كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

الأصول ، ففرق بين (١) «إذا شككت فاحكم بكذا أو فارجع إلى كذا» وبين أن يقول «اعمل بكذا مطلقا» فالثاني مقدم على الأول من حيث إنّ الأمر بإلغاء احتمال خلافه يقتضي رفع الشك المعلّق عليه الرجوع إلى الأمر الفلاني كاليد والحالة السابقة (٢).

قلت :

أولا : قد عرفت سابقا أنّه يمكن أن يذكر التعليق على الشك في لسان دليل الدليل الاجتهادي أيضا ، والظاهر تقدمه على الأصول مع ذلك ، ولازم هذا البيان كونها في عرض واحد.

وثانيا : قد لا يذكر في لسان دليل الأصل كما هو كذلك بالنسبة إلى اليد والبيّنة ونحوهما ، إذ لم يقل «إذا شككت فاعمل باليد» بل أطلق ، كما في دليل حجيّة الأخبار.

فإن قلت : حاصل ما ذكرت أنّ بعض الأصول لسان اعتبارها نظير لسان دليل اعتبار الأدلة في الأمر بإلغاء احتمال الخلاف ، ولكن نحن نقول إنّ الأمر بإلغاء الاحتمال في جعل الطرق غير نحو الأمر بإلغاء الاحتمال في الأصول ، فإنّ الأول من حيث الكشف والإراءة للواقع بخلاف الثاني ، فإنّه ليس كذلك ، بل من حيث إنّه حكم لمقام العمل.

قلت : نعم ؛ ولكن هذا مطلب آخر والفرض أنّ وجه الحكومة والتقدم ليس مجرد عدم الاعتناء باحتمال الخلاف حسبما يظهر من بيان المحقق المذكور.

وثانيا : بالحل ، وهو إنّا نمنع كون دليل الاعتبار ناظرا إلى إلغاء الشك وعدم ترتيب الأحكام الثابتة له ، فإنّه يصحّ إيجاب العمل بالطرق مع عدم جعل حكم للشك أصلا.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يمنع عن النظر العمدي كما هو ظاهر كلام المحقق ولا يمنع عن النظر القهري (٣) ، وإن كان خلاف ظاهر بياناته.

__________________

(١) بعدها في نسخة (ب) : قوله.

(٢) قوله «كاليد والحالة السابقة» لا توجد في نسخة (ب).

(٣) بعدها في نسخة (ب) : إذا ادعاه مدع ، بل يمكن أن يكون نظره أيضا إلى النظر القهري ...

٨١

قلت : يمكن منع ذلك أيضا بالبيان المذكور ، فإنّ معنى صدّق العادل ليس إلا الحكم بصدقه وترتيب آثار الواقع على مؤداه لا إلغاء الشك ، إذ معنى إلغاء احتمال الخلاف الأخذ بالطرف المخبر به من الاحتمالين وطرح الطرف الآخر ؛ لا طرح الشك.

وبعبارة أخرى : الاحتمال له طرفان ؛ مثلا : إذا شكّ في حرمة شيء وحليّته فيحتمل الحليّة ويحتمل الحرمة ، وإذا أخبر مخبر بالحرمة فقد عيّن هذا الطرف والشارع أمر بالأخذ به وطرح الطرف الآخر ، بمعنى ترتيب (١) آثار الحليّة ولم يأمر بطرح الشك وجعله كالعدم حتى يستلزم ما ذكر من عدم إجراء الآثار المعلّقة عليه ، فمعنى صدّق العادل حينئذ ليس إلا الحكم بالحرمة ، فكأنّه قال الشارع ابتداء الشيء الفلاني حرام ، فلا نظر فيه إلى نفي أحكام الشك.

فإن قلت : معنى إلغاء الاحتمال أزيد ممّا ذكرت ، إذ كما يقتضي عدم الحكم بالطرف المقابل يقتضي عدم البقاء على الشك أيضا ، حيث إنّه مناف للتصديق ، فهو دال على نفي آثار (٢) الشك والاحتمال.

قلت : لو سلّمنا ذلك نقول : إنّ لازمه النظر القهري أو القصدي إلى الآثار العقليّة المعلّقة على الشك لا الآثار الشرعيّة ، فكأنه قال لا ترتب آثار الخلاف ولا تتوقف أيضا مثلا : إذا شك في شيء فمع عدم جعل الطريق يتحير ويرجع إلى حكم العقل ، ففي بعض المقامات يحكم بالاحتياط وفي بعضها يحكم بالبراءة ، وفي بعضها بالتخيير ، كلّ في محله ، فإذا جعل طريقا فكأنّه يقول لا تشك في أنّ الواقع كذا فلا ترتب أثر الخلاف ولا تتوقف حتى ترجع إلى حكم العقل ، فالإلغاء الذي هو لازم جعل الطريق إنّما هو بالنسبة إلى موضوع الحكم العقلي لا الشك الذي هو موضوع للحكم التعبدي الشرعي.

لا أقول : لا يمكن أن يكون ناظرا إليه ؛ بل أقول لا يكون هذا لازما لقوله اعمل بكذا وصدّق المخبر أو نحو ذلك.

__________________

(١) في النسخة (ب) : عدم ترتيب.

(٢) بعدها في النسخة (ب) : خلاف المخبر به وعلى نفي آثار ...

٨٢

فإن قلت : إذا قال ألغ احتمال الخلاف فهو مطلق ولازمه نفي مطلق الآثار أعم من العقليّة والشرعيّة.

قلت : الإطلاق إنّما هو إذا قال ألغ الاحتمال ولا تكن شاكّا أو لا تشكّ ونحو ذلك لا إذا كان لازما لقوله صدق ، فإنّ اللازم إنّما يؤخذ بمقدار الملزوم ، ففرق بين ما كان بنفسه عنوانا وبين ما كان لازما لشيء آخر ، ففي الثاني لا إطلاق ؛ ألا ترى أنّه لو قال يحرم عليك كذا ، يؤخذ بإطلاقه ، وأمّا إذا أمر بشيء قلنا إنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده لا يؤخذ بإطلاق ذلك النهي ، بل هو تابع للأمر ، وبمقدار يحتاج إليه في إثبات الوجوب ، ففي المقام أيضا : إنّما يحكم بإلغاء الاحتمال بمقدار يتوقف عليه صدق التصديق ، ولا يحكم بأزيد منه ، ومن المعلوم أنّه لا يحتاج إلى أزيد ممّا ذكرنا ، وإن شئت الحق الصريح :

أقول : معنى قوله ألغ احتمال الخلاف ليس له إلا قوله صدّق العادل ، ومعناه ليس إلا أنّ مؤداه وهو الحرمة في المثال المتقدم ثابتة ، والسرّ أنّه ليس معنى قوله صدّق العادل (١) لا تشك مطلقا ، بل لا تشكّ في أنّ الواقع كذا ، وهذا عبارة أخرى عن الإخبار بذلك الواقع ، ولا نظر له إلى الشك ، ولا إلى حكمه ، وهذا واضح غايته.

ثانيها (٢) : ما كان يقرّره السيد الأستاذ ـ أدام الله بقائه ـ بعد الاعتراف أيضا بأنّ حكومتها بملاحظة دليل اعتبارها ، من أنّ مقتضى ذلك تنزيل الظن أو قول العادل أو نحو ذلك من الأمارات منزلة العلم ، وذلك لأنّ معنى قوله صدّق العادل مثلا نزّل قوله منزلة العلم بالواقع وكن كأنّك عالم ، ولا تكن شاكّا فيكون رفعا لموضوع الأصول ، وهو الشك تنزيلا ، فلا يترتب عليه الأحكام ، قال (٣) : وعلى هذا وإن كان مقتضى القاعدة عدم ترتب الآثار الغير الشرعيّة للعلم على الطريق ؛ لأنّها غير قابلة للجعل ، والواقع ليس أثرا شرعيا للعلم الطريقي ، فيشكل الحكم به ، إلا أنّه يمكن الجواب عنه بوجهين :

__________________

(١) لا توجد هذه الكلمة «العادل» في نسخة (ب).

(٢) الوجه الثاني من وجوه تقرير تقديم الدليل على الأصل بالحكومة.

(٣) تقريرات السيد الشيرازي : ٤ / ١٨٣ ، ١٨٨.

٨٣

أحدهما : أن يقال إنّ معنى تنزيل الطريق منزلة العلم جعل مؤداه أيضا منزلة الواقع ، فتترتب آثار العلم ، وهو إزالة الشك وآثار الواقع وهو الحكم بثبوت مؤداه.

الثاني : أن يقال إنّ تنزيل (١) المطلق يقتضي ترتيب جميع (٢) اللوازم والملزومات في الأدلة الاجتهاديّة ، مثلا إذا علمنا بوجود الماء في أحد الحوضين على فرض وجوده في الآخر وشهدت البينة بوجوده (٣) فيه ، نحكم بوجوده في الأول أيضا ، بناء على كونها من الأمارات .. وهكذا في الأخبار وسائر الطرق ، ففي المقام أيضا إذا (٤) نزّل قول العادل منزلة العلم على وجه الإطلاق ، ونأخذ به في آثار العلم وفي آثار المعلوم ، كما لو كنّا عالمين.

وعلى هذا ، فالفرق بين الأدلة والأصول : أنّ التنزيل بمنزلة الواقع في الأصول ليس على وجه الإطلاق ، ولذا لا يترتب عليها إلا الآثار الشرعيّة بلا واسطة أو بواسطة الآثار الشرعيّة ، وفي الأدلة على وجه الإطلاق سواء قلنا بالتنزيل في المؤدّى كما هو مقتضى التقرير السابق ، أو بالتنزيل في الطريق ، كما هو مقتضى هذا التقرير ، فعلى السابق نأخذ بجميع آثار (٥) العلم ومرتبته على الظن أو الخبر مثلا.

قلت : هذا التقرير قريب من السابق والفرق بينهما أنّه يجعل التنزيل بالنسبة إلى الطريق بالأصالة وبالنسبة إلى الواقع بالتبع ، والسابق كان بالعكس حسبما ظهر من التقرير المذكور ، نعم على هذا التقرير يكون نفي الشك وإجراء أحكامه أظهر ، لكن يرد عليه :

أولا : منع كون لسان الأدلة تنزيل الطريق منزلة العلم أوّلا ؛ بل تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، ويلزمه في التنزيل في الطريق ، فإنّ مفاد قوله صدّق العادل ونحوه

__________________

(١) في نسخة (ب) : التنزيل.

(٢) بعدها في النسخة (ب) : الآثار وحتى المترتبة على الشيء بتوسط الآثار العقليّة والعاديّة ، ولذا نحكم بثبوت جميع ...

(٣) في النسخة : وجوده.

(٤) كلمة «إذا» لا توجد في النسخة ب.

(٥) بعد هذا في النسخة (ب) : المؤدى ، وعلى هذا نأخذ بجميع آثار ...

٨٤

إيجاب العمل بمؤدى قوله .. وهكذا غيره من الأمارات (١) كما لا يخفى.

وثانيا : إنّ هذا المعنى موجود بالنسبة إلى دليل الاستصحاب أيضا ، بل هو أظهر في التنزيل منزلة العلم حيث أمر بإلغاء (٢) صفة اليقين وعدم نقضه بمعنى الحكم بأنّه عالم ويرتب العلم فيلزم كونه معارضا مع الدليل الاجتهادي على هذا البيان.

ودعوى أنّ اليقين غير قابل للإبقاء مدفوعة بأنّ ذلك مشترك الورود إن أريد الحقيقة ، وإن أريد التنزيل كما هو المدّعى فهو قابل كما هو واضح ، ولذا ذكرنا في باب الاستصحاب أنّه لا يلزم إرادة المتيقن من لفظ اليقين مع أنّ إرادة المتيقّن بما هو متيقّن تكفي في المطلب كما لا يخفى.

وثالثا : إنّه إن أريد التنزيل المطلق بالنسبة إلى الطريق حتى يكون ترتيب الواقع على المؤدى من جملة آثاره حسبما ظهر من الإيراد والجواب المذكورين في التقرير فهو ممنوع ، وإن أريد التنزيل بالنسبة إلى مجرّد ترتيب الواقع كما هو الظاهر على فرض كون اللسان الأولي لسان جعل الطريق ، فلا يثمر شيئا ، بل يرجع إلى التقرير السابق ، والتفاوت إنّما يكون بمجرد كون المجعول أولا هو الطريق أو المؤدى ، فيكون معنى قوله كن عالما أو لا تشك : كن عالما بأنّ الواقع كذا ، أو لا تشك في أنّ الواقع كذا ، فيكون الغرض مقصورا على خصوص ترتيب أثر الواقع على المؤدى ، لا أزيد ، فيرد عليه (٣) ما ورد على الأول من الإيراد الحلّي ، بل الإيراد النقضي أيضا بعد التأمل.

وعلى هذا لا موقع للإيراد والجواب المذكورين في التقرير ، إذ معنى تنزيل قول العادل منزلة العلم ليس إلا ترتيب الواقع ولا حاجة إلى دعوى أنّه يرجع إلى جعلين أو أنّ التنزيل مطلق فيترتب عليه جميع الآثار ، إذ هو نظير ما إذا كانت نفس الموضوعات غير (٤) القابلة للجعل موردا له ، حيث إنّه لا إشكال فيه ؛ لأنّ معناه (٥)

__________________

(١) في النسخة (ب) : بدل «الأمارات» كتب «الأدلة».

(٢) في نسخة (ب) : بإبقاء.

(٣) في نسخة (ب) : فلا يرد عليه.

(٤) في النسخ : الغير.

(٥) بعدها في نسخة (ب) : حينئذ.

٨٥

جعل أحكامها.

والحاصل أنّه فرق بين جعل قول العادل منزلة العلم من حيث هو ، بمعنى إيجاب ترتيب آثار العلم عليه ، وبين جعله بما هو مرآة للواقع منزلة العلم الطريقي ، ففي الأول يجري السؤال والجواب ، وفي الثاني لا موقع للسؤال أصلا ، وظاهر الأدلة على فرض التسليم هو الثاني ، هذا مع أنّ الجواب الأول بناء على كون التنزيل على الوجه الأول غير صحيح ، إذ لا معنى لالتزام جعلين بالنسبة إلى الطريق والمؤدى ، وأيضا لازم ذلك المعنى قيام الأمارات مقام العلم الذي هو جزء للموضوع أيضا ، كما إذا كان المحرم الخمر المعلوم ، وأخبر العادل بأنّ هذا خمر ، ولا يلتزم به.

فتحصّل أنّ ما ذكره ـ دام ظله ـ إنّما يتم إذا كان الغرض تنزيل الأمارة بما هي أمارة منزلة العلم مطلقا من غير تخصيص بحيثيّة الطريقيّة فقط ، وحينئذ يتم النقض بمثل الاستصحاب ، ويلزمه إقامته مقام العلم الذي هو جزء للموضوع ، وأمّا إذا كان الغرض التنزيل من حيث المرآتية والطريقيّة كما هو الظاهر ، ولو فرض التصريح بذلك بأن يقول نزّل ظنّك منزلة العلم ، فلا يقتضي إلا ترتيب الواقع ، إذ جعل الطريق إنّما هو بمقدار إثبات ذيها ، فلا يفيد أزيد من ذلك حسبما عرفت.

ثالثها (١) : ما هو مقتضى التحقيق من أنّ الأمارات والأدلة لمّا كانت معتبرة من حيث الطريقيّة والمرآتيّة ، فلسانها لسان إراءة الواقع وكشفه ، ومؤدياتها نفس الواقع الأولي ، ولسان الأصول بيان حكم العمل ، ومؤدّياتها ليست واقعا أوليّا ، بل أحكاما للعمل حين عدم انكشاف الواقع ، وإن كان بلسان التنزيل منزلة الواقع ، بمعنى ترتيب آثاره ، والمفروض أنّ اعتبارها إنّما هو معلّق على الشك في الواقع ؛ إمّا لأنّه معتبر في موضوعاتها ، أو لأنّه معتبر في أدلة اعتبارها ، فبعد انكشاف الواقع ولو بحكم الشرع لا يبقى مورد لها ، فلسان أدلتها لسان المحكوميّة بالنسبة إلى الأدلة ، ولسانها لسان الحاكية (٢) ، لا لما ذكر من إلغاء احتمال الخلاف ، ونفي الشك وأحكامه ، بل لأنّ ذلك مقتضي انكشاف الواقع بعد حكم الشارع بثبوته ، ولا يضرّ كون اعتبار

__________________

(١) الوجه الثالث من وجوه تقرير تقديم الدليل على الأصل بالحكومة.

(٢) في نسخة (ب) : لسان الحكومة والحاكميّة (بدل الحاكية).

٨٦

الأدلة أيضا حين الشك ، لأنّه حينه يحكم بانكشافه وأنّ مؤدى الأمارة نفسه ، فإذا قال إذا شككت (١) فاستكشف الواقع من الأمارة الفلانيّة ، فقد حكم بأنّ مؤداها نفس الواقع ، وبعد ثبوته (٢) لا موقع للرجوع إلى ما يكون مرجعا لحكم العمل حين عدم العثور على الواقع.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الحكومة إنّما هي بالنسبة إلى نفس الأدلة ، لا بلحاظ أدلة اعتبارها ، وإنّما تفيد هي مجرد الاعتبار ، فالمخبر بالواقع مثبت له ، والشارع يحكم بوجوب الرجوع إلى قوله ، يعني أنّ الواقع كما أخبر به ، ويلزمه العثور عليه ، فكأنّ الشارع من الأول أخبر بذلك الواقع.

نعم ؛ للشارع أن يسقط نظر الدليل ، ويجعل اعتباره لا بلحاظ إراءته الواقع ، فحينئذ لا يفيده نظره وإراءته ، كما أنّ له أن يجعل غير الكاشف كاشفا تعبديا ، وحينئذ يكون الحاكم أيضا هو ذلك الدليل ، إذ هو المثبت للواقع ، غاية الأمر أنّ ذلك بجعل الشارع.

والحاصل : أنّ الأمارة إمّا أن تكون ناظرة بنفسها إلى الواقع ويعتبرها الشارع بلحاظ نظرها ، وإمّا أن تكون ناظرة (٣) ويعتبرها تعبدا ، وإمّا أن لا تكون ناظرة ويجعلها الشارع كاشفا تعبديا ، فعلى الأولين هي بنفسها حاكمة ؛ إلا أنّه على الثاني أسقط الشارع حكومتها واعتبرها تعبدا (٤) ، وعلى الثاني وإن لم تكن حاكمة بنفسها إلا أنّها تصير كذلك بجعل الشارع لها كاشفا ، فتكون الحكومة بلحاظ إراءتها للواقع لا بلحاظ أنّ دليل الاعتبار يقتضي إلغاء الاحتمال.

فتحصل أنّ سرّ التقديم كون المؤدّى في الأمارات نفس (٥) الواقع الأولي ، وفي الأصول حكم العمل من غير نظر إلى أنّ الواقع ما ذا.

__________________

(١) في نسخة (ب) بعدها : في الواقع.

(٢) في نسخة (ب) : وبعد ثبوت الواقع.

(٣) هذه الكلمة «ناظرة» سقطت من نسخة (ب).

(٤) بعدها في نسخة (ب) : فتكون من الأصول ويلحقها حكمها ، وعلى الثالث ...

(٥) في نسخة (ب) : هو نفس.

٨٧

هذا في الأصول التي لها (١) لسان التنزيل واضح ، وفي الأصول التي لسانها تنزيل الشيء بمنزلة الواقع أيضا كذلك ، لأنّ مؤداها منزّل منزلة الواقع لا نفسه ، وكون مؤدّى الأمارات أيضا كذلك بالأخرة لا يضرّ ، لأنّ العمل بها بعنوان أنّها نفسه ، وإن كان هذا العمل نحوا من التنزيل ، وهذا نظير ما نقول إنّ مؤديات الطرق أحكام واقعيّة لا ظاهريّة ، وإن كانت ظاهريّة من وجه ، وهو أنّ الحكم بأنّ الواقع كذا حكم ظاهري تعبدي ، ولذا في مقام نيّة الوجه ينوي الوجه الواقعي فيها ، دون الأصول ، فلا تغفل!

فإن قلت : إنّ ما ذكرت فيما إذا لم يكن الدليل الاجتهادي معلّقا على الشك ، ودليل اعتباره (٢) ، كأخبار الآحاد والبيّنة ونحوهما ، وأمّا إذا كان كذلك فلا ، مثلا إذا قال إذا شك الإمام أو المأموم يرجع إلى قول الآخر ، فإنّه في عرض قوله إذا شك فليبن على الحالة السابقة ، وكون قول الإمام أو المأموم كاشفا عن الواقع دون الحالة السابقة لا يثمر في التقديم ، بعد كون الكاشفيّة شرعا معلّقة على الشك ، إذ يتعارض الدليلان حينئذ ؛ أحدهما يقول ابن على كذا في مقام العمل ، والآخر يقول عيّن الواقع بكذا فمقتضى الأوّل أنّه لا يرجع إلى قول الإمام حتى يعين الواقع.

قلت : إذا فرضنا في المثال المذكور كون قول كلّ من الإمام والمأموم معتبرا من حيث الكاشفيّة ، نقول إنّ معناه حينئذ إذا شكّ الإمام فليزل شكّه بالرجوع إلى المأموم ، وبالعكس ، بخلاف قوله فليبن على الحالة السابقة ، فهذا التقييد في الحقيقة تصريح بما هو معلوم من الخارج ، من أنّ الرجوع إلى الطريق الظنيّة إنّما يكون حين الشك ، بمعنى عدم العلم بالواقع.

ولو فرضنا كونه تقييدا زائدا على ذلك نقول حينئذ : إنّه من الأصول ، أو إنّ المراد البناء (٣) في مقام العمل على أنّ الواقع كذا .. نظير (٤) أخبار القرعة : فإنّ ما عيّنته ليس نفس الواقع ، بل منزّل منزلته ، ويكون حينئذ في عرض الاستصحاب إلا أن يدّعى حكومة أحدهما على الآخر ، كما في حكومة بعض الأصول على بعض فتدبر.

__________________

(١) في نسخة (ب) : التي ليس لها.

(٢) في نسخة (ب) : في دليل اعتباره.

(٣) في نسخة (ب) : وأنّ المراد أو البناء.

(٤) لا توجد في نسخة (ب) كلمة «كذا» والموجود : كأخبار ...

٨٨

[الوجه] الثاني : من وجوه تقديم الأدلة على الأصول : أنّه من باب الورود :

إمّا بأن يقال : إنّ المراد من الشكّ المأخوذ فيها بأحد الوجهين السابقين الشك الذي لا ينتهي إلى العلم ، أعني المحيّر ، وعدم البيان .. ونحو ذلك ؛ نظير الأصول العقليّة ، فيرتفع حقيقة بالدليل الاجتهادي ، وإمّا بأن يقال : إنّ المراد من العلم الذي جعل غاية العمل بها أعم من العقلي والشرعي ، ومآل هذا إلى الأول ؛ لأنّ التصرف في العلم يقتضي التصرف في الشك أيضا ، والفرق إنّما هو بكون التصرف أولا في لفظ الشك أو في لفظ العلم.

وإمّا بأن يقال إنّ المراد من الشك والعلم وإن كان ظاهرهما ، وهو التردد في أنّ الواقع ما ذا ، والقطع بالواقع إلا أنّ الحكم بالرجوع إليها مقيّد بعدم وجود الأدلة الاجتهاديّة ، فعدمه قيد في الحكم في تلك القضايا المتكفلة لبيان الأصول ، كما إنّه على الأولين قيد في موضوعها ، فمع وجود الدليل لا وجه للعمل بها ، لعدم وجود موضوعها ، أو لعدم وجود شرط جواز العمل بها ، ويؤيد الوجه الثاني أنّ اليقين السابق في الاستصحاب أعم من العقلي والشرعي ، إذ المراد من الحكم السابق (١) أعم ممّا ثبت بالقطع أو بالأدلة الاجتهاديّة فيكشف عن أنّ المراد من اليقين اللاحق أيضا أعم.

ويؤيد أصل المطلب قوله في بعض أخبار البراءة «.. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (٢) فإنّه جعل المدار على الاستبانة التي هي أعم من العقلي والشرعي ، وأيضا جعل مجيء البينة غاية وهي دليل اجتهادي ، وأيضا قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٣) فإنّه أعم (٤) من الورود العلمي والظني المعتبر ، وأيضا إنّ بناء العقلاء في أحكامهم على ذلك في جعل الطرق والأصول ، فإنّهم لو جعلوا طرقا وأصولا ، وبعبارة أخرى أحكاما للعمل وطرقا إلى واقعيّاتهم لا يرجعون إلى أحكامهم العمليّة مع وجود الطرق ، فيكشف عن أنّ

__________________

(١) بعدها في نسخة (ب) : المعلوم.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ٤.

(٣) الفقيه : ١ / ٣١٧ حديث ٩٣٧ ، الوسائل : ٦ / الباب ١٩ من أبواب القنوت ، حديث ٣.

(٤) كلمة «فإنّه أعم» لا توجد في نسخة (ب).

٨٩

اعتبارها مقيّد بعدمها ، فالمستفاد من كلام الشارع أيضا كذلك ، فإنّه يفهم من قوله «إذا شككت في الواقع فابن على كذا» أنّه إذا لم ينكشف الواقع بالطرق المعيّنة له من العلم ، وما في عرضية يجب البناء على كذا ، ولعمري إنّ هذا الوجه حسن ، وإن كان الوجه السابق وهو الحكومة تماما أيضا.

وما ذكره المحقق الأنصاري قدس سرّه في أواخر باب الاستصحاب من أنّ هذا الوجه لا يتم إلا بالحكومة ، حيث قال (١) : ومغالطة هذا الكلام لا تندفع بما ذكرنا من الحكومة ، قد عرفت ما فيه سابقا.

وممّا يؤيد هذا الوجه أنّهم لا يفرقون في تقديم الدليل الاجتهادي على الاستصحاب بين القول بكونه من الأصول التعبديّة والقول بكونه من باب الظن ، فإنّه حينئذ دليل اجتهادي ، ومع ذلك متأخر عن سائر الأدلة ، فيكشف هذا (٢) عن كون دليل اعتباره مقصورا على صورة عدم وجود سائر الأدلة الاجتهاديّة ، وكذا الحال في أصل البراءة بناء على ما ذهب إليه بعضهم من أنّه من باب الظن (٣).

[الوجه] الثالث (٤) : أنّه من باب التخصيص :

وذلك لأنّ كلّ واحد من الأدلة الاجتهاديّة أخص مطلقا من كلّ من الأصول ، فإنّ الدليل هو كل واحد (٥) من الأخبار مثلا ، فقوله التتن حرام أخص من قوله المشكوك حلال وهكذا ، وكون دليل اعتبارها ـ وهو آية النبأ أو غيرها ـ أعم من وجه لا يضرّ بعد كون المناط في التعميم والتخصيص نفس الدليل ، لا دليل الدليل ، وهذا إنّما يتم إذا لم نجعل كلّ واحد من الاستصحابات ـ مثلا ـ دليلا ، وقوله لا تنقض دليلا عليها ، وإلا يكونان متباينين.

والتحقيق أنّ الدليل هو نفس لا تنقض لا خصوص الاستصحابات ، فتتمّ الأخصيّة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣ / ٣١٦.

(٢) في النسخة هكذا : عن هذا عن كون .. ، وصوبنا المتن هنا من نسخة (ب).

(٣) بعدها في نسخة (ب) : فتأمل.

(٤) العنوان الثالث من العناوين التي تتصور في تقدم الدليل الاجتهادي على الأصل.

(٥) في نسخة (ب) : كل واحد واحد.

٩٠

، إلا أنّه لا يخفى أنّ هذا الوجه لا يجري في جميع الأدلة ، إذ كثير من الأخبار وغيرها يكون من العمومات ، فيكون بينها وبين الأصول العموم من وجه ، مثلا إذا كان الخبر الظني مثل قوله أكرم العلماء ، وكان بعض أفراد العلماء محرّم الإكرام سابقا ، وبعضها واجب الإكرام ، أو لم يكن له حالة سابقة ، فتكون النسبة بينه وبين الاستصحاب عموما من وجه ، ومورد الاجتماع الفرد الذي كان في السابق محرّم الإكرام مثلا ، فإنّ مقتضى الاستصحاب حرمته الآن ، ومقتضى قوله أكرم العلماء وجوبه ، ومورد الافتراق من الطرفين واضح.

إلا أن يقال نحن نعلم من الإجماع أو غيره أنّه لا فرق بين الأدلة الاجتهاديّة العامّة والخاصّة ، فإذا قدّمنا الثانية على الأصول فتقدّم الأولى أيضا.

هذا ولا يخفى أنّ البيان الذي ذكرنا لأخصيّة الأدلة أحسن ممّا يظهر من المحقق الأنصاري قدس سرّه في أول أصل البراءة حيث قال (١) : ويمكن أن يكون هذا الإطلاق ـ يعني إطلاق الخاص على الدليل ، والعام على الأصل ـ على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلة الغير العلميّة ، بأن يقال إنّ مؤدى أصل البراءة مثلا أنّه إذا لم يعلم حرمة شرب التتن فهو حلال ، وهذا عام ، ومفاد الدليل الدال على اعتبار تلك الأمارة غير العلميّة المقابلة للأصل أنّه إذا قامت تلك الأمارة على حرمة الشيء الفلاني فهو حرام ، وهذا أخص من دليل أصل البراءة ، فيخرج به عنه.

وكون دليل تلك الأمارة أعم من وجه باعتبار شموله لغير مورد الأصل لا ينفع ، بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبارها حينئذ بين مواردها.

ووجه الأحسنيّة أنّه لم يتعرض لما إذا كانت غير العلميّة من العمومات التي يكون بينها وبين الأصل عموم من وجه ، وأيضا وجه عدم مضرته أعميّة دليل حجيّة الأمارة من الأصل بالإجماع على عدم الفرق بين موارد الأمارات ، مع أنّ الوجه فيه ما ذكرنا من أنّ المدار في العموم والخصوص على نفس الدليل لا دليله (٢) ، وأيضا التمسك بالإجماع على عدم الفرق بين موارد الأمارات وكونها على خلاف الأصل أو

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١١.

(٢) أي لا دليل الدليل.

٩١

وفاقه ، وتمسّك به في أصل تقديم الدليل على الأصل ، مع أنّ الكلام في سرّ هذا الإجماع ، وإلا فمن المعلوم تحقق الإجماع على تقديم الأدلة على الأصول ؛ فتدبّر!

[الوجه] الرابع : أنّه من باب التخصيص أيضا :

لكنّه لا لما ذكرنا من الأخصيّة بل للزوم اللغويّة في جعل الأمارات على فرض عدم التقديم ، وذلك لأنّ نسبتها إلى الأصول نسبة واحدة ، فإذا قدّمنا الأصول عليها في صورة مخالفتها معها يلزم ما ذكر ، إذ مع الموافقة أيضا لا حاجة إليها ، فتنحصر حجّيّتها في موارد الأصول العقليّة الصرفة ، وليس إلا التخيير في صورة الدوران بين المحذورين ، مع عدم حالة سابقة ، ذلك لأنّ البراءة وإن كانت بحكم العقل إلا أنّها ثابتة بالأخبار أيضا ، ومورد الاحتياط يندرج في أخبار الاستصحاب ؛ لأنّه مختص بما إذا كان التكليف ثابتا بالعلم الإجمالي ، فيشمله قوله لا تنقض اليقين ، إذ رفع اليد عن التكليف المعلوم بغير الإتيان بالطرفين نقض بغير اليقين ، ودعوى أنّه من الأصل المثبت مدفوعة بما ذكرنا في محله.

والحاصل أنّ الاستصحاب من الأصول التعبديّة الشرعيّة ، والبراءة والاحتياط وإن كانا من العقليّة إلا أنّ الشرع أيضا حاكم بهما ، فلا يكونان مورودين بالنسبة إلى الأدلة الاجتهاديّة ، فمع عدم تقديمها (١) يلتزم انحصار موردها بموارد التخيير العقلي ، وهي قليلة في الغاية ، فيلزم اللغويّة في جعلها ، والفرق بين موارد الأصول التعبديّة وبين الأمارات لا وجه له ، فيجب تقديمها مطلقا.

[الوجه] الخامس : أنّه من باب التخصيص ؛ لكن بلحاظ الحكومة :

ومن جهتها ؛ بيان ذلك : إنّ المعارضة وإن كانت بين دليل حجيّة الأمارات والأصول ، ودليل الحجيّة عام إلا أنّه حاكم على أدلّة الأصول ، لصدق ميزان الحكومة عليه ، وهو أن يكون تعقل أحد الدليلين موقوفا على تعقل الآخر ، دون العكس ، إذ تعقل قوله صدّق العادل موقوف على تعقل أنّه لو لاه لكان الحكم هو

__________________

(١) في نسخة (ب) : فمع تقديمها يلزم.

٩٢

البراءة ، أو على طبق الحالة السابقة ، أو نحو ذلك ، وإذا كان حاكما فيكون مقدّما ؛ للوجه الذي هو جار في جميع الحكومات ، وهو أنّ الحاكم وإن كان عامّا إلا أنّه مرآة لملاحظة ما تحته من الجزئيّات ، وليس عنوانا مستقلا في عرض سائر العناوين ، فكأنّه صرّح بالحكم في كل من تلك الجزئيات ، فيكون بمنزلة النص ، مثلا قوله لا حرج في الدين بمنزلة أن يقول لا حرج في الوضوء والصلاة والصوم ونحوها ، وكذا قوله لا ضرر ، ففيما نحن فيه قوله صدّق العادل بمنزلة قوله صدّق هذا الراوي وهذا الراوي وهكذا ، فيكون نصا في كل واحد من الأخبار ، فيلزم تقديم كلّ واحد منهما على الأصل المخالف له ، لأنّ دليله عام وهذا خاص ، هذا محصل ما حكي عن بعض.

وأنت خبير بما فيه من أوّله إلى تاليه :

إذ أولا : نمنع كون المعارضة بين الأصول ودليل حجيّة الأدلة ، بل طرف المعارضة نفسها حسبما عرفت ؛ فلا حاجة إلى الأكل من القفا.

وثانيا : قد عرفت سابقا (١) في هذا الميزان (٢).

وثالثا : لا يصير نصا بمجرّد كونه مرآة ، إذ المرآة إذا كانت عامّا فحكمها (٣) حكم سائر العمومات ، فلا تتفاوت العنوانيّة والمرآتيّة في ذلك ، إذ قوله أكرم العلماء أيضا في قوّة قوله أكرم زيدا وعمرو .. ، ولا يصير نصا بمجرّد ذلك.

وأيضا (٤) قد عرفت سابقا أنّه قد يكون الخبر الواحد من العمومات ، ويكون بين مؤداه ومؤدى الأصل عموم من وجه ، فلا ينفع التنصيص على العمل به بعد كون مفاده أعم من وجه من مفاد الأصل ، وكيف كان فقد أشرنا سابقا إلى أنّ الاتفاق قائم على تقديم الأدلة على الأصول العمليّة (٥) الأربعة.

والغرض من هذا التطويل أنّه من أي باب ، نعم قد عرفت سابقا أنّه يمكن أن

__________________

(١) في نسخة (ب) : سابقا ما في ...

(٢) لعل المراد : أنّك عرفت الميزان في تحقق الحكومة فيما ذكرناه سابقا في مثل هذا المورد.

(٣) في النسخة : حكمها.

(٤) في نسخة (ب) بدل وأيضا : رابعا.

(٥) بعدها في نسخة (ب) : خصوصا الأصول.

٩٣

يكون أصل عملي خاص في بعض المقامات يكون دليل اعتباره ناظرا بسياقه إلى الأمارات ويكون مقدّما عليها.

هذا ولا يخفى أنّه يمكن أن يكون اعتبار الأمارة في بعض المقامات موقوفا على عدم وجود دليل وطريق للعمل ، كما إذا كان اعتبار الظن في بعض المقامات من باب حكم العقل بعد عدم ما يكون مرجعا من جانب الشرع من باب الأقربيّة إلى الواقع أو غيره ، فمع وجود أحد (١) الأصول الشرعيّة ينعدم شرط حجيّة تلك الأمارة وذلك الظن ، وليس هذا من باب التقديم ، بل من جهة قصور الحجيّة ؛ ولذا نقول إنّ إثبات حجيّة الظن بدليل الانسداد موقوف على إبطال الرجوع إلى الأصول.

الموضع الثاني (٢) : [في كيفيّة تقديم الأدلة على الأصول اللفظيّة]

في بيان كيفيّة تقديم الأدلة على الأصول اللفظيّة كأصالة الحقيقة وأصالتي العموم والإطلاق (٣) ، فيما إذا كان في قبالها دليل اجتهادي كان نصا أو أظهر من ذلك العموم أو الإطلاق ، وأمّا لو كان ظاهرا مكافئا لظهور العام أو الإطلاق (٤) فهو خارج عن المقام ، إذ هو من تعارض الظاهرين ، وسيأتي حكمه (٥) ، ولا يكون الخاص حينئذ مقدّما حتى يبحث عن كيفيّة هذا ، ولا فرق بين أن يكون ذلك العام أو المطلق قطعي السند أو ظنيّه ، فإنّ الخاص حينئذ مقدّم مطلقا ، والغرض بيان أنّ تقديمه من أي باب فنقول :

ذكر المحقق الأنصاري قدس سرّه (٦) : أنّ ذلك الخاص إن كان قطعيّا من جميع الجهات بأن كان نصا قطعيّا فهو من باب الورود ، لحصول العلم بالقرينة ، والعمل بالأصول المذكورة إنّما هو في صورة الاحتمال ؛ فهو كما لو حصل العلم من الدليل الاجتهادي في مقابل الأصل العملي ، وإن كان ظنيّا في الجملة بأن كان نصا ظني السند أو أظهر

__________________

(١) لا توجد هذه الكلمة «أحد» في (ب).

(٢) هذا هو الموضع الثاني من موضعي كيفيّة تقديم الدليل الاجتهادي على الأصل.

(٣) في نسخة (ب) : أو الإطلاق.

(٤) في نسخة (ب) : أو المطلق.

(٥) يأتي في الصفحة :

(٦) فرائد الأصول : ٤ / ١١ و ١٢ و ١٣.

٩٤

من (١) قطعي السند أو ظنيّه فتختلف حاله بحسب الحكومة والورود ، بين القول بكون اعتبار الأصول المذكورة من باب التعبّد وأصالة عدم القرينة ، والقول بكونها من باب الظن النوعي الحاصل من الغلبة أو غيرها.

فعلى الأول يكون تقديم ذلك الخاص من باب الحكومة ، لأنّ العمل بتلك الأصول إنّما هو في صورة احتمال وجود القرينة وعدمها ، ومعنى حجيّة ذلك الخاص جعل احتمال مخالفة مؤداه للواقع بمنزلة العدم ، في عدم ترتب ما كان يترتب عليه من الأثر لو لا حجيّة هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بذلك العموم مثلا.

قال : ويحتمل أن يكون من باب الورود بناء على كون العمل بالظاهر معلّقا على عدم التعبّد بالمخصّص ، فيكون حالها حال الأصول العقليّة العمليّة .. ثمّ أمر بالتأمّل.

ولعل نظره إلى منع التعليق مع (٢) عدم التعبّد بالمخصص ، وإنّما هي معلّقة على عدم القرينة على الخلاف واقعا ، فيكون دليل التعبّد مثبتا للقرينة جعلا وتنزيلا ، فيكون من الحكومة ، وعلى الثاني يكون من باب الورود ، لأنّ دليل حجيّة ذلك الظهور النوعي مقيّد بعدم وجود ظن معتبر على خلافه ، ومع وجوده يرتفع موضوعه ، كارتفاع موضوع الأصل بالدليل ، ثم أيّد التعليق المذكور بعدم وجود مورد يقدّم فيه العام على الخاص ، ولو كان ذلك الخاص من أضعف الظنون ، يعني من حيث السند ، فلو لم يكن العمل بظهور العموم معلّقا على عدم وجود الظن المعتبر لوجد مورد يقدم فيه العام ـ لقوّته ـ على الخاص المقابل له ، فهو نظير ظنّ الغلبة والظن الاستصحابي ، بناء على اعتباره من باب الظن من حيث إنّهما مقيّدان في اعتبارهما بعدم وجود الدليل في قبالهما ، ولو كان أيضا من الأدلة الاجتهاديّة فهما في الرتبة متأخران عن سائر الأدلة الاجتهاديّة ، فكذلك الحال في أصالة العموم ونحوه.

هذا حاصل ما ذكره ، ونظره في الفرق بين الوجهين إلى أنّه على الأول يكون

__________________

(١) لا توجد كلمة «من» في نسخة (ب).

(٢) في نسخة (ب) : على.

٩٥

اعتبار الظهور من باب التعبد ، إلا أنّه معلّق على عدم القرينة في الواقع ، فحين الشك فيها يجري أصل عدمها ، وإذا تعبدنا الشارع بالعمل الخاص فتتحقق القرينة بحكم الشرع ، وإن لم يعلم بها واقعا.

وعلى الثاني لا يكون من باب التعبد بل هو من باب الظن النوعي ، واعتباره مقيّد بعدم الدليل على الخلاف ، لا بعدم القرينة الواقعيّة ، فبمجرّد وجود الدليل تحصل الغاية ، وينتفي القيد ، ونظره في التأييد إلى أنّه لو كان من باب الحكومة ولم يكن الاعتبار مقيدا أمكن تقديم العام في بعض المقامات ، أو عند بعض من جهة أقوائيّة ظهور العام من الظن بسند الخاص أو باعتباره ، أو من جهة إنكار الحكومة ، ولمّا لم نجد أحدا يتأمل في تقديم الخاص على العام يكشف ذلك عن كون حجية ظهوره معلّقة على عدم وجود الدليل ، ولو كان ظنيا.

فإن قلت : نرى أنّهم في بعض المقامات يعملون بالعام ويطرحون الخاص المقابل له.

قلت : نعم لكنّ ذلك من جهة كون ذلك الخاص موهونا بإعراض الأصحاب عنه أو غيره ممّا يوجب خروجه عن أصل الحجيّة ، والكلام مع بقاء شرائط الحجيّة ، وممّا ذكرنا ظهر اندفاع ما ربّما يقال (من) (١) أنّ ما ذكره لا يصح أن يكون معيّنا للورود ، بل يمكن أن يكون من باب الحكومة ، وجه الاندفاع أنّه لو كان منها لم يكن ذلك مطردا في جميع المقامات وعند الجميع ، فإنّ بعضهم لا يعتبر الحكومة ، ويجعل الحاكم والمحكوم من المتعارضين ، وعند من اعتبرها أيضا يمكن أقوائيّة ظهور العام من نظر الحاكم في الحكومة ؛ هذا.

أقول (٢) :

أولا : إنّ اعتبار الأصول المذكورة من باب الظن النوعي الحاصل من الوضع ، فإنّ اللفظ (٣) مع قطع النظر عن الغلبة أيضا ظهور في المعنى الحقيقي ، وسرّه أنّ المعنى

__________________

(١) أضيفت لتقويم المتن.

(٢) في نسخة (ب) هكذا : هذا وأقول.

(٣) في نسخة (ب) : للّفظ.

٩٦

خاصّة للفظ بعد وضع الواضع وجعله علامة للمعنى بعد وضع (١) كون المفروض أنّ المستعمل جاز في استعماله على قانون الوضع ، وبان على تقليد الواضع فيما صنع من تخصيص اللفظ بالمعنى ، ولذا نرى أنّ للفظ ظهورا في المعنى ولو في أوّل الاستعمالات بل الحق أنّ الظهور اللفظي عبارة عن كون اللفظ ذا وجه إلى المعنى بسبب كونه علامة من غير نظر إلى الظن النوعي أيضا ، وإن كان لا ينفك عنه ، فاعتباره من جهة كونه كاشفا وضعيّا عنه ، وليس من جهة الغلبة ، ولا من جهة أصالة عدم القرينة ، ولذا تعد القرينة صارفة عن المعنى الحقيقي.

فإن قلت : إنّ الوضع حاصل بالنسبة إلى المعنى المجازي أيضا ، غاية الأمر إنّه نوعي ولا فرق بينه وبين الشخصي ، فظهور اللفظ غير مقصور على المعنى الحقيقي ، فهو بالنسبة إلى وضعه الشخصي للحقيقي ، والنوعي للمجازي كالمشترك بين معنيين ، إذا كان أحدهما شخصيا والآخر نوعيا.

قلت : المعنى المجازي وإن كان بالوضع أيضا إلا أنّه في طول المعنى الحقيقي ، ولذا يحتاج إلى قرينة صارفة ، ففرق بين المعنيين إذا كانا في عرض واحد ، كما في المشترك وبين المقام.

وثانيا : إنّ المراد بأصالة عدم القرينة إن كان هو الاستصحاب التعبدي فلا وجه له إذ العمل بالظهورات متداول بين من لا يكون متعبدا بالشرع أيضا ، والظاهر أنّ الشارع أمضى ما بيد العرف ، وإن كان الأصل العقلائي (٢) فلا يخفى أنّ العقلاء لا يبنون على عدم شيء مشكوك تعبّدا ، إذ ليس لهم رئيس مطاع يتعبدون بما جعله طريقا لهم في محاوراتهم وإنّما نظرهم إلى الظهور اللفظي والظن النوعي الحاصل منه ، كما يظهر من ملاحظة عملهم بسائر ظنونهم ، فإنّهم لا يبنون على إلغاء احتمال الخلاف أولا ، وجعله كالعلم ثمّ العمل عليه ، بل مع وجود الاحتمال لا يلتفتون إليه ، ويعملون بما يفيد الظن نوعا أو بالظن الشخصي ، وهذا واضح ، فلا معنى لكون الاعتبار من باب

__________________

(١) لا توجد كلمة «وضع» في نسخة (ب).

(٢) في نسخة (ب) : عقلائي.

٩٧

أصل عدم القرينة إلا أن يراد أنّهم يعاملون (١) معاملة عدم القرينة ، وهو كذلك ؛ إلا أنّه راجع إلى ما ذكرنا من العمل بالظهور اللفظي من حيث إنّه مقيد بالظن بالمراد نوعا أو فعلا ، وليس شيئا وراءه ، ثمّ أقول بناء على كون أصالة عدم القرينة أمرا وراء الظهور النوعي فلا يتفاوت حالها مع الظهور في الحكومة والورود ، ولا فرق بين الوجهين في ذلك.

والحق هو الورود فيهما ؛ لأنّ اعتبار كليهما إنّما هو من باب بناء العقلاء وطريقتهم ، وهم لا يحكمون باعتبار شيء إلا بعد ملاحظة جميع جهاته وخصوصيّاته ، فيكون حكمهم نظير حكم العقل في أنّه معلّق على عدم ورود ما يكون معتبرا عند الشارع ، إذ لا تأمّل في عدم تعقل الحكومة في حكم العقل بمعنى أنّه إمّا (أن) يحكم مطلقا فيقدم على ما وصل من الأخبار الظنيّة ، وإمّا مقيّدا بعدم مثل ذلك الخبر ، ولذا نقول إنّه لا يعقل التخصيص في حكم العقل ، فبناء العقلاء أيضا كذلك ، بل هو حكم عقلي (٢) فلا يتصور فيه تعارض وحكومة ، فموضوع الاعتبار عندهم مقيّد بالظهور الخاص ، وهو ما لا يكون في قباله شيء ، خصوصا إذا جعلنا حجيّة خبر الواحد الذي هو في مقابل أصالة العموم (٣) من باب بناء العقلاء ، وما ذكرنا هو السرّ في كون الظن الاستصحابي ـ بناء على كونه من باب الظن ، والظن الحاصل من الغلبة ـ حجّة عندهم (٤) ما يكون على الخلاف من الأدلة الأخر ، فإنّ دائرة الاعتبار في نظرهم مقيدة.

والتحقيق في المقام : أنّ التعارض ليس بين ظهور العام ودليل السند (٥) ، حتى يكون من باب الحكومة أو الورود ، بل بينه وبين دلالة الخاص ، وإذا كان نصا وأظهر ، كما هو المفروض فيكون مقدّما من باب حكم العقل والعرف ، حيث يجعلونه قرينة ، بل التعارض بدوي يزول بملاحظة ما ذكر من كونه قرينة عندهم ، ودليل اعتبار

__________________

(١) في نسخة (ب) : يعملون.

(٢) في نسخة (ب) : عقلي إجمالي.

(٣) في نسخة (ب) : أيضا.

(٤) في نسخة (ب) : عند عدم.

(٥) في نسخة (ب) : ودليل اعتبار السند.

٩٨

السند إنّما يفيد مجرد الاعتبار ويجعله كمعلوم الصدور ، ومن المعلوم أنّ تقديم دلالة الخاص على العام أو المطلق ليس إلا من باب التخصيص أو التقييد.

والحاصل : أنّ الخاص الناص ، أو الأظهر من حيث هو مقدّم على العام في نظر العقلاء ويكون مخصّصا له ، وقرينة عليه ، فإن كان قطعيا فلا إشكال ؛ لأنّ القرينة حينئذ قطعيّة ، وإن كان ظنيا من حيث السند ، فإن كان بناؤهم على العمل بهذا الظن أيضا ، وقد أمضاه الشارع فلا إشكال أيضا ، وإلا فلا يجعلونه مقدّما ، لا من حيث عدم كونه ولا من حيث هو قرينة (١) ، بل لشكهم في سنده ، فإذا (٢) فرضنا أنّ الشارع اعتبره وجعله في حكم معلوم الصدور ، فيكون مقدّما عندهم أيضا ، لكونه قرينة معتبرة ، واعتبار العموم عندهم معلّق على عدم القرينة المعتبرة ، فإذا فرضنا منع الشارع عن العمل بما يكون معتبرا عند العقلاء ، فيكون من باب إسقاط القرينة عن الاعتبار ، فينفي وجوب العمل بالعام بحاله.

ومجمل الفرق بين ما ذكرت من التحقيق وما ذكره المحقق الأنصاري قدس سرّه (٣) : أنّه يجعل التعارض بين أصالة الظهور ودليل اعتبار السند ، ويجعله حاكما عليها ، أو واردا ؛ على الوجهين المتقدمين ، وعلى ما ذكرت لا يكون التعارض إلا بين الدلالتين ، وبحكم العقل والعرف النص والأظهر مقدّمان على أصالة الظهور (٤) ، بعد الفراغ من سندهما ، ودليل الاعتبار يجيء بلا معارض ، ويحكم باعتبارهما ، ويجعلهما كمعلوم الصدور ؛ من غير نظر إلى أنّ مفادهما معارض مع شيء أم لا.

كما هو الشأن في أدلّة الاعتبار ، إذ هي متكفلة لبيان أنّ الخبر صادر وأنّ تصديق العادل واجب ، وأمّا أنّ مفاده ما ذا؟ فلا نظر لها إليه ألا ترى أنّه لو كان الخبر شارحا للعموم ومبينا له بصراحة لفظه ، لا يجعل سنده معارضا لذلك العموم ، فكذا إذا كان

__________________

(١) لعل في الكلام سقطا والمراد لا من حيث جعله ، أو لا من حيث جعله النعتي ولا الوجود المحمولي.

(٢) في نسخة (ب) : وإذا.

(٣) في نسخة (ب) : بدل «الأنصاري» : المتقدم ؛ ولا يوجد قدس سرّه.

(٤) في النسخة هكذا : ويحكم العقل والعرف للنص والأظهر مقدمان ....

٩٩

نصا أو أظهر ، وكانت شارحيته بحكم العقل والعرف بعد ملاحظتهما (١) معا ولذا إذا كان الخبر قطعي الصدور لا يقال إنّ هذا القطع معارض مع ظهور العام المقابل له ، هذا.

وأورد بعض على ما ذكره المحقق المذكور من الحكومة على تقدير كون الاعتبار من باب أصل عدم القرينة : بأنّ هذا الأصل من الأصول العقلائيّة ، وهي طرق إلى الواقع ، وليس من الأصول التعبديّة المجعولة ، حتى يجيء فيه الحكومة ، فهو والخبر الظني متعارضان في عرض واحد ، إذ لا حكومة في الطرق المتعارضة إلا أن يكون أحدهما مفسّرا لموضوع الآخر ، كحكومة أدلة نفي الضرر على أدلة الأحكام ، وليس الأمر في المقام كذلك ، وعلى ما ذكره من الورود على التقدير الآخر بأنّ التعليق ثابت من الجانبين ، حيث إنّ اعتبار (٢) الأدلة الظنيّة أيضا موقوف على عدم المعارض ، فكما أنّ الظهور اللفظي معلّق على عدم الدليل على القرينة كذلك اعتبار سند المخصّص أيضا معلّق على عدم المعارض ، وظاهر العام معارض له ، وكل منهما في عرض الآخر ، ولا ورود ولا حكومة بينهما ، والشك في كل منهما مسبّب عما هو المجعول شرعا في حق المكلّف ، فالمقام نظير تعارض العامين.

والحاصل أنّ ظاهر العام دليل اجتهادي كالمخصص ، واعتبار كل منهما معلّق على عدم وجود الآخر ، وأيضا دعوى كون العمل بالظن النوعي في بناء العقلاء معلّقا على عدم وجود الدليل التعبدي لا معنى له ، إذ بناؤهم إنّما هو على توقف أصل الحقيقة على عدم العلم بالقرينة ، لا عدم الدليل التعبدي ، إذ ليس لهم دليل تعبّدي حتى يجعلوه غاية لعملهم بالظهور.

ثمّ اختار أنّ التقديم إنّما هو من جهة أنّ الدليل على اعتبار أصالة العموم إنّما هو الاجماع ، وهو أمر لبّي لا يشمل ما إذا كان في قباله خاص ظني السند ، فيعمل بذلك المخصص ، إذ دليل اعتبار سنده حينئذ لا معارض له.

ودعوى أنّه كما لا إجماع على اعتبار الأصل كذا لا إجماع على اعتبار السند

__________________

(١) في النسخ : ملاحظتها.

(٢) في نسخة (ب) : الاعتبار.

١٠٠