كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

الواحد جائز قطعا على ما بيّن في محلّه ، ولهذا قال فيها : إنّ المخالف باطل وزخرف واضربه عرض الجدار (١).

والثانية : أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ، وهذه إمّا خاصّة بغير صورة المباينة ، بناء على اختصاصها بباب الترجيح ، وإمّا أعمّ منها ومن غيرها ، بناء على ما عرفت مرارا (٢) ، والغرض إثبات شمولها لصورة العموم المطلق أيضا ، وحيث إنّ ما ورد في الجبر الظاهر أنّه ممّا لا معارض له ، ودلّت الرواية المذكورة على طرحه ؛ للمخالفة ، فلا يمكن أن تكون (المخالفة فيه بالعموم المطلق ، وإلا لم يمكن وجه لطرحه ، وحينئذ فلا يكون) (٣) في الرواية المذكورة شهادة على شمولها أخبار الترجيح لصورة العموم المطلق ؛ فتدبّر! (٤).

فإن قلت : إنّ موافقة الكتاب وإن كانت مرجّحة بمقتضى القاعدة ، على ما ذكرت من أنّ العام الكتابي يقوي الخبر (٥) الموافق له ، إلا أنّ الأخبار ليست شاملة لهذه الصورة ؛ لأنّ أخبار العرض غير شاملة ، ومساق الطائفتين واحد ، فتكون هذه الأخبار أيضا خاصة بغير صورة العموم المطلق.

قلت : نمنع اتّحاد المساق ، ولذا اعتبر في أخبار العرض بغير ما اعتبر (٦) به في أخبار الترجيح ؛ من قوله زخرف وباطل .. ونحو ذلك ، مع أنّ أخبار الترجيح شاملة لصورة العموم من وجه ، والظاهر عدم شمول أخبار العرض لها ، فظهر أنّ النسبة بين موردي الطائفتين هو العموم المطلق على وجه ، والتباين على وجه آخر ، وهو ما لو قلنا باختصاص أخبار الترجيح بما يكون ترجيحا حقيقة ، ولا تشمل صورة التباين ، هذا بالنسبة إلى ملاحظة صور المخالفة ، وإلا فبالنسبة إلى شمول صورة التعارض وعدمه فأخبار العرض أعم ، ويحتمل اختصاصها بغير صورة التعارض ، كما أنّه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ١١.

(٢) لاحظ وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ١١.

(٣) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

(٤) هذه العبارة المصاغ بها المطلب هنا لا تخلو من اضطراب وتشويش ؛ فالتفت.

(٥) في نسخة (د) : يقوي عموم الخبر ...

(٦) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : ولذا عبّر .. بغير ما عبر به ...

٥٦١

يحتمل تنزيلها على خصوص صورة التعارض ، لكنّه في غاية البعد كما لا يخفى!

ولبعض الأفاضل هنا مسلك آخر وحاصله : أنّ حال الخبر المخالف بالنسبة إلى الكتاب أقسام ثلاثة ؛ لأنّه إمّا أن يكون الكتاب أقوى دلالة من الخبر المخالف بالنصوصيّة ، أو الأظهريّة ، أو يكون بالعكس ، أو هما متساويان بالدلالة ، ففي الصورة الأولى لا إشكال في ترجيح الموافق ، وأمّا الصورة الثانية فإن كان الخبر نصّا والكتاب ظاهرا فعلى القول بجواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لا يرجّح بالموافقة ؛ لأنّ الكتاب حينئذ لا يصلح للترجيح ، لأنّه لا يوجب قوّة في دلالة الخبر الموافق ؛ لأنّ المفروض أنّه نصّ ، ولا في سنده (١) لعدم السنخيّة (٢) ؛ بين ظهور العام (٣) الكتابي وسند الخبر ، حتى يكون مقوّيا له ، ولا في مضمونه ؛ لأنّ المفروض أنّ العام مبتلى بالخبر المخالف ، فلا يحصل منه الظن حتى يكون مقوّيا للمضمون فلا يتصور الترجيح في هذه الصورة.

نعم ؛ بناء على جواز الترجيح بالأمور التعبديّة كالأصل العملي ؛ يمكن الترجيح لكنّ هذا البناء فاسد.

وعلى القول بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، وأنّه يعمل بعموم الكتاب ـ كما عليه المرتضى ـ لا إشكال في الترجيح ، وعلى القول بالتوقف في جواز التخصيص وعدمه ـ كما عليه المحقق أيضا ـ لا ترجيح إلا بناء على جواز الترجيح بما لا يكون مقوّيا للخبر ، وحيث إنّه باطل فلا ترجيح على هذا القول أيضا ، بل المرجع أخبار التخيير.

وإن كان الخبر أظهر والكتاب ظاهرا ؛ فبناء على القول بجواز التخصيص ـ وإن كان يتصور الترجيح ؛ لأنّ المفروض عدم نصوصيّة الخبر الموافق حتى لا يكون قابلا للترجيح ـ إلا أنّه لا يحكم بالترجيح مطلقا ، بل يختلف الحال باختلاف المقامات ،

__________________

(١) هذه جملة معطوفة على قوله «في دلالة الخبر» : أي لا يوجب قوّة في الدلالة ولا في السند.

(٢) إذ أنّ الأظهريّة متعلّقها المضمون لا السند ، فلا تكون سنخيّة بين المضمون الكتابي والسند الخبري ، فلا يكون المضمون الكتابي مرجّحا لسند الخبر.

(٣) في النسخة المعتمدة : العالم ؛ والصواب ما كتبناه.

٥٦٢

فإن حصل من موافقة الكتاب ظنّ على طبق الخبر الموافق ترجح (١) وإلا فلا.

ودعوى أنّ المفروض أنّ الترجيح متصوّر فحينئذ لا بدّ من القول به كليّة من حيث إنّ الأخذ بالخبر المخالف يوجب (ارتكاب خلاف الظاهر في الكتاب وفي الخبر الموافق بتأويلهما ، بخلاف الأخذ بالموافق ، فإنّه يوجب) (٢) تأويلا واحدا في المخالف فهو أولى.

مدفوعة بمنع ذلك ؛ إذ الموافق مساو للمخالف في الدلالة ، فلا وجه لتأويله على فرض الأخذ بالمخالف ، فلا يلزم إلا تأويل واحد في ظاهر الكتاب ، حيث إنّ المخالف لمّا كان أظهر منه يكون قرينة على التأويل فيه ، نعم ؛ يدور الأمر بين ارتكاب خلاف ظاهر واحد في المخالف وبين ارتكاب خلاف ظاهر في الكتاب (٣) مع طرح سند الموافق ، وكون الأول أولى من الثاني ممنوع ، كما ذكرنا في قاعدة الجمع ، فوجوب تقديم الموافق كليّة ممنوع ، بل المدار على كون العام الكتابي موجبا للقوّة في الموافق ، ويختلف باختلاف الموارد ، وبناء على القول بعدم جواز التخصيص لا إشكال في الترجيح كالصورة السابقة ، وبناء على التوقف أيضا المرجع أخبار التخيير ؛ لأنّ الكتاب لا يوجب قوّة في الخبر الموافق ، فيكون الترجيح به ترجيحا بالأمور التعبديّة ، نعم بناء على جواز ذلك يرجح الموافق.

وأمّا الصورة الثالثة فالحكم فيها الترجيح بموافقة الكتاب على جميع المذاهب : إمّا بزيادة قوّة دلالة الموافق بسبب الموافقة للكتاب ، أو سنده ، من غير فرق بين ما كانت المخالفة بالتباين أو بالعموم من وجه ، هذا كلّه (بمقتضى القاعدة) (٤) ؛ مع قطع النظر عن الأخبار ، وأمّا مع ملاحظتها فالحكم الترجيح في جميع الصور إلا إذا كان الكتاب ظاهرا والخبر نصا ، فإنّه على القول بجواز التخصيص لا يرجّح الموافق ؛ لما مرّ من عدم تعقل الترجيح ، ولأنّ أخبار العرض لمّا لم تكن شاملة لصورة المخالفة

__________________

(١) كتب فوق هذه الكلمة في نسخة الأصل «كذا» ؛ ولكنّها جاءت في نسخة (د) هكذا : رجح!

(٢) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

(٣) في نسخة (د) : خلاف ظاهر الكتاب.

(٤) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

٥٦٣

بالعموم المطلق فأخبار الترجيح أيضا غير شاملة لها ، لاتحاد المساق.

أقول : في هذا الكلام أنظار :

أحدها : أنّه لا وجه لدعوى عدم تصور القوة والرجحان في الخبر الموافق إذا كان نصّا ، فإنّ ترجيح المضمون ممكن قطعا ، وما ذكره من الابتلاء بالخبر المخالف لا يضرّ بعد عدم معلوميّة وجوب الأخذ به ، مع أنّ النص يمكن أن لا يراد منه بيان الحكم الواقعي (لمصلحة من المصالح كالتقيّة ، فيكون الكتاب مقويا لدلالته على الحكم الواقعي) (١) ، وأيضا يمكن تقوية سنده ، وعدم السنخيّة غير مضرّ كما لا يخفى.

وبالجملة ؛ حصول القوّة للخبر بالموافقة وجداني لا يحتاج إلى بيان.

الثاني : على القول بالتوقف في مسألة جواز تخصيص الكتاب لا معنى للترجيح بالأمر التعبدي ؛ لأنّ المفروض أنّه يتوقّف عن العمل بالكتاب وبالخبر المخالف ؛ فأين الأمر التعبدي حتى يكون مرجّحا؟ بل لو قيل بكون الكتاب حينئذ مقوّيا ؛ لأنّه مفيد للظن النوعي بالواقع ، وإن لم يكن حجة من جهة احتمال جواز التخصيص واحتمال عدمه كان أولى وأسهل ؛ فالترجيح حينئذ إن كان فهو بما يوجب القوّة ، وإلا فليس شيء تعبّدي ؛ لأنّ التعبد فرع الحجيّة ، وهي مشكوكة (٢).

ويمكن أن يقال : إذا توقفنا عن العمل بالكتاب والخبر المخالف ، فيبقى الخبر الموافق سليما فتأمّل! ثمّ لا معنى للرجوع إلى التخيير فإنّه لو أخذ بالخبر المخالف يلزم التخصيص الذي توقف عن جوازه ، فلا يمكن التخيير.

والحق أنّه بناء على التوقف في مسألة جواز التخصيص يجب الأخذ بالخبر الموافق : إمّا لأنّ المخالف إذا سقط بسبب المخالفة الموجبة للتوقف فيبقى الموافق حجّة بلا معارض معتبر ، وإمّا لأنّ الكتاب وإن لم يكن حجّة في الظاهر من جهة التوقف ، لا أنّه (٣) يوجب تقوية الموافق ، وهذا هو الأقوى ، وعلى أي حال فلا يجري

__________________

(١) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

(٢) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : لأنّ التعبد فرع وهي مشكوك الحجيّة.

(٣) في نسخة (د) : إلا أنّه.

٥٦٤

التخيير ، مع أنّ القدر المتيقّن هو الأخذ بالموافق.

الثالث : إنّ ما ذكره من اختلاف المقامات في كون الكتاب مقوّيا في صورة أظهريّة الخبر المخالف لا وجه له ، بل الكتاب دائما موجب لقوّة الموافق ، وإن كان نظره إلى أنّه قد لا يحصل الظن الفعلي منه ، والمدار عليه ، ففيه أنّ جميع المرجّحات كذلك ، إذ قد لا يحصل منها الظن الفعلي ، فلا وجه للتخصيص بالمقام ، ثمّ إنّ ما ذكره في منع الدوران المذكور من أنّ الخبر الموافق مساو في الدلالة للمخالف ، فلا وجه لتأويله من جهته ؛ فيه : أنّه لا يجب في التأويل كون أحدهما أظهر ؛ لأنّ المقصود ليس هو التأويل العرفي ، بل من جهة الدوران مع أنّه إذا كان كذلك فلا وجه للتأويل في المخالف أيضا ، لعدم أظهريّة الموافق منه ، مع أنّه ذكر أنّ الأمر دائر بين تأويل المخالف وبين تأويل الكتاب مع طرح سند الموافق.

ثمّ إنّ الخبرين قد يكونان قطعيين ؛ وحينئذ يتعين التأويل في ظاهر أحدهما فيصح الدوران المذكور.

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّ حكم التوقف في جواز التخصيص الرجوع إلى التخيير إلا بناء على جواز الترجيح بالأمر التعبدي ؛ فيه ما عرفت في النص ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : الأمر دائر في الواقع بين جواز التخصيص ـ والحكم معه جواز الترجيح على ما ذكره ، وإن قال (١) إنّه يختلف باختلاف المقامات ـ وبين عدم جوازه فيتعين الأخذ بالخبر الموافق ، فعلى التقديرين يجب الأخذ بالموافق ، فلا وجه للتخيير.

الرابع : إنّ ما ذكره من وجوب الترجيح في الصورة الثالثة على جميع المذاهب لا وجه له ؛ إذ بناء على التوقف في جواز التخصيص ينبغي الحكم بالرجوع إلى التخيير على ما ذكره ؛ لأنّه لا فرق في عدم جواز التخصيص بين كون الخبر خاصا مطلقا أو أعمّ من وجه من الكتاب ، وكأنّه تخيل أنّ النزاع في تلك المسألة خاص بالأخص مطلقا ، وليس كذلك ؛ فجميع ما ذكره في الصورة السابقة جار في هذه الصورة ـ بناء على عدم جواز التخصيص أو التوقف فيه ـ بل وكذا في صورة التباين ، مع كونهما

__________________

(١) في نسخة (د) : وأنّه قال.

٥٦٥

ظاهرين ، إذ لا يجوز تفسير الكتاب بالخبر الواحد ، بناء على القول به ، وإن لم يكن تخصيصا ، فليس النزاع في خصوص التخصيص كما لا يخفى على من راجع تلك المسألة.

الخامس : لا وجه لتفريقه (١) بين مقتضى القاعدة ومقتضى الأخبار ، فإنّ ما ذكره ـ بناء على التوقف في جواز التخصيص ـ يجري مع التمسك بالأخبار أيضا ؛ كما لا يخفى! مع أنّه لم يذكر ـ بناء على التمسك بالأخبار ـ وراء ما جعله مقتضى القاعدة سوى أنّ مساق أخبار العرض وأخبار الترجيح واحد ، فلا تشمل أخبار الترجيح صورة كون الخبر أخص من الكتاب ، وقد حكم بعدم الترجيح في هذه الصورة بمقتضى القاعدة أيضا.

ثمّ قد عرفت سابقا أنّ دعوى وحدة المساق ممنوعة ، وأنّ أخبار العرض خاصة بصورة التباين ، بخلاف أخبار الترجيح ، ثم إنّه خلط بين باب الترجيح وباب سقوط الخبر المخالف عن الحجيّة ، وحكم بالترجيح في جميع صور وجوب الأخذ بالخبر الموافق ، مع أنّ بعضها خارج عن باب الترجيح.

فائدة : [لازم القول بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد]

لا يخفى أنّه بناء على القول بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لا يرجع إلى سائر المرجّحات أيضا ـ سواء كانت للخبر الموافق أو المخالف ـ وكذا على القول بالتوقف ؛ لأنّ المفروض عدم إمكان الأخذ بالمخالف واقعا أو ظاهرا ، فلا مورد لإعمال سائر المرجّحات ، نعم بناء على ما ذكره هذا الفاضل من أنّ الحكم مع التوقف التخيير يرجع إليها (٢) ، ومع عدمها يحكم بالتخيير ، لأنّه فرع عدم المرجّحات ، وفساده واضح كما عرفت ، إذ المفروض أنّ المتوقف لا يأخذ بالخبر المخالف مع عدم المعارض ، فكيف يأخذ به معه لأجل المرجّح أو للتخيير.

بقي أمور :

أحدها : [أنّ موافقة الكتاب إنّما ترجح خبر الموافق له إذا كان مطابقا له] أنّ موافقة الكتاب إنّما ترجح خبر الموافق له إذا كان مطابقا له في

__________________

(١) في نسخة (د) : لفرقه.

(٢) لا توجد كلمة «إليها» في نسخة (د).

٥٦٦

المضمون ، فمثل العمومات الدالّة على البراءة لا تكون مرجّحة حجّة (١) للخبر الدالّ على عدم التكليف واقعا ؛ لأنّ مضمونه نفي التكليف في الظاهر ، نعم تكون مرجّحة للخبر الدال على أصالة البراءة ، مثل قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق ..» (٢) بالنسبة إلى ما دلّ على الاحتياط مثل قوله عليه‌السلام «أخوك دينك ..» (٣) ، وهذا واضح بناء على اعتبار كون المرجّح مقوّيا لمضمون أحد الخبرين ، نعم بناء على الترجيح بالأصل العملي يكون مرجّحا من حيث الكتابيّة ، كما أنّه مرجّح من حيث إنّه أصل.

الثاني : [كما أنّ موافقة الكتاب من المرجّحات كذلك المخالفة له مرجّحة] كما أنّ موافقة الكتاب من المرجّحات كذلك المخالفة له مرجّحة للخبر الآخر ، فإذا فرضنا أنّ أحد الخبرين دلّ على حرمة شيء والآخر على وجوبه ، وكان الكتاب دالا على عدم الحرمة ، وكان ساكتا عن أنّ الحكم هو الوجوب أو غيره فيقدم الثاني لعدم مخالفته للكتاب ، وإذا فرض خبر آخر دالّ على الاستحباب ؛ يسقط ما دلّ على الحرمة ويقع التعارض بين ما دلّ على الوجوب وما دلّ على الاستحباب (٤).

الثالث : [أحد الخبرين موافق لعموم كتابي والآخر لعموم آخر] إذا فرضنا أنّ أحد الخبرين موافق لعموم كتابي ، والآخر لعموم آخر فيسقط هذا المرجّح ، إلا إذا علم منسوخيّة أحد العمومين ، ولو فرض موافقة أحدهما لعام كتابي ، وشكّ في موافقة الآخر لعام آخر وعدمها يرجّح الأول ؛ لأنّ المرجح له معلوم ولكن لا بدّ من الفحص أولا كما هو واضح ، ومع اليأس عن وجود عامّ يطابق الثاني يرجح الأول.

الرابع : [أحد الخبرين موافق لعام كتابي مخصص بالمجمل] إذا وافق أحد الخبرين لعامّ كتابي مخصّص بالمجمل ، بحيث سقط عن الحجيّة ، لا يرجح بالموافقة المذكورة كما هو واضح.

الخامس : [أحد الخبرين موافقا لعام والآخر موافقا لعام مخصّص للأول] إذا كان أحد الخبرين موافقا لعام ، والآخر موافقا لعام مخصّص للأول ،

__________________

(١) لا توجد هذه الكلمة في نسخة (د).

(٢) هذه مرسلة الفقيه وهي «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» : ١ / ٣١٧ وفى طبعة أخرى ص ٢٠٨ حديث ٩٣٧ ، وانظر الوسائل : ٦ / الباب ١٩ من أبواب القنوت حديث ٣.

(٣) أمالي الشيخ المفيد : ١١٠ ، حديث ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٤١.

(٤) ولا يشكل لمنع التعارض بأنّهما في سياق واحد وبينهما سنخيّة ، والوجه أنّ الوجوب بمفاد المصلحة الملزمة المانعة عن الترك «أي بشرط شيء أو بشرط لا» بينما الاستحباب بمفاد المصلحة غير الملزمة بالترك «أي بمفاد اللابشرط».

٥٦٧

كما إذا فرضنا أنّ مفاد أحد الخبرين وجوب إكرام زيد والآخر حرمته ، وكان في الكتاب أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم ، وكان زيد عالما فاسقا ، فالظاهر أنّه مرجح الثاني ؛ لأنّ العام الثاني مقدم على الأول ، لأنّه أخصّ منه ، وكذا إذا كان أحدهما موافقا لمطلق والآخر لعام ، فإنّ الثاني مقدّم ، لأنّ العام مقدم على المطلق ، وهكذا بالنسبة إلى سائر أقسام المعارضات الدلاليّة بالنسبة إلى الآيتين.

والميزان الكلي كون أحد الخبرين موافقا لما لو لم يكونا في البين كان هو المرجع ، بناء على القول بحجيّة الكتاب ، وعلى هذا فلو فرضنا أنّ النسبة بين الآيتين عموم من وجه ، وبنينا على تقديم إحداهما بجهة من الجهات ، فالخبر الموافق لها مقدّم على الخبر الموافق للأخرى.

ودعوى : أنّ الإمام عليه‌السلام أرجع في صورة موافقة الخبرين للكتاب إلى مرجح آخر حيث قال الراوي : أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه في الكتاب والسنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا ؛ بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» (١) ، ومقتضى إطلاقه أنّ مجرّد الموافقة مسقط لهذا المرجح وإن كانت إحدى الآيتين مقدمة على الأخرى في مقام الأخذ.

مدفوعة : بأنّ المنساق منه ما إذا كانتا في عرض واحد ، لا ما إذا كان أحدهما خاصا والآخر عاما ، أو مقيدا والآخر مطلقا ، أو منطوقا والآخر مفهوما .. إلى غير ذلك. كيف؟ ولو لم يكن كذلك سقط الترجيح بموافقة الكتاب في غالب المقامات لموافقة الخبر الآخر أيضا لواحد من العمومات الأوليّة في الكتاب.

السادس : [فرض عدم كفاية موافقة أحد الخبرين للمطلقات] لا يكفي في الترجيح موافقة أحد الخبرين للمطلقات التي ليست إلا في مقام الإهمال وبيان أصل التشريع ، إلا إذا كان مفاد الخبر أيضا كذلك ، كما لا يخفى ، وكذا لا يكفي الموافقة للآية المنسوخة.

السابع : [إذا كان أحد الخبرين موافقا للكتاب على إحدى القراءات] إذا كان أحد الخبرين موافقا للكتاب على إحدى القراءات ؛ ففي كفايته للترجيح وجهان : مبنيّان على تواتر القراءات وعدمها ، وحجية كل واحدة وعدمها ،

__________________

(١) هذا مقطع من مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة : الكافي : ١ / ٦٧ ـ ٦٨ حديث ١٠ ، الفقيه : ٣ / ٨ ـ ١١ حديث ٣٢٣٣ ، التهذيب : ٦ / ٣٠١ حديث ٨٤٥.

٥٦٨

فبناء على التواتر والحجيّة (١) ، ولو لم نقل بالتواتر يكون مرجحا ، وبناء على عدم التواتر أو عدم الحجيّة لا يكفي ، إذ ليس إلا الاحتمال ، نعم ؛ بناء على التعدي عن المنصوصات أمكن الترجيح بمجرّد هذا الاحتمال.

الثامن : [فرض عدم دلالة الكتاب ـ في نظرنا ـ على ما يوافق أحد الخبرين] إذا فرض عدم دلالة الكتاب ـ في نظرنا ـ على ما يوافق أحد الخبرين ، إلا أنّه استشهد الإمام عليه‌السلام في ذلك الخبر بالآية ، بحيث يظهر منه أنّه المراد ؛ ففي كفايته للترجيح وجهان : أقواهما ذلك إذا كانت الآية قابلة للحمل على هذا المعنى ، فتدبّر! ثمّ إذا كان أحد الخبرين موافقا لمعنى بطني للآية (٢) ، ففي تقديمه أيضا وجهان.

ومنها : السنة ؛ (٣) والترجيح بموافقتها كالترجيح بموافقة الكتاب ؛ والكلام الكلام حرفا بحرف ، إلا أنّ مذهب الأخباري والأصولي هنا لا يتفاوت ، وبحث جواز التخصيص وعدمه أيضا ساقط ، إذ لا خلاف في جواز تخصيص السنّة بخبر الواحد إلا عن شاذ لا يعبأ به (٤) ، وجميع صور تقديم الموافق من باب الترجيح حتى صورة التباين ، إذ الخبر المخالف للسنّة ليس باطلا إلا إذا كانت السنّة قطعيّة السند والدلالة ، ولا فرق في السنّة المرجّحة بين أن تكون قطعيّة أو ظنيّة ، منقولة بخبر الواحد.

ومنها : أخبار الإماميّة ؛ المعلومة أو المظنونة ، سواء كانت عامة أو خاصة ، حسبما مرّ في الكتاب ، ويدخل فيه ما إذا كان في أحد الطرفين خبر واحد ، وفي الآخر خبران أو أكثر ، إذا اتفقا في اللفظ والمضمون ، أو في الثاني فقط ، ولا إشكال في الترجيح به ، بل هو منصوص كما عرفت سابقا.

ومنها : الشهرة والإجماع المنقول ؛ بناء على حجيّتها ، بل كلّ أمارة مستقلة معتبرة ، فإنّ الخبر الموافق لها مقدّم على الآخر بلا إشكال.

ومنها : الأصول العمليّة بناء على كونها من باب الظن ، ما عدا الاحتياط ، فإنّه ليس من باب الظن قطعا ، لكنّ الترجيح بها على هذا البناء مبني على المختار من أنّ

__________________

(١) في نسخة (د) : .. أو الحجيّة.

(٢) المقصود : معنى تأويلي للآية ، وهو التفسير بالباطن المقابل للظاهر.

(٣) أي من الأمور التي توجب قوّة أحد الخبرين ؛ وهي من القسم الثاني من المرجحات المضمونيّة بمعنى ما هو مستقل بالاعتبار ، وقد مضى من تلك الأمور الأول وهو الكتاب.

(٤) نسب المنع لابن قبة ولابن الجنيد.

٥٦٩

الأصل إذا كان من باب الظن يكون حجّة ؛ مع وجود الدليل الاجتهادي على طبقة ، بل وكذا لو كان على خلافه ؛ غاية الأمر أنّه يكون من باب تعارض الأضعف مع الأقوى ، فالدليل الاجتهادي لكونه أقوى مقدّم عليه.

وأمّا إذا قلنا إنّه وإن كان على هذا التقدير دليلا اجتهاديّا ، إلا أنّه ليس في عرض سائر الأدلّة الاجتهاديّة ، بمعنى أنّ حجيته معلّقة على عدم دليل اجتهادي آخر موافق أو مخالف ، كما يظهر من الرسالة في أول باب التعادل والتراجيح (١) فيشكل كونه مرجّحا ، إذ المفروض وجود الدليل الاجتهادي ؛ فكيف يكون حجّة حتى يكون مرجّحا للخبر الموافق له؟ بل لا يعقل كونه مرجّحا من حيث الاعتضاد ، (بمعنى أنّه دليل معاضد لدليل ، نعم ؛ يمكن كونه مرجّحا على هذا أيضا لا من باب الاعتضاد) (٢) بل من حيث إنّه مفيد للظن النوعي بالواقع ، وإن لم يكن حجّة نظير الشهرة ، بناء على عدم حجيتها حسبما عرفت سابقا ، إلا أن يقال : إنّ الظن النوعي الحاصل منه مقيّد بعدم الدليل الاجتهادي ، بمعنى أنّه مع وجوده لا يفيد الظن نوعا ، فدائرة الظن لا تشمل صورة وجود الدليل ، فلا يكون مرجّحا على هذا التقدير ، لا بالاعتضاد ولا بغيره ؛ كما هو واضح.

ومن ذلك ظهر الإشكال على ما ذكره في الرسالة في المقام من أنّ الأصل ـ بناء على كونه من باب الظن ـ من المرجّحات المضمونيّة المستقلّة ، مع أنّه يقول إنّ دليل حجيّته معلّق على عدم الدليل الاجتهادي.

والتحقيق عدم كون اعتبار الأصول من باب الظن ، وعلى فرضه فالظن إنّما يحصل منها مع عدم الدليل ، ولو على طبقها ، فلا تكون مرجّحة مطلقا.

القسم الثاني (٣) : هو ما لا يكون مقوّيا لمضمون أحد الخبرين وهو أمور :

أحدها : الأصل ؛ بناء على عدم كونه من باب الظن ؛ بل من باب التعبد ، والمراد به ما عدا التخيير من الثلاثة الأخر ، إذ لا يعقل كون التخيير مرجحا لأحد الدليلين ، وفي

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٣.

(٢) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

(٣) قد مرّ القسم الأول وهو ما كان مقويا لمضمون أحد الخبرين.

٥٧٠

الترجيح به أقوال :

أحدها : أنّه يقدم الخبر الموافق له (١) ، وربّما ينسب إلى المشهور ، ولعلّه من جهة بناء عملهم عليه في الفقه ، وإلا ففي الأصول يحكى عن أكثرهم القول بتقديم المخالف كما سيظهر.

الثاني : أنّه يقدم المخالف له (٢).

الثالث : عدم الترجيح بشيء من الموافقة والمخالفة ، والرجوع إلى التخيير ، وهو المحكي عن المحقق وصاحب المعالم (٣) ؛ وهو الأقوى (٤).

وذكر بعض الأفاضل (٥) قولا آخر في المسألة ؛ وهو التفصيل بين الأصل اللفظي فيقدّم موافقه والأصل العملي ففيه إشكال ، وحكاه عن المفاتيح ، حيث قال : إنّ الخبرين المتعارضين إذا وافق أحدهما الأصل اللفظي وخالف الآخر فلا إشكال في ثبوت الترجيح لموافقه ، (وإذا وافق أحدهما الأصل العملي وخالفه الآخر فالإشكال ثابت ؛ لثبوت الترجيح لموافقه) (٦) ، بل إمّا يحكم بترجيح المخالف ، أو يحكم بالتخيير ، ثمّ قوّى الترجيح به ، ثمّ اختار ذلك (٧) الفاضل عدم الترجيح بالأصل اللفظي أيضا كالأصل العملي ، وأنّه يرجع إلى التخيير.

وأنت خبير بأنّ الترجيح بالأصل اللفظي ليس محلا للخلاف في هذه المسألة ، ولا إشكال فيه ؛ لأنّه موجب لقوّة مضمون الخبر الموافق كما عرفت سابقا في الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ، وصاحب المفاتيح أيضا لم يجعله محلّ الخلاف بل جعله ممّا لا إشكال فيه ، مع أنّه اختار الترجيح بالأصل العملي أيضا ، فليس قوله تفصيلا في المسألة.

__________________

(١) يظهر من مفاتيح الأصول : ٧٠٨.

(٢) استظهر في بدائع الأفكار أنّ عليه الأكثر ؛ ص ٤٦١.

(٣) حكاه عنه في بدائع الأفكار : ٤٦١ ، وارجع إلى معالم أصول الدين : ٣٩٣.

(٤) جعله في البدائع مورد الاستظهار.

(٥) بدائع الأفكار : ٤٦٢ مما يستظهر من كلامه ذلك وليس بالصريح فيه.

(٦) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

(٧) في نسخة (د) : هذا الفاضل.

٥٧١

هذا ؛ ومن الغريب ما اختاره ذلك الفاضل من عدم الترجيح بالأصل اللفظي ، مع أنّه ممّا لا شبهة فيه ، وما استند إليه ضعيف في الغاية حسبما عرفت سابقا أيضا ، وهو أنّ الوجه في الترجيح به : إمّا أن يكون مجرّد تعدد الدليل في أحد الطرفين واعتضاد أحد الخبرين بدليل آخر ولو لم يوجب قوّة ، وإمّا أن يكون حصول القوّة والظن منه بالموافق.

أمّا الأول ففاسد ، لأنّ مجرّد التعدد لا يثمر شيئا إذا لم تحصل قوّة لأحد الخبرين وأمّا الثاني فنقول : إنّ القوّة إمّا في سند الخبر أو في دلالته أو في مضمونه ، وكلّها ممنوعة ، أمّا بالنسبة إلى السند ؛ فلعدم السنخيّة بين الأصل اللفظي وبين سند الموافق ، وأمّا بالنسبة إلى الدلالة والمضمون ؛ فلأنّ ذلك فرع حصول الظن من الأصل اللفظي ، وهو غير حاصل ؛ لأنّ المنشأ في حصول الظن من الظواهر هي الغلبة النوعيّة ، ولا يحصل منها مع وجود أمارة شخصيّة على خلافها ووفاقها ؛ إذ العبرة حينئذ بحال الأمارة الشخصيّة ، وهي توجب الظن مع عدم المعارض ، ففي المقام لا يحصل الظن من الأصل اللفظي ، لوجود الخبرين في قباله ، فالمدار عليهما ، وحيث إنّ كلّا منهما معارض بالآخر فلا يحصل من واحد منهما الظن أيضا.

والحاصل : أنّ العام مثلا موجب للظن بالنسبة إلى كلّ فرد فرد ، مع عدم وجود الدليل الخاص على حكم ذلك الفرد ، والمفروض في المقام وجود الخبرين ، فلا يحصل من العام ظن حتى يكون مقوّيا لدلالة أحد (١) الخبرين أو لمضمونه.

نعم ؛ لو كان كلّ من الخبرين أيضا من الأمارات المفيدة للظن النوعي نظير ذلك العموم أمكن حصول القوّة بسببه لأحدهما الموافق له ، مثلا إذا قال أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ، وكان هناك عام آخر موافقا لمضمون أحدهما ، فإنّه يكون مقوّيا له ، لكونهما في عرض واحد ، إذ المفروض أنّه ليس الخبر خاصا في مقابل العام حتى يكون المدار على ذلك الخاص.

أقول : لا يخفى وضوح كون الأصل اللفظي مقويا لما وافقه ، كيف؟ وكلّا منهما (٢)

__________________

(١) لا توجد كلمة «أحد» في نسخة (د).

(٢) في نسخة (د) : وكلامهما.

٥٧٢

دليل اجتهادي ناظر إلى الواقع ، بل يمكن تقوية السند والدلالة أيضا إذا كانتا ظنيين ، وما ذكره من أنّ الظن لا يحصل مع وجود الأمارة الشخصيّة في قباله كما ترى! خصوصا إذا كانت مطابقة له ، مع أنّك قد عرفت سابقا أنّه لا يعتبر حصول الظن الفعلي بالواقع من المرجح.

ثمّ إذا كانت المعارضة موجبة لعدم حصول الظن فينبغي عدم الترجيح فيما ذكره من فرض كون الخبرين أيضا من العام المفيد للظن من باب الغلبة ؛ لأنّ المدار عنده على حصول الظن الشخصي من المرجّح ، والخبر الآخر كما يعارض الخبر الأول كذا يعارض ذلك المرجح ، فلا يحصل منه الظن الفعلي ، وإن أراد أنّه قد يحصل منه الظن فقد يحصل من العام أيضا بالنسبة إلى الخاصين على وفق أحدهما.

وكيف كان ؛ فمورد النزاع في كلام العلماء هو الأصل العملي ، ويؤيد ذلك ـ وإن كان غير محتاج إلى التأييد لكمال وضوحه ـ أنّ بعضهم قدّم الخبر المخالف ، بل ربّما ينسب إلى المشهور ، ولا يمكن إسناد تقديم المخالف للأصل اللفظي على موافقة إلى أصاغر الطلبة فضلا عن مشهور العلماء ، فيعلم من ذلك أنّ مرادهم من الأصل الأصل العملي ، مع أنّهم ذكروا الترجيح بموافقة عموم الكتاب من غير خلاف ، إلا من الشيخ في الرسالة ـ على ما عرفت ـ مع أنّه من الأصل اللفظي.

وعلى أي حال فالحق عدم الترجيح بموافقة الأصل ، ولا بمخالفته :

أمّا الأول ؛ فلأنّ الأصل لا يكون في عرض الخبرين حتى يكون معاضدا لأحدهما ، فإنّه دليل حيث لا دليل ، والمفروض وجوده ، ولا يضر التردد بين كونه هذا الخبر أو ذاك ؛ بعد العلم بوجوب الأخذ بأحدهما إمّا معيّنا أو مخيرا ، نعم لا يضر في جريان الأصل وجود الدليل مع عدم إمكان الأخذ به والحكم بالتوقف أو التساقط ، فإنّه بمنزلة عدم الوجود ، فالمدار على وجوده في مقام الأخذ أو العمل ، وهو كذلك في مقامنا ، حيث إنّه يتعيّن الأخذ بأحدهما معيّنا أو مخيّرا ، مع أنّ المقصود جعله مرجّحا للخبر الموافق ، فمعناه الأخذ به وبالخبر ، وهو لا يجتمع مع الخبر في مقام الأخذ والاعتبار ، حتى يكون معاضدا له ومرجّحا له ، فلا يعقل الترجيح به ؛ بمقتضى ما ذكرنا.

٥٧٣

نعم ؛ لو كان الأصل في الخبرين التوقف أو التساقط لا التخيير أمكن تصوير جعله مرجّحا بأن يقال :

إذا تعارض الخبران فكلّ منهما يفيد الظن النوعي بأنّ الواقع كذا وإذا كان أحدهما موافقا للأصل فيكون الأخذ به أرجح من حيث إنّه لو لم يجب الأخذ به فالحكم الظاهري موافق له ، فهو إن كان صدقا فهو ، وإن كان كذبا فالحكم الظاهري في مقام العمل مطابق له ، بخلاف الخبر الآخر ؛ فإنّه على تقدير كذبه لا يكون الحكم الظاهري مطابقا له ، والفرق بين هذا الفرض والفرض السابق أنّه على فرض كون الأصل هو التخيير نعلم جزما بعدم اعتبار الأصل ، وأنّه ساقط ، وفي هذا الفرض إن لم نرجّح أحد الخبرين يكون العمل على الأصل ، فلا نعلم طرح الأصل حينئذ ، وإن كان في الرتبة متأخرا.

هذا ؛ ولكن الإنصاف أنّ هذا المقدار لا ينفع في الترجيح ؛ لأنّ المفروض أنّه لا يمكن أن يكون معتبرا في عرض الخبر حتى يكون مرجّحا ، ومجرد كونه على فرض عدم الترجيح مرجعا في هذه الصورة دون الصورة السابقة لا يثمر شيئا ، وإنّما ينفع في المرجعيّة ؛ فلا ينبغي التأمّل في عدم كون الأصل مرجّحا سواء في ذلك الأصول الثلاثة ـ أعني ما عدا التخيير ـ ، وما يرى من الفقهاء في الكتب الاستدلاليّة من الترجيح بالاستصحاب وأصل البراءة فإنّما هو من جهة بنائهم على اعتبارهما من باب الظن ، ولذا اقتصروا عليهما ، ولم يرجّحوا بالاحتياط ؛ حيث إنّه لا يفيد الظن ، لكنّ هذا منهم ـ كما عرفت ـ مبني على عدم تقيد حصول الظن أو اعتباره بعدم الدليل الاجتهادي موافقا أو مخالفا ، وإلا فلا يعقل الترجيح بالمعاضدة ، وإن أمكن بناء على الثاني لا بها ، بل بمجرد حصول الظن ، وإن لم يكن معتبرا ، حسبما عرفت سابقا.

وأمّا الثاني ؛ فلعدم الدليل عليه عدا ما يتخيل من أولويّة التأسيس من التأكيد ، وهو كما ترى! واستدل سيّد المفاتيح على الترجيح بموافقة الأصل على ما حكي

٥٧٤

عنه بوجوه (١) :

أحدها : أنّ الخبرين يتعارضان ويتساقطان فيبقى الأصل سليما.

وفيه :

أولا : منع التساقط ، بل الحكم التخيير بمقتضى الأخبار المتقدمة.

وثانيا : أنّ المرجعيّة غير المرجحيّة ، والمقصود الثاني.

ثانيها : أنّ الخبر الموافق يفيد ظنا بالحكم الواقعي ، والأصل يفيد الظن بالحكم الظاهري ، فيقوى به الخبر.

وفيه : منع حصول الظن من الأصل ، لا بالحكم الواقعي ولا بالحكم الظاهري ، أمّا الأول فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلأنّه ـ على فرضه ـ يفيد القطع به ، وإن كان مراده أنّ الحكم الواقعي يتقوى بالحكم الظاهري الذي هو مفاد الأصل فنقول : هذا فرع جريان الأصل ، ولا يعقل جريانه مع وجود الدليل الاجتهادي كما عرفت.

ثالثها : أنّ العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دلّ على حجيّة المخالف ، والعمل بالمخالف موجب للتخصيص فيما دلّ على حجيّة الموافق ، وتخصيص آخر فيما دلّ على حجيّة الأصول ، فالأول أولى ؛ لقلّة التخصيص معه.

وفيه : ما عرفت من أنّ الأصول ليست جارية في المقام حتى يلزم التخصيص في أدلتها ، هذا مع أنّ أخبار التخيير مطلقة شاملة للمقام ، ومقدمة على الأصول كما لا يخفى!

وما أجاب سيّد المفاتيح به عنها من أنّها ضعيفة السند أو ضعيفة الدلالة ، من حيث إنّ إطلاقها لا يشمل المقام ، وأنّ (٢) أدلّة الأصول أقوى منها من حيث إنّها قطعيّة من حيث هي ، بخلاف أخبار التخيير ، وأنّها معتمد عليها عند الأصحاب من حيث هي ، بخلاف التخيير فإنّه محلّ خلاف بين الأصوليين والأخباريين ، فهي أولى بالاعتماد عليها ، مع أنّها معتضدة في المقام بالشهرة ، حيث إنّ المشهور على الترجيح بالأصل ؛ كما ترى! فإنّ أخبار التخيير مستفيضة ، بل يمكن دعوى قطعيّة

__________________

(١) حكاه في بدائع الأفكار : ٤٦١ ـ ٤٦٢.

(٢) في نسخة (د) : أو أنّ.

٥٧٥

صدورها ، ولا مانع من شمول إطلاقها للمقام ، مع أنّه يمكن منع شمول أدلّة الأصول أيضا للمقام ، بل هو أولى كما لا يخفى! وكونها من حيث هي قطعيّة ومحلّا لاعتماد العلماء لا ينفع في المقام ، فإنّ أخبار التخيير أيضا من حيث هي كذلك ، وخلاف الأخباري لا يضر بعد البناء على العمل عليها ، مع أنّ الأخباري في أصل البراءة أيضا (١) مخالف ، بل جميع الأصول محلّ الخلاف والإشكال كما لا يخفى!

وأمّا كونها معتضدة بالشهرة :

فأولا : ممنوع ، حيث إنّ المشهور على تقديم الناقل على المقرّر ؛ على ما ذكروه في الأصول ، وإن كان عملهم في الفقه على العكس ، فلعلّ نظره إلى عملهم أو إلى أنّ تقديم الموافق يتصور بالنسبة إلى التخيير ، وإن لم يكن مشهورا بالنسبة إلى تقديم المخالف كما قيل ؛ لكنّه كما ترى!

وثانيا : لا ينفع ؛ إذ لا إشكال في السند ، ولا الدلالة من حيث هي ، وإنّما الإشكال في كون المقام موردا لجريان الأصول أو لا؟ والشهرة لا تنفع في هذا ، مع إنّ نظر المشهور إلى جعلها من باب الظن ، وحينئذ لا إشكال في الترجيح ، والكلام على تقدير كونها تعبديّة.

فالتحقيق أنّه لا ينبغي التأمّل في تقديم أخبار التخيير على أدلّة الأصول ، وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه ؛ للوجوه التي ذكرها في الرسالة (٢) من حكومتها عليها (٣) :

[١ ـ] حيث إنّها تثبت حجيّة أحد الخبرين ، وهو دليل اجتهادي ، ومعه لا يجري الأصل ، فحالها حال آية النبأ بالنسبة إلى الأصول ؛ غاية الأمر أنّ الحجّة فيها معينة ، وفي مقامنا مخيّرة ، ولا يتفاوت الحال بذلك.

[٢ ـ] ومن أنّ أخبار التخيير أقلّ موردا من أدلّة الأصول ، فهي أظهر بالنسبة إليها.

[٣ ـ] ومن أنّ التخصيص فيها يوجب إخراج كثير من مواردها ، بل أكثرها ؛

__________________

(١) لا توجد كلمة «أيضا» في نسخة (د).

(٢) فرائد الأصول : ٤ / ١٥٢ ، ١٥٨.

(٣) هذه الوجوه لم تكن في الأصل مرقّمة ؛ إلا أنّا رقمناها تسهيلا للقارئ.

٥٧٦

بخلاف تخصيص أدلّة الأصول.

[٤ ـ] ومن أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الأصول ، مثل مكاتبة عبد الله بن محمد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل (١) ، ومكاتبة الحميري المرويّة في الاحتجاج ؛ الواردة في التكبير بعد التشهد (٢) ، فإنّ الأصل عدم شرطيّة كون الصلاة على الأرض بناء على البراءة (٣) ، والشرطيّة بناء على الاشتغال ، وأيضا الأصل عدم استحباب التكبير أو وجوبه ، ومع ذلك حكم الإمام عليه‌السلام بالتخيير بين الخبرين ، فيستفاد منه أنّ أخبار التخيير مقدّمة على أدلّة الأصول ؛ لأنّ التنصيص على بعض موارد الاجتماع يوجب التقديم ، ويتم بعدم القول بالفصل.

هذا ؛ والعمدة هو الوجه الأول ، وهو عدم المعارضة بين الأصول والأخبار الدالّة على التخيير ، لما مرّ من الحكومة (٤) ، والثلاثة الأخيرة على فرض التنزل والإغماض عنها.

وأورد بعض الأفاضل (٥) على الوجه الأول بأنّ الحكومة إنّما تسلّم إذا كان التخيير أصوليّا ، بأن يكون مفاد الأخبار التخيير بين الخبرين في مقام الأخذ والاجتهاد ، وأمّا إذا كان عمليّا ، بأن يكون مفادها أنّ المكلّف في مقام العمل مخيّر بين العمل على طبق هذا الخبر أو ذاك ، نظير التخيير بين الاحتمالين فلا حكومة ، إذ التخيير حينئذ حاله حال الأصل العملي ، وقد مرّ سابقا أنّ هذا هو الأقوى ، ولعلّه مراد المفاتيح وإن كان مختار الشيخ هو الأول ، فعلى مذاق المفاتيح لا يرد عليه الإيراد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٤٤.

(٢) المصدر السابق ؛ حديث ٣٩.

(٣) المراد أنّه لو قلنا بأنّ المسألة داخلة في الشك في أصل التكليف بالشرط فتجري البراءة عنه ، لأصالة عدم الاشتراط ، بمعنى أصالة عدم اشتراط كون الصلاة على الأرض (في المثال) ، وأمّا لو قلنا بأنّ المسألة يتحقق فيها مناط الشك في المحصّل فيشك في براءة ذمته فيما لو لم يصلّ على الأرض فتجري قاعدة الاشتغال.

(٤) هذا يتم باعتبار أنّه كلما كانت هناك حكومة فلا تعارض ، وكلما كانت هناك معارضة فلا تتصور الحكومة ، والنكتة في ذلك هو ابتناء التعارض على لحاظ النسبة ثبوتا وإثباتا ، بينما الحكومة تبتني على عدم لحاظ النسبة بتلك الصورة.

(٥) هو المحقق الميرزا الرشتي في بدائعه : ٤٦٢.

٥٧٧

قلت : قد عرفت أنّ الحق أنّ التخيير أخذي ، وعلى تقدير كونه عمليّا فليس نظير الاحتمالين ، بل له أن يعمل على طبق هذا الخبر أو ذاك ، بحيث يجوز له نيّة الوجوب إذا كان مفاد أحدهما الوجوب ، وحينئذ فالحكومة مسلّمة ، ولا أظنّ من صاحب المفاتيح جعل التخيير عمليّا صرفا ، وعلى تقديره فالايراد وارد على التحقيق ، وإن لم يرد على مذاقه.

وأورد على الوجه الثاني بأنّ قلّة المورد موجبة لقوّة الدلالة وأظهريتها ، إلا أنّها إنّما تنفع إذا لم نقل بأنّ الشهرة جابرة أو كاسرة ، إذ على تقدير القول بهما نقول إنّ الشهرة على تقديم الموافق توجب وهن أخبار التخيير ، وتقوى دلالة أدلّة الأصول ، فينبغي تقديمها.

قلت : لا يخفى أنّ مجرد الشهرة على الخلاف أو الوفاق لا توجب الوهن والقوّة ، بحيث يكون الموافق لها مقدّما ، بل إنّما هو إذا كان في الدلالة ضعف ، ويكون ذهاب المشهور إلى خلافه ـ مع كونه بمرأى منهم ومسمع ـ قرينة على أنّهم فهموا منه معنى آخر ، والمقام ليس كذلك ، إذ المفروض أنّ الدلالة تامّة ، ثمّ إنّ الشهرة في المقام ليست مطلقة ـ على ما ذكره المورد ـ بل إنّما هي إضافيّة بالنسبة إلى التخيير ، وإلا فالمشهور على تقديم الناقل ، ومثل هذه الشهرة لا تنفع قطعا.

ثمّ إنّ دلالة الأصول لا إشكال فيها من حيث هي ، حتى تكون الشهرة جابرة لها ، والحاصل : أنّ مع أظهريّة أحد الخبرين لا ينظر إلى الشهرة إلا إذا صارت إلى حدّ الوهن في الخبر المخالف ، وليس المقام كذلك قطعا ، فبعد تسليم الأظهريّة من جهة قلّة المورد لا ينبغي التأمّل في تقديم الأظهر.

نعم ؛ يمكن الخدشة في أنّ كل أظهريّة لا تنفع ، بل المدار على ما يعدّ في العرف قرينة على الخبر الآخر لو فرضنا صدور الخبرين ، بحيث يخرج عن التعارض ، على ما بيّن في محلّه ، والمفروض أنّ المورد معترف بكفاية كل أظهرية ، ويريد إثبات المانع من جهة الشهرة ، فنقول : هي غير مانعة ؛ هذا إذا قلنا بحجيّة الظواهر من باب الظن النوعي ، وأمّا لو قلنا بإناطتها بالظن الشخصي ، أو عدم الظن على الخلاف ، فيدور الأمر مدار حصول الظن من هذه الشهرة على تقديم الموافق وعدمه ،

٥٧٨

والإنصاف أنّه لا يحصل منها الظن فتدبّر!.

وأورد على الوجه الثالث بأنّ لزوم تخصيص الأكثر ممنوع ؛ إذ أكثر موارد التخيير لا يجري فيه الأصل ، فيكون باقيا تحت الأخبار إذا خصصت بأدلّة الأصول ، إذ المعاملات بأسرها والأحكام الوضعيّة وبعض موارد الأحكام التكليفيّة ، كدوران الأمر بين المحذورين باقية تحت أدلّة التخيير ، إذ لا يجري فيها الأصل.

نعم ؛ التخصيص الكثير لازم ؛ إلا أنّه بمجرّده لا ينفع ، إذ المدار على أظهريّة أحد العامين ؛ وهي لا تحصل بمجرد كون التخصيص اللازم بالنسبة إلى أحدهما قليلا وبالنسبة إلى الآخر كثيرا ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الخارج من أحد العامّين مقدار واحد وهو موارد الأصول من تعارض الخبرين ، فإن أخرج من أدلة الأصول كان قليلا بالنسبة إليها ؛ لكثرة مواردها ، وإن أخرج من أخبار التخيير كان كثيرا بالنسبة إليها ، فالقلة والكثرة إضافيّة لا حقيقيّة ، إذ ليس المقام نظير ما إذا دار الأمر بين خروج فرد أو فردين عن عام واحد.

هذا ؛ مع أنّ مجرّد الدوران بين الأقل والأكثر إذا كانا حقيقيّين أيضا لا ينفع ، فإذا دار الأمر بين تخصيص أكرم العلماء بإخراج عشرة مثلا ، وبين تخصيص أهن الفساق بإخراج عشرين ؛ من جهة العلم الإجمالي بأحد التخصيصين ، لا يقدم الأول على الثاني ، بل يحكم فيه بتساقط الظاهرين ، والرجوع إلى الأصول العمليّة ، بل إذا دار الأمر بين تخصيص أكرم العلماء وبين تخصيص أضف الشعراء وأهن الجهال مثلا ، بأن يكون هناك علم إجمالي بأحد التخصيصين ، وكان بين الثانيين ملازمة ، بأن يدور بين تخصيص واحد في العام الأول ، وبين تخصيصين في العامين الآخرين ، لا يرجح الأول ، وإن كان ربّما يتخيل ذلك من جهة أنّ التخصيص في دليل واحد أولى من التخصيص في دليلين ؛ وذلك لأنّه تتساقط الظواهر بالعلم الإجمالي.

نعم ؛ إذا فرض تعدد العام من طرف واتحاده من طرف آخر ، وكان مضمون الأولين واحدا ؛ كما إذا قال أكرم العلماء وقال أيضا أحسن إلى الفقهاء ، وقال لا تكرم الشعراء مثلا ، وفرض العلم الإجمالي بتخصيص الأولين أو الأخير أمكن أن يقال : التخصيص الواحد أولى من التخصيصين ، وذلك لتعاضد الظهورين هنا ، حيث إنّ

٥٧٩

المفاد واحد.

فتحصل أنّ مجرّد القلّة والكثرة في التخصيص لا تنفع في الترجيح ؛ خصوصا إذا كان مثل المقام ، حيث إنّ الخارج مقدار واحد ، والقلّة والكثرة إضافيّان ، مع أنّ مآل هذا الوجه إلى الوجه السابق ، إذ السرّ في كون التخصيص قليلا أو كثيرا بالنسبة إنّما هو قلّة المورد وكثرته كما لا يخفى!.

قلت : أمّا منع تخصيص الأكثر ؛ فليس في محلّه ، إذ المراد من الأصول في المقام ـ كما عرفت ـ الأصول الثلاثة من الاحتياط والاستصحاب والبراءة ، وهي جارية في الوضعيّات والمعاملات أيضا ، فإذا خصصنا أدلّة التخيير بها يلزم اختصاصها بالدوران بين المحذورين ممّا لا يمكن فيه الاحتياط ، ولعلّ نظره فيما ذكره إلى عنوان الناقل والمقرّر في كلمات القوم ، حيث إنّ مرادهم من المقرّر الخبر الموافق لأصل البراءة وأصل العدم الأزلي الأولي ؛ مع إنّ الشيخ قدس‌سره صرّح بأنّ المراد منها الأعم ، مضافا إلى أنّ أصل العدم في عنوان القوم أيضا شامل للوضعيّات والمعاملات.

وأمّا ما ذكره من عدم إجداء (١) التخصيص الكثير ؛ ففيه : أنّه قد تحصل الأظهريّة بمجرّد لزوم كثرة التخصيص بالنسبة ، فإنّ العام الذي له أفراد كثيرة فهو ظاهر في جميعها ، وظهوره فيها أقوى من ظهور العام الذي أفراده أكثر من هذا العام بالنسبة إلى القدر الذي أريد إخراجه ، فتكون دلالة العام القليل الأفراد على هذا المقدار أقوى من دلالة العام الكثير الأفراد ؛ فيكون أولى بعدم التخصيص.

ودعوى أنّ هذا راجع إلى الوجه السابق ممنوعة ؛ غاية الأمر أنّ السرّ فيه هو قلّة المورد وكثرته ، وإلا فالنظر في هذا الوجه إلى أبعديّة أحدهما عن التخصيص من حيث أظهريّة شمول العام له فتدبّر.

وأورد على الوجه الرابع بأنّ الخبرين من المكاتبات ، وهي في حجيتها في المسائل الفرعيّة إشكال ؛ فضلا عن المسائل الأصوليّة.

__________________

(١) يقال أجدى الشيء : بمعنى أحوج إليه إجداء ؛ وللنفي يقال لا يجدي أي لا ينفع ولا يؤثر.

٥٨٠