كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق

الحمد لله الذي ذي المنّ والفضل بأن منّ علينا بنبي هو أفضل الأنبياء ، وبأئمة هداة ميامين قد أورثوا علم الكتاب ، وما نزل به الروح الأمين على قلب جدّهم الرسول الصادق المصدق ، فبثّوا علومهم بين الأنام ، خصوصا بين شيعتهم الكرام ، وكان من بياناتهم الموجبة لمزيد الفضل منّة علينا أن بيّنوا «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع» ، فلم يألوا جهدا في ذلك طيلة حياتهم وما كتبه الله لهم من عمر ، فكانوا عليهم‌السلام خير خلفاء لجدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في إفاضة العلوم على أصحابهم.

ولمّا كان من سنن الله عزوجل اختيارهم إليه دون بقائهم بين ظهراني الناس فقد أوجبوا على أصحابهم نشر تلك العلوم وإبلاغ من لم يصل إليهم بذلك ، بل شجّعوا على التفقه في الدين وحثّوا شيعتهم على الاهتمام بذلك ، فكانت غاية همّ أصحابهم أن يكتبوا حديثا ورد عنهم عليه‌السلام ، أو يبيّنوا فقه حديث ورد عن جدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكل فقيه كان يوصي من بعده بذلك ، حتى وصل إلينا ما صدر عنهم من علوم جليلة ، قد تضوع عنها عطور الإلهام الإلهي.

وكان من بياناتهم لشيعتهم ـ أيدهم الله ـ التأكيد على متابعة الفقهاء والأخذ عنهم فمنها قولهم في بعض أصحابهم «.. أمناء الله على حلاله وحرامه» (١) ومن أقوالهم «.. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله ..» (٢) ، وغيرهما من الآثار المعصوميّة المرشدة إلى هذا المعنى ، وممّن هو الفرد الأكمل في دائرة الفقاهة ، بل إنسان عين الفقه على الإطلاق آية الله

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ١١ ، حديث ١٤.

(٢) الاحتجاج : ٤٦٩ ، الغيبة : ١٧٦ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٩.

٥

العظمى فقيه طائفة الإماميّة السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي قدس‌سره ، فقد حاز من الفقه قصبه المعلّى وارتقى من أثباج العلم أعلاها ، فهو بحق المصداق الكامل لمن فرّع الفروع عن الأصول ، وأرجع الصغريات إلى كبرياتها ، وقد دأب على ذلك طيلة حياته.

ولم يفتأ مؤلّفا ، محققا ، للعلماء مربيا ، وللفقهاء موجها وراعيا وحافظا ، على رغم ما اشتملت عليه الفترة الزمنيّة التي عاشها ممّا يوجب اشتغال البال وتشتت الحال ؛ من فتن وحروب داخليّة وخارجيّة ، كآثار ومجترّات فتنة الزگرت والشمرت ، وما جرّته مسألة المستبدّة والمشروطة ، وتداعيات ثورة العشرين في العراق ، وما ترتب على الاحتلال البريطاني للعراق من ويلات على الشيعة عامّة ؛ وعلى أهل العراق خاصة ، وقد حاول بحنكته السياسيّة ـ قدر الجهد والطاقة ـ تجنيب وإبعاد الحوزة العلميّة في النجف الأشرف عن كل ذلك ، رغم دعمه الجلي للمقاتلين والمجاهدين المتوجهين لمقاتلة الإنجليز آنذاك ، بل كان على رأس من أرسلهم لذلك ابنه السيد محمد (١) ، وكان من خيرة أفاضل النجف الأشرف وعلماءها ، كل ذلك حفظا لكيان التشيع عن الضياع والتشتت ، وتوحيدا لصفّ المؤمنين في مقابلة العدوّ المشترك ، ولذا فالتاريخ قد نقل لنا الكثير من رسائله لأطراف البلاد آنذاك من شيوخ العشائر والقبائل والعلماء والمشايخ والوكلاء عنه في النواحي داخل العراق وخارجه يحثهم على الجهاد والحركة ضد الاستعمار آنذاك (٢).

فكان بحقّ الفقيه في سياسته والسياسي في تدبيره لأمور الناس ، كما كان على الصعيد الفقهي المبرّز بين أقرانه ومعاصريه ، بل قد اشتهر بذلك جدا حتى دان له

__________________

(١) وقد قال في رسالته للمجاهدين بعد أن أرسل ابنه السيد محمد : فإنّه لمّا دهم الخطب واستفحل البلاء وأعضلت النازلات على ثغور الإسلام ... ألا وإني رغبة إلى الله جلّ شأنه وابتغاء مرضاته وحرصا على الدفاع عن دينه الأقدس وناموسه الأعظم قد قدّمت إليكم أعزّ ما عندي وأنفس ما لدي ولدي وفلذة كبدي السيد محمد سلّمه الله تعالى ، آثرتكم به مع مسيس حاجتي له وشدّة عوزي إليه ... ، النجف الأشرف وحركة الجهاد ؛ كامل سلمان الجبوري : ص ١٠٠.

(٢) راجع كتاب : النجف الأشرف وحركة الجهاد عام ١٩١٤ م ؛ لكامل سلمان الجبوري ـ الطبعة الأولى سنة ١٤٢٢ ه‍ ، مطبعة العارف / لبنان.

٦

بذلك القاصي والداني ، ودانت له المرجعيّة العامة للإمامية ، ولم يكن في هذا المجال فقط ، بل كان أصوليّا محققا من الطراز الأول في هذا الفن ، وسيأتي ذكر هذا مفصلا.

مولده الميمون :

قال في الأعيان : «ولد مترجمنا في سنة ١٢٤٧ ه‍ في قرية من قرى مدينة يزد الإيرانيّة ، وقيل تسمى «كسنو» نسبة إلى ابنة يزدجرد (١) فقد كان هذا اسمها ، وينتهي نسبه الشريف إلى إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط عليه‌السلام».

سيرة العلمي :

كان والده مزارعا في بلدته ، ولذا فقد اشتغل لبرهة من الزمن مع والده (٢) ، ثمّ توجه لطلب العلم ، وقد كانت مدينة أصفهان حاضرة العلم آنذاك ومهوى أفئدة طلابه ، فهاجر إليها ـ بعد أن أنهى المقدمات وسطوح الفقه والأصول في يزد ـ وحضر عند علمائها كالعلّامتين الآيتين عمّي صاحب الروضات ، كما حضر عند ابن صاحب هداية المسترشدين الشيخ محمد باقر ، كما حضر عند غيرهم من أهل الفضل والعلم ، وقد شهد له هؤلاء ببلوغه مرتبة الفقاهة والاجتهاد .. وحينئذ تعلق قلبه بمرقد فيّاض العلوم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آله ، فشدّ الرحال إلى النجف الأشرف سنة ١٢٨١ ه‍ ، وهي السنة التي توفي فيها الشيخ المرتضى الأنصاري قدس‌سره ، ولذا فيخطأ من يعده ممّن حضر دروس الشيخ قدس‌سره (٣).

__________________

(١) الظاهر أنّه اشتباه من صاحب الأعيان ؛ وذلك لأنّ ابنة يزدجرد اسمها كسنويه.

(٢) إنّ هذا المعنى قد ذكره السيد الأمين في أعيانه ، وذكر أيضا أنّه طلب العلم على الكبر ، ولكنّه ليس قولا معتمدا ، بل القرائن لا تساعد عليه ، وذلك لما نقله السيد الأصبهاني في أحسن الوديعة من أنّه هاجر بعد بلوغه إلى أصبهان فسكن بها مدة من الزمان .. ، ج ١ ص ١٦٥ ، وهذا يعني أنّه هاجر لطلب العلم مبكرا كما لا يخفى!.

(٣) فيكون عمره حين وصوله إلى النجف الأشرف ٣٤ سنة تقريبا ، وهو سن مناسب لمثله من حيث أنّه قد وصلها مجازا بالاجتهاد من أساتذته في أصفهان ، وعليه لا تصح كلمة صاحب ـ الأعيان من أنّه طلب العلم على الكبر ، نعم قد وصل إلى النجف في هذه السن التي قد تورث الاشتباه بأنّه كان بداية طلبه للعلم.

٧

هذا وقد حضر في بحوث الفقه ـ في النجف الأشرف ـ عند الفقيه الشيخ مهدي ابن الشيخ علي نجل الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء ، وهو المشار إليه من قبل الشيخ بعده في المرجعية ، والمتوفى سنة ١٢٨٩ ه‍ ، كما حضر على فقيه العراق الشيخ راضي النجفي والمتوفى سنة ١٢٩٠ ه‍ ، وحضر عند المجدد السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي فقها وأصولا قبل خروجه إلى سامراء.

قال عنه في منار الهدى : سمعت من أستاذي الشيخ محمد تقي القمشئي الأصبهاني قال سمعت من جناب السيد يقول : راجعت ونظرت في الجواهر من أول الطهارة إلى آخر الديات سبع مرّات (١).

«.. وكان قدس‌سره يدرّس الفقه في الغري السري بلسانه الطلق ويلقي المطالب الجليلة على طلاب مجلسه ببيانه الذلف ، وكانت حوزته الباهرة في هذه الأواخر أجمع وأوسع وأنفع من أكثر فقهاء عصره وفضلاء مصره ، ومن غاية تسلطه في الفقه ومهارته العجيبة أنّه لا يتأمل في المسألة كثيرا بل يمشي سريعا يطوي مراحل الفقه بأهون ما يكون ، وكان يستدل على المسألة الواحدة بنظائر كثيرة لها في الفقه .. (٢)

وقد اتخذ له محلا خاصا للتدريس وهو مسجد الشيخ مرتضى الأنصاري ، وهو نفس المكان الذي اتخذه لنفس الغاية بعده السيد عبد الهادي الشيرازي.

أخلاقه :

لقد كان السيد قدس‌سره على جانب عال من التواضع ، بحيث أنّه كان يعد نفسه كأحد الجالسين معه ، ولا يستشعر في نفسه كبرا أو أنفة عن البحث والتباحث في أي مسألة ، ولو كان المسائل له أقل الطلبة ، كما كان محبا للخير لأهل العلم خاصة وللناس عامّة ، يبذل أقصى جهده لقضاء حوائج الناس والمرتادين مجلسه ، كما كان يفرّ من

__________________

(١) منار الهدى ؛ الأعلمي : ص ١٥٠.

(٢) المصدر السابق : ص ١٥١.

٨

الزعامة والرئاسة بما عنده من قدرة نفسيّة عظيمة ، حقّا .. لقد أدّب نفسه بآداب أجداده الطاهرين عليهم‌السلام ، وكان يهتم جدا بمساعدة الفقراء والمحتاجين ، قاضيا لحوائج المؤمنين ، متفانيا في رد مظالمهم.

وقبل كل ذلك كان على جانب كبير من التقوى والورع عن محارم الله ، بل كان محاكيا المعصوم في فعله ، ملتفتا حتى للنكات الدقيقة والصغيرة في مقام العمل ، مراعيا لها ، سالكا جادّة الاحتياط ، مصداق قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) ، وفردا جليّا لقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)(٢) ، وقد حصّل تلك الدرجات الموعودة له ولأمثاله من العلماء.

قالوا عنه :

قال عنه في أحسن الوديعة (٣) : ... العالم الفقيه والعارف الكامل الوجيه فخر الأعاظم والبحر المتلاطم السيد الأستاذ المولى العماد السيد محمد كاظم بن عبد العظيم الطباطبائي نسبا واليزدي مولدا ومنشأ والأصبهاني تحصيلا والغروي مسكنا ومدفنا ..

وقال عنه الأعلمي في مناره (٤) : عالم فاضل جليل متبحر فقيه ...

وقال عنه السيد الأمين في أعيانه (٥) ـ بعد أن ذكر ولادته ومسقط رأسه ـ : «.. ينتهي نسبه إلى ابراهيم الغمر بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، كان فقيها أصوليّا محققا مدققا انتهت إليه الرئاسة العلميّة وكان معوّل التقليد في المسائل الشرعيّة عليه ، وقبض على زعامة عامّة الإماميّة وسوادهم وجبيت إليه الأموال الكثيرة ممّا يقل أن يتفق نظيره .. ـ ثمّ ذكر بداية طلبه وأساتذته ودروسه ـ إلى أن قال : وكان يصلي الجماعة في الصحن الشريف ويأتم به خلق كثير وتصدى إلى

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

(٢) المجادلة : ١١.

(٣) أحسن الوديعة : ١ / ١٦٥.

(٤) منار الهدى : ١٥٠.

(٥) أعيان الشيعة : ١٠ / ٤٣ بتصرف.

٩

التدريس والتأليف بعد وفاة أستاذه الميرزا الشيرازي في سامراء ، وكان لغويا متقنا فصيحا قيما بالعربيّة والفارسيّة ينظم وينثر فيهما .. جيد النقد قوي التمييز».

وقال عنه في ريحانة الأدب (١) : «من فحول علماء الإماميّة المتبحرين في القرن الرابع عشر الهجري ، العالم المتقي العامل المحقق المدقق جامع تمام العلوم الدينيّة الفروعيّة والأصوليّة سيد علماء الأمّة حامل لواء الشريعة من مفاخر الشيعة رئيس مذهب الفرقة المحقة بالخصوص في الفقه الجعفري كان في نهاية التبحر كان له فكر عميق ونظر دقيق مرجع أغلب الشيعة علّامة زمانه ورأس فقهاء العصر كان درسه في حوزة النجف أنفع الحوزات العلميّة ومرجع استفادة أكابر الفحول والأساتذة كان يبين المطالب العالية من الفقه ببيان سهل يتقبله سمع الحاضرين ومن كثرة إحاطته كان يحل أغلب مشكلات ذلك العلم بتقريب قريب من فهم العامّة».

أعماله :

لقد كانت الحياة الاجتماعيّة في مدينة النجف الأشرف آنذاك دائرة مدار أمره ونهيه ، منقادة لأمره ، وكذلك كان قطب رحى الحوزة العلميّة بحثا وتدريسا وتوجيها وتقليدا ، فقد كان المرجع الأعلى فيها ، خاصة بعد وفاة أستاذه الميرزا محمد حسن الشيرازي سنة ١٣٢٠ ه‍ في سامراء ، ومن أهم إنجازاته إدارته لتوجيه المجاهدين من أهل العلم وغيرهم في حربهم ضد الإنجليز في أثناء ثورة العشرين ، وكانت فتاوى بقيّة العلماء ومراجع التقليد آنذاك كلها بتبع فتواه المشهورة بوجوب الجهاد (٢) ، بل يظهر من بعض مراسلاته معهم أنّه قد وضع لهم بعض الخطط العسكريّة سرّا ، والتي نجحت إلى حدّ ما ، وكان يعيل أهالي المجاهدين من أهل النجف وخارجها ، ويقوم بأمورهم ، فجزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين.

ومن إنجازاته الكبيرة المدرسة المعروفة باسمه في النجف الأشرف ، وهي ماثلة

__________________

(١) ريحانة الأدب ل ميرزا عباس قلي تبريزي.

(٢) ذكرها الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في ضمن مذكراته ؛ والملحق بكتاب النجف الأشرف وحركة الجهاد : ص ٣٨٦.

١٠

إلى حين كتابة هذه السطور ، وتعتبر من أفضل المدارس من حيث الحجم والتصميم ، فهي تشتمل في مجموعها على ثمانين غرفة في ضمن طابقين ، بديعة في شكلها (١) ، مكسوّة جدرانها بالحجر القاشي ، شرع في بناءها سنة ١٣٢٥ ه‍ وانتهى منه سنة ١٣٢٧ ه‍ ، عمّرها الوزير الكبير «آستان قلي البخاري» عامر مدرسة الآخوند الوسطى ، كما وقف عليها بعض الموقوفات لمصرف الماء والضياء لما أن فضلت بعض الأموال بعد إكمال بناءها ، وكان تاريخ بناءها ما قاله الشيخ علي المازندراني (٢) مؤرخا :

أسسها بحر العلوم والتّقى

محمد الكاظم من آل طبا

و (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ) أتى

(تأريخها إلا بحذف ما ابتدا)

تاريخ بنائها ١٣٢٥ ه‍ (٣).

كما أنّ هناك مدرسة أخرى تسمى مدرسة اليزدي الثانية ؛ وهي في محلّة العمارة متّصلة من الغرب بمدرسة الخليلي الصغرى ومن الجنوب بمدرسة الخليلي الكبرى ، وكانت قبل تحويلها لمدرسة خانقاه ـ أي محل سكنى الزوار ـ بناه السيد للزائرين يوم لم تكن فنادق أو أماكن عامة تسع الوافدين ، ولمّا رأى ابنه السيد أسد الله أنّ هذا الخان بعد ذلك أصبح عاطلا ولا فائدة فيه رجح في نظره أن يشيده مدرسة فعرض الأمر على السيد الحكيم آنذاك فوافقه وساعده ببعض المبالغ لتكميل بنائها ، فهي الآن على أرض مساحتها ٦٠٠ متر مربع وعدد غرفها ٥١ غرفة ، وقد شرع في بنائها سنة ١٣٨٤ ه‍ ، ولها أوقاف تدرّ عليها ، وتسمى باسم مدرسة الوقف أيضا (٤).

__________________

(١) منار الهدى : ص ١٥٢.

(٢) من وجوه تلاميذه ؛ وشريك الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في العمل بوصيّة السيد قدس سرّه مع أخيه الشيخ أحمد كاشف الغطاء.

(٣) الظاهر أنّ التاريخ يتم بدون كملة «أتى» : فكلمة في ٩٠ ـ وكلمة بيوت ٤١٨ ـ وكلمة أذن ٧٥١ ـ ولفظ الجلالة ٦٦ ؛ فيكون المجموع : ١٣٢٥ ه‍ وقد اشتبه من نقل هذا الشعر وكتب تحته التاريخ ١٣٣١ ه‍ فإنّه لا وجه له وإن أضيفت كلمة أتى ، ثمّ إنّ في بعض هذا الشعر المنقول اختلاف ، فبعضهم نقله بإبدال كلمة «إلا» بكلمة «ولكن» ، ويوجد تاريخ شعري آخر لبنائها ولكن أهملناه لركّته.

(٤) موسوعة النجف الأشرف : ٦ / ٤٢٨ ، ٤٣٨.

١١

أقول : فهي لم تبن على عهد السيد اليزدي إلا أنّ أصل البناء وهو الخانقاه كان بأمره قدس سرّه ، فهو كان أساس هذا العمل الصالح ؛ فصح أن تنسب له ، جزاه الله عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء.

أولاده :

١ ـ السيد محمد ؛ وهو الذي قدّمنا ذكر والده له في رسالته للمجاهدين.

ومن أولاد السيد محمد ابنه السيد رضا (راجع ترجمته في منار الهدى ص ٨٥) ، وقال عنه الشيخ كاشف الغطاء : «توفي نجل الأستاذ ـ أدام الله ظله ـ غروب يوم الجمعة ١٢ جمادى الأولى سنة ١٣٣٤ ، في بلد الكاظمية ونقل إلى النجف» (١).

٢ ـ السيد على «راجع ترجمته في أحسن الوديعة ١ / ١٦٨» ومنار الهدى ص ١٤٠».

٣ ـ السيد محمود وهذا في الرتبة الثانية بعد السيد محمد ، وكان ممن اشترك مع المجاهدين في مقاومة الانگليز آنذاك ، وتوفي في بغداد بعد أخيه السيد محمد.

٤ ـ السيد أسد الله ؛ وهذا أصغر أولاد السيد ؛ وهو الباني للمدرسة الثانية ـ المسمّاة باسم أبيه ـ بعد وفاة أبيه.

٥ ـ السيّد حسن ، ولم يصلنا عنه شيء.

٦ ـ السيد أحمد ؛ وهذان توفّيا في حياته قبل بقيّة أولاده وقبل الشروع في مجاهدة الإنجليز.

كما أنّه خلّف عدّة بنات أيضا.

بعض من أحواله :

ذكر الشيخ محمد تقي الفقيه العاملي أنّ أباه العلامة الجليل الشيخ يوسف الفقيه بعد أن وصل إلى النجف الأشرف وحضر عند علماءها وكان ذاك بين ١٣١٨ ه‍ و ١٣٢٥ ه‍ كان ممّا حضره من البحوث بحث السيد صاحب العروة ، فاستجاز السيد ،

__________________

(١) النجف الأشرف وحركة الجهاد : ٣٨٤. مذكرات الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.

١٢

فطلب منه البيّنة ، إلا أنّ الشيخ أراد أن يكون ذلك بالامتحان مشافهة فامتحنه مرارا في مجالس متعددة ، ولكنّه قال هذا لا يكفي بل ائتني ببعض ما كتبت ، وكان قد كتب شرحا مفصلا على كتاب الطهارة من الشرائع فعرضه على السيد وبعد أيام أرجعه وقد كتب عليه : «لقد أجلت فيما ألّفه نور بصري بصري ، وسرّحت فيما رصّفه جلاء نظري نظري ، فوجدته بحمد الله روضة فضل بالأزهار مشحونة ، بل عيبة علم ولا عيب سوى أنّها يتيمة ، أدام الله معالي أبيها مكنونة ، فلقد بذل جهده في العلوم ، ووقع من منطوقها على المفهوم ، ولا زال باذلا في العلوم مساعيه ، واردا أصفى مناهله ، ومرتقى لأسمى مراقيه بمحمد وآله صلوات الله عليهم» (١).

وذكر شيخنا الأستاذ آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (٢) : «أنّ السيد اليزدي بحر من العلم عميق لا يدرك غوره ، ثمّ نقل هذه الرؤية فقال : رأى السيد اليزدي في عالم الرؤيا أنّ كتابه العروة الوثقى يضرب بالجدار ويسمّر بمسامير ، فاستيقظ منزعجا من تلك الرؤيا ، فقصّ رؤياه على من هو متخصص في تفسير الرؤيا فقال له : سوف يكون كتابك العروة الوثقى متنا ويأتي العلماء بعدك ويعلّقون عليه» وكان كما قال هذا المفسّر تماما.

وفاته :

«.. في منتصف رجب ١٣٣٧ ه‍ ، توعّك السيد وأصابته حمّى شديدة ، وامتنع عن الخروج للصلاة والدرس ، وفي اليوم الثالث من عروض الحمى عدناه عصرا ، وكان لا يأذن بالعيادة إلا لقليل من الخواص ، فخلى بنا في محله الخاص فكنت وأخي الشيخ المرحوم (٣) والسيد قدس سرّه ولا رابع معنا إلا الله جلّ شأنه ، فقال : أجدني لا أسلم من هذا المرض ، وإنّي راحل عن قريب ، وتعلمون أنّ أولادي الذين كنت أعتمد عليهم وأثق بهم قد رحلوا أمامي ، ولم يبق من ولدي من أعتمد عليه ، وعليّ

__________________

(١) حجر وطين : ٤ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) ذكر هذا في مجلس الدرس المؤرخ ب ٢١ / ٣ / ١٤٢٦ ه‍.

(٣) هو آية الله العلّامة الجليل الشيخ أحمد كاشف الغطاء ، وكان من مراجع التقليد آنذاك ، بل قيل بأنّ السيد أرشد إليه في التقليد.

١٣

حقوق كثيرة وأموال في البيت وعند التجّار وافرة ، وأريد أن أوصي إليكم لتفريغ ذمتي ، وأداء واجباتي .. فلمّا ألقى علينا تلك الكلمات ونعى إلينا نفسه الشريفة ، كأنّما أطبقت السماء علينا ، واسودّت الدنيا بأعيننا.

ثمّ أخذ رضوان الله عليه يشجعنا ويسلينا ويناشدنا حق الأستاذيّة ، وأنّه لا يعتمد على غيرنا ، فطلبنا منه أن يشرك معنا شخصا أو شخصين للمساعدة ورفع الهمّ وظن السوء ، فأشرك الحاج محمود والشيخ علي المازندراني من وجوه تلاميذه ، ثمّ ألقى إليّ المطاليب التي في نفسه ، وأمرني بكتابة الوصيّة بخطي كي يوقع عليها ، فكتبتها وجئت بها إليها صباحا ، فأمرني بكتابة وصيته وتشتمل على ما في الأولى وعلى زيادات تجددت في نظره ، فكتبتها بخطي وجئت بها إليه عصرا.

وكان قد اشتدّ به مرضه ، فبعث الشيخ عبد الرحيم اليزدي خادمه الخاص ، وجمع له جماعة من أعيان وتجّار النجف من العجم والعرب وجماعة من طلاب العلم الأفاضل وجملة من الأعيان فحضروا ليلا وأمرني فقرأت عليهم الوصيتين ، وأمرهم أن يحرروا شهادتهم فيها ووقّع عليها بخطه وخاتمه ..

وفي ليلة الثامن والعشرين من رجب مقارن طلوع الفجر ، انتقل إلى رحمة الله ، وكان من جملة وصاياه إعطاء الخبز للطلاب ثلاثة أشهر ، وطبع تتمات العروة الوثقى وإن زاد المال يطبع السؤال والجواب «الاستفتاءات» ، وإعطاء العبادات والحج المقيّدة في دفاتره .. (١)

انتقل إلى رحمة الله بعد أن بقي أياما في مقاساة ذلك المرض (ذات الجنب) بل قيل شورا ولم يخبر أحدا عنه حتى أقعده عن التدريس ، وقد حضر تشييع جنازته العامة والخاصة وزوّار أمير المؤمنين في المبعث النبوي ، وخرج أهالى النجف قاطبة لتشييعه ، وقد دفن في الإيوان الجبير من الصحن الغروي ممّا يلي مسجد عمران.

فرحمة الله عليه يوم ولد ويوم فارقت روحه الدنيا ويوم يبعث حيا.

__________________

(١) صفحات من مذكرات للشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء ؛ ضمن كتاب «النجف الأشرف وحركة الجهاد ١٩١٤ م» ـ : كامل سلمان الجبوري ـ ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤ ، ويجدر بالذكر أنّ البعض أرّخ وفاته بسنة ١٣٣٨ ه‍ وهو اشتباه.

١٤

براعته في علم الأصول :

شاع في الحوزات العلميّة إلى حدّ ما أنّ السيد اليزدي فقيه ، وليس ذو باع في علم الأصول ، بل لا يبعد عدم كونه من أهل الفن فيه ، ولو فتّشنا في هذه الشائعة لوجدنا أن لا منشأ لها إلا أنّ مترجمنا قد برع في علم الفقه وكتب فيه ودرّسه كثيرا ، ولم ينقل عنه مثل هذا في علم الأصول ، وأنت ترى بأنّ هذا لا يعد سببا موجبا لما ذكر فضلا عن كونه مثبتا لذلك واقعا ، أو لعلّه قد عدّ كذلك في مقابل من يصنّف من علماء الأصول والبارعين فيه كصاحب الكفاية الشيخ الآخوند الخراساني ، وهذا كذلك ليس من الأسباب الموجبة لما اشتهر ، إذ أنّه ـ على فرض صحته ـ مجرد تصنيف بملاك اعتباري ، فهو محض اعتبار لا أساس له إلا الجهل بمقام بعض الأطراف غير المطلّع على واقعها العلمي ، فثبوت صفة الفقاهة لا ينفي غيرها من الصفات الممكن تحققها في الشخص فيما لو لم يكن بين ذاتي الصفتين تناف ، وكم عالم عاش مجهول القدر ولم قدره إلا بعد وفاته!؟.

وفي الواقع إنّ هذا في حد ذاته مورد من موارد قولهم «ربّ مشهور لا أصل له» ، إذ يكفينا دليلا على كذب هذه الشائعة ، ومثبتا لعكسها وأنّه من أهل الفن في علم الأصول ما سطّرته أنامله الشريفة من تفريعات فقهيّة في كتابه القيم «العروة الوثقى» ، فقد يظن البعض أنّ الكتاب الفقهي لا يعطي صورة إلا عن عنوانه المحض فقط ، وهو اشتباه واضح ، واحتمال موهوم ، فإنّ الباحث المحقق بمجرد اطلاعه على كتاب ما في علم معين بإمكانه أن يشخص مدى قدرة الكاتب العلميّة ، ومدى ترابط مبانيه وقوّة تماسكها ، وليس إلا بإرجاعها للمباني الأصوليّة التي بنيت عليها تلك المسألة ، وأكبر شاهد على هذا المعنى الذي ذكرناه توجه العلماء ومراجع التقليد في زمانه وإلى زماننا هذا لهذا الكتاب ، بالشرح والتعليق والبيان والتوضيح لما يكون به رسالة عمليّة موافقة لمبانيهم وآراءهم ، في حين أنّه كان بمثابة الرسالة العمليّة لمقلديه ليس إلا.

وشاهد آخر نعطيه للقارئ الكريم عمّا نروم الوصول إليه ما خرج عن قلمه من الشرح والتعليق على كتاب المكاسب للشيخ المحقق الأعظم الشيخ المرتضى

١٥

الأنصاري ـ وقد طبع حديثا في ثلاثة مجلدات من تحقيق سماحة العلّامة صاحب الفضيلة الشيخ عباس آل سباع القطيفي حفظه الله ـ فقد ملئ هذا الكتاب تحقيقا وتدقيقا وتتبعا وبسطا ، إذ يعد كتابا شارحا وجارحا للمطالب التي ضمّنها الشيخ الأعظم لكتابه المكاسب ، مع اشتماله على الكثير من الآراء الأصوليّة.

ولقد تتبعت بنفسي مسألة «مقدمة الواجب» فيه فوجدت ما يزيد على خمسة عشر موردا ، وكلها تحكي مبنى واحدا وقولا متناسبا ، وليس من مورد مخالف لآخر من الكتاب ، وكذا تتبعت بعض كلامه في مسألة الاستصحاب وأنّه يجري مطلقا أو مختص بالشك في المانع ، فوجدته في عدّة موارد قد بنى كلامه على قول واحد فيها إلا وهو القول بحجيته مطلقا ، فهو بالإضافة إلى دقّته الأصوليّة وقوّته العلميّة ، تجد أنّ آراءه متماسكة وغير متهافتة أو يهدم بعضها بعضا.

كتاب التعارض :

ومن أكبر الدلائل على مدّ عانا : هذا الكتاب الماثل بين يديك ، فقد تعتقد للوهلة الأولى أنّه مجرد كتاب أصولي يجترّ بعض أفكار المتقدمين عليه في أطراف موضوعه حيث يقتبسها من هنا وهناك ، ولكن ما إن تلج في صفحات الكتاب وتقرأ بعض عباراته ـ في أي مسألة منه شئت ذلك ـ سرعان ما تتغير عندك الصورة المرتسمة في ذهنك عن الكاتب له ، فتراه أصوليّا كبيرا ، بل من الطراز الأول في هذا الفن ، بل منظّر له ؛ فهو يطرح في بحوثه ـ هذه ـ البكر من الأفكار ، سبّاق في تحقيق بعض المطالب ممّا لا يعلم سبق غيره عليها ، بل يظهر من بعض آرائه أنّها ممّا تبناه المتأخرون عنه على أنّها من ابتكاراتهم ومتفرداتهم ، ولقد دفعتني هذه الفكرة لأن أحاول رد الفكرة السائدة من أنّ السيد فقيه وليس أصوليا ، ممّا دفعني لأن أبيّن في هذه المقدّمة الحق الأحق بالاتباع ، والانتصار للسيد العظيم من هذه المقولة المجحفة بحقه فيما ادعى ، حتى قال بعض المراجع المعاصرين : كنت إلى فترة أعتقد بأنّ السيد ليس أصوليّا حتى وصل بين يدي كتابه التعارض فتغيرت فكرتي عنه تماما.

١٦

وكان من ذلك أن تتبعت ما يمكن تحصيله من آراء أصوليّة له في كل من العروة الوثقى وملحقاتها وحاشية المكاسب ، بالإضافة لهذا الكتاب .. فإليك بعض ما تحصّلت عليه من ذلك :

يشير إلى مسألة الترتب في هذا الكتاب ويذكر أنّ مختاره فيها على ما هو التحقيق عنده هو بطلان القول بالترتب بين الأهم والمهم.

يشير إلى قاعدة الملازمة بين حكم اعقل وحكم الشرع فيرى أنّ التطابق بين الحكمين إنّما تابع للموارد وليس بنحو الإطراد دائما أو عدمه دائما ، فقد يثبت بها الحكم الإرشادي لحكم العقل ، وقد يثبت بها الحكم الشرعي مع شرط تحقق قابلية المحل لذلك.

يذكر نوعين من التخيير في موارد متعددة من الكتاب ، وهما التخيير العملي والتخيير الأخذي ، كما يذكر الآثار المترتبة على كل منهما ، ولم أجد من تعرض لهذا التفريق بينهما سوى ما ذكره المحقق الميرزا الرشتي في بدائعه ـ ص ٤٠٩ ـ.

يرى بأنّ المجعول في الأخبار هو مؤدياتها ، ويرتب عليه أثرا وهو عدم إمكان جعل المتعارضين ، وعليه فلا يمكن شمول الأدلة ـ أدلة الحجية ـ لكل منهما فعلا ، لا تعيينا ولا تخييرا ولا بإرادة القدر المشترك.

يرى بأنّ حيثيّة جعل الأخبار بلحاظ كشفها عن الواقع وليس بنحو تعبدي محض ، وذلك لوجهين :

١) أنّ ظواهر أدلة حجيتها ذلك المعنى كما في آية النبأ وروايات التوثيق للرواة.

٢) أن مقتضى الأصل فيما لو شك في تعبديّة أمر أو عدم تعبديّته هو عدم التعبديّة ، وهو مفاد الطريقيّة.

ثمّ يعقب على ذلك بأنّ هذا هو السبب في اعتبارنا للبينة والسوق واليد من باب

١٧

الطريقيّة لكاشفيّتها النوعيّة عند العقلاء.

ذكر في مورد اشتباه الحجة باللاحجة أنّ مجرد الاشتباه لا يخرج الحجة عن الحجية ، وعليه فلا يصح الرجوع إلى الأصل المخالف لهما وإن لم يعلم صدق أحدهما ، وبالنسبة لصورة تعارضهما والقول بالرجوع للأصل قال : والحقّ أنّه يجوز الرجوع إلى الأصل العملي المطابق لأحدهما ؛ لأنّ وجود الحجّة المشتبهة لا يكفي في عدم جريانه ، فيكون كما لو فرض العلم بعدم الاحتمال الثالث ، ودوران الأمر بين مؤدّى الخبرين ، فالحجّة المشتبهة بمنزلة القطع في نفي الاحتمال الثالث ؛ ويجري الأصل في تعيين الاحتمالين.

كما أنّه قال في حالة اختيار عدم جريانها قال فالحق : ـ على فرض الإغماض عمّا اخترنا في الثاني ـ التخيير لا الاحتياط ، وإن كان أحد الخبرين دالا على الوجوب أو الحرمة ، والآخر على الإباحة ؛ لجريان حكم العقل بالبراءة.

يرى بأنّ الحجيّة من الأحكام الوضعيّة ومعناه جعل الشيء طريقا موصلا إلى الواقع ، فالمجعول صفة المرآتيّة والكاشفيّة وتنزيله منزلة العلم الطريقي ، ودعوى كون الكاشفية صفة واقعيّة فلا تقبل الجعل دفعها بأنّ الكاشفية الظنية النوعيّة غير مكتفى بها في الشرع مع لحاظ نواهي العمل بالظن ، ثمّ يصرح بما حقق في محله من استقلال الأحكام الوضعية بالجعل.

يوجه روايات الوقوع في الهلكة بالوقوع في خلاف الواقع لا العذاب والعقاب ، وبه يرى أنّ ترك الاحتياط في الشبهة مستحبا لا واجبا ، ولذا فهو لا يرى وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية ، ويحمل أخبار التوقف في تلك المسألة على الاستحباب.

ولذا يصرح بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة البدويّة التحريميّة مع أنّها أولى بالوجوب ، وذلك لعدم معارضة المفسدة المحتملة بالمصلحة المحتملة ، ولا دليل ، وقال : فمورد القاعدة في الأحكام الشرعية ما إذا دار الأمر بين ترك واجب معلوم أو

١٨

ارتكاب حرام معلوم ، مع إمكان المنع في هذا المورد أيضا ، لأنّ الأحكام ليست تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة في الأفعال ، بل يمكن أن تكون المصلحة في الجعل والتشريع ، فليس المعلوم من المفسدة على تقدير العلم بالتكليف إلا العقاب ؛ وهو مشترك بين الواجب والحرام ـ تركا وفعلا ـ وهذه القاعدة غير تامّة في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر مع العلم الإجمالي بأحدهما ، فضلا عن المقام الذي ليس فيه علم إجمالي.

يرى اختصاص المقبولة بزمان الحضور لمكان قوله «فأرجه حتى تلقى إمامك» إذ أنّ القرينة فيها موجودة وهي واقعة الدين والميراث فإنهما مما لا يمكن إرجاؤهما إلى الأبد ، وبه نفى صحة القول بعدم التخيير في زمن الغيبة ، بل المتعين هو التخيير فيه ، ثمّ لو سلم أعمية المقبولة للزمنين فالأظهريّة لكونها في زمان الحضور وأخبار التخيير أظهر بالنسبة لزمان الغيبة.

لا يرى انقلاب النسبة بين العمومات والمخصصات ، فقد قال : «إذ انقلاب النسبة في المقام لا ينفع ، ولو سلّمناه في سائر المقامات ، إذ المسلّم منه ـ على فرضه ـ إنّما هو في ما لو كان ملاك التقديم والتأخير خصوصيّة الموضوع وعموميّته ، وكان الانقلاب في غيرها ، وأمّا لو كان الملاك ما ذكر وكان الانقلاب في غيرها ، بل يحسب آخر ، أو كان الملاك شيء آخر غير الخصوصيّة والعموميّة في الموضوع مثلا ؛ لا الأظهريّة في جهة ، وقد فرض بقاؤها بعد الانقلاب أيضا ، فلا نسلّم انقلاب الحكم»

وأما بالنسبة للنسبة بين أخبار التوقف وأخبار التخيير فبعد مناقشات كثيرة وأخذ ورد ونقض وإبرام توصل إلى أنّ أخبار التوقف أخص مطلقا من أخبار التخيير وذلك لأنّ مفاد الأولى ليس وجوب الاحتياط بل إرجاء الواقعة وعدم التعرض لها نفيا وإثباتا فعلا وتركا إلى ملاقاة الإمام وبقرينة الدين والميراث لم يكن المقصود

١٩

الإمام صاحب الزمان ، بل إمام عصره خاصة.

يرى بأنّه في حال التعدي عن المرجحات لا يكفى مجرد احتمال الأقربيّة كما عليه الشيخ الأعظم بل لا بدّ من لزوم كون المرجح أمارة نوعيّة فيما يرجح فيه.

يصرح بما يرتئيه بعض المناطقة من الفرق بين تقدم ذكر العلة على المعلول والعكس ، فيرى أنّ ذكر العلّة بعد ذكر حكم المعلول هو توطئة لإعطاء الكليّة علاوة على كون العلّة في مقام الاستدلال ، بخلاف ذكر حكم المعلول بعد التعرض للعلّة.

لا يرى ضرورة الترتيب بين أنواع المرجحات ، نعم بين أصنافها يمكن دعوى ذلك ، قال : فتحصّل ممّا ذكرنا من أول المسألة إلى هنا أنّه لا ترتيب بين أنواع المرجّحات بأن يكون الصدوري مثلا مقدّما على الجهتي كليّة ، أو المضموني على الصدوري كذلك ـ على ما اختاره الشيخ ـ أو بأن يكون الجهتي مقدّما عليها ـ على ما اختاره بعض الأفاضل ـ وكذا لا يقدّم بعض أصناف نوع واحد كليّة على غيره ، حسبما اختاره الشيخ أيضا بالنسبة إلى موافقة الكتاب ، أو الشهرة والشذوذ ، بل المدار على كون أحد المرجّحين أقوى من حيث تقوية طريقيّة الخبر ، وهذا يختلف باختلاف المقامات بملاحظة الجهات الخارجيّة ، وباختلاف أصناف المرجّحات وأفرادها ، نعم ؛ لا نضايق من تقديم بعض الأصناف على بعض مع عدم ضمّ الخصوصيّات ، من حيث كونه أقوى نوعا

يظهر من بعض الموارد من هذا الكتاب أنّه يرى اقتضاء العلم الإجمالي لتنجز التكليف دون عليّته له ، وإن أمكن استظهار اختياره لوجوب الموافقة القطعيّة ـ مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ في مورد الشبهات الوجوبيّة للعلم الإجمالي الدائر بين المتباينين من موارد أخرى من الكتاب.

يرى أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي ليست داخلة في باب التعارض بل هي من مسائل باب التزاحم ، ولذا قال هنا :

٢٠