كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

الثمرة الثانية (١) :

إنّه بناء على كونه من المرجّحات المضمونيّة يتعدى منه إلى سائر المرجّحات المضمونيّة ممّا ليست منصوصة كالشهرة الفتوائيّة ، وعدم الخلاف في المسألة ، وظهور الإجماع .. ونحو ذلك ، وبناء على كونه من باب الحمل على التقيّة ؛ فلا يتعدى منه إلى غيره ، إذ ليس هناك شيء من سنخه حتى يتعدّى منه إليه إلا على البناء الذي اختاره الشيخ في الرسالة (٢) من التعدي إلى كلّ احتمال يوجب الأقربيّة ، وهذا التعدّي في غاية الضعف والركاكة ، بخلاف التعدي السابق.

نعم ؛ يمكن التعدي منه إلى الأمارات الدالّة على التقيّة (الموجودة في خصوص بعض الأخبار فإنّها من سنخ المرجّح المذكور ، فيتعدى إليها فيما إذا كان الخبران كلاهما موافقين للعامّة ، ويرجّح الخبر الذي ليس فيه أمارة جزئيّة على التقيّة) (٣) على الخبر الذي فيه تلك الأمارة ؛ بناء على مذهب صاحب الحدائق (٤) حيث لا يعتبر في الحمل على التقية موافقة العامّة.

إلا أنّ هذا التعدي أيضا مشكل ؛ لأنّ قوله عليه‌السلام «ما سمعتم منّي» إمّا يكون من باب الأمارة النوعيّة أو من باب نصب القرينة .. على ما عرفت ، وعلى الأوّل لا يخلو عن نوع تعبّديّة ، فلا يتعدّى منه إلى غيره ؛ فإنّه إذا جعل الشارع شيئا من باب الأمارة لا يتعدى منه إلى غيره من الأمارات ، وإلا لجاز التعدي من حجيّة الخبر الواحد إلى سائر الأمارات ، ومن حجيّة البيّنة إلى غيرها ؛ كالشياع مثلا ، ففي المقام قد جعل الشارع موافقة العامّة أمارة على التقيّة ، فلا يتعدى إلى الأمارات الموجودة في خصوصيّات الأخبار ، وعلى الثاني فالأمر أوضح ؛ لأنّه إذا نصب شيئا قرينة ، فلا يتعدى منه إلى غيره.

إلا أن يقال : يستفاد من الأخبار الترجيح بما يوجب الظنّ نوعا ؛ فيجوز التعدي

__________________

(١) في النسخ : الثمر الثاني.

(٢) فرائد الأصول : ٤ / ٥٣.

(٣) ما بين القوسين لا يوجد في نسخة (د).

(٤) الحدائق الناضرة : ١ / ٥ ـ ٨ المقدمة الثانية.

٥٠١

إلى الأمارات الجزئيّة على التقيّة ؛ لأنّها أيضا تفيد الظن نوعا ، والأولى أن يقال : إنّ الأمارات الجزئيّة في خصوص بعض الأخبار لا تنفك عن الظن الفعلي بالحكم الواقعي ، فيكون الترجيح بها من باب الترجيح بمطلق الظن الثابت بمقتضى القاعدة .. انتهى ملخّصا منقولا بالمعنى.

أقول :

أوّلا : إنّ ما ذكره من التعدي ـ بناء على الوجه الأول ـ إن أراد ذلك بملاحظة الفقرات المذكورة في الأخبار الشاهدة على التعدي ، وبملاحظة كون المستفاد من الأخبار أنّ المدار على مطلق ما يوجب القوّة ؛ فلا فرق بين الوجهين في التعدي ، وفي الحقيقة ليس التعدي من خصوص هذا المرجّح ، بل يتعدى من جميع المذكورات في الأخبار إلى مطلق المرجّح والمقوّي ، وإن أراد ذلك لا بملاحظتها وأن يتعدى من نفس هذا المرجّح ؛ فلا وجه له ، لما ذكره من أنّ جعل شيء حجّة من باب الظن النوعي لا يقتضي التعدي إلى غيره (١) ؛ فأوّل كلامه ينافي آخره ، وإن أراد أنّه لو بنينا على الوجه الأول فيكون دليلنا قوله عليه‌السلام «فإنّ الرشد في خلافهم» (٢) ، وهو يوجب التعدي بمقتضى كونه علّة منصوصة ؛ ففيه : أنّه بناء على كون الوجه في الترجيح هو الحمل على التقيّة لا بدّ من كون المراد من الفقرات المذكورة ل «أنّ الرشد في خلافهم» من باب أنّ الخبر الموافق لهم صدر تقيّة ، وإلا فلا (٣) يطرح هذا التعليل بالمرّة بناء على الوجه الثاني ، فيمكن التعدي منه إلى سائر الأمارات النوعيّة على التقيّة ، مع أنّ مقتضى التعليل بقوله عليه‌السلام «لا ريب فيه» التعدي ؛ فلا حاجة إلى التعليل ، والظاهر أنّ نظر الفاضل المذكور ليس ذلك (٤) ، بل غرضه أنّه يتعدى من خصوص اعتبار هذا المرجّح إلى غيره من المضمونيّات.

ثانيا : لا يعتبر في المتعدّى إليه السنخيّة ، بل يكفي كونه مفيدا للظنّ النوعي ،

__________________

(١) في نسخة الأصل : وإلى غيره.

(٢) الكافي : ١ / ٧ ، الوسائل : ٢٧ / باب ٩ حديث ١٩.

(٣) لا توجد كلمة «وإلا» في نسخة (د).

(٤) في نسخة (د) : ليس إلى ذلك.

٥٠٢

وموجبا لقوّة الخبر.

وثالثا : لا وجه لما ذكره من ابتناء التعدي إلى الأمارات الجزئيّة على مذهب صاحب الحدائق ، إذ بناء على التعدي إلى ما يوجب القوّة من باب الحمل على التقيّة ؛ لا يحتاج إلى موافقة العامّة أو مخالفتهم ؛ بل (١) المدار على وجود أمارة على التقيّة صالحة للحمل عليها ، واعتبار موافقة العامة في الحمل على التقيّة عند غير صاحب الحدائق إنّما هو في غير الأمارات الخاصّة ، بل من باب مجرّد الاحتمال فإنّه يعتبر فيه موافقتهم ، وأمّا مع وجود الأمارات عليها فلا حاجة إلى ذلك عند الجميع بناء على التعدي إلى كلّ مرجّح.

ثمّ لا يخفى أنّه يظهر من آخر كلامه أنّ اعتبار هذا المرجّح من باب الظن النوعي ، ولذا ذكر أنّ الأمارات إذا لم تنفكّ عن الظنّ الفعلي فهي داخلة تحت الترجيح بمطلق الظن ، يعني لا حاجة حينئذ إلى إثبات التعدي وعدمه ، وهذا مناف لما سبق منه من اعتبار الظن الفعلي في المرجّحات (٢) ؛ من غير فرق بين المنصوصات وغيرها ، بل جعل اعتبار الظن الفعلي في هذا المرجّح شاهدا على اعتباره في سائر المنصوصات ، بل قال هناك في آخر كلامه : «القول باعتبار الظن النوعي في المرجّحات غلط صرف ؛ فتدبّر!».

ثمّ إنّ الأمارات الموجودة في خصوصيّات الأخبار إنّما تحتاج إلى إثبات التعدي إذا لم تكن راجعة إلى القرائن المكتنفة بالكلام ؛ وإلا فهي معتبرة على كل حال ويحمل الخبر من أجلها على التقيّة ، ولو لم نقل بالتعدي عن المنصوصات ، بل ولو كان الخبر بلا معارض ، وكذا إذا كانت ممّا يصدق معا (٣) كون الخبر شبيها بقول العامّة فإنّها داخلة تحت قوله عليه‌السلام «ما سمعتم .. إلى آخره».

ثمّ إنّ هذه الثمرات ـ على تقدير تماميّتها ـ إنّما تنفع إذا لم يمكن الجمع بين الوجهين ، وأمّا على المختار من صحّة الاستناد إلى الوجهين ، وأنّ كلتا الغلبتين ثابتة

__________________

(١) من قوله «إلى ما يوجب ـ إلى قوله ـ بل ..» لا يوجد في النسخة (ب).

(٢) راجع لما نقله عنه المؤلف : ص ٤٢١ ، ٤٤٩ ، ٤٥١.

(٣) هكذا في النسخ ، والظاهر أنّها : معها.

٥٠٣

فلا ثمرة ؛ لأنّه حينئذ من المرجّحات المضمونيّة والجهتيّة معا ، فيتفرع عليها (١) حكمهما معا ، ولازمه التقديم على المرجّحات الصدوريّة بلحاظ كونهما (٢) مضمونيّة (٣) ، وجريانه في الظنيّين والقطعيين بلحاظ كونه (٤) جهتيّة (٥) ، والتعدي إلى سائر المضمونيّات وإلى الأمارات الدالّة على التقيّة ، مع موافقهما معا للعامّة.

ثمّ إنّه يمكن أن تذكر ثمرة أخرى بين الوجهين وهي : إنّه إذا كانت التقيّة ـ على فرضها ـ في ظاهر الخبر لا في أصل صدوره ، فلو حمل على التقيّة يؤخذ بالمعنى التأويلي فيه ، ولو مع عدم الانحصار ، فيثبت به نفي احتمال خارج عن المحتملات ، بخلاف ما إذا أخذنا بالمخالف من باب كون الرشد في خلافهم ، فإنّه لا يؤخذ بالموافق حينئذ أصلا ؛ فتدبّر! فإنّه مبني على أن يكون معنى الترجيح من باب التقيّة الحكم بصدور الحكم الموافق (٦) تقيّة ، وهو ممنوع ؛ بل لا دلالة في الأخبار على أزيد من الأخذ بالمخالف ؛ لأنّ الموافق لعلّه صدر تقيّة ، لا أنّه يحكم بصدوره تقيّة بعد أخذه ، خصوصا على مذاق الشيخ من الاستناد في ذلك إلى مجرّد الاحتمال من جهة قوله عليه‌السلام «لا ريب فيه» ، وسيأتي زيادة بيان لهذا إن شاء الله.

الأمر الثاني (٧) : [في الخبر الصادر تقيّة وحكم التورية]

قال في الرسالة (٨) : إنّ الخبر الصادر تقيّة يحتمل أن يراد به ظاهره ، فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة ، ويحتمل أن يراد منه تأويل مختف على المخاطب ، فيكون من قبيل التورية ، وهذا أليق بالإمام عليه‌السلام ، بل هو اللائق إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكن من التورية ؛ انتهى.

قلت : لا يترتب ثمر على هذا المطلب ؛ إذ لا يمكن الأخذ بالمعنى التأويلي ، ولو

__________________

(١) في نسخة (ب) و (د) : عليه.

(٢) في نسخة (ب) و (د) : كونها.

(٣) أي بلحاظ كون الغلبتين من المرجّحات المضمونيّة.

(٤) في نسخة (ب) و (د) : كونه.

(٥) أي من المرجّحات الجهتيّة.

(٦) في نسخة (ب) و (د) : الحكم بصدور الموافق تقيّة.

(٧) هذا هو الأمر الثاني من الأمور التي أراد المصنف قدس سرّه التنبيه عليها.

(٨) فرائد الأصول : ٤ / ١٢٨.

٥٠٤

مع انحصاره بالنسبة إلى مقام الحكم ، لاحتمال أن لا يكون هناك معنى شرعيّا يمكن أن يراد من اللفظ ، وكذا مع الدوران بين أمور لا يؤخذ بها في نفي الخارج عنها ، لما ذكرنا.

نعم ؛ لو علمنا أنّ التقيّة في إلقاء الظاهر لا في أصل الصدور ؛ بأن لا يكون الإمام عليه‌السلام مضطرا إلى التكلّم بشيء في تلك المسألة أمكن الأخذ بالمعنى التأويلي مع الانحصار ، ونفي الخارج مع التعدد ، لكنّه فرض بعيد ؛ مع أنّه ليس من جهة وجوب التورية ، بل من أجل العلم بأنّ التقيّة في إلقاء الظهور لا في أصل الصدور ، فما اختاره بعض الفقهاء من الحكم باستحباب الوضوء عند خروج المذي ، وبعد الرعاف والقيء .. ونحوها من جهة حمل الأخبار الواردة في ذلك على الاستحباب ـ بعد حملها على التقيّة ـ بدعوى أنّ التقيّة في إظهار الوجوب ؛ لأنّه مذهب العامّة فيكون المراد الاستحباب ، لا وجه له إلا بعد إحراز أنّ الامام عليه‌السلام لم يكن مضطرا في أصل صدور الخبر ، وإنّما كان الاضطرار ـ على فرض البيان ـ إلى إظهار الوجوب ، فيكون مراده المعنى المجازي ، وهو الاستحباب.

ولكن أنّى يمكن إثبات ذلك ، إذ غاية الأمر أنّ الخبر ليس جوابا عن سؤال ، بل ابتداء بيان منه عليه‌السلام ؛ لكن يمكن أن يكون ـ مع ذلك ـ أصل الصدور تقيّة.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا إنّما ينفع إذا علمنا بصدور الخبر تقيّة أو كان مقرونا بقرائن التقيّة ، وإلا ففي مقام الترجيح في المتعارضين لأجل موافقة العامّة لا ينفع ، ولو علمنا أنّه ـ على فرض كونه تقيّة ـ تكون التقيّة في ظهوره لا في صدوره ، وذلك لما عرفت من أنّ مقتضى الترجيح ليس هو الأخذ بالموافق وحمله على التقيّة ، بل مجرّد الأخذ بالمخالف ، وأنّ الموافق لعلّه صدر تقيّة من جهة وجود الأمارة عليها.

ثمّ إنّ ما ذكره الشيخ من وجوب التورية على الإمام عليه‌السلام وإرادة خلاف الظاهر إنّما يتم إذا كانت التقيّة في مقام البيان ، ومن الإمام عليه‌السلام ، لا في عمل الراوي ، وإلا فيرد (١) الإمام عليه‌السلام ظاهر الكلام الملقى إلى ذلك الراوي ، إلا أن يكون التعبير بمثل قوله عليه‌السلام

__________________

(١) في نسخة (ب) و (د) : فيريد. والظاهر صحّة هذه الكلمة.

٥٠٥

الحكم كذا ، لا بمثل قوله افعل كذا كما لا يخفى!

بقي شيء لا بأس بالإشارة إليه ، وهو أنّ بعض الأفاضل (١) ذهب إلى أنّ التورية لا تخرج الكلام عن الكذبيّة إلا بناء على القول بالكلام (٢) النفسي ؛ الذي هو مذهب الأشاعرة ، وجعل هذا من ثمرات القول بالكلام النفسي مضافا إلى ثمرات أخرى من هذا القبيل ، كالقول بأنّ الطلب مغاير للإرادة ، وكالقول بأنّ البيع إنشاء تمليك عين ، فإنّهما لا يصحّان إلا على القول بالكلام النفسي ، وكوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، والاستصحاب التعليقي ، والواجب المعلّق ، وأمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه ، ونحن نشير إلى ما ذكره في التورية ليكون أنموذجا للبقيّة فنقول :

ملخّص ما ذكره في بيان ذلك : أنّ الصدق والكذب من صفات الكلام ، والكلام هو اللفظ المستعمل في المعنى ، والاستعمال لا يتحقق إلا إذا كان الغرض التفهيم ، فمجرّد قصد المعنى من اللفظ من دون إرادة تفهيمه لا يعدّ استعمالا ، وحينئذ فنقول : إنّ المورّي لم يرد من اللفظ ظاهره الذي قصد تفهيمه ، وعلى فرضه يكون كذبا ، فمن هذه الحيثيّة لا يتصف كلامه بالصدق ، وأمّا بالنسبة إلى المعنى الذي أراده فحيث لم يرد تفهيمه لا يكون استعمالا ، فلا يكون لفظه كلاما ؛ ليتصف بالصدق ، غاية الأمر أنّه تصور في نفسه معنى وقضيّة معقولة ، فإن قلنا بالكلام النفسي نقول إنّ إدراك (٣) القضيّة المعقولة كلام نفسي صادق من جهة مطابقته للواقع ، وإن لم نقل

__________________

(١) قد أشار لهذا الأمر في حاشيته على المكاسب عند قول الماتن «من مقولة المعنى دون اللفظ» ، وذكر أنّ هذه الفاضل ـ ويقصد به الميرزا الرشتي ـ تكرر مبناه هذا في عدة مطالب وهي (قال) :

منها : أنّ ايجاب المقدمة قبل وجوب ذيها موقوف على الكلام النفسي.

منها : أنّ تصوير الواجب المعلق موقوف على الكلام النفسي.

منها : أنّ كون التورية خارجة عن حد الكذب موقوف على الكلام النفسي.

وقال : وقد ذكرنا بعض الكلام عليه في مسألة التعادل والترجيح في مقام التعرّض لوجوب التورية على الامام عليه‌السلام عند التقيّة فراجع (يقصد به هذا الموضع من كتب التعارض) ، لكن الذي يترجح عندنا الآن هو كونه اسما للمعنى ؛ لما نرى من تفسير أكثر المحققين من الفقهاء وأهل اللغة إيّاه بالنقل الذي هو من المعاني ، وللتبادر ، وعدم صحة السلب.

(٢) لا توجد كلمة «الكلام» في نسخة (د).

(٣) كتب في نسخة (د) بدل كلمة «إدراك» كلمة «تلك».

٥٠٦

بذلك فلا يكون هناك كلام صادق ، فإنّ (١) المفروض أنّ الكلام اللفظي ليس بمستعمل ، بل ليس بكلام ، والنفسي لا نقول به بالفرض ، وعلى الأول وإن كان صدق ذلك الكلام النفسي لا دخل له بالكلام اللفظي ، إلا أنّه يمكن تتميمه وتصحيحه بدعوى : أنّه يكفي في صدق الكلام اللفظي مقارنته لكلام نفسي صادق ؛ لأنّ الأشاعرة ذكروا أنّ صدق اللفظي وكذبه تابعان لصدق النفسي وكذبه ، وأنّهما لا ينفكّان ؛ فيثبت (٢) أن خروج الكلام بالتورية عن حدّ (٣) الكذب موقوف على الكلام النفسي ، وحيث إنّ هذا باطل على ما بيّن في محلّه فالتورية باطلة ، بل عند الاضطرار لا بدّ من الكذب ؛ إذ هو جائز عند الضرورة.

أقول :

أولا : لا نسلم أنّ الاستعمال لا يتحقق إلا إذا كان بقصد التفهيم ، وإلا لزم كون جميع الظواهر التي أريد خلافها لقرائن متأخّرة عن زمان الصدور ، بل عن زمان حياة المخاطب غلطا ، وليس كذلك قطعا ، مع أنّ مثل قولنا : الله أكبر أو سبحان الله ، ليس الغرض منه التفهيم ، وكذا قراءة القرآن ليس لأجل التفهيم وهكذا ...

وإمكان الجواب عن بعض هذه المذكورات لا يضرّ بأصل المطلب ، وهو منع توقّف الاستعمال على التفهيم ، كما هو واضح (٤) ، وعلى فرضه فلا يرد على القائلين (٥) بصحّة التورية إلا إيراد واحد وهو أنّ التورية غلط ؛ لأنّ إرادة المعنى من دون قصد التفهيم غير جائز ، وغير صحيح ، وخارج عن قواعد اللغة ، وأمّا ابتناؤه على الكلام النفسي فلا وجه له ، وليس نظر العلماء إليه أصلا وبالمرّة ، كيف؟ وكون القضيّة المعقولة صدقا لا دخل لها بكون الكلام ـ الذي هو غلط ، بل غير كلام ـ صدقا ، ومجرد المقارنة لا يصحّح ذلك ؛ بعد عدم إمكان إرادة هذا المعنى البعيد من اللفظ ، فهو نظير أن يقال كون هذا الكلام الذي يكون خارجا عن حدّ الصحّة ، بل عن

__________________

(١) في نسخة (د) : لأنّ.

(٢) في نسخة (ب) و (د) : فثبت.

(٣) لا توجد كلمة «حد» في نسخة (ب).

(٤) إلى هنا وتنتهي المقابلة مع النسخة (ب) ، وذلك لعدم تماميتها.

(٥) في نسخة (د) هكذا : فلا يرد على المشهور القائلين.

٥٠٧

الكلاميّة صدقا موقوف على صدور كلام مثله من المتكلّم بالأمس ، مع نصب القرينة ، ومن المعلوم بطلانه.

ودعوى أنّ القضية المعقولة أمر مقارن للكلام اللفظي ، ومطابق لما أراد المتكلّم ففرق بينها وبين ما ذكرت كما ترى ، وما ذكره الأشاعرة من أنّ الصدق والكذب في الكلام اللفظي تابعان لهما في الكلام النفسي إنّما هو إذا كان الكلام النفسي مدلولا للكلام اللفظي ، لا إذا كان أجنبيا عنه ـ كما هو المفروض ـ حيث إنّهم يجعلون الكلام النفسي معنى الكلام اللفظي ، وأنت تقول لا يمكن إرادة المعنى البعيد من الكلام اللفظي في المقام ، وإلا لم يحتج إلى إثبات الكلام النفسي.

ثمّ لو فرض كفاية صدق القضيّة المعقولة في صدق الكلام اللفظي في المقام فمن المعلوم إمكان تصوير هذه القضيّة ، وتسميتها كلاما نفسيّا وعدم تسميتها لا دخل له (١) في صدق هذا الكلام ، وإن كان له (٢) دخل في اتّصاف تلك القضيّة بالصدق بناء على أنّه لا يتصف بالصدق والكذب غير الكلام ، لكنّ هذا البناء ممنوع ، لأنّا نرى صحّة توصيف الحديث النفسي بالصدق والكذب ، مع عدم كونه كلاما.

ثمّ إنّ الفاضل المذكور اختار أنّ التورية كذب ـ خلافا للمشهور ووفاقا للمحقق القمي (٣) ـ قائلا : إنّ الصدق والكذب تابعان لما يفهم من اللفظ عرفا ، والمفروض أنّ العرف يفهم ظاهر اللفظ دون ما قصد.

وأنت خبير بما فيه ؛ فإنّ الصدق إذا كان فرع الاستعمال ـ على ما ذكره ـ فمن المعلوم أنّ الاستعمال فرع الإرادة من اللفظ ، والمفروض أنّ ظاهر اللفظ غير مراد فهو غير مستعمل فيه ، فلا وجه للحكم بكونه كذبا إلا في نظر المخاطب ، حيث يتخيل أنّ المراد ظاهره ، ولعلّ هذا مراد المحقق القمّي رحمه‌الله ، لا أنّه كذب واقعا ، فهذا الكلام من هذا الفاضل إفراط في مقابل التفريط السابق من اشتراط قصد التفهيم في

__________________

(١) في نسخة (د) : لا دخل لهما.

(٢) في نسخة (د) : لهما.

(٣) قد ذكر الشيخ الأعظم في مكاسبه من بحث التورية نظر الفاضل القمي ـ قوانين الأصول : ١ / ٤١٩ ـ من أنّ المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام لا ما هو المراد منه. المكاسب : ٢ / ١٨.

٥٠٨

الاستعمال.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر من أنّ صدق التورية مبني على أمر محال ؛ وهو الكلام النفسي حاول توجيه (١) الأخبار الظاهرة في أنّها خارجة عن الكذب ، وهي عدّة أخبار :

منها : ما عن مستطرفات السرائر (٢) عن كتاب ابن بكير قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يستأذن عليه يقول للجارية قولي ليس هو هاهنا؟ فقال لا بأس ليس بكذب».

وتقريب الاستدلال : أنّ الإمام عليه‌السلام نفى الكذب عن قولها ذلك ، وهذا يدلّ على أنّ المشار إليه ب «هاهنا» موضع خاص من البيت ، فيكون من التورية.

ومنها : ما عن الاحتجاج (٣) أنّه سئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى في قصة إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)(٤) قال : ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم عليه‌السلام ، قيل وكيف ذلك فقال : إنّما قال إبراهيم (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا ، فما نطقوا وما كذب إبراهيم».

وسئل عن قوله تعالى (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)(٥) قال : إنّهم سرقوا يوسف من أبيه ألا ترى أنّهم قالوا (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) ولم يقولوا سرقتم صواع الملك».

وسئل عليه‌السلام عن قول الله عزوجل حكاية عن إبراهيم (إِنِّي سَقِيمٌ)(٦) قال : ما كان إبراهيم سقيما ، وما كذب ؛ إنّما عنى سقيما في دينه أي مرتادا» (٧).

ودلالة هذا الخبر في كمال الوضوح.

ومنها : ما عن معاني الأخبار (٨) عن داود بن فرقد قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) في النسخة المعتمدة : توجيح ؛ والصواب ما ذكرناه لمناسبة الكلام.

(٢) مستطرفات السرائر : ٣ / ٦٣٢ ، الوسائل : ١٤ / باب ١٤١ من أبواب أحكام العشرة ، حديث ٨.

(٣) الاحتجاج : ٢ / ١٠٥.

(٤) الأنبياء : ٦٣.

(٥) يوسف : ٧٠.

(٦) الصافات : ٨٩.

(٧) الاحتجاج : ٢ / ١٠٥.

(٨) معاني الأخبار : ١ / ١ ، الوسائل : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٧.

٥٠٩

يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب» ، ودلالة هذا الخبر أيضا في تمام الوضوح.

قال الفاضل المذكور : أمّا الخبر الأول فلا دلالة فيه ؛ لأنّه ليس في الخبر إلا الحكم بنفي الكذب ، وهو محتمل لأن يكون نفيا لحكمه لا لموضوعه ، حتى يحتاج إلى التوجيه المذكور ، ويكون دليلا على نفي كون التورية كذبا.

قلت : هذا التوجيه له وجه ، وإن كان يمكن أن يقال إنّ ظاهر اللفظ نفي الموضوع لا نفي الحكم ، لا أنّ مثل هذه اللفظة كثيرا ما تستعمل في نفي الكمال والصحّة والحكم ونحوها .. ، ففي المقام محتمل للأخير.

قال : وأمّا الخبر الثاني فيمكن أن يقال إنّ التفاسير الواردة عن الإمام عليه‌السلام جملة منها من باب أنّ الكلام كان محفوفا بقرينة حاليّة اختفت على غير المخاطبين فيبين (١) الإمام عليه‌السلام المعنى الذي كان ظاهرا من اللفظ ، وإن لم يكن كذلك الآن من جهة خفاء القرينة ، ومن المعلوم أنّ مثل هذا لا يعدّ من التورية.

وجملة منها من باب البطون ، وهي ليست من المستعمل فيه للفظ حقيقة فنقول :

إنّ تفسير الفقرة الأولى من باب الأول ؛ فالإمام عليه‌السلام بيّن أنّ الآية كانت ظاهرة في المعنى فاختفت القرينة ، وتفسير الفقرتين الأخيرتين من باب البطون ، ولا دخل له بباب التورية.

قلت : لا يخفى أنّه لا يمكن حمل المقام على ما ذكره من خفاء القرينة الحاليّة ، ولا على البطون ، وذلك لأنّ المفروض أنّ إبراهيم أراد إخفاء الأمر على أعدائه من الكفّار فتكلم بهذا الكلام ، ومع وجود القرينة على المراد الواقعي لا يكون الأمر مختفيا ، وهو مناف لكونه في مقام التقيّة ، وإن أراد أنّ الآية حين صدورها كانت ظاهرة في هذا المعنى عند المخاطبين ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فمن الواضح كونه أجنبيّا عن السؤال والجواب في الخبر ، وهذا من الواضحات ، وكذا لا يمكن حمل البيان المذكور من الإمام عليه‌السلام على البطون ؛ لأنّ يوسف عليه‌السلام أراد إخفاء الأمر على

__________________

(١) في نسخة (د) : فبيّن.

٥١٠

أخوته ، فمع إظهاره لمراده من سرقة يوسف دون صواع الملك كيف يحصل غرضه؟

وكذا قوله تعالى (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وهذا ممّا لا يحتاج إلى البيان.

وبالجملة الآيات إخبار عن القضايا السابقة الواقعة على هذه الكيفيّات ، وهي بظاهرها كذب من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) ، فأراد الإمام عليه‌السلام أن ينزّه كلامه عن الكذب فقال : إنّ مراده كذا وكذا ، وهذا لا دخل له بالبطون ، ولا بإخفاء (٢) القرينة الحاليّة على غير المخاطبين الموجودين في زمان نزول الآية ، فهذه التوجيهات نظير أصل المطلب كما هو واضح.

وقال : وأمّا الأخير فمحمول على أنّ المراد أنّ الإنسان يمكنه (٣) عدم الكذب بالعدول عن كلام إلى كلام آخر لا يكون كذبا ، فإذا سأله سائل ولم يرد الجواب الواقعي فله أن يعدل عن الجواب إلى مطلب آخر.

قلت : وأنت خبير بما فيه ، وأنّه مثل أصل المطلب في وضوح الفساد ؛ وذلك لأنّ الخبر صريح في أنّ الكلام الصادر منّا ينصرف إلى وجوه ، وأنّ الكلمة الواحدة الصادرة كذلك ، وبمضمون هذا الخبر أو قريب منه أخبار أخر :

منها : ما عن البصائر (٤) عن الأحول عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا .. إنّ كلامنا لينصرف إلى سبعين وجها».

ومنها : ما عنها (٥) أيضا عن علي بن أبي حمزة قال : دخلت أنا وأبو بصير على أبي عبد الله عليه‌السلام فبينما نحن قعود إذ تكلّم أبو عبد الله عليه‌السلام بحرف فقلت في نفسي هذا والله حديث لم أسمع مثله قط ، قال فنظر في وجهي ثمّ قال : «إنّي أتكلّم بالحرف الواحد لي فيه سبعون وجها إن شئت أخذت كذا وإن شئت أخذت كذا».

__________________

(١) أثبتناها من نسخة (د).

(٢) في نسخة (د) : باختفاء.

(٣) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : لا يمكنه عدم الكذب.

(٤) بصائر الدرجات : ٣٤٩ حديث ٦ ، معاني الأخبار : ١ / ١ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / باب ٩ حديث ٢٧.

(٥) أي عن بصائر الدرجات : ٣٤٩ حديث ٣ ، نقله عنه الكراجكي في الخرائج والجرائح : ٢ / ٧٦٢ ح ٨١.

٥١١

ومنها : ما عن معاني الأخبار (١) عن إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه ، ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا ، إنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف إلى سبعين وجها ؛ لنا من جميع ذلك المخرج».

ومنها : ما عن البصائر (٢) أيضا في حديث قال الإمام عليه‌السلام في آخره : «.. إنّ له عندي سبعين وجها» .. إلى غير ذلك.

فانظر إلى صراحة هذه الأخبار في أنّ الكلام الواحد الصادر منهم لهم محامل تبلغ السبعين ، لا أنّ لهم أن يعدلوا عن الجواب إلى مطلب آخر ، وأنّ لهم أن يتكلّموا بسبعين كلاما ، وهذا ممّا لا يحتاج إلى البيان.

هذا ؛ ويمكن الاستدلال بهذه الأخبار أيضا على عدم كون التورية كذبا ، وإن لم يذكر فيها أنّ ما أريد منها من المحامل ليس بكذب ، وذلك لأنّ من المعلوم أنّ ظاهر الخبر الذي له محامل عديدة واحدة ، فإرادة البقيّة لا يكون إلا من قبيل التورية ، والظاهر أنّ المراد من السبعين إمكان إرادة كل واحد منها ، لا أنّ الجميع مراد فتدبّر!.

ثمّ إنّه قال بعد هذه التوجيهات : إنّا نجيب عن الأخبار المذكورة ثانيا بأنّ التمسك بأخبار الآحاد في المقام خارج عن السداد.

وذلك لأنّ المقصود إن كان إثبات الكلام النفسي بذلك من حيث إنّ كون التورية صدقا موقوف على إثباته كما بينا ، فهو غير جائز ؛ لأنّه إثبات لمسألة عقليّة علميّة (٣) بخبر الواحد ، مع أنّ بطلانه معلوم ؛ فلا بدّ من طرح الأخبار.

وإن كان المقصود إثبات كون التورية صدقا فنقول : إنّه من المسائل اللغويّة والمرجع فيها العرف واللغة ، ولا يكون الخبر الواحد فيها حجّة ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الحكم ـ وهو جواز الكذب عند الضرورة ـ معلوم ، وإنّما الكلام في أنّ

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢ / حديث ٣.

(٢) لم نعثر على هذا اللفظ في البصائر ، بل الموجود منه : إني لأتكلم على سبعين وجها لي في كلها المخرج.

(٣) الكلمة غير واضحة ؛ ويحتمل كونها : عمليّة. إلا أنّ المناسب للمطلب وكما هو في نسخة (د) : علميّة.

٥١٢

التورية صدق حتى يجب العدول إليها للتحرز عن الكذب أو لا ، فيكون الإشكال في الموضوع ، وأنّ التورية صدق أو لا ؛ فلا يجوز إثباته بخبر الواحد.

قلت : إنّا لا نريد (١) إثبات الكلام النفسي بذلك ، إذ هو أجنبي عن التورية ـ كما عرفت ـ بل غرضنا إثبات أنّ التورية صدق ، وأنّها ليست محالا ، ومن المعلوم أنّ ذلك يثبت بخبر الواحد ، إذ هو وإن كان من الموضوعات إلا أنّ الحكم الشرعي الكلي يتوقّف عليه ، وهو وجوب العدول عن الكذب إليها ، والموضوعات (٢) الخارجيّة التي تكون من هذا القبيل تثبت بخبر الواحد ؛ مع أنّ الحق أنّ الخبر الواحد حجّة في الموضوعات مطلقا ، على ما بيّن في محلّه ، مع أنّ الأخبار في المقام مستفيضة ، بل يمكن دعوى كونها أكثر ممّا ذكرنا ، يظهر ذلك لمن تتبع [...](٣).

وممّا يمكن الاستدلال به : قوله عليه‌السلام لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : كم آية يقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : «ثمانين» ، ولم يعد السائل فقال عليه‌السلام : «هذا يظنّ أنّه من أهل الإدراك» ، فقيل : ما أردت بذلك؟ وما هذه الآيات؟ فقال عليه‌السلام : «أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيدان على عشر آيات (٤) ، ونافلة الزوال ثمان ركعات» (٥).

وذكر الشيخ في الرسالة (٦) أنّه ورد مستفيضا أنّه لا يجوز ردّ الخبر ولو كان ممّا ينكر (٧) ظاهره ، حتى إذا قال للّيل إنّه نهار والنهار إنّه ليل (٨) ، وعلّل فيها بأنّه يمكن أن يكون له محمل ، ولم يتفطّن السامع له فينكره فيكفر من حيث لا يشعر ، فهذه تدلّ على جواز إرادة خلاف الظاهر من غير نصب قرينة ، ومن المعلوم أنّه من قبيل التورية

__________________

(١) في النسخة المعتمدة هكذا : نذير ؛ والصواب ما كتبناه.

(٢) في النسخة : الموضوعيات.

(٣) كلمتان غير واضحتين : ويحتمل أن تكونا : نافلة الزوال. ولا يوجد منهما أثر في نسختي (ب) و (د).

(٤) في المصدر هكذا : فإنّ الحمد سبع آيات وقل هو الله أحد ثلاث آيات فهذه عشر آيات.

(٥) الكافي : ٣ / ٣١٤ حديث ١٤ ، الوسائل : ٦ / الباب ١٣ من أبواب القراءة ، حديث ٣.

(٦) فرائد الأصول : ٤ / ١٣٢.

(٧) لا توجد كلمة «ينكر» في نسخة (د).

(٨) بحار الأنوار : ٢ / ١٨٧ حديث ١٤.

٥١٣

؛ فتدبّر!.

(هذا ؛ مع إنّ أصل المطلب ـ بحمد الله ـ من الواضحات ، هذا جناي وجناه (١) ؛ بلّغني الله وإيّاه مناي ومناه ، وشكر الله عناي وعناه (٢) ، بحق محمد وآله الطاهرين وحشرنا الله معهم في يوم الدين) (٣).

الأمر الثالث : [لزوم تخالف الخبرين لتسويغ التقيّة]

لا إشكال في أنّه يعتبر في الحمل على التقيّة في مقام ترجيح أحد الخبرين على الآخر كون أحدهما موافقا لهم ، والآخر مخالفا ، وإلّا فمع موافقتهما أو مخالفتهما لا يمكن الترجيح إلا بما سيجيء من موافقة ميل الحكّام والقضاة في صورة موافقتهما لهم.

نعم ؛ يمكن الترجيح إذا علم عدم صدور أحدهما تقيّة ، واحتمل ذلك في الآخر بناء على ما سيجيء من الأخبار من أنّهم قد يلقون الخلاف بين الشيعة ؛ لكنّه حينئذ مبنيّ على التعدي عن المنصوصات ، فإنّ ما ذكرنا ليس من المنصوص كما هو واضح ، وكذا يمكن الترجيح إذا علم عدم وجود قول بينهم موافق لأحد الخبرين ، واحتمل وجود قول بينهم موافق للآخر ، وربّما يحكى عن صاحب الحدائق الحمل على التقيّة في صورة مخالفتهما لهم أيضا ، ويورد عليه بعدم معقوليّة ذلك ، بل حكي عن بعض الأساطين (٤) أنّه عدّ هذا في جملة المطاعن على ما ذهب إليه (٥) ، ولعلّ النسبة المذكورة من جهة ما ذكره في مقدمات الحدائق ـ على ما حكي عنه ـ

__________________

(١) الجني والجنى ؛ ما يحصله الشخص من ثمر ونتاج لما سبق منه الترتيب له من قول أو فعل أو غرس لشجر ، ومنه قوله تعالى (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) ، فإذا أضيفت إلى الضمير توسطت الألف بينها والضمير ، وهو شأن الكلمة المنتهية بألف مقصورة كما في جنى وعنى وغنى ومنى و.. و...

(٢) هاتان الكلمتان وكذا ما سبقهما ـ مناي ومناه ـ الكلام فيهما كما ذكرنا في جناي وجناه ، والمراد بالعنى التعب.

(٣) ما بين القوسين هنا لا يوجد في نسخة (د).

(٤) هو الوحيد البهبهاني كما سيأتي من المؤلف ذكره لاحقا ، كما يحتمل إرادة الشيخ جعفر الكبير في رسالته الفروق بين المجتهدين والأخباريين.

(٥) المقصود من الضمير الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق.

٥١٤

وفي الدّرر النجفيّة من أنّه لا يشترط في الحمل على التقيّة الموافقة لمذهب العامّة ، لما يظهر من الأخبار من أنّهم عليهم‌السلام يلقون الخلاف بين الشيعة حقنا لدمائهم.

قال في الدّرر النجفيّة (١) : المشهور بين أصحابنا تخصيص الحمل على التقيّة في الأخبار بوجود قائل بين العامّة بذلك ، والذي يظهر لي من الأخبار خلاف ما هناك وهو أنّهم يوقعون الاختلاف بين الشيعة وإن لم يكن ثمّة قول للعامّة ، فمن الأخبار في ذلك ما رواه في الكافي (٢) في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاء رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثمّ جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رجلان من العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال : «يا زرارة إنّ هذا خير لنا ولكم ، فلو اجتمعتم على أمر لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم ، قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال فأجابني بمثل جواب أبيه عليه‌السلام».

أقول : (٣) انظر إلى صراحة هذا الخبر واختلاف أجوبته عليه‌السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد ، وتعجب زرارة ، ولو كان الاختلاف إنّما وقع لموافقة العامّة لكفى ، جواب واحد بما هم عليه يومئذ ، ولما تعجّب زرارة لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بما يوافق العامّة تقيّة ، وانظر إلى صراحة جوابه عليه‌السلام في تعليل الاختلاف بما يؤيد ما قلناه من أنّهم خالفوا بين الشيعة لئلا يصدقهم العامّة عليهم ، بل يكذبوهم في روايتهم ذلك عنهم عليهم‌السلام ، ولعلّ السرّ في ذلك أنّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كلّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر يستخفّ بمذهبهم (٤) في نظر العامّة وكذّبوهم في نقلهم ، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين ، وهانوا في نظرهم ؛ بخلاف

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ٢ / ٣١١.

(٢) الكافي : ١ / ٦٥ حديث ٥.

(٣) في نسخة (د) : أقول فيه.

(٤) في النّسخ : يستخف به مذهبهم.

٥١٥

ما إذا اتفقت كلمتهم ، وتعاضدت مقالتهم ، فإنّهم يصدقونهم ويشتدّ بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ، فيصير ذلك سببا لثوران العداوة.

ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب (١) في الصحيح ـ على الظاهر ـ عن سالم بن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله انسان وأنا حاضر فقال ربّما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلي العصر وبعضهم الظهر فقال عليه‌السلام : «أنا أمرتهم بهذا ، لو صلّوا على وقت واحد لعرفوا فأخذوا برقابهم» ، وهو أيضا صريح في المطلوب ، إذ لا يخفى أنّه لا تطرق للحمل على موافقة العامّة ، لاتّفاقهم على التفريق بين وقتي الظهر والعصر ، وهو مواظبتهم على ذلك.

وما رواه في العدّة (٢) عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت فقال عليه‌السلام : «أنا خالفت بينهم».

وما رواه في الاحتجاج (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له إنّه ليس شيء أشدّ عليّ من اختلاف أصحابنا قال : «وذلك من قبلي».

وما رواه في معاني الأخبار (٤) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «اختلاف أصحابي لكم رحمة» ، وقال : «إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد» ، وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال عليه‌السلام : «أنا فعلت ذلك بكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذوا برقابكم».

وما رواه في الكافي (٥) عن موسى بن أشيم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله فأخبره بها ، ثمّ دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني من ذلك ما شاء الله .. إلى أن قال : فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني ، وأخبر صاحبي وما أخبر سابقيه ، فسكنت نفسي وعلمت أنّ ذلك منه تقيّة ، ثم التفت إليّ

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٥٢ حديث ١٠٠٠.

(٢) العدة في أصول الفقه : ١ / ١٣.

(٣) هذا الحديث مذكور في علل الشرائع ـ باب ١٣١ حديث ١٤ ـ ولم ينقله البحار إلا عن العلل فقط دون الاحتجاج ونحن كذلك لم نعثر عليه في الاحتجاج.

(٤) معاني الأخبار : ص ٣.

(٥) الكافي : ١ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ حديث ٢.

٥١٦

فقال لي : «يا بن أشيم إنّ الله فوّض إلى سليمان بن داود فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١) ، وفوّض إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) ، فما فوّض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوّض إلينا».

ولعلّك بمضمون ذلك تعلم أنّ الترجيح بين الأخبار بالتقيّة ـ بعد العرض على الكتاب العزيز ـ أقوى المرجّحات ، فإنّ جلّ الاختلاف الواقع في الأخبار ، بل كلّه عند التأمّل والتحقيق إنّما نشأ من التقيّة ، ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا ، فظنوا أنّ هذا الاختلاف إنّما نشأ من دسّ أخبار الكذب في أخبارنا فوضعوا الاصطلاح المشهور في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة ، ليتميّز به صحيحها عن سقيمها ، وغثّها من سمينها ، وأقوى شبهة فيما ذهبوا إليه شيئان :

أحدهما : رواية مخالف المذهب ، وظاهر الفسق ، والمشهور بالكذب ، ونحوهم.

وثانيهما : ما ورد عنهم من أنّ لكل رجل منّا رجل يكذب عليه .. وأمثال ذلك ، ولم يتفطنوا أنّ هذه الأحاديث التي بأيدينا إنّما وصلت إلينا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها ، وذابت في تنقيحها ...

ثمّ ذكر جملة من الأمارات على أنّ هذه الأخبار منقحة عن الأخبار المكذوبة وخالية عن الأحاديث المدسوسة ، وشواهد كثيرة على أنّ جلّها صادرة عن الإمام عليه‌السلام.

وظاهر كلامه ـ كما ترى ـ يعطي ما نسب إليه ، خصوصا بملاحظة قوله إنّ الترجيح بين الأخبار بالتقيّة أقوى المرجّحات ، إلا أنّ التأمّل في كلامه يقتضي أنّ غرضه أنّ الاختلاف في الأخبار ليس من جهة وجود الأخبار المكذوبة ، بل سرّه التقيّة ، لا أنّه عند التعارض يحمل على التقيّة ، ولو مع عدم الموافقة للعامة ، وما ذكره من أنّ الترجيح بالتقيّة أقوى المرجّحات ؛ مراده في صورة إمكان الترجيح ، وهو ما إذا وافق أحدهما لهم ، فغرضه أنّه إذا كان الاختلاف في الغالب من جهة التقيّة ففي صورة التعارض وإمكان حمل أحدهما على التقيّة يحمل عليها ، ويعمل بهذا المرجّح دون

__________________

(١) سورة ص : ٣٩.

(٢) سورة الحشر : ٧.

٥١٧

مثل الأعدليّة ونحوها من المرجحات الصدوريّة ؛ لأنّ الأخبار جلّها صادرة بملاحظة ما ذكر من الشواهد والأمارات.

هذا ؛ مع إنّك عرفت أنّه يمكن الترجيح بالحمل على التقيّة إذا كانا موافقين أو مخالفين لهم ؛ مع العلم بعدم صدور أحدهما معينا تقيّة ، واحتمالها في الآخر ، لكنّه فرض نادر ، وكيف كان فالطعن عليه بما ذكر ليس في محلّه ، والإنصاف دلالة الأخبار التي ذكرها على ما ذكره واضحة ، وإن كان يمكن الخدشة في بعضها.

فما يظهر من الشيخ في الرسالة (١) من عدم دلالتها على مدّعاه ، وأنّ الخوف يندفع بإظهار الموافقة مع الأعداء ، وأنّ الاندفاع بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين وإن أمكن ؛ إلا أنّه نادر فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المختلفة ، مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله عليه‌السلام «ما سمعتم منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة وما سمعتم منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه» (٢) ليس في محلّة.

نعم ؛ هذا الخبر بظاهره مخالف لما ذكره حيث إنّه يدلّ على عدم التقية فيما لا يشبه قولهم ، لكن يمكن أن ينزّل على غير صورة التعارض والاختلاف ؛ فتأمّل!

وكيف كان ؛ فدلالة تلك الأخبار تامّة ، وإن كانت معارضة بهذا الخبر ، ثمّ إنّ الشيخ ذكر أنّ العمدة في الاختلاف في الأخبار كثرة إرادة خلاف الظواهر ، إمّا بقرائن متّصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار ، أو نقلها بالمعنى ، أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة معلومة للمخاطبين ، أو مقاليّة اختفت بالانطماس ، وإمّا بغير القرينة ؛ لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام من تقيّة على ما اخترناه ـ من أنّ التقيّة على وجه التورية ـ أو غير التقيّة من المصالح الأخر.

قلت : إنّ الاختلاف الواقع في الأخبار له أسباب :

منها : من جهة موافقة العامّة.

ومنها : التقيّة لمجرّد الاختلاف.

ومنها : ما ذكره الشيخ من إرادة خلاف الظواهر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٢٤ ، ١٢٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٢ / الباب ٣ من أبواب الخلع ، حديث ٧.

٥١٨

ومنها : وجود الأخبار المكذوبة والمدسوسة.

والإنصاف أنّ الغالب فيه التقيّة بأحد الوجهين ، والأخير أقلّ من الجميع ؛ لما ذكره الأخباريون من الشواهد والأمارات على صدور الأخبار الموجودة في الكتب كلّها أو جلّها ، وأنّها مهذّبة منقّحة ، وتظهر الثمرة في كون أيّها الغالب في قوة الترجيح بمقتضاه.

ومن ذلك يظهر أنّ الحمل على التقيّة أقوى من المرجّحات الصدوريّة ، فليكن على ذكر منك.

ثمّ إنّ الشيخ أيّد في الرسالة ما ذكره ـ من أنّ عمدة الاختلاف في الأخبار كثرة إرادة خلاف الظواهر دون التقيّة ـ بما ورد مستفيضا من عدم جواز ردّ الخبر ، وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتى إذا قال للنهار إنّه ليل وللّيل إنّه نهار ، معلّلا ذلك بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطن السامع له ، فيكفر من حيث لا يشعر ، قال (١) : فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المتنافية بظاهرها تقيّة ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه‌السلام مفسدة ، فضلا عن كفر الراد.

وأقول : فيه نظر :

أمّا أولا : فلأنّ الظاهر أنّ المراد من الإنكار ما يرجع إلى الإيراد على الإمام عليه‌السلام ، وإنكار إمامته ، لا مجرّد إنكار كون الخبر منه عليه‌السلام إذا كان ظنيّا ، ومع كونه قطعي الصدور فلا يعقل إنكار كونه منه عليه‌السلام ، وعلى فرضه لا يوجب الكفر قطعا (٢) ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المحمل هو التقيّة أو إرادة خلاف الظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الراد إنّما يردّ الخبر بملاحظة ظاهره ، وبعبارة أخرى ينكر كون

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ١٣٠.

(٢) في ذهابه لعدم الحكم بالكفر في صورة كون الخبر قطعي الصدور ، في حال ينكر كونه من الإمام تنظر واضح ؛ إذ أنّ فيه ردا على الإمام في ما قاله أو فيما نقله عن جده رسول الله مع اعتقاده قطعيّة صدوره عنه ، أو فيه ردّ لإمامة الإمام إذ ليس لها معنى إلا الإتباع فمع رده عليه أو عدم ترتيب الأثر على ما قاله بعنوان الإنكار فهو موصل لرتبة إنكار الضروري ، أو يرجع لإنكاره من الدين كما لا يخفى! ثمّ إنّ الحكم بالكفر قد لا يراد به الكفر المقابل للإسلام ، بل الكفر ـ بلحاظ أنّه مشكك ـ بمعنى كفران النعمة أو بمعنى الخروج عن دائرة الإيمان.

٥١٩

المضمون الظاهر من الخبر صادرا عن الإمام عليه‌السلام ، ولا يتفاوت ـ في كون هذا متضمنا للمفسدة أو الكفر أو عدمه ـ بين أن يكون عدم إرادة الظاهر من جهة التقيّة في أصل الصدور ، أو من جهة التأويل في الظهور.

فلنا أن نقول : لو كان عمدة التنافي إرادة خلاف الظواهر (١) لم يكن في إنكار كونه من الإمام عليه‌السلام مفسدة ، وكيف كان ؛ فظهر أنّ الحقّ ما ذكره صاحب الحدائق من أنّ عمدة الاختلاف هي التقيّة ، وأنّها لا تختص بصورة الموافقة للعامّة ، وإن كان الحمل عليها في مقام الترجيح لا يكون إلا مع موافقة أحد الخبرين لهم ، وليس غرضه أنّ الحمل عليها في مقام الترجيح لا يشترط بموافقة العامّة ، فلا وقع لما أورده عليه بعض الأساطين ـ وهو الوحيد البهبهاني على ما أشرنا إليه ـ بما مرّ ، بل لا وقع لسائر ما أورد على هذا الكلام ؛ فراجع فوائده الجديدة (٢) حيث نقل كلامه وأورد عليه بأربعة إيرادات يطول الكلام بذكرها ودفعها.

الأمر الرابع : [كيفيّة تحقق الموافقة والمخالفة للعامّة]

موافقة العامّة تارة تكون بملاحظة أقوالهم كما هو الظاهر من (قوله عليه‌السلام) (٣) ترك ما وافقهم ، وقوله عليه‌السلام «خذ ما خالف القوم ـ أو ـ العامّة» ، وتارة يكون بملاحظة أخبارهم وإن لم تكن معمولا بها بينهم ، ويدلّ على الترجيح بهذا الوجه بعض الأخبار المتقدمة ، إذا لم يحمل على الغالب من موافقة عملهم ، أو عمل بعضهم بمقتضى ذلك الخبر ، وتارة تكون بملاحظة ميل حكّامهم ـ على ما يستفاد من المقبولة ـ ، وتارة يكون بملاحظة مطابقة (٤) الخبر لقواعدهم أو شباهته لأقوالهم في كيفيّة البيان ، من اشتماله على وجه استحساني أو قياسي أو نحو ذلك ؛ على ما يستفاد من قوله عليه‌السلام «ما سمعتم منّي .. إلى آخره» ، وهل يعتبر في الترجيح بالوجه الأول موافقة أقوال جميعهم أو يكفي البعض أو الأكثر بحيث يصدق الاستغراق العرفي وحينئذ (٥) ؛

__________________

(١) في نسخة (د) : الظاهر.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٣) أثبتناه من نسخة (د).

(٤) في نسخة (د) : مضايقة.

(٥) في نسخة (د) بدل كلمة «وحينئذ» كتبت كلمة «وجوه». وهو الأنسب.

٥٢٠