر ومصيبا بالرّحمة (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي به يثق الواثقون لعلمهم بأن الكل منه. ولمّا أورد الله عليهم الحجّة الواضحة قال على سبيل التهديد الشّديد :

٣٩ و ٤٠ ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ...) أي على قدر تمكّنكم وجهدكم وطاقتكم في إهلاكي وتضعيف أمري (إِنِّي عامِلٌ) مقدار وسعي واستطاعتي في تقدّم مرامي ومقصدي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ

١٦٧

يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) فعمّا قريب تدرون من المغلوب في الدارين. وقد أخزاهم الله يوم بدر ، فإنّ خزي أعدائه دليل غلبته (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم وهو عذاب النار وهي أشدّ العذاب. ولمّا عظم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إصرار الكفرة على جحدهم وإنكارهم لله ولرسوله والكتاب الذي أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّى قلبه فقال تعالى :

* * *

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤))

٤١ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ...) أي لمصالحهم ومعاشهم ومعادهم لأنه متضمّن لها جميعا ، متلبسا بالحق ومقرونا به لأنّه مناط لمصالح المعاش والمعاد (فَمَنِ اهْتَدى) بالقرآن بأن وفّق للعمل بأوامره ونواهيه بعد أن وفّق للتفكّر في براهينه وحججه ودلائله الواضحة

١٦٨

(فَلِنَفْسِهِ) أي يعود نفعه إليها (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لأنّ ضرره لا يتعداها ووباله عليها (ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) من قبل الله حتى تجبرهم على الهدى وإنما عليك البلاغ المبين ، على أنّ مبني التكليف على الاختيار لا على الإجبار. ثم إنّه تعالى تنبيها للمشركين على قدرته الكاملة على البعث والنشور الذي كانوا يستنكرونه تمام الاستنكار وكان من عقيدتهم السّخيفة أنّهم قالوا : نحن نحيا ونموت وما كنّا بمبعوثين قال سبحانه وتعالى :

٤٢ ـ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ...) أي أن الذي يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها هو الله سبحانه وهو العالم بأوقات الانقضاء حيث إنه الجاعل والمقدر وعلمه مختصّ بذاته المقدّسة لا تعلم نفس متى تموت وبأيّ أرض تموت وتدفن إلّا من ألهمه الله حين موته وعرّفه أرضه التي يموت فيها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي النفس التي تنام ولا يخفى أن للنّفس إطلاقين تارة تطلق ويراد بها مجموع الرّوح والبدن ، وأخرى تطلق ويراد بها الروح فقط. والمراد بها في الشريفة (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) إلخ هو الأولى بقرينة جمعها على الأنفس. وأمّا الثانية فتجمع على النفوس وقد تطلق ويراد بها ما يقابل الرّوح والبدن أي ما يعقل بها. ويميّز بينها وبين الرّوح نسبة العموم والخصوص المطلق بمعنى أن زوال الرّوح عن البدن مستلزم لزوال النفس الناطقة منه ولا عكس ، فإن النائم روحه موجود فيه ولكنّ نفسهم زالت ولذا لا يعقل ولا يميّز شيئا وهذه تسمّى بالنفس الناطقة. هذا ويقالى إنّ النفوس قسمان قسم يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلّقها عنها وتصرّفها فيها ظاهرا لا باطنا ، فيرسلها (أي النائمة) إلى بدنها عند اليقظة. وهي التي لم تمت في منامها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي الوقت المضروب لموته. والقسم الآخر هي النفس التي يقبضها ويقطع تعلّقها عن الأبدان وتصرّفها فيها ظاهرا وباطنا ، وهي التي يقول سبحانه عنها

١٦٩

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي لا يردّها إلى البدن ولا يرسلها إليه فقدّر موتها في نومها. والحاصل أنّ المقصود من الآية المباركة إتيان الحجة وإتمامها على المشركين ببيان قدرته حتى يعرّفهم بأنه المستحق للعبادة دون آلهتهم العجزة الّتي لا تسمن ولا تغني شيئا ولا تنفع ولا تضرّ. وفيها إشعار في تشبيه الهداية والإيمان بالحياة واليقظة ، والكفر والضّلال بالموت والنوم. فقال سبحانه إنّه تعالى بقدرته الكاملة يتوفّى الأنفس حين موتها وعند نومها. قال ابن عباس في بني آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس بها التعقّل والتميّز ، والروح بها التنفس والحركة. فإذا نام الإنسان قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ، وإذا مات الإنسان قبض الله روحه أيضا. ويؤيّده ما رواه العيّاشي عن الباقر عليه‌السلام قال : ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السّماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب. ولعل مراده (ع) : علاقة كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الروح وقضى عليه بالموت أجابت الروح النفس ، وإن لم يأذن أجابت النفس الرّوح ، وهو قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية فما رأت في ملكوت السّماوات فهو ممّا له تأويل ، وما رأت فيما بين السّماء والأرض فهو مما يخيّله الشيطان ولا تأويل له. ونسبة التوفّي إلى الملك في بعض الآيات باعتبار المباشرة وإلّا فالمتوفّي هو الله عزوجل. والنفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحانيّ ، أي من سنخ عالم الرّوحانيّات لا العناصر. إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة. ففي وقت الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وعن باطنه. وأمّا في وقت النّوم فإنه ينقطع ضوؤه عن الحواس وظاهر البدن من بعض الجهات ، ولا ينقطع عن الباطن. فالموت والنوم متشابهان ولذا يقال : النوم أخو الموت. إلّا من بعض الجهات كما أشرنا فإنّ الموت هو انقطاع تام والنوم هو الانقطاع الناقص فيشتركان في كون كلّ واحد منهما توفّيا للنّفس. وهذا التّدبير العجيب الذي تحيّرت العقول دونه لا يمكن صدوره

١٧٠

إلّا عن قادر مطلق وحكيم كامل في حكمته وهذا هو المراد من قوله سبحانه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي الإحياء ، والإماتة ، والنوم ، واليقظة ، آيات على أن البعث والنشور أمر هيّن في غاية السّهولة لأهل التفكّر والتدبّر.

٤٣ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ ...) أي بل اتّخذوا من دون الله شفعاء تشفع لهم عند الله. ولمّا اعتذر المشركون بأنّا لا نعبد هؤلاء الأصنام باعتقاد أنها آلهة وإنما نعبدها لأجل أنّها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقرّبين لأجل الشفاعة. فأجابهم الله بقولهم (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي هل تتوقّعون الشفاعة من الأصنام والأوثان والجمادات (قُلْ) يا محمد لهم : هل يشفعون (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي كما ترونهم جمادات لا تقدر ولا تعقل ولا تعرف عبدتها ولا تميّز شيئا ، فلا يعقل أن يشفع بشيء من هذه صفته كما تشاهدونهم.

٤٤ ـ (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ...) أي لا يشفع أحد إلّا بإذنه ، ولا يملك أحد الشفاعة إلّا بتمليكه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والّذي على هذه الصفة لا يقدر أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه ، فإن أزمّة الأمور كلّها بيده (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في القيامة فلا ملك حينئذ إلّا له.

* * *

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ

١٧١

وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

٤٥ ـ (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ...) قال ابن عباس : كان المشركون إذا سمعوا قول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) نفروا من هذا القول حيث إنهم كانوا يقولون بالشريك فيشمئزون أي تقشعرّ قلوبهم وتنقبض وجوههم من استماع القول بالتّوحيد لاعتصار قلوبهم بخلاف ذكر آلهتهم كما أخبر سبحانه عنهم (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لذكر آلهتهم أي لفرط افتتانهم وحبّهم بها. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أنّه سئل عنها فقال : إذا ذكر الله وحده بطاعة من أمر الله بطاعته من آل محمد صلوات الله عليهم اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وإذا ذكر الذين لم يأمر الله بطاعتهم إذا هم يستبشرون. فالآية الشريفة وكلام الإمام عليه‌السلام مشعران بغاية عناد المشركين ونهاية جحودهم لقبول التوحيد. ولا شبهة في أن أعداء الله كما يشمئزون بذكره تعالى وتوحيده ، هكذا يشمئزون بذكر أوليائه كالنبيّ وآله الأطهار. ولمّا كان الكفرة لم يتأثروا من ذكر أدلّة التوحيد والمواعظ بل أضافوا على عنادهم عنادا ، تحيّر النبيّ صلوات الله عليه وآله في أمرهم وشأنهم فأمره الله تعالى بأن يتوجّه اليه ويدعوه بما علّمه :

٤٦ ـ (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) فلما كان أحسن

١٧٢

الأدعية وأقربها إلى الاستجابة الدّعاء الذي كان مفتتحا بذكر الله تعالى وبأوصافه الحسنة وثنائه الجميل وحمده الكثير فلذا علّمه الله تعالى بذلك الأمر وبهذه الكيفيّة فقال (قُلِ اللهُمَ) أي يا محمد قل وادع ربك قائلا (اللهُمَ) أي يا الله يا خالق السّماوات والأرض ومنشأهما ويا (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) أي عالم بما غاب علمه عن الخلائق جميعا وبما شهدوه وعلموه ، أحكم بين العباد في القيامة (فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي في أمر الدّين والدّنيا حيث يقضى بينهم بالحق في الحقوق والمظالم فاحكم بيني وبين قومي بالحق. وفي هذا كان بشارة للمؤمنين بالظفر والنصر لأنه سبحانه انّما أمره به للإجابة لا محالة. وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال : لأعرف موضع آية من كتاب الله لم يقرأها أحد قطّ فسأل الله شيئا إلّا أعطاه ، قوله (قُلِ اللهُمَ) الآية والفاطر هو الموجد لشيء كان مسبوقا بالعدم الأزلي بخلاف الجاعل والخالق. ولعلّ وجه إيثار هذه اللفظة عليهما هو هذا والله العالم. ثم إنه تعالى لازدياد المبالغة في تهديد المشركين يقول :

٤٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ ...) أي زيادة عليه ، يعني ما في الدّنيا وضعف ما فيها ، لو كان لهم وملكوه لجاؤوا به و (لَافْتَدَوْا بِهِ) ليخلّصوا أنفسهم (مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) أي شدّته. وجملة (لَافْتَدَوْا) جزاء الشرط (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يوم بعثهم وحشرهم الذي ينكرونه أشدّ الإنكار فهذا متضمّن لوعيد شديد وإقناط كلّي لهم من الخلاص (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب ما لم يكونوا ينتظرونه حيث إن مثل هذا العذاب ما كان يخلج ببالهم. قال السّدي ظنّوا أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات وشرورا وبدت قبائح ، وكما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في صفة المكافأة : فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فكذلك

١٧٣

حصل لهم مثله في العذاب.

٤٨ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ...) أي يوم القيامة وظهور السيّئات بناء على تجسّم الأعمال ظاهرا وبناء على عدمه أيضا يبدو لهم في صحائفهم أو يبدو جزاء أعمالهم التي فعلوها في الدنيا (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم من كل جانب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي ما كانوا يقبلونه لأنّهم ينكرون البعث والنّشر وكلّ ما جاء به النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والفرق بين (حاقَ) وأحاط أن حاق هو الإحاطة من جميع الجوانب السّت بخلاف أحاط. ثم أخبر سبحانه عن شدّة تقلّب الإنسان من حال إلى حال وعن عقائده الفاسدة فقال عزوجل :

* * *

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

٤٩ ـ (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ...) هذه المناقضة والمعاكسة التي أضافها

١٧٤

الله تعالى إلى الإنسان في هذه الكريمة يلفت النظر إلى أن المراد هو الإنسان النّوعي الذي يشمل أهل مكة وغيرهم ، ولكن يظهر من بعض المفسّرين إن المراد به هو خصوص أهل مكّة. بيان ذلك أن هذه الشريفة عطف على سابقتها وهي قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) وإيثار (الفاء) على الواو العاطفة لمسبّبيه هذه الآية المعطوفة عن المعطوف عليها معنى ، وما بينهما جملات معترضات لتأكيد إنكارهم ، ولغيره من الجهات. وحاصل المعنى أن كفار مكة لما اشمأزّوا من كلمة التوحيد وكانوا يفرحون إذا ذكرت آلهتهم ، ومع ذلك كلّه لمّا أصابتهم مصيبة لجأوا إليه سبحانه على ما أخبر الله تعالى من تعاكس أحوالهم وتقلّبهم. والمراد (بالضّر) هو الفقر والفاقة والقحط والغلاء والمرض ونحوها من الشدائد التي لا يقدر على دفعها ورفعها إلّا الله سبحانه. فإذا مسّهم الضرّ ، أو مسّ الإنسان النوعيّ (دَعانا) أي فزعوا إلينا لكشف ضرّهم (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أي أعطيناهم سعة في المال أو العافية في البدن تفضّلا منّا لا على وجه الاستحقاق (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي أخذته من الله باستحقاقي له ، أو بعلم منّي بكيفيّة جلبه وكسبه وبسبب جدّي وجهدي ، فإن كان مالا قال إنّما حصل بكسبي ، وإن كان صحّة قال إنما حصل بسبب العلاج الذي علمته. وهذا تناقض واضح فإنه كان في حال العجز والحاجة يطلب من الله كشفه وأسنده إليه ، وبعد كشف الضرّ ورفع الشدائد من جانبه تعالى أضافه إليه (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) يقول تعالى ردّا عليه : ليس الأمر كما يقول ويزعم ، بل هو اختبار وامتحان ابتلاه الله بهما ليعلم أيشكر أم يكفر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن النعمة امتحان للعباد بالشكر وعدمه كما إن البلاء كذلك.

٥٠ و ٥١ ـ (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي تلك المقالة (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) وهو قارون حيث قال (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فالتفوّه

١٧٥

بهذه الكلمة ليس أمرا بديعا جديدا بل تفوّهوا بها قديما كما تفوّهوا بها حديثا (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي لم ينفعهم ما كانوا يجمعونه من متاع الدنيا ومن الأموال بل صارت وبالا عليهم لأنهم قالوا مثل قول هؤلاء الكفرة (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفّار أنه أصابهم جزاء أعمالهم السيئة. وإنّما سمّى جزاء السيئة سيئات لازدواج الكلام كقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من كفّار قومك بعتوّهم وجحدهم (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب أولئك. وقد أصابهم القحط سبع سنين والقتل والأسر في بدر (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين تعذيبنا إيّاهم وما كان لهم قدرة تعجزنا عن عذابهم.

٥٢ ـ (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) أي يوسّع الرزق على من يشاء ويضيق على من يشاء بحسب ما يرى من المصلحة وتقتضي حكمته. بيان ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في السعة والضّيق ولا بدّ لذلك من سبب. وليس عقل الرّجل ولا جهله السبب في ذلك لأنّا نرى العاقل في أشدّ الضيق والجاهل في غاية السعة وكذلك العكس فالعاقل مع ذلك يعيش في كمال العسر والرجل الأبله يعيش في غاية الرّفاهية واليسار. وليس ذلك أيضا لأجل الطّبائع والأنجم والأفلاك كما يزعم بعضهم لأنّا نرى في السّاعة التي ولد فيها ملك كبير وسلطان قاهر قد ولد في تلك الساعة كثير من الناس ، بل في تلك البلدة التي ولد فيها الملك أو الوزير أو الفيلسوف ، نشاهد وقوع تلك الحوادث فيها وفي نفس السّاعة قران ولادتهم مع مواليد كثيرة مع كونهم مختلفين في السّعادة والشقاوة وفي الرفعة والضعة وغير ذلك من الأوصاف والعوارض. ومن هنا أنّ المؤثّر الوحيد هو الله لا الطّبيعة كما يزعم الطبيعيّون ولا الطّالع والأنجم والأفلاك على ما زعم المنجّمون ، لأنّ الطبيعة والأفلاك ونحوهما إن كانت تقتضي السّعد مثلا للملك فلا بدّ أن

١٧٦

تقتضي لقرينه في الولادة كالصعلوك اقتضاء واحدا وليس كذلك وجدانا. فعدم هذا الاقتضاء الواحد دليل على عدم كونها مؤثّرة وعلة ، ولا مؤثّر في الوجود إلّا هو تعالى. ونعم ما قال الشّاعر :

فلا السّعد يقضي به المشتري

ولا النّحس يقضي علينا زحل

ولكنه حكم ربّ السّماء وقاضي القضاة تعالى وجلّ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي في بسط الرزق وقبضه دلالات واضحات وبراهين ساطعات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون بالتوحيد وبأنه الباسط والقابض لأنّهم المنتفعون هم وحدهم بهذه الآيات دون غيرهم ، وروي أنّ جماعة من مشركي مكّة الذين صدر منهم القتل والنهب والزّنى والسّرقة وأنواع المعاصي والملاهي جاءوا إلى النبيّ وقالوا : يا رسول الله نحن فعلنا كذا وكذا من المعاصي ، واعترفوا بمآثمهم وخطاياهم الكثيرة ، ونحن نؤمن بما جئتنا بشرط أن الله يغفر ما تقدّم من ذنوبنا ، فنزلت الكريمة التالية :

* * *

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ

١٧٧

إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

٥٣ ـ (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) أي أفرطوا في الجناية عليها بإقرارهم (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) لا تيأسوا من المغفرة والعفو (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهذه أرجى آية في كتاب الله سبحانه من جهات : الأولى أنه في مقام التخاطب قال (يا عِبادِيَ) وهذه الكلمة تضمّنت لطف الخطاب وما قال (يا أيها العصاة) التي تشعر بالقهر والغضب والثانية آثر كلمة (أَسْرَفُوا) على (أخطئوا) حيث إن الأولى تحتوي الرّفق والمداراة دون الثانية ، والثالثة النهي عن القنوط ، وهو صريح في حرمة اليأس من المغفرة ، وحرمتها تستلزم تأكيد رجاء مغفرته سبحانه ، والرابع استيعاب المغفرة بقوله (جَمِيعاً) وما اختصّها ببعض الذنوب دون بعض. نعم استثنى من الكبائر التي لا يغفرها الشّرك ، والخامس تأكيد المغفرة بقوله (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وتحتوي هذه الجملة على أربعة تأكيدات ، ورابعها هو صيغة فعيل الدّالة بالملازمة على كثرة المغفرة كما لا يخفى على أهله ،

١٧٨

والسّادس تقديم المغفرة على الرّحمة فإنه كاشف عن كثرة عنايته بها وشدتها أكثر من عطفه على الرّحمة ، فهذه وغيرها من الأسرار التي تستفاد من الآية تؤكّد ما قلناه. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية والرّوايات الكثيرة وردت بأن الشريفة واردة في شيعة آل محمد. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام : لقد ذكركم الله في كتابه إذ يقول (يا عِبادِيَ) ، الآية ...

٥٤ و ٥٥ ـ (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ...) أي ارجعوا إلى الله توبة عمّا سلف وتسليما لما خلف حتّى يغفر لكم جميع ما سلف. وقد حثّ سبحانه بهذه الكريمة على التوبة لكي لا يرتكب الإنسان المعصية ويدع التوبة اتّكالا على الآية المتقدّمة فتكون المتقدمة باعثة لجرأة الناس على المعاصي (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) حيث إن التوبة بعد وقوع العذاب لا تفيد ولا تمنع منه. فتوبوا أيها العباد إلى ربّكم (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) والمراد بما أنزل هو القرآن وأحسنه حلاله وحرامه ، واجباته ومحرّماته أوامره ونواهيه ، دون المباحات أو دون المستحبّات والمكروهات. أو المراد بالأحسن هو العزائم دون الرّخص (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تلتفتون حين إتيانه ومجيئه حتى تتداركوه.

٥٦ ـ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى ...) أي (لأن) أو كراهة أن يقول الإنسان يا ندمي أين أنت منّي ، ويا حسرتي احضريني (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي قصّرت في حقّه تعالى أو في طاعته أو في تحصيل قربه (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) كلمة (أَنْ) مخفّفة أي إنّي كنت لمن المستهزئين بالقرآن والرّسول والمؤمنين.

٥٧ ـ (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي ...) أي أرشدني إلى دينه (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المتجنّبين لمعاصيه ولم أبتل بالشّرك وعبادة غيره.

١٧٩

٥٨ ـ (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ ...) أي حين معاينته للعذاب ورؤيته بعينيه (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي رجعة إلى الدّنيا فأومن وأعمل عملا صالحا. ثم أنكر الله قوله فقال :

٥٩ ـ (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ...) لتهتدي بها (فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ردّ الله عليه ما تضمّنه قوله (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) من معنى النفي ، فقال (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) أي ليس كما تقول ، بل أرسلت إليكم الرّسول مع الحجج والبراهين الظاهرة فأنفت من اتّباعها وقبولها فكفرت. وقال القمّي : يعني بالآيات الأئمةعليهم‌السلام.

* * *

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

٦٠ ـ (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ ...) أي زعموا أن له شريكا أو ولدا (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) في القمّي عن الصّادق (ع) في هذه الآية قال : من ادّعى أنّه إمام وليس بإمام. قيل وإن كان علويّا فاطميّا؟ قال عليه‌السلام : وإن كان علويّا فاطميّا (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي مقاما ومأوى للآنفين المترفّعين بلا جهة ، المترفّعين عن الإيمان والطّاعة. وفي القمي عنه عليه‌السلام قال : إن في جهنّم لواديا

١٨٠