الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٠

فيقول الله تعالى ردّا عليهم : (بَلْ) أي ليس الأمر كما يزعمون من كون القرآن مختلقا ومخترعا من عنده و (هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) وشاكّون في إن القرآن كتابي أنا أنزلته عليه. ومنشأ الشكّ هو ترك النظر والتدبّر فيه حسدا وعنادا (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي لا يذهب الشك بالدّلائل والحجج عنهم إلّا حين يذوقون عذابي لهم في النار ، فحينئذ يصدّقون أن ما جاء به نبيّنا كان حقّا وكان من عندنا لا من عنده.

٩ و ١٠ ـ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؟ ...) هذه تتمّة الجواب عن شبهتهم بقولهم (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) فقال سبحانه : أبأيديهم مفاتيح النبوّة والرّسالة التي هي من جملة محتويات الخزائن عندهم ، فيضعونها حيث شاؤوا من صناديدهم؟ يعني ليست خزائن الرّحمة باختيارهم ، وهي التي منها النبوّة والرّسالة ، حتى يكون لهم تعيين النبيّ والرّسول في من أرادوه. ولكنّها بيد (الْعَزِيزِ) الغالب (الْوَهَّابِ) الذي يعطى ما يشاء لمن يشاء فيخصّ بالنبوّة من شاء من خلقه وحسب اقتضاء المصلحة. ولما ذكر في الآية الأولى قوله (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) وذكر الخزائن على عمومها وهي غير متناهية ، أردف ذلك بذكر ملك السماوات والأرض. ومعناه أن ملك السّماوات والأرض أحد أنواع خزائن الله. ومن المعلوم أنهم غير قادرين على تملّك السّماوات والأرض والسّلطة عليهما ، فكيف يتصرّفون في أمور ربّانيّة وتدابير إلهيّة تختصّ بذاته المقدّسة كإعطاء منصب النبوّة والرسالة من له الأهليّة والقابليّة على حسب ما اقتضته المصلحة. أمّا إذا زعموا أن لهم مدخلا في ذلك وهو جزء يسير من خزائنه (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) إن كانوا صادقين فيما زعموا فليصعدوا في المعارج التي يتوصّل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويأخذوا بتدبير أمر العالم فينزلوا الوحي على من يستصوبون ، وهذا الكلام في غاية التهكّم عليهم. ويحتمل أن يكون المراد بالأسباب : السماوات ، لأنها

١٠١

أسباب الحوادث السّفليّة ، وكيف يكونون قادرين على الارتقاء وتدبير عوالم الملك والملكوت والحال أنهم عجزة ما هم الا جند مّا :

١١ ـ (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ...) لفظة (ما) في هذه الموارد زائدة تجيء للتقليل غالبا والمعنى : هم جند حقير و (هُنالِكَ) إشارة إلى بدر أو الخندق أو الفتح و (مَهْزُومٌ) أي مكسور عمّا قريب (مِنَ الْأَحْزابِ) أي أنّهم من جملة الكفرة المتحزّبين على الرّسل في كلّ عصر ، وأنت يا محمد غالبهم ، فلا تبال بهم. وهذا الكلام إعجاز ، لأنه إخبار عن الوقائع التي تحدث بعد زمان الإخبار ، وقد ظهرت كما أخبر. ولما ملّ خاطره الشريف (ص) عن تكذيب القوم له ، سلّاه الله سبحانه بقوله يا محمد :

* * *

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

١٢ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي أن تكذيبك من قومك ليس بأمر جديد بديع ، بل كذّب قبل قومك قوم نوح نوحا ، وقوم كلّ نبيّ نبيّهم ، إلى أن انتهى الأمر إلى قومك فكذّبوك فيما جئتهم به. فلا تعتن

١٠٢

بتكذيبهم إيّاك. وقد ذكر سبحانه ستة أصناف من المكذّبين أوّلهم قوم نوح فأهلكهم الله بالغرق والطوفان ، والثاني عاد قوم هود عليه‌السلام لمّا كذّبوه أهلكهم الله بالرّيح العقيم ، سمّيت به لأنها ما خرجت ولا تخرج بعد ذلك أبدا وكانت ريح عذاب شديد. والثالث فرعون لمّا كذّب موسى عليه‌السلام أهلكه الله بالغرق مع قومه. والرابع ثمود قوم صالح لمّا كذّبوه أهلكوا بالصّيحة. والخامس قوم لوط حيث كذّبوه فأهلكوا بالخسف. والسادس أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب فأهلكوا بعد تكذيبه بعذاب يوم الظّلة (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) في العلل عن الصّادق عليه‌السلام أنه سئل عن قوله تعالى وفرعون ذو الأوتاد ، لأيّ شيء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال : لأنه كان إذا عذّب رجلا بسطه على الأرض على وجهه ومدّ يديه ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض ، وربما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه ويديه بأربعة أوتاد ثم تركه على حاله حتى يموت. فسمّاه الله عزوجل فرعون ذا الأوتاد. وعن ابن عباس أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب بها.

١٣ ـ (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ ...) قد فسّرت في ضمن ما قبلها من الآية (١٢) (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي المتحزّبين على الرّسل الذين جعل سبحانه صفتهم أنهم الجند المهزوم ، أي وقومك منهم. والحاصل أن هؤلاء الأحزاب مع غاية قوّتهم وكثرتهم صارت عاقبة أمرهم الهلاك والبوار ، فكيف بهؤلاء الضّعفاء من قومك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فعمّا قريب يهلكون.

١٤ ـ (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ ...) مبالغة في وصفهم بتكذيب الرّسل ومخالفتهم إيّاهم كأنهم لا شغل لهم إلا هذا العمل الشنيع ، فلذا سجّل عليهم العذاب. والتفريع بالفاء إشارة إلى عدم التراخي لأنها موضوعة له (فَحَقَّ عِقابِ) أي فوجب لذلك عقابي لهم.

١٠٣

١٥ ـ (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ ...) أي ما ينتظر قومك أو الأحزاب جميعا (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) فسّر أكثر المفسّرين بل كلّهم الصيحة بالنفخة الأولى التي يموت الخلائق كلّهم بها. وقال الطبرسي رحمه‌الله : من الآيات الدّالة على عدم تعذيب هذه الأمة بعذاب الاستئصال هذه الآية ، يعني أن عذابهم بالاستئصال مؤخّر إلى يوم النفخ كما قال سبحانه (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) ، الآية. بخلاف عقوبة سائر الأمم فانها معجّلة في الدنيا. وتلك الصيحة التي وعدهم بها (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي ما لهم من موت بعدها أو من رجعة إلى الدّنيا مقدار رجوع اللّبن إلى الضّرع ، فإن البهيمة إذا ارتضعت أمّها ثم تركتها حتى تنزل اللّبن فتلك الإفاقة هي الفواق ، ثم قيل لكلّ انتظار واستراحة فواق. ثم إن الآية الشريفة نزلت وعيدا وتهديدا للكفرة فاستهزؤوا بإخباره سبحانه وقالوا :

* * *

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا

١٠٤

إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

١٦ ـ (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ...) أي قدّم لنا نصيبنا من العذاب في الدّنيا (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) استعجلوا ذلك استخفافا بخبر النبيّ (ص) وخبر الله تعالى ، فحزن النبيّ صلوات الله عليه من قولهم كثيرا فأنزل الله عزوجل عليه تسلية بقوله :

١٧ ـ (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) أي أصبر على التكذيب والاستخفاف بما جئتهم به إلى أن نأمرك بقتالهم وننزل عليك النّصر (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) فلما ذكر سبحانه أحوال السلف من الأنبياء وتكذيب أقوامهم لهم وذكر عواقب أمر الأقوام من الهلاك والبوار وذكر السّتة الأصناف منهم ، أخذ في بيان أحوال بعض آخر من عظماء الأنبياء عليهم‌السلام ، فقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد بيّن لقومك قصّة عبدنا داود (ذَا

١٠٥

الْأَيْدِ) أي صاحب القوّة والاقتدار والنّعم الكثيرة ، وذلك أنّه كان يبيت حول محرابه كلّ ليلة آلاف من الرجال يطعمون من إطعامه ويشتغلون بعبادة ربّهم إلى الصباح. ولعلّ هذا الوجه أحسن الوجوه وأوجهها بالنسبة إلى ذكر اليد كما لا يخفى ، ومع ذلك ما أنسي ربّه ، بل (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إلى مرضاة الله أو دعّاء له تعالى لقوّته في الدين وفي تحمل أعباء الخلافة والرسالة ، أو كان صاحب قوة في العبادة فإنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وهذا أشدّ من صوم الدّهر حيث إن صيام الدهر موجب للاعتياد ، والرياضة الاعتيادية ليس فيها مزيد مشقّة على النفس بخلاف ما فيه الفصل.

١٨ ـ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ...) أي صيّرناها مأمورة بأمره فتسايره حيث سار وتقف حيث وقف (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي حين تغيب الشمس وحين تطلع ويصفو شعاعها. وقد مرّ تفسير تسبيح الجبال في سورة الأنبياء أو سبأ ، والظاهر أننا قد اخترنا ما هو ظاهر الشريفة من أنه تعالى خلق في جسم الجبال حياة وقدرة وشعورا ومنطقا وحينئذ يصير الجبل مسبّحا لله تعالى بأمره وقدرته الكاملة كما صارت الحصى كذلك أي مسبّحة بلسان فصيح سمعه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفهموا تسبيحها. وفي بعض الأوقات رأينا جمادات أخر أو حيوانات غير ناطقة كانت تتكلّم بلسان فصيح بالشهادة للرسالة أو بالولاية والخلافة أو بما تؤمر به من عنده سبحانه أو بأمر النبيّ أو الوليّ. والحاصل أن تسبيح الجبال باللسان أو بما يشبه اللسان تسبيحا حقيقيا أمر غير محال بالإضافة إلى الخالق القادر المتعالي. ويحتمل أن يكون تسبيحها بإيجاد الصّوت وخلقه فيها كما احتمل في الشجرة. وأمّا ما قيل من أن تسبيح الجبال كان عبارة عن رجع الصّدى ، أي ما يردّه عليك المكان الخالي والقباب الرفيعة الواسعة الفارغة إذا نطقت بصوت عال فيها ، وبعبارة أخرى إنّ تسبيحها هو الترجيع من

١٠٦

الكلام أي المردود إلى صاحبه بعد انعكاسه في الجبال وغيرها ، فهو كلام شعريّ صدر من غير رويّة ، لأن الله تعالى هنا في مقام بيان كرامات داود ومعجزاته التي منها تسبيح الجبال معه كما لو كان يذكر تسبيح الحصى في كفّ خاتم الأنبياء ، لا أنه سبحانه في بيان خواصّ الأمكنة الفارغة والجبال الرفيعة ونحوها ممّا هو من توضيح الواضحات حيث إن هذا الترجيع من الكلام لا يختصّ بداود عليه‌السلام بل بكل إنسان وبكل ذي صوت ، إذا صوّت في تلك الأماكن المذكورة يردّ صونه إليه بلا كلام والتجربة أقوى برهان على المنكر.

أمّا اختصاص تسبيحها بالوقتين فيحتمل أن يكون من جهة أن داود عليه‌السلام كان يقرأ الزّبور فيهما أو أن أكثر قراءته كانت فيهما ، وورد أن ذكر الله تعالى في هاتين الساعتين أفضل ، والتسبيح كان تابعا لذكره.

١٩ ـ (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ...) عطف على الجبال فهي مسخّرة له عليه‌السلام تدور حيثما دار وكانت تجتمع إليه من كلّ جانب حين قراءته وكانت مأمورة بأمره ولا يمتنع أن الله تعالى قد خلق في الطيور من المعارف ما تفتهم به أمر داود ونهيه فتطيعه فيما يريد منها وإن لم تكن كاملة العقل (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي يرجعون إليه في أوقات تسبيحه أو في أوامره أو كانت رجّاعة إلى طاعته والتسبيح معه.

٢٠ ـ (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ...) أي قوّينا وأحكمنا سلطانه بالجنود والهيبة والأموال. وعن ابن عباس أنه كان يحرسه كلّ ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ، وقيل أربعون ألف رجل ، وكان أشدّ ملوك الأرض سلطانا من حيث أن الله تعالى هيّا له الأسباب وأعطاه الهيبة العظيمة والنّصر. ومن أسباب عظمته أن الله تعالى أنزل من السّماء سلسلة على رأس محكمته وكل واحد من الخصمين كان على الحق تصل يده إلى السّلسلة والذي كان على الباطل لا يقدر على أخذها طويلا كان أو قصيرا.

١٠٧

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوّة والعلم بشرائع الله والزبور والإصابة في الأمور والمعرفة به تعالى (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي الكلام البيّن الدّال على المقصود بلا التباس ، أو القضاء بالبيّنة واليمين أو التمييز بين الحق والباطل في مقام قطع الخصومة بين المتداعيين.

٢١ ـ (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ...) الاستفهام إنكاريّ. أي لم يأتك ، وقد أتاك الآن فتنبّه له ، وفيه ترغيب في الاستماع وإشارة إلى الاهتمام بشأن القصّة. والخصم في أصل اللغة مصدر ولهذا كان إطلاقه على الواحد والجمع جائزا بلفظ واحد ، بل على التثنية أيضا على ما هو شأن المصدر نحو لفظ (ضيف) في قوله (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) وذكر الجمع فيما نحن فيه في الجمل الآتية مع أن المراد به هو الاثنان لأن مع كل واحد منهما جماعة من الملائكة كما في التبيان ، فإن جبرائيل وميكائيل أتيا داود على صورة خصمين ومع كلّ واحد كان جمع من الملائكة وكان داود قد قسّم الأيام بالنسبة الى أعماله فقرّر يوما للحكم بين الناس ويوما للعبادة والأنس مع ربّه ويوما للوعظ والنصح للناس وبيان الحلال والحرام لهم ، ويوما للأشغال الخاصة لنفسه. وجعل يوم عبادته أن يصعد إلى غرفة فوقانية خاصة للعبادة ، ثم منع دخول أيّ أحد عليه حتى خواصّ حواريّيه ومن يلوذ به. وكان الحرس حوالي الغرفة يمنعون ورود الواردين والوفود عليه ، فاذكر يا محمد هؤلاء (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي صعدوا سور الغرفة لا من بابها المتعارف حيث إن الحرس كانوا واقفين عليها ومانعين للورود أشدّ منع.

٢٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ...) أي اذكر إذ نزلوا عليه من فوق الغرفة في يوم احتجابه بلا إذن منه والحرس على الباب وكانوا بصور عجيبة (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) أي خاف منهم خوفا شديدا لأنه زعم أنهم أرادوا قتله حيث كان له أعداء كثيرون ، فلمّا شاهدوا منه الخوف (قالُوا لا تَخَفْ

١٠٨

خَصْمانِ) أي نحن فريقان متخاصمان جئنا لتقضي بيننا (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكومة ولا تجاوز الحق. وقولهم (بَغى بَعْضُنا) ، الآية على طريق الفرض وقصد التعريض وإلّا يلزم كذب الملائكة ، وهذا مناف لعصمتهم (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي وسطه ، والمراد طريق العدل.

٢٣ ـ (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ...) النعجة هي الأنثى من الضّأن ، وقد يكنّى بها عن المرأة ، ولعلّ هذا المثل تعريض بالزّوجات ، وترك التّصريح لكونه أبلغ في التوبيخ ، مضافا إلى أن مراعاة حسن الآداب والحفاظ على احترام المكنّى عنها واستقباح ذكرها مقتض لتلك التكنية ، والحاصل أنّ المدعي بيّن ادّعاءه هذا وأشار إلى خصمه وأطلق عليه لفظ (أَخِي) بلحاظ الدّين أو الصداقة ، وبين له أنه شاركه في الخلطة وله تسع وتسعون نعجة (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) أي لا أملك إلا هذه النّعجة المفردة (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي اجعلها في كفالتي وتحت يدي وتصرّفي والحاصل أنه (عَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني وأعجزني في القول والمخاطبة وأنا عاجز من مقاولته والجدال معه والحجاج.

٢٤ ـ (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ...) أي : إن كان الأمر على ما تدّعيه ، فقد ظلمك بضمّ نعجتك إلى نعاجه. يعني أنّ الحق معك وليس له الحق عليك ، وبعد بيان حكم الدّعوى أخذ في الموعظة الحسنة بترغيب الخصمين في إيثار الشريك كما هي عادة الصّلحاء وتزهيدهما بما هو من عادة الخلطاء الطّلحاء فقال عليه‌السلام : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء الذين يخلطون أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي يظلمون ويطلبون زائدا على حقّهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي أن المؤمنين المنصفين هم الأقليّة في جميع الأعصار وقلّتهم دليل على حقانيّتهم كما لا يخفى. و (ما) مزيدة لتأكيد

١٠٩

قلّتهم في الشركاء. ولما خرج الملائكة بعد استماعهم كلام داود وحكمه ، انتقل داود في تفكيره من هذا الأمر الى التفكير بنفسه وحاله مع (أوريا) أحد قوّاده. وقصّته معه قد ذكرها المفسّرون بعناوين مختلفة بحيث لا يليق إسناد بعضها إلى عوام المسلمين بل إلى جهلة الفسّاق فكيف بالأنبياء العظام؟ ومن أرادها فليطلبها من التفاسير المفصّلة ونحن أشرنا إليها للتّحذير منها والتنبيه على بطلانها وعلى أنها بتلك الكيفيّة من وضع الزّنادقة واليهود ونحن نعرض عن حديثها في مرحلة الحكاية حتى لا نكون من المشابهين للقصّاصين. قال مولانا أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام : من حدّثكم بحديث داود عليه‌السلام على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستّين جلدة ، وهو حدّ الفرية على الأنبياء عليهم‌السلام ... وفي المقام ورد حديث نذكره ردّا لما يرويه الزنادقة وهو ما في العيون للرضا سلام الله عليه في حديث عصمة الأنبياء قال : لمّا رويت هذه الرواية الكاذبة للرّضا عليه‌السلام ضرب الرّضا يده على جبهته وقال : إنّا لله وإنا إليه راجعون. لقد نسبتم نبيّا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في إثر الطّير ، ثم بالفاحشة ثم بالقتل. فقيل له : يا مولاي ، فما كانت خطيئة داود فقال ويحك إن داود عليه‌السلام ظنّ أنّه ما خلق الله عزوجل خلقا أعلى منه. فأرسل الله إليه الملكين فتسوّرا المحراب وقالا له : خصمان بغى بعضنا على بعض إلى نهاية القول ، فقال داود عليه‌السلام : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) وكأنه حكم للمدّعي قبل سماع كلام المدّعى عليه ، ولم يقبل على المدعى عليه فيسمع منه ؛ هذه كانت خطيئته ، وليس كما ذهبتم إليه. ألا تسمع قول الله تعالى يقول (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ)؟ فقيل له : يا ابن رسول الله ما قصّته مع أوريا؟ قال الرّضا عليه‌السلام : كانت المرأة في أيّام داود إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبدا. فأوّل من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها هو داود ، فقد تزوّج بامرأة أوريا لما

١١٠

انقضت عدّتها فذلك هو الذي شقّ على الناس. ويؤيّد هذا الحديث الشريف الصّحيح ما رويناه قبله عن عليّ عليه‌السلام (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي اختبرناه بهذه الحكومة والحكم بين المتخاصمين قبل أن يسأل المدّعي البيّنة وقبل أن يسمع الكلام من خصمه أو أن يطلب من المدعي اليمين في حال عدم وجود البيّنة مع أنه بعث على ذلك وشرّع في شريعته في مقام فصل القضاء أن يحكم بهذه الكيفيّة على ما قيل ، فالاستعجال في الحكم كأنّه زلّة صدرت عنه عليه‌السلام لتجعله ينتبه إلى هذا المعنى ، وحتى لا يتخيّل بعد ذلك بأنه أعلم من في الأرض والمراد بالظنّ هنا العلم. والسّبب الذي أوجب حمل لفظ الظّن على العلم ها هنا هو أنّ داود لمّا قضى بينهما ، نظر أحدهما إلى صاحبه فتبسّم ثم صعدا إلى السماء ، فعلم داود أنّ الله ابتلاه بذلك تنبها لما خطر على قلبه الشريف. وإنما جاز لفظ الظنّ على العلم لأن العلم الاستدلاليّ يشبهه الظنّ مشابهة عظيمة وهي علة لجواز المجاز. وهذا الكلام يتمّ إذا كان الخصمان ملكين وإلّا فلا يلزمنا حمل الظن على العلم بل نبقيه على معناه المتعارف. والحاصل أنه لمّا علم الاختبار والابتلاء انتبه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وقع ساجدا ورجع إلى الله بالتوبة. ولا يلزم من الاستغفار كونه مرتكبا لذنب بل يمكن أن يحمل على أن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. وروي أنه عليه‌السلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلواته المكتوبة أو لما لا بدّ منه.

٢٥ ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ...) إشارة إلى ترك المندوب والأولى ، فقد كان ينبغي له أن يفعل الأولى ، فعدّ ترك الأولى ذنبا (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي إنّ لداود عندنا لمرتبة القرب والكرامة وحسن المرجع في الجنّة. وحقيقة استغفاره كان لانقطاعه عما سوى الله وتوجّهه إليه كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)

١١١

وقوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي أثبناه عليه وقبلنا منه ما تركه من ترك المندوب. وتسميته بالمغفرة كان على طريق المزاوجة نحو (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) أو (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) أو كما تدين تدان وغير ذلك من الموارد. وروي أن خطيئته التي صارت باعثة لاستغفاره هي المسارعة في الحكم بقوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ) إلخ قبل أن يسأل البيّنة من المدّعي وقبل أن يقول للمدّعى عليه : ما تقول في ما يدّعى عليك؟ ثم بعد نعمة الغفران والبشارة بالقرب وحسن المرجع ذكر إتمام نعمه على داود بقوله :

٢٦ ـ (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً ...) أي لإقامة أمر الدّين وتدبير أمر الناس ، أو جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدّعاء إلى توحيد الله وبيان شريعته (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي ضع الأشياء في مواضعها التي أمرناك بها (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) لا تحكم خلاف حكم الله طبقا لهواك. وهذا تهييج له أو من باب إيّاك أعني (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الطريق الذي هو الجادة للشريعة الإسلامية ، أو يضلّك عن الدّلائل والحجج الواضحة لإثبات الحق والحقيقة (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ) أي ينحرفون عن طريق الحق تكون نتيجة ضلالهم الخسران في الآخرة و (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي بسبب نسيانهم إيّاه. فيكون الظرف متعلقا بقوله (نَسُوا) ويحتمل أن يتعلّق بما يتعلق به الجار في قوله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).

* * *

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

١١٢

الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

٢٧ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ ...) لعل المراد بهما الجنس ، فأريد بهما صورة الخلق العامة التي تشمل غيرهما ممّا في السّماوات والأرضين. فما خلقناهما (وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي لا لغرض أصلا ، أو بدون غرض صحيح لفاعله فيقال له العبث. بل خلقناهما لحكمة ومصالح كثيرة ومنافع جليلة لا تخفى على أولي البصيرة (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي خلقهما العبثي مظنون الكفرة (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أقيم الظاهر مقام المضمر لأنه أصرح في كونهم كافرين وإشارة إلى العلّة فويل لهم (مِنَ النَّارِ) بيان للويل الذي هددهم سبحانه به.

٢٨ ـ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) معناه بل أنجعل الّذين صدّقوا الله ورسوله كمن لا يعتقد بهما بل عمله تكذيبهما خلافا لعمل الأوّلين المعقّب لإيمانهم؟ فهؤلاء لا نجعلهم يوم القيامة كالكافرين بنا. (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) إنكار للتّسوية. وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والوفاء بالعهد ، وقلّة الفخر والتجمّل ، وصلة الأرحام ، ورحمة الضّعفاء ، وقلة المواتاة للنّساء ، وبذل المعروف ، وحسن الخلق ، وسعة الحلم ، واتّباع العلم فيما يقرّب إلى الله تعالى. وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام قال : الفاجر إن ائتمنته خانك ، وإن صاحبته شانك ، وإن وثقت به لم ينصحك. وقد كرّر الإنكار باعتبار وصفين آخرين يمتنع من الحكيم التسوية بينهما لأنه خلاف العدل والحكمة. ثم خاطب سبحانه نبيّه (ص)

١١٣

لحثّ المؤمنين بل مطلق البشر على متابعة القرآن فقال عزّ من قائل :

٢٩ ـ (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ...) أي هذا كتاب نفّاع ذو خير كثير (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) يتأمّلوها ويتفكّر الناس فيها فيتّعظوا بمواعظه وينتصحوا بنصائحه. قالت المعتزلة : دلّت الشريفة على أنه إنّما أنزل هذا القرآن لأجل الخير والرحمة والهداية ، فيلزم أن تكون أفعال الله معلّلة برعاية المصالح ، وأنّه تعالى أراد الإيمان والخير والطاعة من الكلّ ، خلافا لمن قال إنه أراد الكفر من الكافر والشكر من الشاكر والشّرك من المشرك (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول الصافية والأفهام الثاقبة. وفي القمّي عن الصّادق عليه‌السلام : ليتدبّروا آياته : هم أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام فهم أولو الألباب. قال : وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يفتخر بها ويقول ما أعطى أحد قبلي ولا بعدي مثل ما أعطيت.

* * *

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

٣٠ ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ...) أي أعطيناه إيّاه. والتعبير بالهبة هو إعطاء المال بلا عوض. وقد رمز إلى أنه تعالى إذا أعطى أنبياءه ورسله أولادا ذكورا وجعلهم خلفاءهم في أرضه وسفراءه بينهم ، فلهم معه تعالى خصوصيّة وربط تام ، ومع هذا لا يريد منهم جزاء ولا شكورا فمن غيرهم

١١٤

أولى لأنه يفيض على جميع الموجودات ما تحتاج إليه بلا نظر إلى أدنى شيء منها ، وإن طلب ذلك من العباد وأمرهم بشيء فهو لطف منه تعالى بهم حيث إنه يكون لصلاحهم فنفعه عائد إليهم وإلّا فهو سبحانه غنيّ عن العالمين ، وهم بأجمعهم محتاجون إليه سبحانه (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إليه سبحانه في ما يرضيه من التوبة والذكر. فيا محمد أذكره في قصّته. ويحتمل أن يكون (نِعْمَ الْعَبْدُ) وما بعده صفة لداود عليه‌السلام والله أعلم.

٣١ و ٣٢ ـ (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ ...) أي وقت العصر إلى آخر النهار ، أو المراد به بعد الظهر ، أو أوّل الظّلام أو آخر النهار ، وقيل من المغرب إلى العتمة ، ولعل هذا هو الأظهر. ثم إن سليمان عليه‌السلام كان يحبّ الخيل حبّا شديدا بحيث يحبّ النظر إليها ولذا يقعد ويأمر بعرضها عليه. وكان يوما من الأيام قد أمر بإخراجها وعرضها عليه واشتغل بالنظر إليها حتى غابت الشمس ، فلمّا أفلت التفت إلى أنه فاتته وظيفة من وظائفه اليومية ، فتغير حاله وقال في نفسه لا ينبغي أن يقتني الإنسان ما يشغله عن ذكر ربّه ولا بدّ من أن تنحصر علاقة العبد بمولاه ، فأمر بضرب أعناقها كما حكى الله تعالى قصّته لنبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) ، إلى قوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً) ... إلخ وقوله (إِذْ عُرِضَ) متعلّق بالأمر المقدّر ، أي اذكر يا محمد قصة سليمان. وقوله (الصَّافِناتُ) جمع الصافنة وهي صفة للفرس ، أي الذي يقوم على ثلاثة قوائم ويرفع احدى الأربع ويقف على طرف حافرها كما يشاهد في الأفراس. والجياد جمع جواد وهو السريع في الجري ، وقيل جمع جيّد. وقال الكلبيّ : إن هذه الأفراس ، كانت ألفا حصلت لسليمان أثناء غزواته مع الدّمشقيين والنّصيبيين ، ولكن يقول مقاتل : إن داود (ع) قاتل العمالقة وتغلّب عليهم وأخذ منهم ألف فرس ، فهذه تراث داود

١١٥

عليه‌السلام. وقال البعض ، كالحسن البصري وغيره : إن هذه كانت خيولا مائيّة أهداها إلى سليمان جماعة من الجنّ. وقوله (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي الخيل. وإطلاق الخير على الخيل لأنّ العرب يطلقون الخير عليه ، ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة و (أَحْبَبْتُ) هنا بمعنى استحببت مثل ما في قوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي يؤثرونها. و (عَنْ) في قوله (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) بمعنى (على) أي اخترت حبّ الخير على ذكر ربّي (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ذكر الضمير بلا مرجع يذكر قبله لدلالة لفظ (بِالْعَشِيِ) عليه. والمراد بالمرجع هو الشّمس ، وتوارت معناه اختفت واستترت وراء الأفق. أو المراد بالحجاب هو ستار اللّيل وظلامه وإيراد التّواري بالحجاب للشمس تشبيه لها بمخدّرة اختفت وراء السّتار.

٣٣ ـ (رُدُّوها عَلَيَّ ...) أمر الملائكة الموكلّين بردّ الشمس ، فردّت فصلّى. كما ردت ليوشع وعليّ عليهما‌السلام. وإرجاع الضمير إلى الخيل خلاف ما يظهر من قوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) مضافا إلى أن الخيل كانت بمنظر منه وبمرآه على ما يظهر من قوله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) فردّ الخيل تحصيل للحاصل كما لا يخفى مضافا إلى ما عن ابن عباس عن أمير المؤمنين من أن الضمير راجع إلى الشمس والمراد من الذّكر هو صلاة العصر. (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي جعل يمسح سوقها وأعناقها بالسّيف وتصدّق بلحمها كفارة لتأخير وظيفة اليوم. أو المراد فجعل يمسح بيده سوقها وأعناقها على ما هي العادة المشاهدة عند المعجبين بالخيل والمفتنين بها. والقائل بهذا القول طعن على قول الأوّل وحمل عليه بأنه أيّ ذنب أتته هذه البهائم حتى تستحقّ عليه ذلك القتل والتمثيل ، فضلا عما في ذلك من تلف الأموال بلا مصلحة ولا

١١٦

حكمة ، ومن نسبة الأنبياء إلى فعل السفهاء وعمل الجهّال. فلينظر هذا القول وليتدبّره من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ويمكن أن يجاب هذا الطاعن بأنه عليه‌السلام إنّما فعل ذلك لأنّها كانت أعزّ أمواله فتقرّب إلى الله تعالى بأن ذبحها ليتصدّق بلحومها ، فإنّ أكل لحومها في ذلك العصر كان أمرا شائعا متعارفا كأكل الأغنام والبقر والجمال وغيرها ، ويشهد بصحة هذا القول قوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) إلخ.

* * *

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

٣٤ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ...) أي اختبرناه وامتحنّاه بأن شدّدنا المحنة عليه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) يحتمل أن يكون إلقاء هذا الجسد بيانا لشدّة محنته وابتلائه وما اختبره به ، فإنه عليه‌السلام كان يحب أن يكون له أولاد كثيرون يجاهدون في سبيل الله ، وكان عنده من النّساء ما شاء ، وكان يطوف عليهن طلبا للأولاد ولكنهنّ لم يلدن له ، إلّا امرأة واحدة جاءت

١١٧

بولد ميّت وألقته على كرسيّه ليشاهده عليه‌السلام. فلما رآه انكسر قلبه بمقتضى الطبع البشريّ ، وفزع وتأذّى بذلك. فلما استيأس من الولد رجع منقطعا إلى ربّه وانحصرت علاقته به تعالى كما أخبر الله سبحانه نبيّه بذلك بقوله (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع إلى رجع إلى ربّه بعد يأسه من الولد أو بعد شهوده الجسد رجع على وجه الانقطاع إليه تعالى وذكر في سبب ابتلائه أمور أخر كذهاب ملكه أربعين يوما من يده وغير ذلك ومن أراد فليراجع المفصّلات من الكتب.

٣٥ ـ (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ...) طلبه الغفران يحتمل فيه أمور : الأوّل لحبّه الشديد للولد وتعلّقه الشديد به وإن كان حبّه له لله حيث إنه يحبّ الأولاد ليجاهدوا في سبيله تعالى ، فإن الأنبياء حبهم وعلاقتهم لا بد وأن يكونا حصرا لله تعالى وإن كان هذا الحب محبوبا له تعالى ومأمورا به من عنده سبحانه ، إلا أنه حسنات الأبرار سيّات المقرّبين. وثانيا أنه من باب الخضوع والخشوع. وثالثا أنه من باب الخوف والخشية كما هو شأن المقرّبين والعارفين به سبحانه على ما هو ديدن سيّد المقرّبين والعرفاء مولانا أمير المؤمنين أرواح العالمين له الفداء ، وكذلك هو ديدن أولاده الطّاهرين صلوات الله وسلامه عليهم فليراجع في أحوالهم كيف كانوا يبكون ويستغفرون الله في جميع أحوالهم ، وغير ذلك من المحتملات التي تناسب شأنه عليه‌السلام. ووجه تقديم الاستغفار على طلب الملك أن من آداب طلب العبد من المولى العظيم أن يتوب ويستغفر أوّلا لكي يصفو فتحصل له الأهلية والقابلية لإفاضة الفيض من المبدأ الأعلى فيستفيض منه سواء كان مطلوبه من مولاه أمرا دنيويّا أو أخرويّا وأما حصر مطلوبه بنفسه عليه‌السلام فلا يكون من باب الشّح والمنافسة ، حاشاه ثم حاشاه ، بل من باب أن لكلّ نبيّ معجزة تختصّ به ، فأحبّ أن يكون الملك بهذه الكيفيّة معجزة خاصّة له ، مضافا إلى أنه مظهر كامل من مظاهر قدرته الباهرة

١١٨

العظيمة وبرهان قاطع على وجود خالق العالم ، وحجة على الصّانع القدير ، فلذا استجاب الله دعاءه بأكمل ما أراد وأتمّ ما شاء. ولمّا كان إعطاء الملك بهذه الكيفية من العظمة منحصرا به تعالى ، أكّده بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي المعطي بكرم وبلا عوض.

٣٦ ـ (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ ...) من كمال قدرتنا أنّنا سخّرنا لنبيّنا الريح ، أي ذلّلناها لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) بيان لتسخيره له الرّيح وتذليلها لطاعته ، أي ليّنة في وقت ، وعاصفة في آخر ، بلا تزعزع وتخوّف ، بل طيبة سريعة وفي عين تلك الحالة مطيعة مريحة (حَيْثُ أَصابَ) أي في كلّ مكان وزمان أراد.

٣٧ ـ (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ...) عطف على الريح ، أي سخّرنا له الشياطين الذين لهم صناعة البناء والغوص ، فهم الذين يستفاد منهم فيبنون له في البرّ ما أراده عليه‌السلام من الأبنية الرفيعة بأيّ كيفية أراد كغمدان وبيت المقدس وغيرهما من الأبنية ويغوصون في البحر ويستخرجون منه ما شاء من اللّآلي والجواهر.

٣٨ ـ (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ...) أي مكبّلين ومشدودين في الأغلال ليكفّوا عن الشّر وقال القمّي : هم الذين عصوا سليمان حين سلبه الله ملكه على ما ذكر في بعض كتب التفاسير من قصّته تلك.

٣٩ ـ (هذا عَطاؤُنا ...) أي هذا الذي أعطيناك من الملك والسلطان والبسطة التي ما أعطيناها أحدا قبلك ولا تعطى لأحد من بعدك هي منّة منّا عليك (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي أعط منه من شئت وامنع عمّن شئت ، فاختياره بيدك وأنت مفوّض فيما شئت من الصرف (بِغَيْرِ حِسابٍ) غير محاسب عليه. هذا بالنسبة إلى الدّنيا ، وأمّا العقبى فهو ما أخبر عنه الله تعالى بقوله :

١١٩

٤٠ ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى ...) أي قرب المقام والرّتبة ، ولا ينقص ملكه العظيم في الدنيا من رفعة مقامه وقربه عندنا شيئا (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي له عندنا مرجع حسن ودرجات في جنّات النّعيم التي هي أعظم النّعم مع ما له من الملك العظيم في الدنيا. ثم إنه سبحانه لما أطلع رسوله على قصّة سليمان وذكر له أحواله وما آل إليه أمره في دنياه وعقباه ، بيّن حكاية أيّوب وابتلائه واختباره وصبره على قضاء الله وقدره فيه حتى يقتدي به النبيّ في تحمّل المصائب والصّبر على المشاق وأذى قومه ومقاساة محنهم فقال :

* * *

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

٤١ ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ...) شرّفه الله سبحانه بأن أضافه إليه تعالى ، وكان أيوب ممّن خصّهم الله سبحانه بأنواع البلاء والمحن فذكر قصّته تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتذكيرا له بأنه لا بدّ من الصّبر والتحمّل حيث إن هذه سنّتي مع أنبيائي ورسلي المقرّبين فاذكره (إِذْ نادى

١٢٠