كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

في الآخر إمّا من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب ، وقد عرفت أنّ المزيّة الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر ، وقد يوجب بعد الاحتمال في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر ، والمرجّح الخارجي من هذا القبيل ، غاية الأمر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر ، بل ذو المزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار.

ومن هنا يمكن أن يستدل على المطلب بالإجماع في كلام المدّعى جماعة (١) على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على عدم شموله للمقام من حيث إنّ الظاهر من الأقوى أقواهما في نفسه ؛ لا لكون مضمونه أقرب إلى الواقع ، لموافقة أمارة خارجيّة فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظن خلل في المرجوح ، مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى احتمالا في نفسه.

فإن قلت : إنّ المتيقن من النص ومعاقد الإجماع (٢) المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل دون الخارجيّة التي هي داخلة فيما لا يعلم ، ودلّ (٣) الدليل على عدم العبرة به ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل ، ولا فرق بينه وبين القياس ؛ هذا مع أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن الخلل ؛ لأنّ الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيته ، والمفروض تساويهما في جميع ما له دخل في الطريقيّة ، ومجرّد الظنّ بمطابقة خبر للواقع لا يوجب خللا في ذلك ؛ لأنّ الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع.

قلت : أمّا النص فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه‌السلام «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» .. إلى أن قال : وأمّا معقد الإجماعات : فالظاهر أنّ المراد منه الأقرب إلى الواقع ، ثمّ ذكر شواهد من كلماتهم على عموم معقد الإجماع ، فذكر في آخر باب حجيّة المظنّة في مسألة أنّ الظن الغير المعتبر هل يكون مرجّحا أم لا ما حاصله : إنّ الترجيح

__________________

(١) هكذا في النسخة ، ولكنّها في نسخة (د) هكذا : المدعى في كلام جماعة ...

(٢) في نسخة الأصل ونسخة (ب) : الاجتماع ؛ والصواب ما ذكرناه على ما هو في نسخة (د).

(٣) في نسخة الأصل : وقال الدليل. والمناسب ما ذكرناه.

٥٤١

بالمرجّحات الداخليّة اتفاقي ، واستفاض نقل الإجماع من الخاصّة والعامّة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، وأنّ الكلام في المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لمضمون أحد الخبرين الموجبة لصيرورة مضمونه أقرب إلى الواقع.

نعم ؛ إن كشفت عن مزيّة داخليّة لأحدهما من حيث السند أو الدلالة دخلت في المسألة الاتفاقيّة ، ومن هنا يظهر أنّ الترجيح بالشهرة والإجماع المنقول إذا كشفا عن مزيّة داخليّة في سند أحد الخبرين أو دلالته ممّا لا ينبغي الخلاف فيه ، وإن لم يكشفا (١) عن ذلك إلا ظنّا ففي حجيّته أو إلحاقه بالمرجّح الخارج وجهان : أقواهما الأول كما سيجيء.

وكيف كان ؛ فالذي يمكن أن يستدلّ للترجيح بمطلق الظن الخارجي وجوه : ثم ذكر الوجوه ، وهي قاعدة الاشتغال ؛ للدوران بين التخيير والتعيين ، وظهور الإجماع ، فإنّهم يعلّلون الترجيح بجملة من المرجّحات بأنّه يوجب الظنّ بمطابقته للواقع ، وما يظهر من الأخبار من أنّ المناط في الترجيح كون أحد الخبرين أقرب مطابقة للواقع سواء كان بمرجّح داخلي أو خارجي ، ولا يخفى أنّ هذا الكلام منه قدس‌سره ليس مبنيّا على إرجاع المرجّحات الخارجيّة إلى الداخليّة كليّة كما ادّعاه في كلامه المتقدم.

والإنصاف أنّه لا وجه لهذا الإتعاب في إثبات حجيّة المرجّحات المضمونيّة الخارجيّة بعد كون النصوص ومعاقد الإجماعات عامّة ، وبعد كون المدار على مطلق ما يوجب قوّة في أحد الخبرين في الطريقيّة ، وإن لم يرجع إلى نفس الخبر بمعنى أنّه لم يكن المرجّح في نفس أحد الخبرين ، فإنّه لا وجه لتخيل كون المدار على قوّة الخبر في نفسه.

وكأنّه قاس المقام بظواهر الألفاظ ، فإنّ المعتبر فيها هو الظن النوعي الحاصل من نفس الدليل ، فالظن الخارجي المطابق له إذا لم يكشف عن قرينة حاليّة أو مقاليّة لا اعتبار به ، فالمدار على ظهور اللفظ من حيث هو ، لكن لا دخل لهذا بمسألتنا ـ بعد

__________________

(١) في نسخة (د) : يكشف.

٥٤٢

وجود الدليل في المقام على كون المدار على قوّة في أحد الخبرين وإن كان من جهة أمر خارجي ـ فموافقة الشهرة نظير موافقة الكتاب في أنّها موجبة للقوّة ؛ غاية الأمر أنّ الكتاب دليل مستقل من حيث هو ، بخلاف الشهرة ، وإلا فهما سواء في إفادة قوّة في الخبر في إراءته للواقع ، وفي عدم كون ما يوجب القوّة أمرا داخلا في نفس الخبر ، فلا يلزم كون القوّة في نفس أحد الخبرين ، وعلى فرضه فلا يكفي الإرجاع الذي ذكره ، مع أنّ دعوى كون الأمارة الظنيّة كاشفة عن خلل في الخبر المرجوح ممنوعة.

نعم ؛ إذا حصل الظن الفعلي من تلك الأمارة كشفت عن خلل في طريقيّته الفعليّة بالنسبة إلى إدراك الواقع ، ولكنّ الملاك ليس ذلك ؛ بل طريقيّته النوعيّة ، ولم يحدث فيها خلل بالمرّة مع إنّ القوّة لا يلزم أن تكون بحدوث الخلل في الآخر ، فالأقوائيّة غير الموهونيّة في الآخر ، وقد سبق أنّ المرجح قد يوجب القوّة في الخبر الموافق له ، وقد يوجب الوهن في الآخر ، فيبقى الأول على قوّته ؛ فلا وجه للاستناد إلى الكشف عن الوهن والخلل في المقام ، كما إنّه لا حاجة إليه فظهر ممّا ذكرنا صحّة ما ذكره السائل في ضمن قوله «إن قلت من أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن الخلل .. الى آخره» ، والشيخ ما أجاب عن هذا ؛ بل جميع ما ذكره في الجواب ناظر إلى الفقرة الأولى من السؤال ، ولا يتوقف تماميّته على الإرجاع المذكور.

والأولى ترك الاستشكال في المقام ، وعلى فرضه فالأولى ما قرّره في آخر باب حجيّة المظنّة من تتميم المطلب بخبر الإرجاع ؛ لأنّ المفروض أنّه بعد الإرجاع أيضا يحتاج إلى دعوى عموم النص ومعاقد الإجماع لمثل هذا القسم من الداخلي الإرجائي (١) ، ومع عمومها لا يتفاوت الحال بين أن يرجع إلى المرجّح الداخلي أو لا. واعلم أنّ الأمارة الخارجيّة الغير المعتبرة في نفسها إنّما تكون مرجّحة إذا كانت من الأمارات العقلائيّة في الكشف عن الواقع ، فمطلق الظن بالواقع لا يكون مرجّحا إذ لا يكون مقوّيا لطريقيّة الخبر مطلقا حسبما عرفت مرارا.

ثمّ إنّ مثل الشهرة الفتوائيّة إنّما تكون مرجّحة إذا لم تكن موهونة بأن علم مدرك

__________________

(١) هكذا في نسخة (د) ، وهو الصحيح وإن كان الظاهر من نسخة الأصل : الإرجاعي.

٥٤٣

المشهور ، وأنّه ليس بشيء ، فمرجحيتها إنّما تكون إذا احتمل استنادهم إلى مدرك معتبر ، أو اطلاعهم على خلل في الخبر الآخر ، أو نحو ذلك .. فهي بمجرّدها لا تفيد القوّة ، بل شهرة الرواية أيضا إذا كانت مستندة إلى ما علم عدم اعتباره لا اعتبار بها ، مثلا لو علم أنّ وجه شذوذ الخبر الآخر وعدم نقل الأصحاب له كون راويه عندهم مطعونا بما ليس طعنا عندنا ، فالظاهر عدم العبرة به ، والخبر (١) منصرف عن هذه الصورة.

ثمّ لا يخفى أنّ الأولويّة الظنيّة لا اعتبار بها في مقام الترجيح ، إذ هي نظير القياس أو من أقسامه ، وسيأتي عدم الاعتبار به ، ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الوجه في عدّ المرجحات المذكورة من المضمونيّة أنّها من حيث هي لا تفيد إلا قوّة المضمون ، ولا ينافي هذا كونها في بعض المقامات مقوّية للسند أو الجهة ، فتدبّر ؛ هذا كلّه إذا لم تكن الأمارة ممّا نهي عنه بالخصوص ، وأمّا إذا كانت كذلك كالقياس فلا ينبغي التأمّل في عدم الاعتبار به في مقام الترجيح ؛ وذلك لأنّ أدلة التعدي عن المنصوصات لا تشمله قطعا ؛ لانصراف الأخبار عنه ، وعدم وجود بناء العقلاء بعد النهي عنه بالخصوص ، بل مع قطع النظر عنه في مثل القياس ؛ لأنّه ليس من الأمارات العقلائيّة بعد ما سلم (٢) من كون الأحكام تابعة للمصالح الخفيّة ، فليس حاله حال الظنون الأخر الحاصلة من مثل الشهرة ونحوها ؛ كما لا يخفى.

وأمّا الإجماع فمعلوم عدم تحققه في المقام ، بل يمكن دعواه على العدم ، إذ لم يذهب إلى الترجيح به إلا من نقل عنه المحقق في المعارج (٣) بقوله : ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ولعلّ ذلك الذاهب ليس ممّن يعتنى به كثيرا ، وعلى فرضه فلا يقدح في ظهور

__________________

(١) ويحتمل في الكلمة : الجبر ؛ أي جبر الخبر بمثل هذه الشهرة الفتوائيّة أو غيرها.

(٢) في نسخة (د): «علم» بدل كلمة «سلم».

(٣) معارج الأصول : ١٨٦ ـ ١٨٧.

٥٤٤

الإجماع على عدم الاعتبار به ، كما لا يقدح فيه ما نقله في الرسالة (١) عن بعض السادة من الميل إليه (٢) ، ويؤيّد الإجماع على عدم الاعتبار به (٣) عدم ذكر الفقهاء له في مقام من المقامات في كتبهم الاستدلاليّة ، وأنّه لو كان معتبرا وجب تدوين الأصوليين له في كتبهم الأصوليّة ، وذكر شرائطه وأحكامه ؛ لكثرة الحاجة إليه في مقام علاج التعارض.

وكيف كان ؛ فلا تأمّل في سقوطه عن درجة الاعتبار لعدم الدليل ، بل الدليل على العدم من الإجماع والنواهي ، وما يقال من أنّ النهي إنّما هو من العمل به على أنّه دليل لا طراح أحد الخبرين به ، فإنّه في الحقيقة دفع للمزاحم ؛ فليس عملا به مدفوع بأنّ مقتضى النواهي عدم الاعتناء به أصلا ، كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٤) ، مع أنّ دفع المزاحم أيضا نوع عمل به ، إذ لا فرق في العمل بين أن يكون بجعله دليلا على الحكم أو الاعتماد عليه في دفع المزاحم للدليل (٥) ، مع أنّ دفع المزاحم في الحقيقة جزء لمقتضى العمل ، وهو الدليل ، ولعلّ ما ذكرنا وجه النظر في كلام المحقق حيث إنّه ـ بعد ما ذكر وجه الترجيح به ـ قال : «وفيه نظر!».

هذا ؛ ولا فرق فيما ذكرنا من عدم الاعتبار به بين أن يكون الدليل على التعدي عن المنصوصات ما ذكر من الإجماع وبناء العقلاء وفقرات الأخبار ، وبين أن يكون هو دليل الانسداد الجاري في خصوص باب التعارض ، وأنّه لو لا الرجوع إلى المرجّحات الظنيّة لزم الوقوع في مخالفة الواقع في غالب الوقائع ، وذلك لأنّ الحاكم بالترجيح بالظن وإن كان هو العقل الذي لا يفرق بين الأسباب ؛ إلا أنّ القياس خارج على هذا التقدير أيضا ، كما إنّه خارج عن دليل الانسداد الجاري في مطلق الأحكام.

وبالجملة : القياس غير معتبر ـ في باب الترجيح ـ بالإجماع والنصوص ، سواء كان الدليل على الترجيح هو العقل أو غيره ، وتوجيه خروجه عن حكم العقل كتوجيهه

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ / ٥٩٨.

(٢) هو السيد محمد المجاهد في كتابه مفاتيح الأصول : ٧١٦.

(٣) جاءت العبارة في نسخة (د) مختلفة بتقديم وتأخير عما في نسخة الأصل.

(٤) كمال الدين : ٣٢٤ حديث ٩ ، بحار الأنوار : ٢ / ٣٠٣ حديث ٤١.

(٥) لا توجد كلمة «للدليل» في نسخة (د).

٥٤٥

في باب الأحكام.

فإن قلت : إذا استفدنا من أخبار التراجيح أنّ المدار على مطلق ما يقوي أحد الخبرين سواء المنصوصات وغيرها ، فكما يخرج بذلك عن العمومات الدالّة على عدم حجيّة الظن ، وأنّه لا يغني من الحق شيئا ، فلا بدّ من الخروج عن نواهي القياس ، إذ لا فرق بينهما إلا بالعموم والخصوص ، وهو لا يكون فارقا.

قلت :

أولا : لا نسلّم عدم الفرق ، إذ النسبة بين أخبار الترجيح وعمومات حرمة العمل بالظن هو العموم المطلق ، فهي نظير ما دلّ على حجيّة خبر الواحد ، وهذا بخلاف نواهي القياس ، فإنّ أخبار الترجيح ليست أخص منها ، بل النسبة عموم من وجه ، وعلى فرض التكافؤ لا دليل على الترجيح بالقياس.

وثانيا : نقول إنّ أخبار التراجيح منصرفة عن الظن القياسي ، لما عرفت من أنّه ليس من الأمارات العقلائيّة ، بعد كون مدارك الأحكام خفيّة ومصالحها مجهولة ، وهذا بخلاف سائر الصور (١) ؛ مثل الظن الحاصل من الشهرة والإجماع المنقول ونحوهما ، فما نحن فيه نظير إثبات اللغة بالقياس ، فكما أنّ اللغة حيث كانت توقيفيّة لا يمكن إثباتها بالظن القياسي ، مع أنّه يعمل فيها بالظن الحاصل من كلام اللغوي أو التبادر أو نحو ذلك فكذلك المقام ، فالظن القياسي دليل لمّي (٢) ، والظنّ الحاصل من مثل الشهرة دليل إنّي ، ولا وجه لإعمال الأول بعد خفاء لمّ الأحكام علينا.

والإنصاف أنّه مع الإغماض عن نواهي القياس أيضا لا يجوز العمل به في باب التراجيح ، بل ولا في باب الأحكام ، وإن قلنا بحجيّة مطلق الظن ، إذ الأدلة لا تشمله فتدبّر!.

فإن قلت : إنّا نرى العقلاء لا يفرّقون في أمورهم العرفيّة ، وإن كان متعلّقة بالموالي

__________________

(١) في نسخة (د): «الظنون» بدل كلمة «الصور».

(٢) الدليل اللمي ما كان مفاده ـ بتوسط الحد الأوسط ـ الانتقال من العلّة إلى المعلول وما يعطي اللميّة في الوجود والتصديق معا ، ويقابله الدليل الإنّي وهو ما كان مفاده الانتقال من المعلول إلى العلّة ، ومراده من خفاء لمّ الأحكام أي عللها ، فالأول واسطة في الإثبات والثبوت معا ، والثاني واسطة في الإثبات فقط.

٥٤٦

والعبيد بين الظنّ القياسي وغيره ، فلو كان المورد ممّا يجوز فيه العمل بالظن لا فرق بين أقسامه ، بل الظن القياسي أولى من سائر الظنون ، فمع الإغماض عن النواهي أو الخدشة في شمولها لمقام الترجيح لا وجه للعدول عنه.

قلت : سلّمنا ذلك ؛ لكنّ هذا مختص بما إذا كانت المصالح المنوطة بها الأحكام معلومة عندهم ، كما هو كذلك في الأمور العرفيّة ، والمفروض في المقام عدم كون المصالح بأيدينا ، ففي الأحكام العرفيّة أيضا إذا فرضنا جهل العبيد بمصالح أحكام الموالي لا نسلّم إعمالهم للظنّ القياسي ، بل يعملون بسائر الظنون مثل خبر الواحد ونحوه ، ولا يعملون بالقياس والاستحسان .. ونحوهما ، ويؤيد ما ذكرنا من عدم كون إعمال الظن القياسي من طريقة العقلاء في مثل المقام ممّا تكون مصالح الأحكام [فيه] مجهولة : أنّ الأخبار الناهية عن العمل به لسانها لسان الإرشاد كما لا يخفى على من لاحظها.

ومن التأمّل فيما ذكرنا يظهر أنّه بناء على جريان دليل الانسداد في مطلق الأحكام ، وحكومة العقل بحجيّة مطلق الظن ، يمكن دعوى خروج القياس من باب التخصيص ، من غير حاجة إلى ملاحظة النواهي والإجماع على حرمة العمل به ، فإنّ دائرة حكم العقل لا تشمل مثل هذا الظن ممّا هو خارج عن طريقة العقلاء في مثل هذه الأمور التوقيفيّة (١) ، ولعمري إنّ مقتضى الإنصاف ذلك ؛ فتدبّر.

__________________

(١) يمكن أن يقال : بأنّ مقتضى حكومة العقل بحجية مطلق الظن ـ بناء على تماميّة مقدمات الانسداد ـ هو حجية كل ظن ـ ومنه الظن المستفاد من القياس ـ فإما أن يدعى عدم إفادة القياس للظن أصلا فيكون خروجه تخصصيا عن موضوع حكومة العقل ، وفي هذا ما لا تخفى من المكابرة للوجدان في بعض الأقيسة ، وإمّا أن يدعى بأنّ الظن القياسي من جملة الظنون إلا أنّ متعلقه خارج عن طريقة العقلاء فلذا ينزل منزلة الخارج تخصصا فهو خارج تخصصا حكما كأن يكون مراده دعوى خروجه من باب اختلاف الموضوع بين الظن المفاد منه والظن المفاد من غيره مما اعتبر حجيته منها.

ولعل هذا ما يريده السيد قدس‌سره ، إلا أنّ التنزيل يحتاج إلى دليل من جهة ، ومن جهة أخرى أنّ الاستناد في التعليل لخروجه عن طريقة العقلاء غير متناسب وذات الظن القياسي ؛ وذلك لأنّ موارده غير منحصرة في الأمور التوقيفيّة .. خاصة إذا بنينا على التعدي عن المرجحات المنصوصة كما هو الفرض ، فكلام السيد قدس‌سره لا يخلو إطلاقه من تأمل! نعم بناء على الكشف ـ المسألة سهلة جدّا لإمكان التخصيص في دليل حجية الظن بإخراج الظن القياسي بمقتضى نواهي القياس.

٥٤٧

واستقم (١).

ثمّ ممّا ذكرنا ظهر ما في ما ذكره بعض الأفاضل (٢) في المقام من أنّ مقتضى القاعدة ـ بناء على التعدي عن المنصوصات ـ الترجيح بالظن القياسي ؛ وذلك لأنّ النسبة بين نواهي العمل بالقياس وما دلّ من الأخبار على الترجيح بمطلق الظن ، وإن كان هو العموم من وجه إلا أنّ دلالة الأخبار أقوى من دلالة تلك النواهي من حيث إنّ شمولها للمقام إنّما هو من باب العموم الحكمتي (٣) ، وإلا فالقدر المتيقن منها حرمة العمل به على أنّه دليل مستقل ، ودليل الحكمة لا يجري إذا كان هناك فرد من العمل معهود وهو موجود ، إذ في زمان الأئمة عليهم‌السلام لم يكن الترجيح بالقياس معهودا بين العامّة ؛ بل المعهود المتداول فيما بينهم العمل به على أنّه دليل ، فالنواهي الواردة منصرفة إلى ذلك المعهود ، ولا تشمل مقام الترجيح.

وأمّا أخبار التراجيح فلا قصور فيها عن شمول الظن القياسي ، فيعمل بعموم ما دلّ على الترجيح بالظن ، وتحمل النواهي الواردة في القياس على صورة جعله دليلا مستقلا ؛ جمعا بين الدليلين.

قال : هذا إذا قدمنا الجمع الدلالي على الترجيح ، وإلا فمقتضى القاعدة الرجوع إلى المرجّحات لأحد الدليلين ، وحيث إنّ كلّا الطرفين قطعي السّند فلا مورد للترجيح ، فيتوقف بينهما في مقام الاجتهاد ، ونرجع إلى التخيير في مقام العمل ، بمعنى أنّا نحكم في تعارض الخبرين ـ الموافق أحدهما للقياس ـ بالتخيير.

قلت : دعوى أقوائيّة دلالة أخبار الترجيح وأظهريّتها في شمول الظن القياسي من

__________________

(١) يضاف إلى ما سبق في التعليقة المتقدمة بأنّ دعوى خروجه عن طريقة العقلاء إن كانت مستندة لكثرة الخطأ فيه ، والعقلاء لا يرتبون أثرا على الطريق الكثير الخطأ فكلامه تام ، إلا أنّ الحكم بخروجه يكون عقلائيا لا عقليا ، وفرق بينهما ، علاوة على أنّ الإخراج من العقلاء ليس تخصصيا ، إذ أنّهم يرون الموضوع واحدا ؛ غاية ما في الأمر ضعف مرتبته من الصحّة.

(٢) رسالة التعادل والتراجيح (خاتمة) بدائع الأفكار : ٤٦٠.

(٣) في نسخة (د) : العموم الحكمي.

٥٤٨

شمول نواهي القياس للمقام خلاف الإنصاف ، بل الأمر بالعكس ـ كما عرفت ـ ، ثمّ إنّ مقتضى ما ذكره من انصراف النواهي إلى غير مقام الترجيح من باب معهوديّة (١) عدم دلالتها على حرمة الترجيح ، فلا وجه لدعوى أنّه جمع دلالي ، بل هو في الحقيقة بيان لعدم الدلالة من هذا الطرف ، وتماميّة دلالة أخبار الترجيح ، مع أنّه خلاف الإنصاف ، فإنّ قوله عليه‌السلام «إنّ دين الله لا يصاب العقول» كالصريح في عدم الاعتناء بالقياس ، ودعوى الانصراف إلى المعهود فرع كون المعهود خصوص جعله دليلا وهو ممنوع ، إلا أن يقال : يكفي احتمال الاختصاص ، لكنّ هذه الدعوى فرع كون العموم حكميّا ؛ وهو ممنوع كما عرفت.

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّه على فرض عدم تقديم الجمع على الترجيح نحكم بالتوقف في المسألة الأصوليّة ـ أعني مقام الاجتهاد ـ ونرجع إلى التخيير في مقام العمل بالخبرين لا وجه له ، إذ مقتضى القاعدة التخيير بين أخبار الترجيح وبين النواهي ، ولعلّ ما ذكره مبنيّ على ما اختاره سابقا من أنّ أخبار التخيير لا تشمل الخبرين القطعيين (٢) ، والمفروض في المقام قطعيّة الطرفين ، وقد عرفت التعميم سابقا (٣).

ثم لا وجه لعدم تقديم الجمع الدلالي على الرجوع إلى المرجّحات ؛ خصوصا في مفروض المقام ، الذي لا يرجع إليها ؛ لقطعيّة سند الطرفين ، فإنّه لا معدل عن الجمع بين القطعيين وإن كان أحدهما أظهر من الآخر ؛ مع أنّك قد عرفت أنّه ليس جمعا في الحقيقة ، بل مقتضى بيانه عدم دلالة النواهي ، فلا معارض لأخبار الترجيح.

ثمّ على فرض التوقف في المسألة الأصوليّة مقتضى القاعدة ـ بناء على مذهبه ـ الترجيح بالظن القياسي ، لدوران الأمر بين التخيير والتعيين ، فلا وجه للحكم بالتخيير.

__________________

(١) في نسخة (د) : المعهوديّة.

(٢) قد ذكر الشيخ أنّ مختاره ذلك في الرسالة : ٤ / ١٧ ـ ١٨.

(٣) مرّ في الصفحة : ٤٠٤ ، ٤٩٢.

٥٤٩

وقد ذكر (١) سابقا من جملة أدلّة الترجيح بمطلق الظن هذا الأصل ، فلا يمكنه دعوى أنّ إطلاقات التخيير واردة على هذا الأصل ، كيف؟ ولو تمّت الإطلاقات عنده فلا وجه لجعله الأصل دليلا على الترجيح.

ثمّ إنّه ذكر شيئا آخر ؛ وهو إنّه لو بنينا على عدم تقديم الجمع الدلالي المذكور وتوقفنا في مرجحيّة القياس اجتهادا (٢) ، وحكمنا بالتخيير بين الخبرين في مقام العمل ، لو فرض وجود مرجّح معتبر للخبر الآخر المخالف للقياس فهل يؤخذ بذلك الخبر من جهة سلامة ذلك المرجّح عن مزاحمة القياس أو لا؟ وجهان : أقواهما الثاني ؛ وذلك لأنّ القياس وإن لم يثبت مرجّحيّته ؛ إلا أنّ المفروض أنّه لم يثبت عدم مرجحيّته أيضا ، فلا يشمل الدليل الدال على الأخذ بالمرجّحات المرجّح الآخر ، لاحتمال كون القياس معتبرا في الواقع ، وكونه مزاحما ومعارضا لذلك المرجّح والشك في هذا يوجب الشك في شمول الدليل لذلك المرجّح ، فيصير مجملا ، فيكون كما لو لم يكن مرجّح أصلا ، ويحكم بالتخيير بين الخبرين.

وأنت خبير بما فيه! إذ مع الشك في كون القياس مرجّحا والحكم بعدم اعتباره لعدم الدليل ، لا يبقى شيء يزاحم المرجّح المعتبر في الخبر الآخر ، إذ الشك يرتفع بالرجوع إلى أصالة عدم الاعتبار ، مع إنّ نفس إطلاق دليل ذلك المرجح كاف في رفع الشك ، فهو نظير ما لو شك في كون الشيء الفلاني دليلا حتى يعارض الخبر الواحد مثلا ، وعدمه حتى يكون الخبر سليما ؛ فبمجرّد هذا لا يرفع اليد عن الخبر الذي هو دليل معتبر مثلا ، وهذا واضح جدا ، مع أنّه على فرض إجمال ذلك الدليل فأدلّة التخيير أولى بالإجمال ؛ من جهة احتمال كون المرجّح المفروض معتبرا ، فلا وجه للرجوع إليها أيضا ، فمقتضى القاعدة الترجيح بذلك المرجّح ، لعدم الدليل على التخيير.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت من إطلاق (٣) دليل اعتبار المرجح المعتبر يكفي في رفع

__________________

(١) في نسخة (د) : ذكرنا.

(٢) هكذا في النسخة.

(٣) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : من أنّ إطلاق ...

٥٥٠

الشك ووجوب العمل عليه إنّما يتمّ إذا كان دليل اعتبار ذلك المرجّح غير ما يحتمل كونه دليلا على اعتبار القياس ، كالمرجّحات المنصوصة ، فإنّها لا تسقط بمزاحمة القياس إذا شككنا في اعتباره ، لبقاء إطلاقها على حاله ، بل رفعها لهذا الشك.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الدليل واحد مثل قوله «اعمل بالأرجح من الخبرين» كما هو المفروض في المقام بالنسبة إلى غير المنصوصات ، فإنّه يستفاد من الأخبار أنّ المدار على مطلق الأرجح ، فيمكن أن يقال إذا شككنا في اعتبار القياس فيرجع الشك إلى أنّ الأرجح في المقام ما هو؟ وأنّه هل يوجد أرجح أم لا؟ فيكون الدليل مجملا بالنسبة إلى الشهرة ـ مثلا ـ والقياس ، وأنّ الأرجح هو الموافق للأول أو لا؟

قلت : لا فرق بين الصورتين ، فإنّ في الثانية أيضا نقول : قد استفدنا أنّ الشهرة من حيث هي من المرجّحات ، فيكون في الخبر (١) الموافق لها نوع قوّة ، ويشك في أنّ الموافق للقياس أيضا كذلك حتى يتعارض أو لا؟ فبعد العلم تكون الشهرة مقوّية يجب الأخذ بموافقها حتى يثبت خلافه ، والمفروض عدم الثبوت.

ثمّ ممّا ذكرنا ظهر حال كون القياس جابرا لضعف سند الخبر أو دلالته ، وأنّه لا يصلح للجبر بعد ورود النهي عن الاعتناء به ، بل هذا أولى بالمنع من الترجيح ، كما هو واضح.

وأمّا كونه موهنا للدليل المعتبر : فإن كان معتبرا من حيث هو ؛ من دون اشتراط بالظن الفعلي ، فلا إشكال في عدم وهنه بمخالفة القياس ، فإذا قلنا بحجيّة الأخبار من باب الظن النوعي ، وكان القياس مخالفا لخبر ، فلا يرفع اليد عنه ، وإن كان الظن قويا بحيث لو فرض حصول مثله من الشهرة على خلاف الخبر لرفعنا اليد عنه ، وكذا لو كان على خلاف الظواهر إذا قلنا باعتبارها من باب التعبد أو الظن النوعي.

وأمّا لو كان الدليل مشروطا بوصف الظن ، أو بعدم الظن على الخلاف ، وفرض حصول الظن من القياس على خلافه : ففي سقوطه عن الاعتبار لفقد شرطه ، وهو الظن ، أو عدم الظن على الخلاف ، أو عدم سقوطه لكون القياس ملغى في نظر

__________________

(١) في نسخة (د) : فيكون للخبر.

٥٥١

الشارع ، فكأنّ الظن غير حاصل على خلافه ، أو التفصيل بين ما لو كان اعتبار الظن من الشارع ، فلا عبرة بالظن القياسي على الخلاف ؛ لأنّه إذا ألغى القياس فيكون وجود هذا الظن في نظره كالعدم ، وبين ما لو كان الاعتبار من باب حكم العرف ، كما في ظواهر الألفاظ ، بناء على اشتراطها بالظن الفعلي ، أو عدم الظن على الخلاف ، فإنّ المفروض عدم حصول الشرط في نظرهم ، وكون هذا الظن ملغى في نظر الشارع لا يثمر عندهم شيئا؟ وجوه : أقواها (١) الأخير ؛ إلا أن يفرض أنّ العرف لو اطلعوا على نهي الشارع عن العمل بالقياس ، والاعتناء به ، وأنّه غالب الخطأ لم يعتنوا به ، وكان وجوده وعدمه عندهم سواء ، كما هو كذلك عند الشارع ، فيكون الأقوى الأول ، وتمام الكلام في غير المقام.

وأمّا القسم الثاني من المرجّحات المضمونيّة

[ما يكون معتبرا بنفسه بحيث لو لم يكن خبر كان هو المرجع]

أعني ما يكون مستقلا بالاعتبار ودليلا معتبرا في حدّ نفسه ، فقد عرفت أنّه أيضا قسمان :

أحدهما : ما يكون موجبا لقوّة أحد الخبرين ، وهو أمور :

منها : [الكتاب ؛ والترجيح بموافقته في الجملة] الكتاب ؛ والترجيح بموافقته في الجملة ممّا لا ينبغي التأمّل ولا الإشكال فيه ، سواء جوّزنا تخصيص الكتاب وتفسيره بخبر الواحد أو لا؟ وذلك لأنّه إن قلنا بجواز التخصيص فواضح ؛ لأنّ الخبر إنّما يقدّم على الكتاب على هذا القول في بعض الفروض إذا لم يكن له معارض ، لا مطلقا ، فيتصور الترجيح بموافقة الكتاب حينئذ ، وإن قلنا بعدم جوازه فنقول : يتصور ذلك في صورة كون الخبرين قطعيي الصدور ، فإنّه لا خلاف في جواز التخصيص حينئذ فيتصور الترجيح ، وفي صورة كونهما ظنيين فيكون الحكم بالترجيح مسامحة ، وذلك لأنّ الخبر المخالف حينئذ ساقط عن الحجيّة ، فليس التقديم من باب الترجيح.

ويمكن أن يقال على هذا القول أيضا : إنّ غاية الأمر سقوط الخبر المخالف بالنسبة إلى الكتاب ، بمعنى أنّه لا يفسر الكتاب ، ولا يخصصه لا أنّه يسقط بالمرّة

__________________

(١) في نسخة (د) : أقواهما.

٥٥٢

بحيث يكون الخبر الموافق ممّا لا معارض له حتى يؤخذ بمفاده كائنا ما كان ، بل لا بدّ في ذلك من الترجيح بموافقة الكتاب ، وإلا فيتساقط الخبران ، فيؤخذ بمفاد الكتاب لا بمفاد الخبر الموافق ، وبناء على التخيير بين المتعارضين كما هو المختار فلا يتعين الأخذ بمفاد الخبر الموافق إلا بعد الترجيح بموافقة الكتاب.

وكيف كان فيتصور الترجيح على هذا القول أيضا في الجملة ، وهو كاف مع أنّه لا حاجة إلى هذا التطويل ؛ لأنّ القول المذكور ساقط كما بيّن في محلّه ، والأخبار الدالّة على الترجيح بموافقة الكتاب كافية في المقام.

وكذا لا فرق في ذلك بين مذهب الأصولي والأخباري ، ويتصور الترجيح على القولين ، أمّا على مذهب الأصولي فواضح ، وأمّا على مذهب الأخباري ؛ فلأنّ ظواهر الكتاب وإن لم تكن حجّة ـ مع قطع النظر عن ورود التفسير ـ إلا أنّه يكفي في ذلك ورود الخبرين المتعارضين ، مع أنّ غاية الأمر عدم حجيّة الكتاب ، فلا يكون دليلا في حدّ نفسه ، ولكن يمكن كونه مرجّحا مع ذلك ؛ لأنّ الظن النوعي الحاصل منه موجب لقوّة الخبر الموافق ، غاية الأمر أنّه يخرج عن عنوان المقام ، من كون المرجّح معتبرا في حد ذاته ، فلا مفرّ للأخباري أيضا عن العمل بالأخبار الواردة في المقام من الترجيح بموافقة الكتاب ، ولو لم نقل بحجيّته مع عدم ورود البيان والتفسير ، وعدم كفاية هذا المقدار الموجود في الخبرين المتعارضين.

ومن ذلك يظهر أنّه لو قال بعدم حجيّة الكتاب بالمرّة ، وأنّ الحجّة منحصرة في الأخبار ؛ فلا بدّ له من القول بالمرجّحيّة ، وممّا ذكرنا ظهر أنّ ما قد يقال من أنّ أخبار العرض على الكتاب دالّة على حجيّة الكتاب ، وأنّها تردّ مذهب الأخباريين (١) ليس في محلّه ، إذ الترجيح ليس منوطا بالحجيّة ، بل بالظن النوعي ، والأخباري لا يدعي عدم حصوله من الكتاب إن كان مستنده في عدم الحجيّة الأخبار الواردة في عدم جواز التفسير بالرأي ، نعم لو كان مستنده في ذلك العلم الإجمالي بالتخصيص والتقييد والمجاز ونحو ذلك في عموماته ومطلقاته وظواهره ، إمّا من الخارج أو مع

__________________

(١) في نسخة (د) : الأخباري.

٥٥٣

ملاحظة تلك الأخبار ؛ بجعلها كاشفة عن إجمال عرضي فيها ، فيمكن منع الظهور والظن النوعي ، وأنّه لا يصلح للمرجّحيّة أيضا ، إلا أنّ الإنصاف أنّه فرق بين الإجمال الذاتي ، بحيث لا يكون للفظ ظهور بالمرّة ، وبين الإجمال العرضي مثل المقام ، حيث إنّ الأول غير صالح للترجيح ، لعدم دلالته على شيء ، والثاني صالح ؛ لأنّ كل واحد من العمومات والمطلقات له ظهور في حدّ نفسه ، ويحصل منه الظن النوعي والعلم الإجمالي غير مانع إلا عن اعتباره وحجيّته ، لا عن أصل حصول الظن ، فهو قابل للترجيح على هذا التقدير أيضا ، مع أنّه يمكن أن يقال إنّ العلم الإجمالي إنّما يمنع عن التمسك به لغير مورد الخبر الموافق ، ففي مورده يكون ظاهر الكتاب أيضا حجّة كالخبر.

هذا ؛ مضافا إلى إمكان دعوى أنّ المعلوم بالإجمال ليس أزيد ممّا هو موجود بأيدينا من المخصصات والمقيّدات الثابتة بالأخبار ، فبعد الفحص والاطلاع عليها يعمل بالظواهر في غيرها ، وصورة تعارض الخبرين داخلة تحت ما لم يثبت مخصص ، فيجوز التمسك بالعموم ، ويكون مرجّحا للخبر الموافق.

وبالجملة ؛ فكون الكتاب مرجّحا في الجملة ثابت على جميع المذاهب ، ومع قطع النظر عن جميع ما ذكرنا فالأخبار الدالّة عليه كافية ، فلو فرضنا عدم تصور الترجيح على بعض الأقوال تكون هذه الأخبار دليلا على بطلان ذلك القول.

وأمّا تفصيل الحال فهو أن يقال : إنّ المخالفة للكتاب إمّا أن تكون على وجه التباين ، أو العموم المطلق ، أو العموم من وجه ، وعلى الأول إمّا أن يكون الكتاب أظهر أو الخبر أو هما متساويان في الظهور أو النصوصيّة ، وعلى الثاني إمّا أن يكون الكتاب أعم أو الخبر ، وعلى الثالث إمّا أن يكون أحدهما أظهر دلالة من الآخر أو لا ، والكلام تارة مع قطع النظر عن أخبار العرض ، وأخرى بملاحظتها.

أمّا مع قطع النظر عنها فمقتضى القاعدة وعموم الأخبار الدالّة على الأخذ بالموافق وطرح المخالف الترجيح في جميع الصور ، إلا إذا كان الكتاب نصّا أو أظهر بالنسبة إلى الخبر المخالف ، ولم يحتمل النسخ ، فإنّ في هذه الصورة أيضا وإن كان الواجب الأخذ بالكتاب والخبر الموافق ، إلا أنّه خارج عن باب الترجيح ؛ لأنّ الخبر

٥٥٤

المخالف ليس بحجّة حينئذ في مورد المعارضة ، أو مطلقا ؛ لأنّ المفروض أنّ الكتاب قطعي السند ودلالته أيضا إمّا نصّ أو أظهر.

فيكون الخبر المخالف ـ مع قطع النظر عن معارضته مع الآخر ـ ساقطا ، وبقيّة الصور داخلة تحت الترجيح ، ويشملها الأخبار الواردة في المضمار ، مع أنّ الترجيح بمقتضى القاعدة أيضا في جميعها إمّا من باب تعدد الدليل في أحد الطرفين ، وإمّا من باب كون الكتاب مقوّيا للخبر الموافق في طريقيّته النوعيّة ، وإن لم يكن حجّة مطلقا كما على مذهب (١) الأخباري ، أو لكونه عامّا متأخر الرتبة عن الخاصين في الحجيّة ، كما قد يحتمل على ما سيجيء بيانه ، فإنّه لا يخرج عن كونه مفيدا للظن النوعي بالواقع ، فيقوى الخبر المطابق له.

وأمّا مع ملاحظة أخبار العرض الدالّة على عدم حجيّة الخبر المخالف للكتاب مطلقا ـ سواء كان له معارض أم لا ـ فكما يخرج الصورة السابقة عن باب الترجيح كذا يخرج الصورة الأولى من الصور الثلاث أعني صورة المباينة عنه ، فإنّ الظاهر أنّ جميع صور هذه الصورة داخل تحت تلك الأخبار ، فتبقى (بقيّة) (٢) صور الصورتين الأخيرتين داخلة تحت المقام.

فتحصل أنّه يجب الأخذ بالخبر الموافق للكتاب في جميع الصور ، إلّا أنّ بعضها خارج عن باب الترجيح ؛ وإن كانت الأخبار الدالّة على الأخذ بالموافق للكتاب من المتعارضين أيضا شاملة لجميع الصور ؛ لأنّه لا يلزم أن يكون جميع ما تضمنته الأخبار من باب الترجيح ، إذ مورد الأخبار الخبران المعتبران في حدّ نفسهما ، وإن كان أحدهما خارجا عن الحجيّة بملاحظة المرجّح حسبما ذكرنا سابقا بالنسبة إلى الشهرة والشذوذ أيضا ، فملاك الترجيح بموافقة الكتاب كون الكتاب دالّا على ما يوافق أحد الخبرين بدلالة معتبرة ـ عموما أو خصوصا أو إطلاقا ـ منطوقا أو مفهوما أو فحوى أو إشارة ، أو نحو ذلك من أنحاء الدلالات ، بحيث يكون دليلا على المطلب مع عدم ورود خبر على خلافه أو وفاقه لو قلنا بحجيّة الكتاب ، وإن لم نقل

__________________

(١) في نسخة (د) : كما هو مذهب ...

(٢) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

٥٥٥

بحجيّته فعلا ، وكون الخبر المخالف بحيث لو لم يكن له معارض لكان حجّة ، سواء كان على هذا التقدير مقدما على الكتاب بأن يكون أخص ، أو لا ؛ بأن يكون مساويا له معارضا معه.

فمع تحقق الأمرين يجب تقديم الموافق من باب الترجيح ، ومع فقد الأول يخرج (١) عن الموافقة ، فلا يقدّم ، ومع فقد الثاني : إمّا لكون الكتاب أظهر أو للأخبار المذكورة يخرج عن باب الترجيح ، وإن كان يقدم الخبر الموافق حينئذ.

هذا ؛ وخصّ في الرسالة (٢) الترجيح بموافقة الكتاب بما إذا ثبتت (٣) المخالفة بالعموم من وجه مع التساوي في الظهور ، وأخرج صورة التباين عن باب الترجيح ، لما ذكر من سقوط المخالف عن الحجيّة حينئذ ؛ لأنّه القدر المتيقن من أخبار الطرح لما خالف الكتاب ، وفي صورة كون الخبرين خاصّين والكتاب عامّا أو مطلقا قال : إنّ مقتضى القاعدة حينئذ ـ بناء على جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ـ أن يلاحظ أولا جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر المخالف ، فإن وجد مرجح له قدّم وخصص به الكتاب ؛ لأنّ المفروض انحصار المانع عن تخصيصه به في ابتلائه به بمزاحمة المطابق ؛ لأنّه مع الكتاب من قبيل النص والظاهر (٤) ، والعمل بالنص ليس من باب الترجيح ؛ بل من باب العمل بالدليل والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة ، حتى لو قلنا بكونها من باب الظهور النوعي ، فإذا عولجت المزاحمة بالترجيح صار المخالف كالسليم عن المعارض ، فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر السليم.

ولو لم يكن مرجّح : فإن حكمنا في المتكافئين بالتخيير ـ إمّا لأنّه الأصل أو لأخبار التخيير ـ كان اللازم التخيير ، فله أن يأخذ بالمطابق وأن يأخذ بالمخالف ، فيخصص به عموم الكتاب ، لما سيجيء (٥) من أنّ موافقة أحد الخبرين للأصل لا توجب رفع التخيير ، وإن قلنا بالتساقط أو التوقف كان المرجع هو ظاهر الكتاب.

__________________

(١) في نسخة (د) هكذا : ومع فقد الأول لا يخرج عن عن الموافقة ...

(٢) يظهر هذا منه في فرائد الأصول : ٤ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٣) في نسخة (د) : بدل من «ثبتت» كتبت كلمة «كانت».

(٤) في النسخة : النص الظاهر ، وما أثبتناه هو من نسخة (د).

(٥) يأتي في صفحة : ٥٧٣.

٥٥٦

ثمّ استشكل في آخر كلامه بأنّ تخصيص أخبار الترجيح بالموافقة بما ذكر من صورة المخالفة بالعموم من وجه حمل لها على الفرد النادر ، إذ الصورة المذكورة نادرة ، وهو لا يناسب إطلاق هذه الأخبار الكثيرة ، وحملها على صورة التباين ، وإن لم يكن من باب الترجيح أيضا مشكل ؛ لأنّها أقلّ وجودا ، بل معدومة.

وقال : ويمكن التزام دخول صورة العموم المطلق في الأخبار التي أطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب ، فلا يقلّ موردها ، وما ذكر من ملاحظة الترجيح بين الخبرين المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ممنوع ، بل نقول إنّ ظاهر تلك الأخبار ـ (ولو بقرينة) (١) لزوم قلّة المورد بل عدمه ، وبقرينة بعض الروايات الدالّة على ردّ بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب ـ مع كونه ظاهرا في نفيهما أنّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه الخبر الآخر ، وإن كان لو انفرد رفعت اليد به عن ظاهر الكتاب.

أقول : يظهر منه أنّه لو قلنا بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد فيكون الخبر المخالف خارجا عن الحجيّة ، فلا يكون من باب الترجيح ؛ لكن يبقى أنّه لو قلنا في تلك المسألة بالتوقف كما ينسب إلى المحقق فيتصور الترجيح بأن يقال بتقديم الخبر الموافق ، وإن كان المخالف لو كان منفردا لم يعمل به ولا بالكتاب ، إلّا أن يقال : إنّا (٢) احتملنا جواز التخصيص ؛ فلا يكون الكتاب معلوم الحجيّة حتى يكون مرجّحا للخبر الموافق ، بل يمكن أن يقال : نعلم بعدم المرجّحية ؛ لأنّه إن جاز التخصيص في الواقع فلا يكون مرجّحا ، وإن لم يجز فلا يكون الخبر المخالف حجة حتى يكون تقديم الموافق من باب الترجيح.

وكيف كان ؛ فلعلّ نظر الشيخ قدس‌سره فيما ذكره ـ من أنّ اللازم ملاحظة سائر المرجّحات وأنّ عموم الكتاب لا يكون مرجّحا ـ إلى أنّ العموم متأخر الرتبة في الحجيّة عن الخاصّين ، فيكون مرجعا عند فقدهما أو تساقطهما ، ولا يكون مرجّحا ، نظير الأصل العملي حيث إنّه حجّة عند عدم الدليل الاجتهادي ، فلا يصلح للترجيح

__________________

(١) أثبتنا هذا من نسخة (د) ولم يكن في نسخة الأصل.

(٢) في نسخة (د) : إذا.

٥٥٧

، ووجه تأخر رتبة العام أنّ اعتبار أصالة العموم إنّما هو من باب أصل عدم القرينة ـ على الخلاف (١) ـ فيكون مقيدا بعدم خاصّ في قباله ، ومع وجوده ؛ كما هو المفروض في المقام لا يكون معتبرا.

وفيه : أنّ مجرّد تأخّر الرتبة لا يقتضي عدم الترجيح ، إذ غاية الأمر أنّه ليس حجّة في عرض الخاصّين ، لكنّه لا يخرج عن كونه مفيدا للظن النوعي على طبق أحدهما فيكون مقوّيا له ، والسرّ في عدم الترجيح بالأصل العملي ليس عدم الحجيّة في عرض الدليل الاجتهادي ، بل هو عدم كونه مفيدا للظن ، وناظرا إلى الواقع ، ولذا نقول بكونه مرجّحا على فرض كونه معتبرا من باب الظن ، مع أنّه على هذا التقدير أيضا لا يكون في عرض سائر الأدلّة الاجتهاديّة ، بل متأخر عنها في مرتبة الحجيّة ، ثمّ إنّ تأخر الرتبة إنّما يسلم في العام بالنسبة إلى الخاص المخالف ، إذ هو الذي يكون قرينة على خلافه.

وأمّا بالنسبة إلى الخاص الموافق فلا ؛ فالعام يسقط عن الحجيّة إذا قدّمنا الخبر المخالف ، وأمّا عدمه ـ كما هو المفروض ـ فيكون حجّة ومعاضدا للخبر الموافق ، ومجرّد كون العام متأخرا عن الخبر المخالف الذي هو في عرض الموافق لا يقتضي تأخره (٢) عن الموافق ، إذ ما في طول ما في العرض (٣) لا يلزم أن يكون في طول ما في العرض (٤) كما لا يخفى (٥).

فإن قلت : لعلّ نظر الشيخ إلى أنّ العام ليس ظاهرا مع وجود الخاص المخالف ، إذ مع وجود ما يحتمل أن يكون قرينة يسقط الظهور ، فلا يكون مفيدا للظن النوعي حتى يكون مرجحا.

__________________

(١) المراد به ابتناء المسألة عندهم على أنّ هذه الأصول وهي أصالة العموم والإطلاق والحقيقة هل هي راجعة إلى أصل عدمي واحد ، وهو أصالة عدم القرينة ، أم أنّها مستقلة بالاعتبار ولا ترجع لها ، أو أنّها ترجع لأصالة الظهور وهو أمر وجودي وليس عدميا.

(٢) أي تأخر العام.

(٣) أي العام الذي هو في طول الخبر المخالف.

(٤) أي لا يلزم أن يكون في طول الخبر الموافق الذي هو في عرض الخبر المخالف.

(٥) الخلاصة : أنّ العام المؤيّد بالخبر المخالف وإن كان في طوله ، لكن لا يلزم أن يكون في طول الخبر الموافق ، والذي هو في عرض الخبر المخالف ، بل يمكن أن يكون في عرضه.

٥٥٨

قلت : لو كان كذلك لم يجز الرجوع إليه مع فرض التساقط أو التوقف ، مع أنّ هذه الدعوى واضحة الفساد ، إذ هي إنّما تسلّم إذا كان ما يحتمل أن يكون قرينة متصلا بالكلام لا مثل المقام ؛ كما هو واضح.

هذا ؛ ويمكن أن يقال : إنّ نظره فيما ذكره إلى أنّ العموم لا يكون قابلا للمعارضة مع الخبر المخالف ؛ لأنّ المفروض تقدمه عليه من حيث هو ، فلا يصلح معاضدا للخبر الموافق ؛ لأنّه يعتبر في المعاضد (١) أن يكون في عرض المعاضد بالنسبة إلى الطرف الآخر ، بأن يكون صالحا لكونه طرفا للمعارضة معه.

وفيه منع ذلك ؛ بل يكفي كونه مثبتا لما يثبته المعاضد ، وكونه في عرضه بالنسبة إلى إراءة الواقع ، ولا يعتبر كونه في عرضه من حيث المعارضة مع الآخر.

وبعبارة أخرى : يكفي في معاضدته معارضته مع الطرف الآخر في المضمون ، ولا يعتبر مقاومته معه في مقام المعارضة ؛ فتدبّر! وكيف كان ؛ فلا إشكال في صلاحيّة العموم للمرجحيّة ، ولذا عدل الشيخ أخيرا عمّا بنى عليه أولا ؛ حيث قال :

ويمكن التزام .. إلى آخره (٢).

هذا ؛ والعمدة ما ذكرنا (٣) من كون الترجيح بمقتضى القاعدة ، فلا مانع من شمول الأخبار أيضا ، وإلا فما ذكره من كون قلّة المورد قرينة على شمول الأخبار للصورة المفروضة ، وكذا بعض ما ورد في ردّ الخبر الدال على الجبر والتفويض ؛ لأنّه مخالف للكتاب مشكل ، ولا يصلح ما ذكره دليلا على ذلك ، إذ مع عدم حصول الترجيح بالموافقة للعموم يلزم كون الترجيح تعبّديا ، لكونه موجبا للقوّة ، فيكون نظير الترجيح بالأصل ، وهو بعيد ؛ مع أنّ قلّة المورد ممنوعة ، خصوصا إذا حملنا الأخبار على الأعم من وجه (٤) والمتباينين ، ولا يضرّ كون الثاني خارجا عن باب الترجيح ،

__________________

(١) قد كتب بعد هذه الكلمة وما شابهها مثل ـ المعاضد ـ كلمة : بالكسر ، وكذا : بالفتح أي المراد اسم الفاعل أو اسم المفعول ، فاستعضنا عنهما بوضع الحركة الدالّة على اسم الفاعل أو اسم المفعول.

(٢) فرائد الأصول : ٤ / ١٥٠.

(٣) في نسخة (د) : ما قد ذكرنا.

(٤) جاءت العبارة في نسخة (د) : على الأعم من العامين من وجه.

٥٥٩

كما عرفت ، ولا داعي إلى التخصيص بأحدهما كما يظهر من بيانه.

ودعوى قلّة صورة المخالفة بالتباين أيضا ممنوعة ، لأنّ القلّة إنّما هي في خصوص ما بأيدينا من الأخبار ، حيث إنّ العلماء السابقين كالصدوق والكليني وغيرهما أخرجوا الأخبار المخالفة للكتاب ، ونقّحوا كتبهم عنها ، وإلا فهي كانت كثيرة في زمان صدور هذه الأخبار ، والمدار عليه لا على زماننا كما هو واضح ، هذا مع أنّ القلّة لا توجب إشكالا ، إذ الغرض إذا كان بيان أنواع المرجّحات فلا يتفاوت الحال بين قلّة موردها وكثرته ؛ خصوصا إذا جعلنا ذلك من باب المثال ، وأنّ الغرض بيان الترجيح بمثل موافقة الكتاب ، فيشمل الترجيح بالسنّة ، وبما علم من الأخبار الأخر ، بل بمطلق ما يكون دليلا معتبرا مثل الكتاب.

وأمّا ما ورد من الروايات في ردّ الخبر الوارد في الجبر والتفويض ، فيمكن بأن يدعى أنّه ليس ممّا نحن فيه ؛ لأنّ المخالفة فيه للكتاب ليست بالعموم بل بالتباين ، غاية الأمر أنّ الكتاب ظاهر في نفي الجبر والتفويض ، وقد عرفت أنّ صورة التباين مشمولة لأخبار العرض مطلقا ، سواء كان الكتاب أظهر ، أو الخبر (أو تساويا) (١) ، فلا تكون هذه الروايات قرينة على شمول الأخبار للعام المطلق ، كيف ولو كان كذلك لزم طرح الخبر المخالف للكتاب بالعموم المطلق ولو لم يكن له معارض ، كما هو المفروض فيما دلّ على الجبر من الأخبار ، مع أنّ مقتضى القاعدة تخصيص الكتاب به ، فنحن نريد إثبات كون أخبار الترجيح بالموافقة شاملة للعام المطلق أيضا ، لا أخبار العرض ؛ إذ لا إشكال في اختصاصها بغير صورة كون الخبر المخالف أخص ؛ لأنّ المفروض والمعلوم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد إذا لم يكن له معارض ، إلا أن تنزّل تلك الأخبار أيضا على خصوص صورة التعارض ، وهو بعيد.

وبالجملة ؛ فهنا طائفتان من الأخبار :

إحداهما : أخبار العرض الدالّة على طرح المخالف للكتاب مطلقا ، ولو مع عدم المعارض ، وهذه لا بدّ من تخصيصها بصورة المباينة ؛ لأنّ تخصيص الكتاب بالخبر

__________________

(١) هكذا وردت في نسخة (د) وكانت في نسخة الأصل هكذا : إرشاديا.

٥٦٠