كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

قلت : قد ثبت في محلّه حجيّة المكاتبات (١) ، وعدم الفرق بين الأصول والفروع في ثبوتهما بخبر الواحد ، ولو استشكل في دلالتهما كان أولى ، فقد عرفت سابقا الإشكال فيهما ؛ خصوصا في الأولى.

ثمّ إنّه ذكر أنّ الأصل الذي يكون في مورد الخبرين مختلف بحسب الأقوال ، وذلك لأنّا لو قلنا بأنّ العبادات أسام للأعم فالأصل هو الإطلاق اللفظي ، ولو قلنا إنّها أسام للصحيحة ففي الأول الأصل عدم الشرطيّة والبراءة أو الاشتغال ؛ على اختلاف المذهبين ، من غير فرق بين كون المراد من الركعتين النافلة أو الفريضة ، وفي الثاني الأصل عدم الجزئيّة ؛ لا البراءة والاشتغال ؛ لاختصاصهما بالواجبات ، والمفروض الشك في استحباب التكبير دون وجوبه ، هذا إذا قلنا بأنّ المستحبات في الصلاة ، أجزاء مستحبة ، وأمّا إذا قلنا إنّها مستحبات مستقلة ، غاية الأمر أنّ محلها الصلاة ، فالأصل هو أصالة عدم الجعل ؛ من غير فرق بين مذهب الصحيحي والأعمي ، والقائل بالبراءة والقائل بالاشتغال في الشك في الشرطيّة والجزئية (٢) ؛ لأنّ الإطلاق جار بالنسبة إلى أجزاء الصلاة وشرائطها ، وكذا أصل عدم الشرطيّة والجزئيّة وقاعدة الاشتغال.

فظهر أنّ الأصل ـ على بعض التقادير ـ هو الإطلاق ، وعلى بعضها البراءة والاشتغال ، وعلى بعضها أصل العدم ، وحينئذ يشكل الحال بأن أصل الاحتياط والاشتغال ليس محطّا لنظرهم ، بل لا يكون من الأصول ، فكيف يكون التخيير في الخبرين في مورد جريان الأصل ، فلا يتم الاستشهاد المذكور كليّة.

قلت : لا فرق بين مذهب الصحيحي والأعمي في المقام ، بعد عدم وجود إطلاق يمكن التمسك به كما هو كذلك في المقام ، فإنّ إطلاقات الصلاة واردة في مقام

__________________

(١) المكاتبات ؛ هي الروايات التي يرويها الكاتب أو السائل من الإمام ، إلا أنّ سؤاله منه لم يكن من طريق المشافهة بل كان بالكتابة للإمام ؛ لبعد مسافة أو لتقيّة توجب عدم التمكن من الوصول إليه عليه‌السلام ، ومشهور علماء الحديث والدراية جعلها متأخرة في رتبة الحجيّة عن الروايات الشفاهيّة.

(٢) المراد أنّه من غير فرق بين القائل بجريان البراءة ، والقائل بجريان الاشتغال.

٥٨١

الإهمال (١) ، ثم لا وجه لاحتمال كون المستحبات في الصلاة مستقلة ؛ خارجة عن كونها أجزاء الصلاة.

ثمّ لا يضر اختلاف الأصل على اختلاف المذاهب ، إذ على كل مذهب يكون أحد الخبرين موافقا للأصل من البراءة والاشتغال أو أصل العدم ، ودعوى أنّ الاحتياط خارج عن محطّ نظر الأصوليين صحيحة إلا أنّه ليس خارجا عن محط نظر صاحب المفاتيح والشيخ ، إذ نظرهما إلى ما يكون مرجعا عند فقد الخبرين أو تساقطهما ، والمدار في هذا البحث على نظرهما.

ثمّ إنّه اختار في المقام عدم الترجيح بموافقة الأصل ؛ لأنّه لا يوجب قوّة في الخبر وذكر أنّ العمدة في إبطال الأصول أدلّة التخيير.

وأنت خبير بأنّه بعد ما ناقش في الحكومة المذكورة ، بل في سائر الوجوه ؛ لا يبقى وجه للاعتماد على أدلّة التخيير بعد معارضتها بأدلة الأصول بالعموم من وجه ، بل لا بدّ من التوقف عن التخيير أيضا ، والاحتياط في مقام العمل ؛ فتدبّر!.

تنبيه : [في تقديم الناقل أو المقرر]

اعلم أنّ الأصوليين عنونوا المسألة بأنّه إذا تعارض الناقل والمقرّر فهل يقدم الأول أو الثاني؟ وذكروا فيها أقوالا ، فالأكثر على ما قيل على تقديم الأول ، وذهب جماعة إلى تقديم الثاني ، وعن البهائي التوقف ، وذهب بعضهم إلى التخيير ، وعن المعارج (٢) أنّه إن كانا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم التاريخ كان المتأخر أولى ـ سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا ـ وإن جهل التاريخ وجب التوقف ؛ لأنّه كما يحتمل أن يكون أحدهما ناسخا يحتمل أن يكون منسوخا ، وإن كانا عن الائمّة عليهم‌السلام وجب القول بالتخيير مطلقا ؛ لفقدان الترجيح.

وعن المحقق الكاظمي (قدس‌سره) : أنّه إن كان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم التاريخ عمل بالمتأخر مطلقا ، وإن جهل فالمقرّر مقدّم ؛ لأنّ الشارع لا يفيد (٣) حكما علم بالأصل ،

__________________

(١) المقصود ورودها في مقام إرادة الإهمال لها.

(٢) حكى عبارته في مفاتيح الأصول : ص ٧٠٥ ، وانظر المعارج : ١٥٦.

(٣) ويحتمل في الكلمة أنّها : يقيد.

٥٨٢

وحينئذ فيكون المقرّر واردا بعد الناقل ناسخا له ، وإن كان من الأئمة عليهم‌السلام فالناقل مقدّم ؛ لأنّ المقرّر لمّا كان موافقا للأصل ، كان كالمستغنى عن ذكره ؛ بحكم الأصل ، وحيث لا نسخ بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يحتمل تأخير المقرّر ، وعن الإشارات (١) : أنّه إن كانا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فمع العلم بالتاريخ يتعيّن المتأخر ، ومع الجهل يتوقف مع العلم بصدورهما واحتمال النسخ باجتماع شرائطه ، ويحتمل عدم الحكم بالنسخ ؛ لندرته ، فيلحق بما يأتي ، ومع عدم العلم بصدورهما ، أو عدم احتمال النسخ ؛ فالأظهر تقديم المقرّر ، وكذا في أخبار الأئمّة عليه‌السلام علم التاريخ أو لم يعلم ، لعدم احتمال النسخ.

والظاهر أنّ مرادهم من المقرّر ما وافق خصوص أصل البراءة ، أو أصل العدم ، لا مطلق الأصول ، ولذا قال في الفصول في عنوان المسألة (٢) : وأمّا الخبر الموافق لأصل البراءة ، أو أصل العدم .. إلى آخره ، ويظهر من بعض استدلالاتهم أنّ مفروض كلامهم صورة القطع بصدور الخبرين ؛ بل الأصوليون من العامّة نظرهم إلى خصوص الأخبار النبويّة ، لكن عرفت أنّ بعضهم جعل العنوان أعمّ.

ثمّ إنّ ظاهرهم أنّ تقديم أحدهما إنّما هو من جهة حصول الظن بملاحظة غلبة التأسيس .. ونحوه ممّا ذكروه ، فلا دخل لكلامهم بالعنوان الذي ذكرنا أولا ؛ من أنّ الأصل ـ بما هو حكم تعبّدي ظاهري ـ هل يكون مرجّحا أم لا؟ ومن ذلك يندفع الإشكال في أنّ المشهور على تقديم الموافق للأصل كما يظهر بملاحظة عملهم في الفقه ، مع أنّ تقديم الناقل منسوب إلى الأكثر ؛ وذلك لأنّ المراد من هذا الأكثر الأصوليون المتقدمون الذين أكثرهم العامّة ، والتقديم إنّما هو من جهة ما ذكروه من الظن الحاصل بملاحظة أولويّة التأسيس ، بالبيان الذي ذكروه ، وأمّا علماؤنا فنظرهم إلى كون أحد الخبرين معتضدا بحكم ظاهري كائنا ما كان ، وإن كان نظر جملة منهم أيضا إلى جعل الأصل من باب الظن.

__________________

(١) إشارات الأصول للفاضل الدربندي ؛ وقد حكى قوله هذا الميرزا الرشتي في بدائعه ، وهي قريبة جدا من عبارة المحقق في المعارج.

(٢) الفصول الغرويّة : ٤٢٩.

٥٨٣

والغرض أنّ هذا العنوان غير ما ذكرنا في عنوان المسألة ، فإنّ هذا العنوان أخصّ من عنواننا ؛ فلا تغفل!

ثمّ إنّه يظهر من المحكي عن المحقق ـ على ما عرفت من عبارته ـ بل من غيره أيضا أنّ التخيير لا يجري في الأخبار النبويّة المحتملة للنسخ ، ولعلّه لظهور أخباره في اختصاصها بأخبار الأئمة ؛ فتأمّل!.

الثاني (١) : كون أحد الخبرين مفيدا للحظر ، والآخر للإباحة ، فقد حكي عن المشهور تقديم الأول على الثاني ، بل ربّما يدّعى عدم الخلاف فيه ، لكنّه في غير محلّه ؛ لأنّه حكي عن العضدي والحاجبي أنّهما نقلا قولا بتقديم الثاني (٢) ، وعن التفتازاني أنّه لم يذهب أحد إلى ترجيح الإباحة (٣) ، إلا أنّ الآمدي قال (٤) : يمكن ترجيح الإباحة ، وعن أبي هاشم وعيسى بن أبان التسوية وعدم الترجيح (٥) ، وعن العدّة والمعارج (٦) : التوقف ، ولعلّ نظر القائلين بتقديم الحاظر إلى قوله عليه‌السلام «دع ما يريبك ..» (٧) وقوله عليه‌السلام «ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال» (٨) ، لكنّ الاستدلال بهما كما ترى! مضافا إلى أنّ مقتضاهما كون الأصل هو الحظر ، مع أنّ المشهور في الاحتمالين المجردين عن الخبر على الإباحة ، فليس نظر القائلين بعدم الحاظر إلى أنّ الأصل هو الحظر ، مع أنّه على هذا التقدير يرجع هذا المرجح إلى السابق ، مع أنّهم عدّوه مستقلا في قبال السابق.

والحق ابتناء المسألة على مسألة الحظر والإباحة ، بناء على الترجيح بالأصل أو

__________________

(١) هذا هو الثاني من الوجوه التي ذكرها سيد المفاتيح للاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل.

(٢) أي المفيد للإباحة.

(٣) شرح مختصر الأصول : ٢ / ٤٨٩.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام : م ٢ / ج ٤ ـ ٤٦٠.

(٥) حكاه عنهم في مفاتيح الأصول : ٧٠٨.

(٦) عدة الأصول : ١ / ١٥٢ ، معارج الأصول : ١٥٦.

(٧) وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٣٨ ، ٥٦.

(٨) مستدرك وسائل الشيعة : ١٣ / ٦٨ حديث ٥.

٥٨٤

على حصول الظن من الأدلّة الدالّة على أحدهما ، ولذا قال في العدة (١) ـ على ما حكي عنه ـ : وأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يتضمن الحظر والآخر الإباحة ، والأخذ بما يقتضي الحظر أو الإباحة فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف ؛ لأنّ الحظر والإباحة جميعا مستفادان من الشرع ، ولا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا التوقف بينهما ، أو يكون الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء ؛ انتهى.

فإنّ ظاهر كلامه أنّه متوقف في المقام ، أو قائل بالتخيير لأجل عدم قوله بأصالة الحظر ، ولا بأصالة الإباحة ، وإلا فكان يرجح بأحدهما ، ولعلّه لأنّه على فرض جعله أحدهما أصلا يقول به من باب الظن ؛ لا من باب مجرّد أنّه مرجع عند الشك.

ومن ذلك يندفع عنه ما أورده عليه في الرسالة (٢) من أنّه بناء على الوقف أيضا يجب الأخذ بالحاظر ؛ لأنّ مقتضى الوقف الاحتياط في العمل.

وجه الاندفاع أنّه ـ بناء على الوقف ـ لا يحصل الظن بالحظر بخلاف ما لو قال بأصالة الحظر ، فنظره في الترجيح إلى الظن ، وهو إنّما يحصل لو كان الأصل أحدهما ، ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله «لأنّ الحظر والإباحة .. الى آخره» علّة للوقف ، لا لعدم الترجيح بالأصلين ، فلا يرد عليه ما أورد عليه أيضا من أنّ استفادة الحظر والاباحة من الشرع لا ينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع على أصالة الإباحة ، مثل قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق ..» (٣) ، أو على أصالة الحظر مثل قوله عليه‌السلام «دع ما يريبك ..» (٤) ، فغرضه أنّ الحظر والإباحة لا بدّ أن يصلا من الشرع ، ولا يستقلّ العقل بإثباتهما ، والمفروض أنّ الكلام في الحظر والإباحة قبل ورود الشرع.

وكيف كان فهذا المرجّح إن رجع إلى السابق فحاله حاله في أنّه معتبر بناء على أصالة الحظر ، وحصول الظن منه ؛ وإلا فلا ، وإن لم يرجع إليه فلا دليل عليه ،

__________________

(١) عدّة الأصول : ١ / ١٥٢.

(٢) فرائد الأصول : ٤ / ١٥٦.

(٣) الفقيه : ١ / ٣١٧ وفى طبعة أخرى ص ٢٠٨ حديث ٩٣٧ ، وسائل الشيعة : ٦ / الباب ١٩ من أبواب القنوت حديث ٣.

(٤) تقدم تخريجه.

٥٨٥

والخبران (١) لا يمكن الاستدلال بهما ، مع أنّهما معارضان بغيرهما ، نعم يمكن أن يستدل عليه بالمرفوعة (٢) ، حيث إنّها حكمت بالعمل بما طابق الاحتياط من الخبرين بعد فقد المرجّحات ، إلا أنّ لازم الأخذ بها ترجيح الموجب على المبيح أيضا ، مع أنّها ضعيفة السند ولا جابر لها (٣) ، ومجرّد الشهرة التطابقيّة لا يثمر في جبرها ، مع أنّ الشهرة إنّما هي بين العامّة ، فلا تعويل عليها ؛ خصوصا إذا كان نظرهم إلى مثل قوله عليه‌السلام «دع ما يريبك ..» ، وقوله عليه‌السلام «ما اجتمع .. الى آخره» ، أو إلى أنّ الحاظر ناقل فهو أولى بالأخذ ؛ من جهة أنّ التأسيس أولى من التأكيد ، فإنّه إذا علم مدرك الشهرة وفساده ؛ فلا يصح الاعتماد عليها ، وإن كانت من الخاصّة فضلا عن كونها من العامّة.

ثمّ إنّه ذكر في الرسالة (٤) أنّه يشكل الفرق بين ما ذكروا من الخلاف في تقديم المقرّر على الناقل ، وإن حكي عن الأكثر تقديم الناقل ، وعدم ظهور الخلاف في تقديم الحاظر على المبيح ، فخلافهم في الأولى ينافي وفاقهم في الثانية ، مع أنّهما من جزئيّات الأولى ، ثمّ أجاب :

أولا : بإمكان تخصيص الأولى بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه ، ولذا رجّح

__________________

(١) المقصود بالخبرين : «كل شيء مطلق ..» و «دع ما يريبك ..».

(٢) وهي مرفوعة زرارة المشهورة في بيان المرجّحات ، وقد مرّ تخريجها والبحث فيها.

(٣) إن كان مراده من ضعف سندها ما يتحقق بنفس الإرسال باعتبار دخول المرفوعة في المرسلة بالمعنى الأعم فهنا بحث في رفع الخبر من مثل زرارة أو ابن أبي عمير أو محمد بن مسلم وخلاصته : أنّ للأصحاب قولين أو ثلاثة في المسألة وهي :

١ ـ عدم قبول المرفوعة مطلقا لكونها تدخل في نطاق الرواية المرسلة.

٢ ـ قبول المرفوعة إذا كان الرافع لها ثقة.

٣ ـ قبول المرفوعة فيما لو كان الرافع لها من أصحاب الإجماع لحكم الأصحاب بتصحيح ما يصح عنهم كما في مثل محمد بن مسلم وزرارة وابن أبي عمير وأمثالهم ، دون من عداهم من الرواة.

فالمشهور بين الرجاليين هو الأول وبعده الثالث. أقول : لا يبعد أن يكون مراده ضعف المرفوعة لعنوان الرفع ذاته الموجب لجهالة الواسطة مطلقا.

(٤) فرائد الأصول : ٢ / ١١٧ ، ٤ / ١٥٦.

٥٨٦

بعضهم الوجوب على الإباحة والندب ؛ لأجل الاحتياط ، قال (١) : لكن يبقى فيه ـ مع جريان بعض أدلّة تقدم (٢) الحظر فيها ـ إطلاق كلامهم فيها ، وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم.

وثانيا : بأنّ الاتفاق غير ثابت على تقديم الحظر ، وإن ادّعاه بعضهم ، والتحقيق هو ذهاب الأكثر ، وقد ذهبوا إلى تقديم الناقل أيضا ، بل حكي عن بعضهم تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل.

قلت : قد تكرّر منه ذكر هذا الإشكال في مواضع ؛ مع أنّه لا وقع له بعد كون الناقل للاتفاق من العامّة ، بل الشهرة مع (٣) تقديم الحاظر أو الناقل إنّما هي فيما بينهم ، فعلى تقدير اتحاد الطريق في المسألتين ، واختلافهم في الوفاق والخلاف لا ضرر علينا ؛ لأنّ علماءنا لم يفرقوا بينهما ، ولذا اختار بعض السادة منّا ـ ولعلّه صاحب المفاتيح (٤) ، على ما ذكره في الرسالة (٥) ـ تقديم الإباحة على الحظر ؛ لرجوعه إلى تقديم المقرّر الذي اختاره هناك ، مع إمكان دعوى خصوصيّته لمسألة الحظر والإباحة ، من جهة الخبر السابق «ما اجتمع الحرام والحلال ..» ، ومن جهة الاستقراء (٦) على تقديم جانب الحرمة ، وأنّ الشارع قدّمها عند الدوران في موارد عديدة ، كما قد يدّعى ، فلعلّ نظرهم إلى ذلك ، وإن لم يكن تامّا ، لكنّ هذا وجه الفرق بين المسألتين ، إلا أنّه لا يدفع الإشكال من حيث إنّ ظاهر كلماتهم في مسألة الناقل والمقرّر هو الأعم من الحاظر والمبيح.

ويمكن أن يقال : إنّ نظرهم في مسألة الناقل والمقرّر إلى حيث الناقليّة والمقرّريّة ، ونظرهم في المسألة الثانية إلى حيثيّة أخرى مضافا إلى الناقليّة ، وهي حيثيّة الحاظريّة ، فهي مرجّحة عندهم ، وإن كان الأصل هو الإباحة ، وقلنا إنّ مقتضى

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٥٧.

(٢) في نسخة (د) يظهر من الكلمة أنّها : بعدم الحظر ...

(٣) في نسخة (د) : على.

(٤) وهو الصحيح فانظر مفاتيح الأصول : ٧٠٩.

(٥) فرائد الأصول : ٤ / ١٥٧.

(٦) في نسخة (د) : الاستقرار.

٥٨٧

القاعدة الترجيح بالأصل لا تقديم الناقل ، فكلّ من قال بتقديم الناقل لا بدّ أن يقول بتقديم الحاظر من حيث إنّه ناقل ، ومن قال بتقديم المقرّر وعدم الترجيح بالناقليّة له أن يقول بتقديم الحاظر من حيث الحاظريّة ؛ فتدبّر!.

هذا ؛ وذكر بعض الأفاضل أنّه يمكن دعوى خصوصيّته لمسألة الحظر والإباحة ، من حيث إنّهما من الأحكام الواقعيّة ، فإنّ أصالة الحظر أو أصالة الإباحة ناظران إلى الواقع عندهم ، كما يظهر من أدلّتهم ، وأمّا (في) مسألة الناقل والمقرّر فتقديم المقرّر من حيث إنّه موافق لأصل البراءة أو أصل العدم ، وهما لا يثبتان الواقع ، فمن قال بتقديم المقرّر في هذه المسألة له أن يقول بتقديم الحاظر في تلك المسألة ، من جهة أصالة الحظر المثبتة للواقع ، قال (١) : ويمكن أن يقال إنّ مسألة الحظر والإباحة وإن كانت من جزئيّات مسألة الناقل والمقرّر ، ولا خصوصيّة لها ، إلا أنّ اختلافهم إنّما نشأ من الاختلاف في الصغرى ، وأنّ القائل بتقديم الحاظر إذا كان مذهبه تقديم المقرّر فهو من جهة أنّه يجعل الأصل هو الحظر ، وكذا القائل بتقديم المبيح إذا كان مذهبه تقديم الناقل فهو من جهة أنّه يجعل الأصل هو الحظر (٢) ، وإذا كان مذهب الأول تقديم الناقل أو مذهب الثاني تقديم المقرّر فهو من جهة أنّ الأصل عندهما هو الإباحة.

قلت : قد عرفت أنّ نظرهم في مسألة الحاظر والمبيح ليس إلى حيثيّة الأصل ، وأنّ الخبر موافق له أو مخالف ، وإلا فالمشهور على أنّ الأصل هو الإباحة ، فيلزم عليه (٣) ـ بمقتضى ما ذكره أوّلا ـ : أن يقولوا بتقديم المبيح من جهة حصول الظن بالأصل ، بل نظرهم إلى حيثيّة تغليب الحرمة (٤) ، سواء كان الأصل الإباحة أو الحظر. الثالث (٥) : كون أحد الخبرين حاظرا والآخر موجبا ، فإنّ بعضهم قدّم الأول من جهة

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٤٦٣.

(٢) كأنّما المقدم عند كل منهما هو خلاف الأصل ، ثمّ إن العبارتين ما ذكر فيها المبيح متقدم على ما ذكر فيه الحاظر ، في نسخة (د).

(٣) في نسخة (د) : عليهم.

(٤) في نسخة (د) هكذا : إلى حيثيّة تغليب جانب الحرمة.

(٥) هذا هو الثالث ممّا ذكره سيد المفاتيح في الترجيح بموافقة الأصل.

٥٨٨

تغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب ؛ للاستقراء ، فإنّ الشارع في موارد الدوران بينهما قدّم الأول كما في أيّام الاستظهار (١) ، واستعمال الماء المشتبه بالنجس (٢) وغيرهما ؛ ولأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وفي الأول منع كما بيّن في محلّه (٣) ، وفي الثاني أنّ هذه القاعدة مسلّمة ؛ إلا أنّ موردها ما إذا كانتا معلومتين ودار الأمر بينهما ، وليس المقام كذلك ، لاحتمال كذب كلا الخبرين ، مع أنّ (٤) الواقع ـ على تقدير صدق أحدهما ـ فليست المفسدة معلومة ، ومجرّد احتمالها لا يوجب الدفع.

ولذا لا نقول بالاحتياط في الشبهة البدويّة التحريميّة ، مع أنّها أولى بالوجوب من المقام ؛ لعدم معارضة المفسدة المحتملة بالمصلحة المحتملة ، نعم المفاسد الأخرويّة يجب دفعها مع الاحتمال أيضا ، إلا أنّ الاحتمال مدفوع بأنّ الشارع إذا رخّص في الارتكاب ـ بمقتضى الأصول ـ فهو يتدارك المفسدة الواقعيّة على فرضها ، فمورد القاعدة في الأحكام الشرعيّة ما إذا دار الأمر بين ترك واجب معلوم أو ارتكاب حرام معلوم ، مع إمكان المنع في هذا المورد أيضا ؛ لأنّ الأحكام ليست تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة في الأفعال ، بل يمكن أن تكون المصلحة في الجعل والتشريع ، فليس المعلوم من المفسدة على تقدير العلم بالتكليف إلا العقاب ؛ وهو مشترك بين الواجب والحرام ـ تركا وفعلا ـ وهذه القاعدة غير تامّة في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر مع العلم الإجمالي بأحدهما ، فضلا عن المقام الذي ليس فيه علم إجمالي.

وما ذكرنا في الجواب عنها أولى ممّا ذكره في الرسالة (٥) في باب أصل البراءة من

__________________

(١) وهو ممّا استفيد من لسان الشارع من أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة وقد أفتى السيد المؤلف قدس سرّه على طبق ذلك فراجع العروة الوثقى ؛ كتاب الطهارة / باب الحيض ، مسألة رقم ٢٣ وبالترقيم العام ٧٢٣.

(٢) وقد أجاب الشيخ في الرسالة عنه بإرجاعه للنص : وسائل الشيعة : ١ / الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، حديث ١٤.

(٣) قد أوضح هذا مفصلا في رسالته «اجتماع الأمر والنهي».

(٤) هكذا في النسخ ، ويحتمل سقوط كلمة أو أنّ العبارة هكذا : مع أنّه الواقع ...

(٥) فرائد الأصول : ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

٥٨٩

أنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة ، وإلا لم يصلح للالزام ، إذ مجرّد فوت المنفعة عن الشخص ، وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الوجوب عليه لا يصلح موجبا لإلزام شيء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ، وإلا لكان أصغر المحرّمات أعظم من ترك أهم الفرائض ، مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر.

وجه الأولويّة أنّه جعل المانع من جريانها كون المفسدة في الحرام ـ على تقديره ـ معارضة بمفسدة ترك الواجب ، والمفروض أنّ المفسدة محتملة لا متيّقنة ، فإذا سلمت عن هذا المعارض وجب العمل بمقتضاها ، كما في الشبهة البدويّة ، مع أنّا لا نقول بذلك ؛ إلا أن يقال إنّ الفارق أنّ المفسدة المردّدة معلومة في المقام دون الشبهة البدويّة ، لكن نقول نعم ؛ إلا أنّ لازم كلامه أنّه لو قلنا بأنّ في ترك الواجب ليس إلا فوات المنفعة وجب تقديم جانب الحرمة ، مع أنّه ليس على هذا التقدير إلا مفسدة محتملة.

ثمّ لو قلنا بتماميّة القاعدة في الاحتمالين نقول : إنّها غير جارية في المقام ، من جهة ورود الأخبار بالتخيير ، وهي حاكمة على هذه القاعدة ؛ لأنّها ليست بحيث لا يمكن للشارع التصرف فيها ، بل حكم العقل معلّق على عدم الرخصة من الشارع ، وهي تكشف عن تداركه للمفسدة على تقدير الحرمة ، والمفروض أنّ هذا المرجّح ـ على تقدير تماميّته ـ لا يوجب قوّة في المضمون ، حتى لا تجري أخبار التخيير ، لكونها بعد فقد المرجحات ، فهذه القاعدة على تقدير تماميّتها مرجع على تقدير تساقط الخبرين وعدم الحكم بالتخيير.

وأمّا مع كون الحكم التخيير عند التكافؤ فلا ، فحاله حال الأصل والقاعدة المتقدمة ـ من تغليب جانب الحرمة على الإباحة ـ في أنّ أخبار التخيير مقدّمة عليها ؛ وهذا واضح.

ثمّ إنّه ربّما يناقش في القاعدة المذكورة بأنّا نرى العقلاء يقدمون على المهالك والمضار المعلومة أو المظنونة بجلب منفعة محتملة ، كإقدامهم على المقاتلة ونهب الأموال ونحوهما.

وفيه : أنّ العقل مستقلّ بوجوب دفع المفسدة ، وإقدامهم على ما ذكر كإقدامهم

٥٩٠

على العصيان والجحود والنفاق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ونحو ذلك مبنيّ على عدم المبالاة ، ومتابعة الشهوات ، فصدور ما ذكر منهم ليس من حيث هم عقلاء ، فلا ينافي كون بنائهم على ما ذكر من تغليب دفع المفسدة ، مع أنّ مدرك القاعدة إنّما هو حكم العقل لا بناء العقلاء.

٥٩١
٥٩٢

المقام الخامس (١) :

في تعارض (٢) المرجحات مع بعضها

ومقتضى القاعدة بناء على التعبديّة وعدم التعدي عن المنصوصات الأخذ بالترتيب المذكور في المقبولة ، وبناء على التعدي إن قلنا بتعبديّة المنصوصات وأنّ التعدي مستفاد من دليل آخر غير الأخبار ؛ مثل بناء العقلاء أو الإجماع : ففي تعارض المنصوصات بعضها مع بعض مقتضى القاعدة الترتيب المذكور ، وفي تعارض بعضها مع غيرها ، أو غيرها بعضه مع بعض : لا بدّ من الأخذ بالأقوى (لأنّ هذا الفرض خارج عن الأخبار ؛ فيعمل فيه بمقتضى القاعدة المستفادة من بناء العقلاء من الأخذ بالأقوى) (٣).

ويحتمل تقديم المنصوصات على غيرها ؛ لإطلاق أدلّتها ، فيكون بناء العقلاء مقصورا على مورد عدم النص ، وهذا هو الأقوى ، لكنّ الفرض المذكور بعيد من حيث هو ؛ لأنّه إذا بنينا على تعبّديّة المنصوصات فلا يعتبر غيرها ، وبناء العقلاء والإجماع يوجبان عدم التعبّدية ، وانفهام كون المناط هو الأقوائيّة من الأخبار ، وأمّا بناء على التحقيق من كون المدار على قوّة أحد الخبرين ، وأنّ ذكر المنصوصات في الأخبار من باب المثال ، أو من باب مجرّد التعداد ، فصورة التعارض خارجة عن الأخبار ، ولا بدّ فيها من الأخذ بمقتضى القاعدة ؛ من العمل بالأقوى كائنا ما كان ، إلا أنّه لا بدّ من كون أقوائيّة أحد المرجّحين بحيث يكفي في ترجيح الخبر ، كما أنّ أصل المرجّح في غير صورة المعارضة لا بدّ أن يكون بهذا المقدار ، فمجرّد الأقوائيّة بأول درجة لا يكفي في ترجيح أحد المرجّحين.

كما لا تكفي مثل هذه المزيّة في غير صورة المعارضة ، فلا بدّ أن يكون بمقدار لا يتحير (٤) العرف عند التعارض في الأخذ بأيّهما ، بمعنى أنّهم بعد ملاحظة أنّ

__________________

(١) لا توجد كلمة «الخامس» في نسخة (د) ، والمقصود هنا : الخامس من المقام الثالث.

(٢) في نسخة (د) هكذا : تعارض بعض المرجحات مع بعض.

(٣) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

(٤) في نسخة (د) : لا يتميز العرف ...

٥٩٣

الخبرين متعارضان ، وأنّه موجب للحيرة ؛ يحكمون بأنّ التفصي عن هذه الحيرة بالأخذ (١) بهذا أو ذاك ؛ من جهة المزيّة الكذائيّة ، ولا فرق في ذلك بين تعارض المنصوصات مع بعضها أو مع غيرها ، أو غيرها بعضه مع بعض ، ويظهر ما ذكرنا من صاحب الفصول (٢) ، والوجه فيه واضح ؛ حيث إنّ المفروض إذا كان خروج صورة التعارض عن الأخبار ، فلا بدّ من الأخذ بمقتضى القاعدة المذكورة ، والمراد (٣) من خروج صورة التعارض عن الأخبار أنّ قوله عليه‌السلام «خذ ما وافق الكتاب» ليس شاملا لما إذا كان الخبر الآخر مخالفا للعامّة مثلا ، حتى يدلّ بمقتضى إطلاقه على الأخذ بموافق الكتاب حينئذ ، أو يدلّ قوله «خذ ما خالف القوم» على الأخذ بالخبر الآخر ، وإلا فيمكن أن تكون داخلة في الأخبار من حيث دلالتها على الأخذ بأقوى الخبرين ، ففي صورة المعارضة إذا كان أحد المرجّحين أقوى من الآخر يكون الخبر الموافق له أقوى من الموافق للآخر ، والأخبار دلّت على الأخذ بالأقوى من حيث كون المذكورات فيها مثالا لمطلق القوّة ، أو من حيث الفقرات التي تعدّينا من جهتها عن المنصوصات.

ومن ذلك ظهر أنّه لا وجه لإلقاء المعارضة بين دليل بعض المرجّحات مع بعض ، والقول بأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، وتقديم أحدهما من بعض الجهات من قوّة الدلالة أو غيرها.

وكذا لا وجه لملاحظة الترتيب المذكور في الأخبار ، والاستشكال فيها ودفعه على ما يظهر من الرسالة (٤) ، إذ بناء على التعدي من جهة حمل الأخبار على ما ذكر لا يكون لدليل المرجّحات إطلاق من الجهة المذكورة ، ولا يكون الترتيب ملحوظا ومعتبرا.

ثمّ إنّه لا فرق في وجوب الأخذ بالأقوى من المرجّحين بين كونهما من نوع واحد

__________________

(١) في النسخة المعتمدة ونسخة (د) هكذا : الأخذ.

(٢) الفصول الغرويّة : ٤٢٥.

(٣) في نسخة (د) : ومرادنا.

(٤) فرائد الأصول : ٤ / ٧٥.

٥٩٤

أو نوعين ، كأن يكون أحدهما من المرجّحات الصدوريّة ، والآخر من الجهتيّة ، أو المضمونيّة ، فالمدار على الأقوى مطلقا ، فإن كان لأحدهما قوّة من حيث الخصوصيّات أو من حيث نوعه يقدم على الآخر ، أمّا الخصوصيّات فلا تدخل تحت ضابطة.

وأمّا من حيث النوع فيمكن أن يقال : إنّ مثل الشهرة بين الأصحاب أقوى نوعا من مخالفة العامّة مثلا ، بل من موافقة الكتاب ، وموافقة الكتاب أقوى نوعا من مخالفة العامّة ، والشهرة الفتوائيّة أقوى من الجميع ، وإذا تعارضت شهرة القدماء مع شهرة المتأخرين ؛ الأقوى الأولى .. وهكذا ، والغرض الإشارة الإجماليّة ، وإلا فالغالب الاختلاف بحسب خصوصيّات المقامات ، والمدار على نظر الفقيه ، وقد يكون في أحد الطرفين مرجّح واحد ويقدم على المرجحين أو أزيد في الطرف الآخر ، وعلى ما ذكرنا بناء الفقهاء كما لا يخفى على من وقف على عملهم في كتبهم الاستدلاليّة.

هذا ؛ وذهب الشيخ في الرسالة (١) إلى تقديم المرجّحات المضمونيّة على الصدوريّة وتقديمها على الجهتيّة ، وجعل أقوى المرجّحات المضمونيّة موافقة الكتاب ، لكنّه استشكل من جهة كونه خلاف ترتيب المقبولة ، من حيث تقديمها للمرجّحات الصدوريّة والشهرة والشذوذ عليها ، ثمّ دفع الإشكال من حيث تقديم (٢) صفات الراوي بأنّها من مرجّحات الحكمين ، وأمّا الشهرة فلا بعد في تقديمها على موافقة الكتاب ، قال ـ بعد بيان الترجيح بمخالفة العامّة ، وأنّها متأخرة عن المرجّحات الدلاليّة ، حيث إنّها من الجمع المقبول : أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامّة فالظاهر تقديمه على غيره ، وإن كان مخالفا للعامة ، بناؤه (٣) على تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ؛ لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين ـ بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواتر ، أو تعبدا كما في الخبرين ـ بعد عدم إمكان التعبد

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٣٦ ، ١٤٩.

(٢) في نسخة (د) : تقدم.

(٣) في نسخة (د) : بناء.

٥٩٥

بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر ، وفي ما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور.

فإن قلت : الأصل في الخبرين الصدور ؛ فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقيّة ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادته خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ، فيكون هذا المرجّح ـ نظير الترجيح بحسب الدلالة ـ مقدّما على الترجيح بحسب الصدور.

قلت : لا معنى للتعبد بصدورهما ، مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة لأنّه إلغاء لأحدهما في الحقيقة ، ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقيّة ـ على تقدير الصدور له ـ تشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل ، نعم لو علم بصدور الخبرين لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه ، وأمّا إذا لم يعلم بصدورهما ـ كما فيما نحن فيه ـ يجب الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة ، فإن أمكن الترجيح من حيث الصدور تعيّن ، وإن قصرت اليد عن هذا المرجّح كان احتمال (١) التقيّة في أحدهما مرجحا ، فمورد هذا المرجّح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إمّا علما كالمتواترين ، أو تعبدا كالمتكافئين من الآحاد.

وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه ؛ لأنّ جهة الصدور متفرّعة على أصل الصدور ، والفرق بين هذا الترجيح والترجيح بحسب الدلالة المتقدم على الترجيح بالسند أنّ التعبد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما وبتأويل الآخر ـ بقرينة ذلك الظاهر ـ ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ؛ بخلاف التعبد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة ، الذي هو في معنى إلغائه.

هذا ؛ كلّه على تقدير توجيه الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة ، وأمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل ـ كما يدل عليه جملة من الأخبار (٢) ـ فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها.

__________________

(١) في نسخة (د) : كان عدم احتمال التقية في أحدهما مرجّحا.

(٢) راجع ـ على سبيل المثال ـ : الوسائل : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ١٩.

٥٩٦

وقال في المرجّحات الخارجيّة المضمونيّة الغير المستقلة بالاعتبار (١) :

وأمّا الترجيح من حيث السند فظاهر مقبولة ابن حنظلة تقديمه على المرجّح الخارجي ، لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛ لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ، فإنّ الأعدل أقرب إلى الصدور من غيره ، بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدور الأعدل وكذب العادل ، فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع ، وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة ، وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ؛ بناء على أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة.

وقال في موافقة الكتاب (٢) : هذا الترجيح مقدّم على الترجيح بالسند ؛ لأنّ أعدليّة الراوي في الخبر المخالف لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للخبر الآخر ، وعلى الترجيح بمخالفة العامّة ؛ لأنّ التقيّة غير متصورة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامّة ، وعلى المرجحات الخارجيّة ؛ لأنّ الأمارة المستقلة للخبر الغير المعتبر لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار ، ولو فرضت الأمارة المذكورة مسقطة لدلالة الخبر والكتاب المخالفين لها عن الحجيّة ، لأجل القول بتقييد اعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظن الشخصي على خلافها ، خرج المورد عن فرض التعارض ، ولعلّ ما ذكرنا هو الداعي للشيخ في تقديم الترجيح بهذا المرجّح على جميع ما سواه من المرجّحات ، وذكر الترجيح بها بعد فقد هذا المرجّح.

ثمّ استشكل من جهة دلالة المقبولة على تقديم بعض المرجّحات على هذا المرجّح ، وأجاب بما أشرنا إليه من أنّ الصفات من مرجّحات الحكمين ، وأول المرجّحات الخبريّة هي شهرة الرواية ، ولا يعدّ من تقديمه (٣) على موافقة الكتاب.

أقول : أمّا تقديمه المرجّحات السنديّة على الجهتيّة فليس من جهة الأقوائيّة ، بل من جهة أنّ الحمل على التقيّة متفرع على الصدور ، والمرجّح الصدوري يحكم بعدم

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٤٥.

(٢) فرائد الأصول : ٤ / ١٤٩.

(٣) في نسخة (د) هكذا : ولا بعد في تقديمه ...

٥٩٧

الصدور ، فلا يبقى مورد للحمل على التقيّة ، ويمكن أن يقرّر على وجه الحكومة ؛ وذلك لأنّ الشكّ في التقيّة وعدمها ناش عن الشك في الصدور ، فإذا حكم ـ بمقتضى المرجّح الصدوري ـ بعدمه فيرتفع الشك ، فالمرجّح الصدوري حاكم على الجهتي ، وأمّا تقديمه المضموني على الصدوري فمن جهة أنّه أقوى ، وكذا تقديم الكتاب على غيره من المرجّحات المضمونيّة وغيرها.

ويمكن أن يكون تقديم المضموني على الصدوري لا من جهة الأقوائيّة ؛ بل لأنّ حيث المضمون أولى بالاعتبار من حيث الصدور ؛ لأنّ اعتبار المرجّح الصدوري إنّما هو من جهة كون مضمونه أقرب إلى الواقع ؛ لأنّه أقرب إلى الصدور ، فكلامه ليس ناظرا إلى الأقوائيّة إلا في تقديم موافقة الكتاب على غيرها ، فغرضه أنّ الأنواع الثلاثة مترتبة في الاعتبار من حيث هي ، وإن كان النوع الثاني أو الثالث أقوى من حيث بعض أفراده بالنسبة إلى مقابله ، فإذا فرضنا أنّ الأعدليّة أقوى من الأفقهيّة ، ولو في خصوص مقام لا تقدم عليها (١) ؛ لأنّ الأفقهيّة من المرجّحات المضمونيّة ، وهي أولى من الأخذ بالصدوريّة ؛ وهكذا في غيرها من المرجحات الصدوريّة بالنسبة إلى المضمونيّة ، وكذا في الجهتيّة بالنسبة إلى الصدوريّة.

وكيف كان ؛ ففيما ذكره من تقديم الصدوريّة على الجهتيّة نظر من وجوه :

أحدها : أنّا نمنع أنّ الحمل على التقيّة فرع الصدور ، ولا بدّ أوّلا من إحرازه ، ثمّ الحمل على التقيّة ، بل يكفي فيه كون الخبر من حيث هو واجدا لشرائط الحجيّة ، إذ ليس المراد من الحمل عليها الحكم بالصدور تقيّة ، بل طرح الخبر من جهة احتمال كونه صادرا تقيّة ، نعم يعتبر فرض الصدور في الحمل عليها.

فحاصل الترجيح حينئذ أنّ الخبر الموافق للعامّة ـ على فرض صدوره ـ صدر تقيّة فلا يلزم أن يحرز صدوره أولا حتى يقال إنّ المرجّح الصدوري يقتضي عدم صدوره ، فكما أنّ معنى الأخذ بالأعدل عدم الاعتناء بخبر غير الأعدل ، فكذلك معنى الأخذ بالخبر المخالف عدم الاعتناء بالموافق ؛ من جهة احتمال التقيّة ـ على فرض الصدور

__________________

(١) المقصود أنّه في أكثر من مقام لا تقدم الأعدليّة على الأفقهيّة للوجه الذي ذكره من كونها من المرجّحات المضمونيّة مع كون الأعدليّة من حيث هي أقوى من الأفقهيّة.

٥٩٨

ـ لا الحكم بصدوره ، وحمله على التقيّة.

ومن ذلك ظهر أنّه لا يحتاج إلى كون الأصل في الدليلين الإعمال ؛ بل يكفيه مجرّد كونه واجدا لشرائط الحجيّة من حيث هو ، وإن قلنا (إنّ) (١) الأصل هو التساقط ، وظهر أيضا ما في قوله «قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ..» ؛ وذلك لأنّه لا يحكم بصدورهما ، بل يؤخذ بالمخالف ويطرح الموافق ؛ لاحتمال التقيّة ، وهذا واضح ؛ خصوصا بناء على ما ذكره من الاستناد في الترجيح الجهتي إلى مجرّد كون الخبر ممّا لا يتطرق فيه احتمال التقيّة بالنسبة إلى الخبر الآخر الذي يجري فيه هذا الاحتمال ، فإنّ مقتضى هذا ليس الأخذ والحمل على التقيّة.

نعم ؛ لو استند في الحمل على التقيّة والترجيح بهذا الوجه إلى قوله عليه‌السلام «ما سمعت منّي يشبه .. الى آخره» أمكن دعوى أنّ معناه الحكم بالصدور والحمل على التقيّة ، لكن قد عرفت استشكاله في الاستناد إلى هذا الخبر ، وأنّه وجّه الترجيح بمجرّد تطرق احتمال التقيّة وعدمه.

الثاني : أنّا لا نسلم أنّ معنى الأخذ بخبر الأعدل أنّ خبر غير الأعدل غير صادر ، بل معناه الحكم بصدور الأعدل ، وأمّا أنّ غير الأعدل صادر أو ليس بصادر فليس من مقتضيات الترجيح بالأعدليّة (٢) ، وفرق واضح بين عدم الحكم بالصدور ، والحكم بعدم الصدور ، ومعنى الترجيح هو الأول لا الثاني ، فلا وجه لما ذكره من أنّه بعد الحكم بصدور الأعدل وترك التعبد بصدور الآخر لا يبقى محلّ للترجيح بالمخالفة.

فالذي يقتضيه التحقيق : أنّ معنى الترجيح بالأعدليّة الأخذ بالأعدل ، والحكم بصدوره ، وطرح خبر غير الأعدل بمعنى عدم الحكم بصدوره (٣) أو بمضمونه ، من

__________________

(١) أثبتناها من نسخة (د).

(٢) فالمراد أنّ للترجيح بالأعدليّة مدلول مطابقي ومدلول التزامي فالقدر المتيقن من مفاد الترجيح هو الحكم بصدور خبر الأعدل ، وأمّا المدلول الالتزامي وهو عدم صدور خبر غير الأعدل فليس داخلا في نطاقه ولا يلزمنا الالتزام به.

(٣) في نسخة (د) بعده هكذا : وكذا معنى الترجيح بمخالفة العامة الأخذ بالمخالف وطرح الموافق بمعنى عدم التعبد بصدوره ...

٥٩٩

حيث احتماله للتقيّة ، ولا يعتبر في المقامين إلا كون كل من الخبرين واجدين لشرائط الحجيّة ، ولا يعتبر العلم بصدور الخبر المحمول على التقيّة ، ولا الحكم بصدوره ، إذ لا يؤخذ به ثمّ يحمل على التقيّة.

ومن المعلوم أنّه إذا دلّ دليل على وجوب الترجيح بالأعدليّة ، ودليل آخر على وجوب الترجيح بالمخالفة من جهة احتمال الحمل على التقيّة ، فهما في عرض واحد ، فإذا تعارضا لا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، ولا حكومة في البين (١).

الثالث : قد عرفت سابقا أنّه لا مانع من شمول دليل الحجيّة للخبر الذي يجب حمله على التقيّة ، وكذا الخبر المجمل ، وأنّه لا يلزم كون الخبر ممّا له أثر عملي ، إذ معنى شمول الدليل أنّ الخبر صادر شرعا ، فإن ترتب عليه أثر عملي يرتب ، وإلا فلا يكون كالخبر المعلوم الصدور الذي يجب حمله على التقيّة ، أو يكون مجملا ، فالحكم بالحجيّة كالحكم بالطهارة والنجاسة وسائر الأحكام ، ألا ترى أنّه يجوز الحكم بطهارة الماء الذي لا يترتب عليه أثر عملي كالماء الموجود في وسط البحار ، وبحليّة الثمرة الكائنة على الأشجار الموجودة في موضع لا يصل إليه المكلّفون ؛ هذا مع أنّ الأثر متحقق في المقام بالنسبة إلى بعض المكلّفين ، وهم الموجودون في الصدر الأول ؛ الذين يجب عليهم العمل على وفق الخبر الصادر تقيّة.

نعم ؛ هذا لا يجري في الخبر الصادر على وجه الاتقاء ، بأن تكون التقيّة من الإمام عليه‌السلام ؛ هذا مع أنّ مقتضى ما ذكره قصر الحمل على التقيّة في الأخبار القطعيّة ، ففي الظنيين لا يمكن الحمل على التقيّة ولو في صورة التكافؤ من حيث المرجّحات الصدوريّة ، إذ لو لم يكن معنى للأخذ بالخبر وحمله على التقيّة لم يكن فرق بين ما لو كان هناك مرجّح صدوري أو لم يكن ، إذ لا تفاوت (٢) في كون جهة الصدور متفرعة على الصدور بين الصورتين ، ففي المتكافئين أيضا لم يحرز الصدور حتى يحمل

__________________

(١) فيكون أثر كلامه في الرجوع لمرجح آخر غيرهما ، أو البحث عن مرجح لأحدهما على الآخر ؛ وفيه بحث قد تقدم منه من أنّه مع تعارض المرجحين هل يرجح بينهما بمرجح آخر ، أي يعمل بمقتضى قواعد التعادل والترجيح أم لا؟ بأن يتوقف ؛ قولان.

(٢) في النسخ هكذا : لا يتفاوت.

٦٠٠