الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) قوله تعالى (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) الآية حكاية نداء أيّوب ، و (النّصب والنّصب). بضم النون وفتحها مع سكون الصّاد وفتحها وضمّها هو التّعب والمشقة ، والعذاب : هو الألم والوجع. ولذا ذكر سبحانه لفظين وقد حصل له نوعان من المكروه : أحدهما روحيّ وهو الغمّ الشديد وكان قد أتعب روحه الشريفة بسبب زوال الخيرات وعدم التمكن من الإتيان بعبادات ربّه على ما هي عليه من الكميّات والكيفيّات ، والثانيّ جسميّ كالآلام والأوجاع الحاصلة من الأمراض الحادثة والحوادث الواقعة المسطورة في محلّها.

٤٢ ـ (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ...) حكاية لما أجيب به ، أي اضرب برجلك الأرض ، فضربها فانبعثت عين فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ) أي ما تغتسل به (بارِدٌ وَشَرابٌ) أي ما تشرب منه وهو بارد. فاغتسل عليه‌السلام وشرب فبرئ ظاهره وباطنه فصار جسمه الشريف كالفضّة الخالصة المصفّاة.

٤٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ ...) أي أعطيناه أهله الذين هلكوا وماتوا بأجمعهم (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) بأن أحييناهم بعد موتهم وولد له مثلهم ، أو بأن ولد له ضعف ما هلك. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أنّه سئل كيف أوتي مثلهم معهم؟ قال : أحيى له من ولده الذين كانوا ماتوا قبل ذلك الابتلاء بآجالهم ، مثل الذين هلكوا يومئذ بعد البليّة وحينها (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى) أي فعلنا ذلك به لرحمتنا إيّاه وليتذكّر ويعتبر به من له الأهلية (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأرباب العقول الكاملة حتّى يصبروا كما صبر عليه‌السلام فإن صبره عليه‌السلام عظة لهم وتذكار بأن عاقبة الصبر هو الفرج والظفر بالمقصود والوصول إلى الفوز العظيم.

٤٤ ـ (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ...) أي قبضة حشيش يختلط فيها الرّطب باليابس والمراد هنا ملء الكف من الشماريخ وما أشبه ذلك بعدد ما حلف

١٢١

من أنه سيجلد امرأته مائة جلدة. (فَاضْرِبْ بِهِ) زوجتك ضربة واحدة. وكان (ع) قد حلف أن يضربها مائة جلدة لإبطائها عليه مع غاية حاجته إليها أو لأمر أنكره عليه‌السلام منها على ما في كتب المفسّرين ، ثم ندم على حلفه فحلّ الله يمينه بذلك (وَلا تَحْنَثْ) بترك ضربها ، وهي رخصة باقية في الحدود في بعض مواردها كما ورد عنهم عليهم‌السلام. ولقد شرع الله هذه الرخصة رحمة به وبها لحسن خدمتها له ورضاه عنها بعد كشف عدم شيء من تقصيرها نحوه وكونها منزّهة ومبرّأة من كل شيء.

وقد روى العيّاشي بإسناده أن عباد المكّي قال : قال لي سفيان الثّوري : إنّي أرى لك من أبي عبد الله منزلة فاسأله عن رجل زنى وهو مريض ، فإن أقيم عليه الحد خافوا أن يموت ، ما تقول فيه؟ قال فسألته فقال عليه‌السلام لي : هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان؟ فقلت : إن سفيان أمرني أن أسألك عنها. فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتي برجل قد استسقى بطنه وبدت عروق فخذيه وقد زنى بامرأة مريضة فأمر رسول الله ، فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة وضربها به ضربة وخلّى سبيلهما ، وذلك قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) ، (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) على ما أصابه في النفس والأهل والمال من البلاء الذي ابتليناه به وقد كان عظيما (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيّوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع منقطع إلى الله بكلّ وجوده ، شكور لنعمه تعالى بتمام شكرها وكماله.

ثم إنه سبحانه وتعالى عطف على ما تقدّم من حديث الأنبياء صلواته وسلامه عليهم فقال :

* * *

١٢٢

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))

٤٥ ـ (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) أي اذكر يا محمد لأمّتك وقومك عبادنا الصالحين هؤلاء. وقد ذكر سبحانه ثلاثة من أعاظم الأنبياء وشرّفهم بالإضافة إليه تعالى ، وخصّهم بالذكر لتقتدي الأمّة بحميد فعالهم وكريم خلالهم ، فتستحقّ بذلك حسن الثناء في الدنيا وجزيل الثواب في العقبى كما استحقّوا هم ذلك بما وصفهم به ربّهم في كتابه الكريم إذ قال : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي ذوي القوّة في الطاعة والبصيرة في الدّين. أو أولي العلم والعمل حيث إنّ أكثر الأعمال تكون باليد ، وأقوى مبادئ المعرفة يكون بالبصر والتبصّر. ولا يخفى أن للنفس الإنسانية قوّتين : قوة عاملة ، وقوّة عالمة. فالأولى أشرف ما يصدر عنها طاعة الله ، وقد صدرت منهم. والثانية أشرف ما يصدر عنها معرفة الله واليقين به ، وقد توفّر لهم ذلك. فقوله (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) يشير إلى هاتين الحالتين ، أو أن المراد من (الْأَيْدِي) النّعم على عباد الله

١٢٣

بالإحسان إليهم وإعانتهم ، فإن أكثر النّعم الظاهرية تجري على الأيادي ولذلك عبّر عنها بهذا التعبير. ويمكن أن يراد بها النّعم المعنويّة التي هي أعمّ من ذلك كالدّعوة إلى الدين وإلى التوحيد وسائر المعارف المفيدة والأبصار : جمع البصر وهو العقل والبصيرة.

٤٦ ـ (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ...) أي جعلناهم خالصين لنا ومنزّهين من كل دنس وعيب بخصلة خالصة لا شوب فيها وهي (ذِكْرَى الدَّارِ) أي تذكّرهم للآخرة دائما وهي مبني الخلوص في الطّاعة حيث إن مطمح نظر الأنبياء والمخلصين ليس إلّا جوار الله والفوز في دار العقبى وإطلاق الدار يشعر بأن الآخرة هي الدار الحقيقيّة والدنيا معبر لها.

٤٧ ـ (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ ...) أي المختارين بنعمة النبوّة وتحمّل أعباء الخلافة والرسالة وقرب مقام القدس الرّبوبي الشامخ الذي لا يتيسّر لأحد غيرهم عليهم‌السلام (الْأَخْيارِ) جمع خيّر أو خير مخفّفة كأموات جمع ميّت أو ميت وهو الذي يفعل الأفعال الكثيرة الحسنة واحتج العلماء بهذه الآية لإثبات العصمة للأنبياء ، بيان ذلك أنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق ، وهو يعمّ حصول الخيرية في جميع الأفعال والصّفات ، ولا نعني ولا ندري معنى للعصمة إلّا هذا كما بيّن في محلّه.

٤٨ ـ (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ...) أي اذكر لأمّتك هؤلاء الكرام من المذكورين أيضا ليقتدوا بهم ويسلكوا سبيلهم ، وهم قوم آخرون من الأنبياء العظام تحمّلوا المشاق والشدائد في طريق الدعوة إلى التوحيد والهداية إلى دين الله. وفصل ذكر إسماعيل عن ذكر أبيه وأخيه للإشعار بعراقته في الصّبر. ولعلّ وجه عدم اقترانه بأخيه رمز إلى تقدّمه وعلوّ رتبته من حيث إنّ أخاه ابن حرّة وإسماعيل ابن أمة والله أعلم. واليسع قيل هو ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم تخلّع بخلعة النبوّة وتشرف بالتلبّس بلباس الرّسالة وأمّا ذو الكفل فهو ابن عم اليسع وكان قد

١٢٤

تكفّل مائة نبيّ فرّوا من القتل وآواهم. وقيل هو ابن أيّوب النبيّ وكان اسمه البشر ، وبعد والده بعث إلى أهل الشام. وقيل هو يوشع بن نون (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي من الذين اختارهم الله للرّسالة والخلافة لكونهم كثيري الخير والبركة ، فكانت لهم الأهليّة لها.

٤٩ ـ (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ...) أي هذا ذكر لهؤلاء الشرفاء الذين يستحقّون المدح والثناء الجميل يذكرون به في الدنيا دائما. أو هو إشارة إلى القرآن ، أي أن القرآن نوع من الذكر لما يذكر فيه من أحوال السابقين من الأنبياء وأوصيائهم ، ويذكر فيه من قصصهم فهو مذكّر به (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) لمّا ذكر سبحانه عنوانهم في العاجل أخذ في بيان قسم آخر من شأنهم الذي هو أعظم ، فقرّره بقوله تعالى (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ). إلخ فإن الفرد الكامل من المتّقين يمثّله الأنبياء فلهم عليهم‌السلام حسن المرجع يرجعون إليه في الآخرة ، وهو ثواب الله. وفسّر حسن المآب بقوله عزّ وعلا :

٥٠ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ...) أي جنّات إقامة وخلود ، و (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) لا يقفون حتى تفتح ، فإنهم حين يردونها يجدون الأبواب مفتوحة.

٥١ ـ (مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ...) أي مستندين فيها إلى المساند ، جالسين جلسة الملوك (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) فكلّما أرادوا فاكهة يأمرون سدنتهم بها ، أو يتحكّمون في شرابها وثمارها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم ، بل يحصل لهم بمجرّد الإرادة حاضرا على ما شاؤوا. وذكر الفاكهة دون غيرها من المأكولات يمكن أن يكون للإشارة إلى أن مطاعمهم فيها هي لمحض التلذذ ، وأمّا التغذّي وإن كان فيهم تلذذ أيضا إلّا أن المهمّ فيه هو التحلل ولا تحلّل

١٢٥

ثمّة ، ولذا كانت المواد الغذائية قليلة بالإضافة إلى مواد التفكهة على ما يستفاد من نفس الشريفة حيث وصف الفاكهة بالكثرة.

٥٢ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ...) جمع قاصرة ، من قصر الشيء على كذا أي لم يتجاوز به الى غيره فالمراد به هو وصفهنّ بعدم تجاوز نظرهن إلى غير أزواجهنّ الخاصّة بهنّ ، وهذه الصّفة من أحسن محسّنات النّساء. والطرف بالسكون هو العين (أَتْرابٌ) جمع ترب بكسر التاء وسكون الرّاء وهو من ولد مع غيره ، وأكثر ما يستعمل في المؤنث ، فيقال هذه ترب فلانة إذا كانت على سنّها وولدت معها ، ومعناه : أقران وعلى سنّ واحد ليس فيهنّ عجوز ولا طفلة ، أو متساويات في الحسن ومقدار الشباب لا فضل لواحدة على أخرى. وقيل أتراب : أي على مقدار سنّ الأزواج كل واحدة منهنّ ترب زوجها ولا تكون أكبر منه ، فهنّ قرينات لهم في السّن.

٥٣ ـ (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ...) أي أن المذكور من المنكوحات المتّصفات بما وصف ، هو الذي كنتم توعدون به بواسطة الأنبياء والرّسل المبعوثين إليكم (لِيَوْمِ الْحِسابِ) يوم جزاء الأعمال أن خيرا فخير وان شرّا فشرّ ... ثم أخبر سبحانه أهل الجنّة بدوام ما وعدهم بهم إلى أبد الآبدين فقال :

٥٤ ـ (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ...) أي هذه النعم الجزيلة التي أنعم بها علينا بلطفه المحض ومحض لطفه وتفضّله هي رزقنا الذي لا يزال ثابتا غير منقطع. ويحتمل أن يكون هذا من كلامه تعالى لا أنه حكاية عمّا يقوله أهل الجنّة فهو ليخبر سبحانه بأنّ ما أعطيناه لعبادنا في الجنّة هو رزقنا الذي ليس له انقطاع ، بل هو باق ببقاء الله ودائم بدوامه تعالى ... ثم لمّا بينّ سبحانه أحوال أهل الجنة وما أعدّ لهم من النّعم الثابتة ، عقّبه ببيان

١٢٦

أحوال أهل النّار وما لهم من أليم العذاب ، فقال تبارك وتعالى :

* * *

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١))

٥٥ ـ (هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ...) أي ما ذكرناه من أمر المساكن والمآكل والمشارب والمناكح في الجنّة جزاء أعمال المتّقين. أمّا جزاء الطّاغين المتجاوزين حدود العبوديّة بالطغيان على الله تعالى وتكذيب الرّسل فإن لهم (لَشَرَّ مَآبٍ) وقد فسّر ذلك الشرّ بقوله سبحانه :

٥٦ ـ (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ...) أي يدخلونها حال كونهم ملازمين النّار (فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئس المسكن المفروش الذي هيّء للرّاحة فإن الكون في النار يعني أن مهاده ذو عذاب شديد ، لأن المراد بالمهاد هو الفراش الممهّد للراحة والنوم الهنيء.

٥٧ ـ (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ... هذا) يمكن أن يكون إشارة إلى جزاء الطّاغين المذكور آنفا يعني هذا العذاب لا بدّ أن يذوقوه ، وهو حميم ، والحميم هو الماء الحارّ الشّديد الحرارة. والغسّاق هو القيح الذي يخرج من القروح والدماميل ، ويعبّر عنه بالصّديد.

١٢٧

٥٨ ـ (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ...) أي : ولهم مع ذلك العذاب عذاب آخر هو في الشّدة مثل الأوّل ، وهو أصناف كثيرة.

٥٩ و ٦٠ ـ (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ...) ها هنا حذف ، أي يقال لهم : هذا فوج ، وهم قادة الضّلالة إذا دخلوا النّار ، ثم يدخل الاتباع فيقول الخزنة للقادة : هذا فوج ، أي طائفة من الناس ، وهم الأتباع ، مقتحم معكم في النار ، داخلون فيها كما دخلتم. والاقتحام هو الدّخول في الشيء بشدّة وعنف. وفي القمّي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ النّار تضيق عليهم كضيق الزجّ بالرّمح (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء من المتبوعين على أتباعهم. وهذه كلمة دعاء للشخص على ما هو الموضوع له ، ولمّا دخلها (لا) صارت دعاء عليه ، وهو مشتق من الرحب بمعنى الفرح والسّعة. فالمعنى في المقام : لا سعة عليهم ولا فرح بهم (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي داخلوها مثلنا. (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي الأتباع قالوا للقادة والرّؤساء : بل أنتم أحقّ بما قلتم لضلالكم وإضلالكم إيّانا (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي هذا العذاب صيّرتموه لنا بحملكم إيّانا على العمل الذي هذا جزاؤه (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي أن جهنّم بئس المقرّ لنا ولكم.

٦١ ـ (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا ...) أي أن الأتباع اشتكوا من المتبوعين أيضا ودعوا عليهم بقولهم (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) الموجب للعذاب (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) هذا نظير قوله تعالى (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) أي مكرّرا ومضاعفا وهو عذاب الضلال والإضلال. هذا شرح عذاب الكفار وبيان أحوالهم مع الذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا ، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء معهم فيها فهو قوله تعالى :

* * *

١٢٨

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

٦٢ ـ (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً ...) في هذه الشريفة يحكي سبحانه أحوال أهل النار ومقالاتهم حين ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم في الدنيا دينا ومسلكا فيقولون (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) ، في الدّنيا ، وهم شيعة عليّ عليه‌السلام. وروى العياشي عن جابر عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال لأصحابه : إن الكفرة أرادوا (برجال) في هذه الآية (إياكم) وأقسم بالله لا يرون أحدا منكم في النار ، وعن الصّادق عليه‌السلام : يعنونكم معشر الشيعة لا يرون والله واحدا منكم في النار. ثم إنهم أرادوا بقولهم (مِنَ الْأَشْرارِ) أي الأراذل الذين لا خير ولا جدوى فيهم ، أو لأنهم بزعمهم على خلاف الدّين ومن أهل البدع. هذا ويحتمل أنهم يرون أمير المؤمنين صلوات الله عليه من الأشرار لكثرة قتلاه في الحروب والغزوات فيعدّون شيعته ومتابعيه منهم ، والله أعلم بما قال.

٦٣ ـ (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ...) أي كنّا نتعامل معهم معاملة من يكلّفه الإنسان بعمل بلا أجرة أو نسخر بهم وهذا لا يكون نوعا إلّا بالنسبة إلى أدنياء الناس أو من به خبل. والسّخريّ من السخرية أي من سخر به : هزئ به ، أو من سخّره جعله يعمل بلا أجرة وحاصل معنى الآية والله أعلم أن الكفّار بعد الفحص الكثير في النار عن شيعة علي (ع) وعدم رؤيتهم فيها وزعمهم بأنّهم في الجنّة قالوا تعييرا

١٢٩

وتوبيخا لأنفسهم هذا الكلام. أي : هل حسبتموهم من أدنياء الناس ومن أهل الخبل والمجانين مع كونهم من أشراف الناس وأعاظمهم الذين كانوا من أهل الجنّة ونحن من أصحاب النار فالاستفهام إنكاري (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) أي مالت وكلّت أعيننا عن رؤيتهم. ويمكن أن تكون (أَمْ) عدل قولهم (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) ومتّصلة. فيصير المعنى : هل كنّا نسخر منهم ونهزأ بهم ، أم نصرف نظرنا عنهم تحقيرا وازدراء؟ وهذا القول منهم في مقام التوبيخ لأنفسهم بأنه لماذا كنّا نحقّرهم ولا ننظر إليهم. ويمكن أن تكون (أَمْ) منقطعة ، فمعناه : أنستهزئ بهم وقد كان إعراضنا عنهم لاسترذالهم واستحقارهم فتنحرف أعيننا عنهم؟ وقيل (أَمْ) معادلة لقولهم (لا نَرى) فمعناه : أليس هؤلاء المخالفون لنا في الدّنيا في النار؟ أو يكونون معنا في النّار لكن عدلت أبصارنا عنهم فلا نبصرهم؟ ثم إنه سبحانه وتعالى لتحقّق وقوع هذه الحكاية أكّدها بقوله :

٦٤ ـ (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ...) أي المقالات المحكيّة عن الكفرة في النار من التابعين والمتبوعين صدق ومحقّق وقوعها بلا ريب. ثم بيّن أن هذه المقالات (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي جدالهم ونزاعهم. وهذا الكلام بدل لقوله (لَحَقٌ) أو خبر لمبتدأ محذوف على ما أشرنا إليه. وسمّي تخاصما لأن قول الرؤساء (لا مَرْحَباً بِهِمْ) وقول الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) من باب الخصومة ومجادلة بعضهم بعضا. وهذا من باب تسمية الكلّ باسم جزئه. وفي القمي عن الصّادق عليه‌السلام : إنكم لفي الجنّة تحبرون وفي النار تطلبون وزاد في البصائر : فلا توجدون. والحبور هو السّرور أي تسرّون وتكرمون.

* * *

١٣٠

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

٦٥ و ٦٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ...) أي يا محمد قل للمشركين إنّي أنذركم عذاب الله وأهوال يوم القيامة (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) الذي لا شريك له ولا يتبعّض (الْقَهَّارُ) لكلّ شيء المتعالي بسعة مقدوراته فلا يقدر أحد على الخلاص من عقوباته وعذابه الذي أعدّه للعصاة المخالفين لرسله ، وهو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مالكهما ومصلحهما (وَما بَيْنَهُمَا) من الجن والإنس وكلّ خلق وموجود فيهما (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء (الْغَفَّارُ) لذنوب عباده مع قدرته على عقابهم وعدم العفو عنهم. وحاصل المعنى أنه : أبلغ يا محمد عقاب من أنكر التوحيد والنبوّة والمعاد ، وثواب من أقرّ بذلك كلّه.

٦٧ و ٦٨ ـ (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ...) أي ما أنبأتكم به من أحوال يوم القيامة وأهوالها وأحوال العاصين والمطيعين ، أو من أمر التوحيد والنبوّة والبعث ، أو القرآن الذي هو جامع لأخبار الأنبياء والمرسلين والتوحيد والبعث والحشر ، وهو المعجزة الباقية لخاتم النبيّين صلوات الله عليه وآله على اختلاف الأقوال في مرجع الضمير ، فذلك نبأ عظيم (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) لا تنظرون في حججه وبراهينه لجهلكم وغفلتكم عنه ، ولذا تعرضون وتتولّون عنه وتجعلونه وراء ظهوركم. وفي البصائر عن الباقر

١٣١

عليه صلوات الله : هو والله أمير المؤمنين عليه‌السلام. وعن الصّادق عليه‌السلام : النبأ الإمامة.

٦٩ ـ (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى ...) أي الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي يتخاصمون ويتجادلون فأنبأني بأن جدالهم لا يكون إلّا عن وحي وعبّر بالتّخاصم لأنه سؤال وجواب فهو شبيه به. وقيل إن المراد بالملإ الأعلى هو الملائكة وآدم وإبليس الذين كانوا سكّان السّماوات في ابتداء الأمر ، والمراد بتخاصمهم هو مقاولاتهم من قول الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ) وقول آدم لبيان أفضليّته (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) وقول إبليس حين امتنع عن السّجدة (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وحاصل الشريفة أنّه صلوات الله عليه وآله في مقام إثبات نبوّته ورسالته لأمّته يريد أن يقول لهم إنّ أقوى دليل وأظهر شاهد على نبوّتي هو إخباري عن قصّة الملأ الأعلى وتقاولهم على ما هو مذكور في كتب السّلف من الأنبياء والمرسلين ، مع أنّي أمّيّ لم أطالع كتبهم ولا تعلّمت عن أحدهم ولا رأيتهم ولم أدرس عند أحد كما شاهدتموني من أوّل استرشادي لأمري فانّي كنت بين أظهركم من بدء حداثتي. ولو كنت متعلّما ودارسا عند أحد لرأيتموني وشاهدتمونى فإنبائى عن الملأ الأعلى ، وإخباري عن مقاولاتهم تكشف عن وحي وإلهام سماويّ وعن عالم القدس بنزول الملك عليّ ففكّروا وتدبّروا ...

٧٠ ـ (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ...) أي لأنّما أنا نذير على قراءة فتح الألف في أنّما ، ومعناه : لا يوحى إليّ إلّا لأنّي نبيّ منذر للنّاس إنذارا غير خفيّ لأنّ الإخفاء علامة الخوف فلا يؤثّر ، ونتيجة هذا الإنذار هي النّجاة من ظلمة الضّلالة إلى أنوار الهداية ومن تيه الجهالة والغفلة إلى حدود المعرفة : وليعلم أنّ تقاول الملأ الأعلى قد ذكر في سورة البقرة والمقصد الأصلي في هذا المقام هو إنذار المشركين على استكبارهم وترفعهم الذي كان بمثابة ترفّع إبليس وأنفته عن السّجود لآدم. فلذا هو سبحانه

١٣٢

بعد ذكره الاختصام إجمالا اقتصر على مخاصمة إبليس تفصيلا واستكباره عن السّجود فقال جلّ وعلا :

* * *

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))

٧١ و ٧٢ ـ (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...) أي أذكر يا محمد قول ربّك حين أراد أن يسجد لآدم : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) والمقصود هو آدم أبو البشر سلام الله عليه (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أكملت وتمّمت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي أفضت عليه الحياة. وأسند التّسوية وإفاضة الرّوح إلى نفسه تشريفا وتبجيلا له عليه‌السلام ، وتنبيها على أنه هو الفاعل بمباشرته بنفسه تعالى وتقدّس بلا استعانة من أحد وبلا دخالة أحد من المخلوقات وفي هذا أيضا اشارة إلى تعظيمه عليه‌السلام وخصيصة تخصّه من بين الأنبياء والمرسلين كما أشرنا إليه سابقا. وأما كيفية نفخ الروح وحقيقتها فهي أمر لا يعلم إلّا من قبله ، وليست إلّا من العالم بالأمر وليس لنا طريق إلى معرفتها. نعم معلوم لنا في الجملة أنّ مسألة الأرواح عبارة عن أجسام نورانيّة علويّة العنصر قدسيّة الجوهر تسري في الأبدان سريان الضّوء في الهواء والنار في الفحم والحرارة والبرودة في الأجسام القابلة لهما. هذا ولكنّ الحق والإنصاف أن الأرواح بحقيقتها وكيفيّة سريانها في الأجسام وكيفيّة نفخها بتمامها مجهولة لنا وغير معروفة ،

١٣٣

وجميع ذلك عند عالم الأمر فلا يعلمها إلّا الله كما أشار إليه سبحانه في الشريفة (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي بجميع جهاتها. ويستفاد من هذه الآية أنّ مسألة الرّوح بجميع شؤونها وعلمها مختصّة بذاته المقدّسة وليس للبشر حق مداخلة وتصرف في أيّ جهة من الجهات الرّاجعة إليها لأن كلّ معنى من المعاني نتصوّره ونميّزه لها فهو مصداق من مصاديق قول مولانا رئيس العارفين في باب معرفة الله تعالى : كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم فهو مخلوق لكم مردود إليكم. فنحن كل ما نتصوره من المعاني للروح وشؤونها فهو مخترع لنا مردود إلينا (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي خرّوا ساجدين سجدة تكرمة وتعظيم له عليه‌السلام ، لا سجدة عبودية له فإنها خصيصة له تعالى وتقدّس ولا تجوز لغيره. وقد مرّ الكلام فيه في سورة البقرة بأبسط مما قلنا هنا ثم إنّ الملائكة كانوا منتظرين لهذه الدّعوة إلى أن تمّت الخلقة من حيث الأعضاء والجوارح وتعلّق الروح فتوجّه أمر الله بالسّجود له عليهم. وأمّا إنّ المأمور بذلك السّجود هو ملائكة السّماوات جميعا أو دخل فيه ملائكة الأرض ففيه بحث عميق لا يسعه هذا المختصر.

٧٣ و ٧٤ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ...) تأكيدان يدلّان أنّ الملائكة لم يبق منهم أحد إلّا وقد سجد كما أمروا ، تكرمة لآدم وطاعة لله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي ترفّع وتعاظم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي في علمه تعالى لأنه كان ذا تكبّر وتفخّم طبعا ، وكان مخاصما له تعالى في كبريائه وعظمته ، فكان في علمه جلّ وعلا مردودا فلما أمره سبحانه بالسّجود لآدم أظهر كفره ونخوته باستكباره وامتناعه عن السّجود مع أن مثل جبرائيل وإسرافيل وسائر المقرّبين من الملائكة بتمامهم سجدوا في مرآه ومشهده وكانوا أعلى منه مقاما ودرجة فكان هذا الأمر إجلالا للبعض من الملأ الأعلى وامتحانا واختبارا للآخرين.

* * *

١٣٤

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

٧٥ ـ (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ؟ ...) أي مع علمه تعالى بحقيقة أمره وكفره ، سأله حتى يظهر أمره وباطنه على ملائكته الذين يعظّمونه ويبجّلونه فقال (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ) من السّجود؟ ولماذا عصيت أمري بالخضوع لمخلوق خلقته بنفسي وأنا كنت مباشرا لخلقه؟ ولم يكن هذا شخصا عاديّا كسائر المخلوقات وموجودا كسائر الموجودات (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟) هذا سؤال توبيخ. يعني أنّك هل كنت من الذين يتكبّرون ويترفّعون من غير استحقاق ، ويحسبون أنفسهم فوق ما كانوا من القدر والرفعة؟ أم من الذين يستحقون الترفع والتفوّق؟

٧٦ ـ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ...) هذا القول أوّلا تجاسر وتطاول على ربّه لأنه ليس للمخلوق أن يظهر الأنانيّة في مقابل خالقه ، ويقول بجرأة (أَنَا) وثانيا كاشف عن الغاية في عدم معرفة خالقه ، فإن توصيف الشخص

١٣٥

وتعريفه نفسه قبيح ، وعند خالقه الذي يعرفه كمال المعرفة أقبح ، حيث إنّه خلقه وهو عالم بكامل وجوده وجميع خصوصياته ، ففي مقابل من هو أعرف بنفس الإنسان أو غير الإنسان من الموجودات يكون التعريف للنفس أقبح ، وما أدرك إبليس هذا المطلب مع ظهوره ووضوحه. فهو عليه لعائن الله عليه أجهل من كلّ جاهل. وثالثا بيّن وجه الأفضليّة وأنه خير من آدم بأنه مخلوق (مِنْ نارٍ) وآدم (مِنْ طِينٍ) والنار أفضل وأشرف من الطين فهو أشرف من آدم. وقد أشبعنا المقام من الكلام فيه في سورة البقرة أو آل عمران أو الأعراف فليراجع. وبيان جهله أن التراب خير من النار وأفضل منها بمراتب كثيرة ، وأنّ التراب كفؤ للماء الذي أناط الخالق المتعالي حياة كلّ ذي حياة به ، فأين النار من التراب؟ ويكفي في شرافة التراب وأفضليته منها أنّه تعالى قدّمه في مقام خلقه لخليفته في الأرض وحجّته خلقا باشره هو بنفسه واهتمّ غاية الاهتمام بإيجاده وقدّم ذكره على جميع العناصر ، فمن هذا نستكشف كشفا واقعيّا بطلان قول إبليس وعلته التي علّل الأفضلية بها ، وأنّه بهذا المدّعى أظهر جهله للملائكة ولجميع الإنس والجن.

٧٧ ـ (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ...) أي اخرج من الملأ الأعلى أو الجنّة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود. وإنك لست بقابل لأن تكون في الملأ الأعلى عند أصحاب الكرامة والشرافة. ولما سمع الربّ سبحانه جوابه السخيف ورأى أنّه غير قابل للتوجّه والاعتناء بجوابه أمر بخروجه وطرده كما يرجم ويطرد الكلب العقور فعليه لعنة الله إلى يوم ينفخ في الصور. وإنّه لمّا رأى غضب الربّ جلّ وعلا عليه أيس من رحمته وعفوه ولا سيّما بعد قوله تعالى :

٧٨ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ...) أثبت تعالى وأنجز الخزي الدائم والإبعاد الممتدّ إلى الأبد والعذاب الأليم الذي يخلّد فيه. ويراد به

١٣٦

التأبيد عرفا ، أو أنّه يعذّب بعده مع هذه اللعنة التي تلازمه إلى يوم البعث.

٧٩ ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ...) أي أخّرني إلى يوم القيامة حين يبعث العباد. وقد استنظره إلى وقت لا موت فيه ولا فيما بعده ، لئلّا يموت ولا يذوق عذاب نزع الرّوح ، ولم يجبه سبحانه بل قال له :

٨٠ و ٨١ ـ (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ...) فأجابه إلى ما هو مطلوبه بأصل الإنظار لا بالكيفيّة التي طلبها ورغب فيها ، إذ أنظره (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي إلى يوم هو معلوم عندي ، يمكن أن يكون المراد إلى النفخة الأولى أو إلى وقت أجلك المسمّى ، ويحتمل أن يكون المراد وقت كون البشر في عالم الوجود حيث إن إنظار إبليس لامتحان البشر ، فوجوده يدور مدار كون البشر فإذا لم يكونوا فما فائدة وجوده؟

٨٢ و ٨٣ ـ (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ...) أي أقسم بسلطانك وقهرك الّذي تقهر به جميع المخلوقين سأدعو بني آدم إلى الغيّ والشّقاق والضّلالة وأزيّن لهم القبائح حتى يعملوها ولا يجيبوك في أوامرك ونواهيك ... ولن ينجو منّي (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لطاعتك إذا قرئ بفتح اللام ، وإذا قرئ بالكسر معناه الذين أخلصوا دينهم وعباداتهم لك فهؤلاء ليس لي عليهم سلطان ولا سبيل. والمراد بالاوّلين هم المعصومون الذين عصمهم الله من الزلل والضّلال وأذهب عنهم الرجس وطهرهم.

٨٤ و ٨٥ ـ (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ...) أي فأنا الحقّ وأقوله. أو فالحقّ قسمي والحقّ أقوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) من جنسك وهم الشّياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) من النّاس (أَجْمَعِينَ) تأكيد للجنسين.

* * *

١٣٧

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

٨٦ ـ (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ...) أي على تبليغ الوحي والقرآن بما فيه من الدعوة إلى الله وإلى التوحيد وغيرهما (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي من المتصنّعين الذين أظهروا شيئا ليس فيهم ، فأنا لست في نسبة النبوّة وإنزال القرآن منتحلا ذلك إلى نفسي ولا متقوّلا ، فإنّكم تدرون بأني ما كنت متصنّعا في أقوالي ، فاعلموا صدق مقالتي حين أقول لكم.

٨٧ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ...) أي عظة وتذكير لمن يكون قابلا للتّذكر وأهلا للموعظة.

٨٨ ـ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ...) أي ستعرفون بالتأكيد صدق خبره من الوعد والوعيد بعد الموت أو يوم القيامة. وفي الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : عند خروج القائم عجل الله تعالى فرجه.

١٣٨

سورة الزمر

مكية إلّا الآيات ٥٢ و ٥٣ و ٥٤ وآياتها ٧٥ نزلت بعد سبأ.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢))

١ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ...) أي على محمّد. والمضاف والمضاف إليه مبتدأ خبره هو الظّرف أي هذا القرآن تنزيل على نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من الله (الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْحَكِيمِ) في تدبيره وجميع أفعاله ، ويفعل ما يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة وإلّا لم يكن حكيما. وذكر هذين الوصفين لتحذير العباد من مخالفة القرآن وإعلامهم بأنه سبحانه هو الحافظ له من التغيير والتحريف ، ولذلك جلّ وعلا عظّم أمر القرآن وحثّ المكلّفين على القيام بما فيه واتّباع أوامره ونواهيه.

٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ...) أكّد سبحانه إنزاله للقرآن على نبيّه

١٣٩

صلواته عليه ، وصرّح بأنه تعالى هو المنزل حيث أضافه إليه جلّ وعلا ، لأنّ قريشا يقولون وينشرون في الناس في الموسم وغيره بأن هذا القرآن ليس كتابا سماويّا بل هو من عند غيره سبحانه ، وكان غرضهم إبطال تحدّيه بأني رسول الله إليكم ومعجزتي كتابي الذي أنزله عليّ ربّي عزوجل ، فيريد الله سبحانه أن يردّهم ويبطل دعواهم ، فإذا كان من عنده تعالى فيكون حقّا كما صرّح بذلك هو سبحانه بقوله : (بِالْحَقِ) أي متلبّسا به (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) حال كونك مخلصا له عبادتك من الشّرك والأغراض الدنيويّة. وظاهر الخطاب متوجّه إليه صلوات الله عليه وآله ، لكنه معلوم أن المراد أمّته الذين كانوا عكّفا على الأصنام عبّادا لها لا يرون إلها غيرها تبعا لآبائهم حيث وجدوهم كذلك.

* * *

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣))

٣ ـ (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ...) أي اعلموا أنّ الدّين الخالص من شوائب الأوهام هو منحصر بدين الإسلام ، وهو دين الله لأنّه المتفرّد بصفات الألوهيّة متوحّد في مقام الربوبيّة والاطّلاع على الأسرار والضّمائر فينبغي أن تكون عبادته خالصة من شوب الرياء ولوث الشّرك. وقيل المراد من الدّين الخالص هو كلمة التوحيد ، وقيل هو الاعتقاد بالأمور الواجبة

١٤٠