كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

العقلي ؛ كصاحب الفصول (١) ، أبعد من الإشكال المذكور ، إذ المقتضي أعم من أن يكون مدلولا لفظيّا أو لا ، فيشمل ما إذا كان التعارض بلحاظ أمر خارجي كالإجماع والعلم الإجمالي ؛ من غير إشكال.

وكيف كان فقد ظهر أنّه لا بدّ في صدق التعارض من ثبوت التنافي بين المدلولين ، ولو في مقتضاهما ، ولو بالالتزام العقلي ، بأن يكون أحدهما نافيا لما أثبته الآخر ، وإن لم يكن بالدلالة اللفظيّة ، فعلى هذا مجرّد العلم بكذب أحد الخبرين (٢) وعدم مطابقة مدلوله للواقع لا يكفي في صدق التعارض ، مثلا إذا دلّ خبر على وجوب غسل الجمعة ، وخبر آخر على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وعلم من الخارج أنّ أحد الخبرين (٣) كاذب أو أنّ أحد الحكمين مخالف للواقع ، من غير أن يكون هناك ملازمة عقليّة أو شرعيّة بين ثبوت أحدهما ونفي الآخر ، لا يكونان من المتعارضين ، لعدم التنافي بين المدلولين ، ولو في مقتضاهما ، غاية الأمر العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع ، وإلا فلا ينفي كلّ منهما الآخر ، فلا تجري عليهما أحكام التعارض.

والفرق بين هذا المثال ومثال الظهر والجمعة ، والأصلين المتعارضين واضح ، إذ بعد الإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد يتنافى مقتضى الخبرين ، وكذا بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين يتنافى مقتضى الأصلين ، ويكون كلّ منهما نافيا لما أثبته الآخر.

والحاصل : إنّه يعتبر التنافي بين المدلولين في حدّ نفسهما ، ولو بلحاظ أمر خارجي من إجماع أو علم إجمالي ، ولا يكفي التنافي في علم المكلّف ، ففي الخبرين اللذين لا ربط بينهما ، بل كلّ منهما مثبت يحكم (٤) في موضوع مغاير للآخر ، وعلم كذب أحدهما يعمل بهما إن لم يلزم منه طرح تكليف منجّز معلوم ، وإلا فيجب طرحهما ، والعمل بالاحتياط فتدبر!

__________________

(١) الفصول الغروية : ص ٤٢٠.

(٢) في نسخة (ب) : المخبرين.

(٣) في نسخة (ب) : المخبرين.

(٤) في نسخة (ب) : لحكم ، وهو الأصح.

٤١

ثمّ لا يخفى أنّ ذكر الدليلين في التعريف (١) من باب المثال ، وإلا فقد يكون التعارض بين أزيد منها ، لا (٢) مثل ما إذا كان في أحد الطرفين خبران وفي الآخر واحد ، إذ الخبران حينئذ دليل واحد ، فيصدق أنّ التنافي إنّما هو بين دليلين ، ولا مثل ما إذا كان هناك أخبار يكون بين مداليلها عموم من وجه ، مثل قوله «يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام الفسّاق ويستحب إكرام الشعراء» ، إذ حينئذ يكون التنافي بين كل اثنين منها أيضا ، بل المراد (٣) ما إذا كان قوام التعارض بأزيد من دليلين ، بحيث لا يكون بين كل اثنين منها تناف ، كما إذا قال «يجب إكرام زيد يوم الجمعة» وقال «يجب إكرام عمرو يوم الجمعة» ، وقال «لا يجب إكرام شخصين يوم الجمعة» ، فإنّه لا تعارض بين الأولين ، ولا بين كلّ منهما والثالث ، وإنّما التعارض بين المجموع ، وهذا (٤) إذا كان الثالث أيضا ظنيا ، وإلا فيكون التعارض بين الأولين فقط ، ويكون هو (٥) محققا للتعارض بينها ، كما في مثال الظهر والجمعة ، حيث إنّ الإجماع الذي هو الثالث يكون محقّقا للتعارض بينهما (٦).

وهل يلاحظ في مقام العلاج وملاحظة المرجحات كلّ مع كلّ؟ أو الأولان مع الثالث؟ سيجيء بيانه في محلّه إن شاء الله (٧).

ثمّ إنّ التنافي على وجه التضاد إنّما يكون تنافيا بملاحظة أوله (٨) ورجوعه إلى التناقض ، فيمكن الاقتصار عليه ، إذ المنافاة بين ما دلّ على استحباب شيء مع ما دلّ على وجوبه إنّما هو من جهة أنّ مع الاستحباب لا يمكن أن يكون واجبا ، وبالعكس ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد من الدليلين أعم من الاجتهاديين والأصلين ، والمختلفين مع

__________________

(١) في نسخة (ب) : في التعريف إنّما هو ...

(٢) في نسخة (ب) : لا ازيد مثل ...

(٣) في نسخة (ب) : بل أزيد.

(٤) في نسخة (ب) : بين المجموع هذا ...

(٥) لا توجد «هو» في النسخة (ب).

(٦) من قوله «كما في مثال» إلى قوله «بينها» لا يوجد في النسخة (ب).

(٧) يأتي في ضمن بحث انقلاب النسبة بين الأدلة المتعارضة.

(٨) الأول : من آل يؤول الأمر إلى كذا ؛ أي يصير إليه.

٤٢

الإغماض عن حكومة الدليل أو وروده على الأصل ، أو عدم القول بالحكومة.

ومن ذلك يظهر أنّه لا وقع للإيراد على التعريف بشموله لتعارض الأصل والدليل مع عدم كونه من التعارض قطعا ، ولا للجواب تارة بانصراف الدليل إلى الاجتهادي ، وأخرى بالالتزام بالدخول في المعرّف ، وثالثة بالالتزام بدخول تعارض الأصل اللفظي والظنّي مع الدليل ، وخروج معارضته الأصل العملي التعبّدي لعدم اتّحاد المحمول ، لأنّ مفاد الأدلّة الحكم الشأني ، ومفاد الأصول الحكم الفعلي ، ولا مضادة بينهما ، وذلك لأنّه إذا قلنا بالورود أو الحكومة ، فتخرج معارضته الأصل والدليل بقيد التنافي ، وإلا فلا وجه للحكم بالخروج.

ومن الغريب حمل كلام المحقق الأنصاري رحمه‌الله (١) ـ في مقام بيان نفي المعارضة بين الأدلّة والأصول بدعوى الورود أو الحكومة ، والحكم بعدم التنافي بينهما ، من جهة تعدد الموضوع ـ على الجواب عن الإشكال المذكور ، مع أنّه ليس بصدد بيان ذلك ، وليس نظره إلى رفع إشكال طرد التعريف ، بل غرضه تحقيق الحال في صدق التعارض وعدمه ، وإلا فلا إشكال في التعريف على التقديرين ، كما عرفت ، وأمّا حديث تعدد الموضوع أو المحمول فسيجيء الكلام عليه.

ثمّ إنّ التعارض وإن كان يتحقق في الأمارتين على الموضوعات كاليد والبيّنة ونحوهما ، كقول اللغوي وغيره إلا أنّ المراد من الدليلين في المقام غيرهما ، بل الدليل على الحكم الشرعي الكلي ، وربّما يذكر حكم تعارض الأمارتين ـ أيضا ـ في هذا الباب (٢) استطرادا ، وكيف كان فتحصّل أنّ مناط التعارض توارد الدليلين على حكم موضوع واحد بالنفي والإثبات أن يكون كلّ منهما نافيا لما أثبته الآخر ، ولذا قلنا إنّ التضاد لا يكون تعارضا إلا بلحاظ أوله إلى التناقض ، فيعتبر فيه اجتماع الوحدات المعتبرة في التناقض (٣) ، وفي مثل تعارض الدال على وجوب الجمعة والدالّ على

__________________

(١) لا يوجد «رحمه‌الله» في النسخة (ب).

(٢) من قوله «أيضا» الى قوله «الباب» لا يوجد في النسخة (ب).

(٣) الوحدات المعتبرة لأجل تحقق التناقض بين قضيتين هي ثمان وقيل تسع وهي : ١ ـ اتحاد الموضوع. ٢ ـ اتحاد المحمول. ٣ ـ اتحاد الجهة. ٤ ـ اتحاد الزمان. ٥ ـ اتحادهما في القوة ـ ـ والفعل. ٦ ـ اتحادهما في الكليّة والجزئيّة. ٧ ـ اتحاد الشرط فيهما. ٨ ـ اتحاد الإضافة فيهما. وقد يضاف أمر تاسع وهو وحدة الحمل أوليّا أو شايعا صناعيّا.

٤٣

وجوب الظهر ، ونحوه مما يكون الموضوع متعددا نقول : إذا نفى كل منهما الآخر يكون كلّ منهما مجمعا للوجوب وعدمه ، بمقتضى إثبات كلّ من الخبرين ونفي الآخر ، وكذا في مثال تعارض أصالة الطهارة ، فإنّ أصل الطهارة في هذا الإناء يثبت طهارته ، وأصل الطهارة في الآخر ينفيها فيه ، ويثبتها في الآخر ، فيتّحد الموضوع والمحمول ، وغيرهما ... وهكذا في سائر المقامات.

واعلم أنّ هنا أبوابا ربّما يتراءى كونها من باب التعارض ، ويمكن أن يدّعى خروجها عنه ، إمّا من جهة تعدد الموضوع أو المحمول (١) ولو تنزيلا ، أو من جهة عدم المنافاة بين المدلولين ، لكون أحدهما بمنزلة الشارح والمفسّر للآخر :

أحدها : باب التزاحم

فإنّه قد يتخيل كونه من التعارض من حيث عدم إمكان العمل بها (٢) لكنّه ليس منه ، إذ يعتبر في التعارض أن يكون عدم إمكان الجمع من حيث منافاة كلّ منهما للآخر بحيث وجب طرح أحد الظهورين أو كليهما بعد الكشف عن عدم إرادة الظاهر من كلّ منهما وعدم الإمكان في باب التزاحم ليس كذلك ، إذ ذلك إنّما يكون من جهة عجز المكلّف عن العمل بعد العلم بمراد الشارع من كلّ من الدليلين ، ولذا يجري في القطعيين من جهة السند والدلالة أيضا ، مثلا لا إشكال في وجوب إنقاذ كلّ غريق وإطفاء كلّ حريق ، وإذا فرض عجز المكلّف عن الإنقاذين معا فيرفع اليد عن أحدهما ويتركه (٣) من جهة العذر ، لا أنّه يكشف عن عدم الإرادة من الدليل.

ففي باب التعارض الشك إنّما هو في مقدار المراد من كل من الدليلين وأنّ مورد المعارضة داخل في هذا أو ذاك ، وفي باب المزاحمة المراد معلوم والمكلّف عاجز عن العمل على طبقه ، ولذا لا يرجع إلى المرجّحات لأحد الدليلين مثل الشهرة

__________________

(١) في نسخة (ب) هكذا : أو من جهة تعدد المحمول.

(٢) في نسخة (ب) : بهما.

(٣) في نسخة (ب) : ويترك.

٤٤

والأعدليّة ونحوهما ، بل يرجع في مقام التعيين إلى مثل الأهمية وكون أحدهما حق الناس والآخر حقّ الله ، أو كون أحد التكليفين على وجه الإلزام دون الآخر أو على وجه التعيين دون الآخر ، ففي تزاحم الواجبين والتعيينيين (١) يقدم الأهم إن كان وإلا فالتخيير ، وكذا في تزاحم الواجب والحرام ، وقد يقال إنّه يقدم الحرام مطلقا من جهة أنّ دفع المفسدة أولى ، وفي تزاحم الواجب والمستحب والمكروه يقدم الواجب وفي تزاحم الحرام والمكروه أو المستحب يقدم الحرام ، وفي تزاحم المعيّن مع المخيّر يقدم المعيّن ؛ وهكذا .. فلا يقدم المستحب على الواجب في مقام المزاحمة أصلا ، ولو كان من باب التعارض ربما يرجّح الدليل الدالّ على الاستحباب ، وكذا بالنسبة إلى سائر الصور.

والحاصل : أنّ في المتزاحمين ثبوت كل من المدلولين وإرادته من الدليل لا ينافي الآخر ، ولذا لو قدم أحدهما لا يكون تقييدا في دليل الآخر من حيث الإرادة الواقعيّة وإن كان تقييدا في مقام الفعليّة والتنجز بحكم العقل بل يمكن أن يقال ليس تقييدا أصلا من حيث إنّ كلّا من الدليلين ناظر (٢) إلى مقام التنجز والفعليّة ، بل مفاده ثبوت الحكم من حيث هو والتنجز إنّما هو بحكم العقل فليس في تقديم أحدهما والتخيير بينهما بعد ما كان مفاد كل من الدليلين التعيين مخالفة للظاهر ، إذ القدر المراد من الخطاب باق بحاله ، والذي رفع عنه اليد ـ وهو الثبوت في مقام الفعليّة ـ لم يكن مستفادا من اللفظ.

فإن قلت : مقتضى ذلك عدم جواز التمسّك بالإطلاقات إذا فرض الشك في المانع لأنّها على ما ذكرت ليست متكفلة إلا لبيان المقتضي فيحتاج في إثبات الفعليّة إلى إجراء أصالة عدم المانع ، ولا يجوز الأخذ بالإطلاق لدفع هذا الشك مع أنّهم يتمسّكون بالظهور اللفظي.

قلت : لا نقول إنّ الإطلاق ليس مسوقا لبيان الحكم الفعلي أصلا حتى يلزم ما ذكرت ، بل نقول إنّها ظاهرة لبيان الحكم من غير جهة عجز المكلّف وقدرته ، فمن

__________________

(١) الظاهر زيادة الواو من قوله والتعيينين.

(٢) في نسخة (ب) : ليس ناظرا.

٤٥

هذه الحيثيّة لا تكون ظاهرة في الفعليّة (١) من سائر الجهات ثابتة بالإطلاق ، فلا يمكن إثبات التنجز بمجرّد الظهور اللفظي بل انّما هو بحكم العقل ؛ فإذا قال الشارع «الغنم حلال» يؤخذ بظاهره لإثبات الحلّيّة عند الشك في أنّ كونه أبيض أو أسود أو مال الغير أو مال نفسه موجب للحرمة أو لا ، إذا كان في مقام البيان بالنسبة إلى ذلك وأمّا إذا قال أنقذ الغريق فلا يمكن أن يقال إنّ مقتضى إطلاقه ثبوت الوجوب ولو مع العجز ، إلا أنّ العقل يقيده بغير هذه الصورة ، بل هو ليس متكفّلا لبيان ذلك أصلا فلا يكون من التقييد في شيء.

فإن قلت : أليس القدرة من الشرائط العامّة لجميع التكاليف فكيف يمكن القول ببقاء كل من الدليلين على حاله وإثباته الوجوب مع أنّ المفروض العجز عن الإتيان بمقتضاه؟ فلا بدّ من التقييد في أحدهما أو كليهما بإثبات التنجز.

قلت : نمنع كون القدرة شرطا في جميع المقامات لأصل الحكم بل هي في بعضها شرط في الفعليّة وفي بعضها شرط في أصل التكليف ، والمقام من الأول ، والفرق أنّه قد يكون في الفعل مصلحة تامّة للايجاب والعجز لا يعتبره عن مصلحته إلا أن المكلّف لا يقدر على العمل على طبقه وإدراك تلك المصلحة (٢) الفعل مقيدة بالقدرة بحيث لا مصلحة فيه مع العجز ، ففي الصورة الأولى يثبت الحكم في حد نفسه نظير ثبوت الحكم الواقعي حال الجهل أو يكون المكلّف معذورا لعجزه فهو تارك للواجب لعذره لا أنّه ليس واجبا ، وفي الثانية لا يجب عليه أصلا ، ولذا لو فرضنا أهميّة أحد الواجبين وحكمنا بوجوب اختياره لو أتى بالآخر الغير الأهم عصيانا ، أو نسيانا ، نحكم بصحته ، ولو كان من باب التقييد وسقوط الطلب أصلا لم يكن وجه لصحته.

فتبيّن أنّه لا مانع من إبقاء كل من الدليلين على حاله ، وعدم كونه من التقييد أصلا.

هذا وقد يقال في توجيه عدم كون المقام من التقييد أنّه إذا كان منه فلا بدّ من كون الآمر ملاحظا له في أمره ولا يمكن لحاظه فيه ، لأنّ المفروض أنّ المزاحمة إنّما هي

__________________

(١) بعدها في نسخة (ب) : وإلا فالفعليّة ...

(٢) بعدها في نسخة (ب) : وقد تكون مصلحة ...

٤٦

بين التكليفين فإذا قيد أحدهما بنفي الآخر يرجع إلى أن يقول افعل كذا إن لم أقل لك افعل ما يضاده ويزاحمه ، وبعبارة أخرى يرجع إلى أن يقول افعل إن كنت مريدا لفعله بأن لم ألزمك بغيره في وقته فكأنّه قال افعل إن قدرت أن أقول افعل وهذا غير معقول فلا يقبل هذا التكليف من هذه الجهة إطلاقا ولا تقييدا.

وفيه : إنّ الوجه في عدم كونه من التقييد ما ذكرنا من أنّ التنجز ليس مستفادا من الإطلاق حتى يكون حكم العقل بعدمه من جهة العجز من التقييد وإلا فمع الإغماض عنه لا محذور فيه ، إذ يمكن تصوير (١) التقييد بدون ملاحظة التكليف الآخر بأن يقول افعل إن لم يكن هناك الضد الفلاني كأن يقول أنقذ الغريق إن لم يكن هناك حريق ؛ لأنّ ملاك التقييد وإن كان كون الضد مأمورا به ومجرّد المضادة مع عدم الأمر لا يكفي في المزاحمة الموجبة للتقييد إلا أنّه لا يعتبر لحاظ ذلك الأمر بل يكفي ملاحظة مجرّد المضادة والتقييد بعد وجود القيد ، بعد الأمر به.

وعلى فرض التسليم نقول لا محذور في لحاظ تكليف في تكليف (٢) آخر ، إذ لا مانع أن نقول (٣) افعل كذا إن لم يتعلّق بك أمر آخر بالأهم منه ، ولا يرجع إلى ما ذكره وعلى فرض رجوعه إليه أيضا لا محذور فيه ، إذ حاصله افعل كذا ما دام عقلك لا يأبى من هذا التكليف ، وما دمت قادرا على هذا التكليف بحسب عقلك فتدبّر.

فتحصّل أنّ التزاحم خارج عن التعارض من حيث إنّ شيئا من الدليلين لا يدلّ على نفي الحكم عن موضوع الآخر فلا يرد النفي والإثبات على موضوع واحد ، وممّا ذكرنا ظهر أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي ليست من باب التعارض ؛ أمّا على القول بالجواز فواضح ، وأمّا على القول بالمنع فلأنّها نظير باب التزاحم ، بل منه من حيث إنّ النهي التعييني زاحم الأمر التخييري ، وحيث إنّ الأول أولى بالتقديم فيحكم بالحرمة في مقام الفعليّة ، ولذا لو فرضنا عدم المندوحة من الطرفين بأن انحصر المكان في المغصوب ودار الأمر بين ترك الصلاة أو ارتكاب الغصب لا يرجع

__________________

(١) في نسخة (ب) : تصور.

(٢) هذه الكلمة «في تكليف» لا توجد في نسخة (ب).

(٣) في نسخة (ب) : أن يقول.

٤٧

إلى المرجحات لأحد الدليلين بل إلى مرجحات أحد التكليفين من أولويّة دفع المفسدة أو أولويّة (١) مراعات حقّ الناس أو نحو ذلك ، وإنّما قلنا إنّها من باب التزاحم لأنّ المفروض في تلك المسألة أن يكون النهي تامّ الاقتضاء ومتعلّقا بجميع أفراد الطبيعة من حيث هي ، والأمر كذلك ؛ غاية الأمر كونه على وجه التخيير ولا يكون قصور في شيء من أفراد الطبيعتين في المصلحة والمفسدة ، إلا أنّ تمانع الطلبين في مقام الفعليّة وعدم امكان اجتماع العصيان والطاعة والتحريك على الفعل والترك معا أوجب ـ بحكم العقل ـ رفع اليد عن مقتضي الأمر في مقام الفعليّة مع بقاء الأمر على حاله ، وعدم تقييده في حدّ نفسه ، نظير الحليّة (٢) الموجودة في الغنم الباقية في الغنم المغصوب ، وإن كان الحكم الفعلي فيه الحرمة من جهة الغصب فإنّه لا ينافي كونه حلالا من حيث الغنيمة ، غاية الأمر أنّ الصحّة لما كانت مترتبة ومتفرعة على فعليّة الطلب يحكم بالبطلان عند عدمها وإلا فالصلاة تامّة في الصلاة به ، ومصلحتها لا قصور فيها أصلا ، إلا من قبل عدم فعليّة الطلب ، ولذا لا يقولون بالفساد إلا حال العلم.

وأمّا حال الجهل والنسيان فيحكمون بالصحّة (٣) ، ولو كان من باب تخصيص الأمر أو تقييده لم يكن وجه للصحّة ، لأنّ المفروض إنّ هذا الفرد خارج عن دليل الصحّة واقعا على هذا الفرض ، ومن ذلك قلنا بجواز الاجتماع وكفاية تعلّق الأمر بالطبيعة في الصحة بعد انطباق الفرد عليها ، وإن لم يتعلّق به أمر لأنّه ليس معتبرا في الحكم بالصحّة ، بل الانطباق على المأمور به كاف فيها ، بل نقول في الأفراد المباحة أيضا لم يتعلّق بها أمر ، وملاك صحّتها ليس إلا تعلّق الأمر بالطبيعة وانطباقها عليها ، بل قلنا

__________________

(١) في نسخة (ب) : وأولويّة.

(٢) لا توجد كلمة «نظير» في نسخة (ب) والموجود : كالحليّة.

(٣) اختلف الأعلام في توجيه ذلك علميّا بتبع اختلافهم في حيثيّة الرفع بالنسبة للجاهل والناسي ، فعلى المشهور من أنّ الرفع في الناسي واقعي فيحكمون بالصحّة ، وأمّا بالنسبة للجاهل فمنهم من يرى أنّ الرفع فيه ظاهري لا واقعي للزوم تحقق التصويب المجمع على بطلانه في حال التزام كون الرفع واقعيا ـ وهذا ما اختاره الشيخ الأعظم ، ولو لم يكن هذا اللازم موجودا لأمكن القول بالرفع الواقعي بالنسبة للجاهل أيضا.

٤٨

بناء على عدم جواز الاجتماع أيضا لا يحكم ببطلان (١) العمل ولو حال العلم من جهة كون الفرد تام المصلحة ، ويكفي في الصحة مطابقة الشيء للمحبوب الواقعي وإن لم يتعلّق به أمر.

والحاصل أنّ محلّ الكلام في تلك المسألة ما ذكرنا من كون كل من الطبيعتين تام المصلحة والمفسدة ، بحيث لم يكن هناك مانع إلا تمانع الطلبين بناء على القول به ولازمه ما ذكرنا من عدم كونه من باب التعارض ، ورفع اليد عن فعليّة الأمر ليس تقييدا في دليله ، ويمكن أن يقال في وجه عدم كون المسألة من باب التعارض أنّ المفروض فيها شمول النهي للفرد المجمع بلا اشكال ، والحكم بحرمته ، ولذا يحكم بحرمة الصلاة ولو على القول بجواز الاجتماع أيضا ، وإنّما الإشكال في أنّه هل يمكن تعلّق الأمر به أيضا حتى لا يكون تقييدا في دليله أو لا حتى يجيء التقييد ، فعلى مذهب المانعين يحكم بالتقييد ، ولا يحكم به على مذهب المجوّزين.

وهذا بخلاف باب التعارض فإنّ المعتبر فيه أن يكون الشك في أنّ مورد التعارض داخل تحت أيهما وأنّه محكوم بأي الحكمين ، ودار الأمر بين رفع اليد عن أحد الظهورين لا (٢) على التعيين ، ففي مسألة الاجتماع بقاء النهي على ظاهره معلوم وإنّما الشك في إمكان بقاء الآخر أيضا على ظاهره وعدمه ، ولذا لا فرق فيها بين كون متعلّق النهي أعم أو أخصّ ، ولو كان من باب التعارض وجب تقديم النهي في الصورة الثانية من غير إشكال ، فيعلم من ذلك أنّ الحرمة معلومة ولا اشكال في المراد من النهي ، وإنّما الشك في جواز تعلّق الأمر عقلا ، وعدمه فبناء على الإغماض عمّا ذكرنا من عدم استلزام القول بالمنع من الاجتماع للتقييد في دليل الأمر أيضا ليست المسألة من التعارض ، ولو على مذهب المانعين.

نعم ؛ لو فرض في مورد احتمال تخصيص النهي بغير مورد الأمر ، ودار الأمر بين تقديم جانب النهي ، والحكم بالحرمة أو جانب الأمر والحكم بالحليّة ، كان من التعارض ؛ لكنّه ليس داخلا في نزاع مسألة الاجتماع حينئذ ، كما لو شك في أنّ النهي

__________________

(١) في نسخة (ب) : بالبطلان العمل.

(٢) لا توجد هذه الكلمة «لا» في النسخة (ب).

٤٩

عن التصرف في مال الغير يشمل مثل التصرف في الأراضي الواسعة والصحاري المملوكة للغير أو المياه الجارية ، أو لا؟ كان منشأ الشك ورود أمر آخر في المقابل بالصلاة أو الوضوء مثلا لا حيثيّة الانصراف مع قطع النظر عن الأمر فإنّه من باب التعارض ، ولا بدّ فيه من الرجوع إلى قواعده ، فمع تقديم الأمر لأرجحيّة دليله مثلا لا يحكم بالحرمة ، ومع تقديم النهي يجيء مسألة جواز الاجتماع وعدمه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ ما ذكروه في تلك المسألة من أنّه على القول بالمنع لا بدّ من الرجوع إلى قواعد التعارض لا وجه له ، إذ مورد تلك المسألة لا يرجع فيه إلى قواعد هذا الباب ، وما يرجع فيه إلى قواعده لا يكون من تلك المسألة ، [و] كذا لا وجه لما استشكله بعضهم من أنّ اطلاق حكمهم في باب التعارض بالرجوع إلى المرجحات في العامين وجهه : ولو كان أحدهما أمرا والآخر نهيا ينافي ما ذكروه في تلك المسألة من أنّه على القول بجواز الاجتماع يجمع (١) بينهما ، ولا حاجة إلى ما أجاب به بعضهم من أنّ مورد تلك المسألة ما إذا كان العام منطقيا ، ومورد هذا الباب ما إذا كان عامّا أصوليا ، بل لا وجه له لأنّ مورد هذا الباب أعم من العام المنطقي (٢) ، نعم مورد تلك المسألة خاص بالعام المنطقي ، إذ في العام الأصولي يلزم الاجتماع الآمري إذا كان العموم الأصولي من طرف الأمر.

ثانيها : باب التنزيل

فإنّه ليس من التعارض وإن كان موجبا للتخصيص في اللبّ مثلا إذا قال : لا صلاة إلا بالوضوء ، وقال أيضا : يجوز الصلاة بالتيمم ، يكون من التعارض ، ولكن إذا قال :

التيمم بمنزلة الوضوء أو ما يؤدي مؤدّاه ، ليس من التعارض وإن كان موجبا لرفع اليد عن العموم الأول في اللبّ والواقع ، وذلك لأنّ لسان التنزيل في الحقيقة لسان تقرير العموم ؛ غاية الأمر إنّه يجعل دائرته أوسع في عالم اللبّ ، بل وكذا إذا قلنا إنّه بجعل

__________________

(١) الجمع بين المعنونين في باب اجتماع الأمر والنهي من العناوين الخادعة ؛ فالمراد بأن يجمع بينهما أي يحقق كلّا منهما خارجا فلا اجتماع بينهما واقعا ولا يلزم من تحقق أحدهما امتناع تحقق الآخر ، وهذا مفاد جواز الاجتماع ، وعلى العكس القول بعدم الجواز أي أنّه يلزم من تحقق أحدهما عدم تحقق الآخر ولا يكون في الخارج إلا معنون لعنوان واحد.

(٢) في نسخة (ب) : أعم من العام الأصولي والمنطقي.

٥٠

أوسع في اللفظ أيضا ، بيان ذلك : إنّه قد يقال إنّ قوله «التيمم وضوء» يكشف عن أنّ المراد من قوله «لا صلاة إلا بوضوء» أعم من الوضوء الحقيقي والتنزيل ، فيكون توسيعا في اللفظ ، وقد يقال ـ وهو التحقيق ـ إنّ المراد من قوله «لا صلاة إلا بوضوء» هو الحقيقي لكن الشارع أضاف إليه ـ بدليل التنزيل ـ شيئا آخر وهو التيمم لا بعنوان التخصيص ورفع اليد عنه ، بل بلسان تقرير العموم على حاله وإقامة شيء آخر مقام بعض أفراده ، نعم يكون تخصيصا في عالم اللب ، فعلى الوجهين لا يكون التنزيل من التعارض.

ثالثها : باب الورود

وهو أن يكون أحد الدليلين واقعا لموضوع الآخر حقيقته ، وهو تخصص في المعنى ؛ إلا أنّه أخص منه ، فإنّ التخصص قد يطلق على ما إذا كان موضوع كل من الدليلين مغايرا لموضوع الآخر ، وكان خارجا عنه من الأول كما إذا قال : أكرم العدول ولا تكرم الفساق ، فإنّ خروج الفسّاق من الأول ، والعدول من الثاني (١) من باب التخصص ، ولا يطلق عليه الورود ، وقد يطلق أيضا على ما إذا كان ارتفاع موضوع الدليل العام الخارجي لغير المستفاد من الدليل ، كما إذا قال : إذا شككت فابن على كذا ، فزال شكّه من الخارج لا بسبب ورود الدليل ، فلا يكون دليل هناك يطلق عليه اسم الوارد.

ثمّ إنّ ورود أحد الدليلين على الآخر قد لا يكون بجعل من الشارع ، كما إذا ارتفع الشك الذي هو موضوع الأصول بسبب الدليل المفيد للعلم بالواقع ، فإنّ العلم لا يحتاج إلى الجعل ، وقد يكون بجعل الشارع كما إذا كان موضوع الأصل الحيرة ، وكان هناك دليل ظنّي مثبت للحكم الواقعي ، فإنّه ـ مع قطع النظر عن جعل الشارع ، وحكمه باعتبار ذلك الدليل ـ لا يرتفع التحير الذي هو موضوع الأصل ، لكن بعد جعله إيّاه حجّة يرتفع حقيقة ، إذ لا تبقى حيرة بعد وجود ما جعله الشارع طريقا للواقع ، وهذا هو الفرق بين الحكومة والورود ، فإنّ في الحكومة لا يرتفع الموضوع إلا جعلا وتنزيلا كما إذا جعلنا موضوع الأصل الشك في الواقع لا التحير وعدم البيان ،

__________________

(١) لا توجد هذه الكلمة «من الثاني» في نسخة (ب).

٥١

فإنّ الدليل المعتبر لا يرفع الشك إلا تنزيلا ، فهو حكومة لا ورود ، فالرفع في الورود حقيقي وإن كان موقوفا على دليل الاعتبار ، بخلاف الحكومة ؛ فإنّه فيها تنزيلي.

ثمّ لا يخفى أنّ ارتفاع موضوع الدليل المورود قد يكون من جهة كونه مقيّدا بعدم الدليل الآخر الوارد ، وقد لا يكون بسبب تقيده بعدمه بل من جهة كون موضوعه أمرا خاصا يرتفع قهرا بسبب ذلك الدليل ، بيان ذلك : إنّ الورود على قسمين :

أحدهما : أن يكون اعتبار الدليل المورود مقيدا بعدم الوارد كما إذا قلنا : إنّ دليل أصل البراءة مقيد بعدم ورود دليل مفيد للعلم ، أو ظني معتبر من جانب الشارع فبعد ورود الدليل الكذائي يرتفع الموضوع من جهة زوال قيده ، فإنّه على هذا يكون الموضوع الشك المقيّد بعدم الدليل على الواقع.

الثاني : أن يكون الموضوع أمرا خاصا كما إذا جعلنا موضوع الأصل الحيرة أو عدم البيان كما هو كذلك بالنسبة إلى أصل التخيير وأصل البراءة العقلي ، فبعد ورود الدليل المعتبر يرتفع ذلك الأمر الخاص قهرا ، ولو لم يكن دليله مقيدا بعدم ورود هذا ، بمعنى عدم كون التقييد منظورا فيه ، وإلا فهذا أيضا يقيد في عالم اللبّ ، ففي القسم الأول لا إشكال في تقديم الدليل على الأصل ، وإن كان ظنيا ؛ لأنّ الغاية للإصلاح أحد الأمرين من العلم أو الدليل المعتبر.

وأمّا القسم الثاني فالحق فيه أيضا ذلك ، لكن ربّما يستشكل فيه بأنّ التحير مثلا موجود من حيث هو ودفعه بالدليل الظني فرع تقديمه وعدم معارضته بهذا الأصل ، وإلى هذا نظر المحقق الأنصاري قدس‌سره في آخر باب الاستصحاب ، حيث إنّه نقل عن بعضهم أنّ سرّ تقديم الأدلّة الاجتهاديّة عليه أنّ المراد من الشك عدم الدليل والتحير (١) في العمل ، ومع قيام الدليل لا حيرة ، وأورد عليه بأنّه لا يرتفع التحير ولا يصير الدليل قطعي الاعتبار في مورد الاستصحاب إلا بلحاظ الحكومة ، وإلا أمكن أن يقال إنّ مؤدّى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة سواء كان هناك أمارة أو لا ، وقال : لا تندفع مغالطة هذا الكلام إلا بما ذكرنا من طريق الحكومة ،

__________________

(١) في نسخة (ب) : والحيرة.

٥٢

وظاهره (١) أنّه مع تسليم كون الموضوع أمرا خاصا ؛ وهو الحيرة لا يكفي ورود الدليل في دفعه حقيقة ، لكنّ الإنصاف أنّ الحيرة ترتفع حقيقة.

والصواب في الجواب منع كون الموضوع ذلك (٢) ؛ بل الموضوع للاستصحاب الشك في الواقع ، وحينئذ يحتاج إلى طريق الحكومة ، ولذا ذكر في أول هذا الباب الأدلّة (٣) الاجتهاديّة واردة على الأصول العقليّة التي موضوعاتها الحيرة وعدم البيان ، كالتخيير والبراءة العقليّة ، وكيف كان فعدم كون الورود من التعارض واضح إذ بعد رفع الموضوع لا يبقى حكم مناف للدليل الوارد ، حتى يكون المورود معارضا له.

رابعها : باب الحكومة

والكلام :

ـ تارة في بيان حقيقتها

ـ وأخرى في الفرق بينها وبين التخصيص.

ـ وثالثة في وجه عدم كونها من التعارض.

ـ ونتبعها ببيان كيفيّة تقديم الأدلّة الاجتهادية على الأصول العمليّة ، وأنّه من الورود أو الحكومة أو غيرها فهنا مقامات :

[المقام] الأول : الحكومة

أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متصرفا في الدليل الآخر وناظرا إليه نظر شرح وتفسير ، لكن لا بالتفسير الصريح ؛ بل بالتفسير الضمني سواء كان بتخصيص عمومه أو تقييد إطلاقه ، أو بحمله على خلاف ظاهره ، أو إيجابه لعدم العمل بمقتضاه فهي قسم من القرائن المنفصلة في الحقيقة ، والفرق بينها (٤) بالمدلول اللفظي لا بحكم العقل ، كما في غيرها.

ثمّ إنّ نظر الحاكم قد يكون بمقتضى مدلوله كما في قوله «لا حرج ...» على ما

__________________

(١) في نسخة (ب) : فظاهره.

(٢) في نسخة (ب) : كذلك.

(٣) في نسخة (ب) : أن أدلة الاجتهاديّة.

(٤) في نسخة (ب) : وبين غيرها أنّ قرينيتها ...

٥٣

سيأتي بيانه ، وقد يكون مستفادا من السياق كما إذا قال «أكرم العلماء» ، وقال «لا تكرم الفساق» ، واستفيد من سياقه النظر إلى قوله «أكرم العلماء» ، وأيضا قد يكون نظره عمديا مقصودا للمتكلّم ، وقد يكون قهريّا لازما للمدلول من غير أن يكون نظر المتكلّم إلى الشرح ، بل كان نفس المدلول شرحا وبيانا للدليل الآخر فالأول كما في دليل نفي الحرج بالنسبة إلى أدلّة التكاليف ، بناء على كون المراد منه نفي وجود الحرج في أحكام الدين ، فإنّ الأحكام الثابتة في الشرع لموضوعاتها ـ سواء كانت مجعولة سابقا أو لاحقا ـ مرفوعة عن (١) أفرادها الحرجيّة فإنّ المتكلّم بهذا الكلام لا بدّ وأن يكون ناظرا عمدا وقصدا إلى أدلّة تلك الأحكام.

وأمّا إذا حملناه ـ على بعد ـ على إرادة بيان عدم مشروعيّة تحمل المشقّة والحرج بأن يكون المعنى ليس الحكم الحرجي داخلا في جملة أحكام الدين ، وأنّه لا يجوز تحمل المشقّة وأنّ الأفعال الشاقّة مثل الصعود على ذروة الجبال العالية والدوران كلّ يوم ألف مرّة مثلا ونحو ذلك من الأفعال الشاقّة محرّمة أو مكروهة مثلا ، فيكون حكما ابتدائيا كسائر الأحكام الابتدائيّة ، ولا يكون ناظرا ولا حاكما على أدلّة التكاليف ، بل يكون على هذا معارضا (٢) ، وعلى المعنى الأول يزيد مورده على مجموع موارد التكاليف ، وعلى الثاني يشمل الأفعال التي ليست موردا للتكليف ؛ كالصعود على الجبل الشاهق ونحوه.

وكذا قوله «لا شك في النافلة» بناء على كون المراد نفي أحكام الشكوك عنها ، وأمّا إذا حمل ـ على بعده ـ على إرادة بيان الحكم الابتدائي وأنّ في الشك في النافلة يجوز البناء على أي طرف شاء فلا يكون حاكما.

والثاني ؛ كما في أمر الاستصحابين الحاكم أحدهما على الآخر ، فإنّه لا يعقل فيه النظر القصدي لوحدة دليلهما ، ولا يعقل كون دليل واحد ناظرا إلى نفسه نظرا عمديا وكما في الاجتهاديّة بالنسبة إلى الأصول العمليّة على التحقيق ، فإنّه لا التفات فيها إلا إلى بيان الواقع ، ولا التفات في أدلّة اعتبارها إلا إلى بيان وجوب العمل بمقتضاها ،

__________________

(١) في نسخة (ب) : من.

(٢) في نسخة (ب) : معارضا لها.

٥٤

سواء كان هناك أصول عمليّة تعبديّة أو لا ، لكن بعد بيان أنّ (١) الواقع كذا وحكم الشارع بوجوب تصديق المخبر مثلا يرتفع الشك الذي هو موضوع الأصل جعلا ، فترتفع أحكامه ؛ فلو فرضنا عدم جعل الشارع للأصول أصلا صحّ له الحكم بوجوب تصديق العادل وترتيب الأثر على مؤدّى قوله ، لكنّ لازم (٢) هذا المعنى وجوب رفع اليد عنها إذا كانت مجعولة ، لأنّ معنى قوله «إن شككت فابن على كذا» أنّه يجب البناء عليه ما دمت شاكّا أنّ في الواقع ما ذا؟ فإذا أخبر المخبر بأنّه كذا وقال الشارع صدّقه واحكم بأنّه كذا ، فكأنّه لا يبقى شكّ حتى يعمل (٣) بمقتضاه ؛ فيكون الدليل الاجتهادي شارحا قهريّا للأصول.

وبالجملة ؛ لمّا كان لسان الأدلّة إدانة الواقع ولسان الأصول بيان حكم العمل عند الشك في الواقع كانت بمنزلة المفسّر لها ، ثمّ إنّ تصرف الحاكم في المحكوم قد يكون برفع الحكم عن بعض أفراد موضوعه كما في أدلة الحرج ، وقد يكون بتنزيل موضوعه منزلة العدم كما في الأدلّة والأصول ، وأيضا قد يكون بتضييق دائرته ، وقد يكون بتوسيعها ، إمّا في اللب فقط أو في اللفظ أيضا ؛ على الوجهين السابقين في التنزيل الصريح.

فالأول كالأدلّة والأصول والثاني كما إذا قال لا صلاة إلا بوضوء (٤) وقال يجوز الصلاة بالتيمم عند عدم الماء ناظرا بسياقه إلى الأول ، وكاستصحاب الطهارة بالنسبة إلى قوله «لا صلاة إلا بطهور» (٥) بناء على كون مؤدّى الاستصحاب حكما شرعيّا ظاهريّا لا عذريّا ، بحيث يكون مجزيا عند كشف الخلاف فإنّه على هذا يتصرف في قوله «لا صلاة إلا بطهور» بتعميمه لبّا أو لفظا إلى الطهارة الاستصحابيّة وأيضا قد يكون الحاكم متصرفا في نقل الدليل المحكوم ، وقد يكون متصرفا في مقتضاه ،

__________________

(١) لا توجد هذه الكلمة «أنّ» في (ب).

(٢) لا توجد هذه الكلمة «لازم» في نسخة (ب).

(٣) كلمة «يعمل» سقطت من النسخة (ب).

(٤) في نسخة (ب) : إلا بالوضوء.

(٥) الفقيه : ١ / ٢٢ حديث ٦٧ ، التهذيب : ٢ / ١٤٠ حديث ٥٤٥.

٥٥

فالأول واضح ، والثاني كقوله «لا تعاد الصلاة إلا من خمس ..» (١) بالنسبة إلى أدلّة الأجزاء والشرائط ـ على أحد الوجهين ـ وهو أن يكون المراد أجزاء الصلاة (٢) الناقصة عن التامّة مع فرض كون الأجزاء والشرائط واقعيّة ، فإنّ مقتضى أدلّتها ـ بناء على عدم كونها علميّة ـ بطلان الصلاة ، ووجوب الإعادة (٣) من جهة الكشف عن كون الأجزاء والشرائط علميّة ، فيكون من القسم الأول إذ لازمه التصرّف في تلك الأدلّة الظاهرة في الجزئيّة والشرطيّة المطلقتين ، بحملها على خصوص صورة العلم والعمل ، وأنّها في حال النسيان ليست أجزاء وشرائط.

ثمّ إنّ الحاكم قد يكون حاكما بنفسه كأدلة الحرج ، وقد يكون حاكما بلحاظ دليله كما في الأدلة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الأصول على بعض التقريرات فإنّ حكومتها بلحاظ أدلة اعتبارها ، وأيضا قد يكون منافيا للمحكوم بحيث يكون بينهما معارضة مع قطع النظر عن الحكومة ، وقد لا يكون منافيا كالأصول الموضوعيّة بالنسبة إلى الأصول الحكميّة الموافقة لها ، فإنّها حاكمة عليها مع أنّ مقتضاهما واحد وكالأمارات المثبتة لخمريّة ما شكّ كونه خمرا ، حاكم على دليل حرمة الخمر ، المثبتة للموضوعات ، فإنّها حاكمة على أدلّة تلك الموضوعات ، ولا معارضة ولا منافاة بينهما ، مثلا البيّنة الخمريّة بإثبات موضوعه ، مع أنّه لا منافاة بينهما (٤).

وكذا الأصول الموضوعيّة المثبتة للموضوع كاستصحاب الخمريّة أو العدالة أو الفسق أو نحو ذلك من موضوعات الأدلّة ، فالبينة منافية لأصل البراءة وحاكمة عليها ، وحاكمة على دليل حرمة الخمر ، وغير منافية له ، وكذا الاستصحاب مناف لأصل البراءة ، وحاكم عليه برفع الحكم عن موضوعه ، وحاكم على حرمة الخمر

__________________

(١) هذا الحديث هو المؤسّس للقاعدة الفقهيّة المعروفة ب «لا تعاد» ، الفقيه : ١ / ٢٢٥ حديث ٩٩١ ، الوسائل : ٢ / الباب ٣ من أبواب الوضوء ، حديث ٨.

(٢) كلمة «الصلاة» سقطت من النسخة (ب).

(٣) بعد هذا في النسخة (ب) هكذا : ومقتضى قوله لا تعاد عدم العمل بمقتضاها ، مع أنّ المفروض أنّها باقية على ظاهرها من إثبات الشرائط والأجزاء مطلقا ، وأما على الوجه الآخر وهو أن يكون الإجزاء وعدم الإعادة ...

(٤) من قوله «وكالأمارات» إلى قوله «بينهما» لا يوجد في النسخة (ب).

٥٦

بإثبات موضوعه ، من غير منافاة ، ومن ذلك ظهر أنّه يمكن أن يكون لحاكم واحد محكومان يرفع موضوع أحدهما ويثبت موضوع الآخر.

ثمّ إنّ الحكومة قد تكون بين الدليلين الاجتهاديين كأدلة الجرح وأدلّة التكاليف وقد تكون بين الأصلين كالاستصحاب بالنسبة إلى أصل البراءة والاحتياط ، وقد تكون بين الأصل والدليل مع كون الحاكم هو الدليل ؛ وهو واضح ، وقد يكون العكس ، وهذا مع عدم المنافاة بينهما كثيرا ، كالأصول المثبتة لموضوعات الأدلّة.

وأمّا مع المعارضة والمنافاة فكما إذا فرضنا أنّه قال : إذا شككت في شروط الصلاة فعليك بالاحتياط ، ناظرا أنّه لا يعمل فيها بمثل البيّنة ونحوها من الطرق المثبتة لها ، فإنّ قاعدة الاشتغال حينئذ غير حاكمة على ذلك الطرف ، ومبينة لرفع الحكم عنها في موارد تلك الشروط ، وكاستصحاب الطهارة بالنسبة إلى قوله «لا صلاة إلا بطهور» (١) بالنسبة إلى صحة الصلاة ، بناء على كون مؤدّى الاستصحاب حكما شرعيّا ظاهريّا ، بحيث يستلزم الإجزاء عند التخلّف (٢) ، فإنّ مقتضى قوله «لا صلاة ...» بطلان الصلاة بمقتضى الشرطيّة ، ومقتضى الاستصحاب صحّتها على البناء المذكور ، والاستصحاب حاكم عليه (٣) ، إذ يحكم بالصحّة ، وأمّا بالنسبة إلى جواز الدخول في الصلاة بناء على عدم الإجزاء وكونه حكما عذريّا ورخصة في مقام العمل بالاكتفاء ما لم ينكشف الخلاف ، فلا يكون المعارض للاستصحاب حينئذ إلا قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب إحراز الشرط ، إذ قوله «لا صلاة إلا بطهور» (٤) لا يدل على وجوب إحراز الشرط ، وإنّما يدلّ على أنّ الطهارة شرط وأنّ الصلاة بدونها باطلة ، فلا يكون من تقديم الاستصحاب على الدليل الاجتهادي ، وكذا الكلام بالنسبة إلى استصحاب سائر الشروط ، وأدلّة شرطيّتها.

ومن هذا الباب ما ذكره بعضهم ـ على ما حكي عنه ـ من تقديم قاعدة الفراغ ولو

__________________

(١) الفقيه : ١ / ٢٢ حديث ٦٧.

(٢) وهذا بناء على إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي.

(٣) باعتبار أنّ مفاد لا صلاة عدم تحققها مع عدم إحراز الطهارة ، ومفاد الاستصحاب هو أنّ الطهارة محرزة وإن كان الإحراز بالتعبد ، فيكون بيانا متقدما على ذلك الدليل حينئذ.

(٤) الفقيه : ١ / ٢٢ حديث ٦٧.

٥٧

كانت من الأصول على الاستصحاب ، وإن قلنا إنّه من الأمارات لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض أخبارها «وإذا شككت في شيء [من الوضوء] ودخلت في شيء آخر فشكّك ليس بشيء» (١) حيث إنّه نفى موضوع الشك ، ولازمه نفي آثاره (٢) ، ومنها الأخذ بالحالة السابقة ، فظهر أنّه يمكن حكومة الأصل العملي على الدليل الاجتهادي ، إمّا بالنظر العمدي كالمثال المفروض أولا ، وإمّا بالنظر القهري كالمثالين الأخيرين.

واعلم أنّ للشيخ المحقق الأنصاري قدس‌سره في بيان معنى الحكومة عبارتان :

إحداهما : ما ذكره في آخر (٣) باب الاستصحاب (٤) حيث قال : ومعنى الحكومة على ما سيجيء في آخر باب التعارض أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر ، لو لا هذا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله ، لو لا الدليل الحاكم ، قال : وسيجيء ، توضيحه.

والثانية : ما ذكره في أوّل هذا الباب (٥) على ما وعده حيث قال : وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبيّنا لمقدار مدلوله ، وميزان ذلك أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل ، لكان هذا الدليل لغوا ، خاليا عن المورد ، نظير الدليل على أنّه لا حكم للشك في النافلة ، أو مع كثرة الشك .. إلى آخره.

أقول : وظاهره حيث أحال المقام الأول إلى الثاني اتحاد التعبيرين ، لكنّهما متغايران في الجملة ، إذ الفقرة الثانية من العبارة الأولى غير مذكورة في الثانية ، والتعرض بالمدلول اللفظي غير مذكور في الأولى ، وكذا اللغويّة مع فرض عدم ورود الدليل المحكوم ، لكن قد ضرب في بعض النسخ على قوله : وميزان ذلك .. إلى قوله : خاليا عن المورد.

__________________

(١) وسائل الشيعة ؛ الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) في نسخة (ب) : آثارها.

(٣) في نسخة (ب) : أواخر.

(٤) فرائد الأصول : ٣ / ٣٨٩ وما ذكره السيد هنا بالمعنى لا بالنص.

(٥) فرائد الأصول : ٤ / ١٣.

٥٨

وكيف كان فالمراد من الفقرة الأولى في العبارة الأولى واضح ، ومن الفقرة الثانية منها أن يكون الحاكم موجبا لدخول شيء تحت الدليل المحكوم ، بنحو توسيع الدائرة لبّا على وجه الضمّ والإضافة ، أو لفظا على وجه الكشف من التعميم ، كالأصول والأمارات المثبتة لموضوعات الأدلّة.

فإذا ثبت بالاستصحاب أو بالبيّنة خمر به عن تحت (١) لا تشرب الخمر ، فيصدق أنّه حكم الشارع بوجوب الاجتناب عنه ، مع أنّ دليله قوله (٢) «لا تشرب الخمر» لا يقتضي ذلك لو لا الاستصحاب أو الأمارة ، وهكذا فيما كان الحكم (٣) منافيا للمحكوم ومعارضا له لو لا الحكومة ، كما مثّلنا سابقا ، ومن ذلك تظهر الحاجة إلى ذكر هذه الفقرة ، إذ الاقتصار على الأولى يقتضي اختصاص الحكومة بما إذا كان لسان الدليل التخصيص (٤) والتضييق ، ورفع الموضوع ، مع أنّها أعم.

فما عن بعضهم ـ على ما حكي عنه ـ من أنّ الفقرة الثانية غلط ، وقد ضرب عليها وذلك لأنّ التنزيل غير الحكومة ، ومآل تلك الفقرة إلى التنزيل ، في غير محلّه ، إذ قد عرفت أنّ جملة من الحكومات من قبيل ما ذكر ، بل الغالب فيها ، بل كل مورد يكون من القسم الأول داخل في القسم الثاني بوجه آخر ، وبالنسبة إلى المحكوم (٥) آخر ، مثلا البيّنة الحاكمة بخمريّة شيء مخرجة للموضوع عن كونه موضوعا لأصل البراءة أو الاستصحاب ، ومدخلة له في دليل حرمة الخمر ، وهكذا فهي حاكمة على الأصل برفع الموضوع ، وعلى الدليل الاجتهادي ، بإثبات موضوعه.

نعم لا يعدّ منافيا ومعارضا بدويّا إلا للأول ، حسبما عرفت ، هذا مع أنّ كونه تنزيلا لا يقتضي خروجه عن الحكومة ، إذ غالب الحكومات من التنزيل ، نعم التنزيل الصريح كقوله «التيمم وضوء» أو بمنزلة الوضوء غير الحكومة ، فالحكومة تنزيل ضمني ، كما أنّها تفسير ضمني ، وفي المعنى مع ذلك التفسير الصريح ليس بحكومة

__________________

(١) هكذا في النسخة.

(٢) في نسخة (ب) : دليله هو قوله.

(٣) في نسخة (ب) : الحاكم.

(٤) في نسخة (ب) : لسان التخصيص.

(٥) في نسخة (ب) : محكوم.

٥٩

مثلا إذا قال : أكرم العلماء ، أي العدول ، أو أعني العدول ، أو مرادي منهم العدول .. لا يقال إنّه حاكم ، بل تفسير ، فلا يدلّ كونه تنزيلا على كون العبارة غلطا.

هذا مضافا إلى أنّ مفاد الفقرة الأولى أيضا التنزيل ، إذ قال : رفع اليد عن مقتضى الدليل بالدليل الحاكم ، إلى تنزيل موضوعه منزلة العدم ، بل قد عرفت سابقا أنّ الحاكم قد يكون لسانه الابتدائي لسان رفع الموضوع ، فيستلزم رفع الحكم ، وقد يكون بالعكس ، ومن المعلوم أنّه لا فرق بين تنزيل موجود منزلة المعدوم والعكس ، فخروج أحدهما عن الحكومة يقتضي خروج الآخر أيضا.

وأمّا (١) العبارة الثانية فيشكل عليها أنّ ظاهرها اعتبار النظر القصدي في الحكومة فإنّه الظاهر من التعرض للدليل الآخر ، بل هو الظاهر من البيان الذي ذكره بعد ذلك في تقديم الأدلّة الاجتهاديّة ، وكيفيّة حكومتها ، مع أنّك عرفت سابقا أنّ النظر قد يكون قهريا لازما للمدلول ، ومن ذلك يظهر أنّ ما جعله ميزانا للحكومة من اللغويّة على تقدير عدم المحكوم أيضا غير صحيح ، إذ ليس الحال في الأدلّة الاجتهاديّة كذلك ، إذ مع عدم جعل الأصول التعبديّة أصلا لا سابقا ولا لاحقا ، لا يلزم لغويّة وجوب العمل بها ، إذ مفادها ترتيب أثر الواقع على مؤدّاها ، نعم يتم الأمران أي النظر القصدي واللغويّة في بعض موارد الحكومة ، كأدلة الحرج بناء على المعنى الذي تصير معها حاكمة ، وكقوله «لا شك في النافلة» وأمثال ذلك ، إذ مع عدم جعل الأحكام لا معنى لنفيها عن الموضوع الحرجي.

وحمل كلامه على اللغويّة في حيث النظر لا مطلقا ، إنّما يصحح بعض الموارد لا جميعها ، فلا يتم في الأدلّة الاجتهاديّة حيث إنّ نظرها ليس قصديا حتى يحتاج إلى منظور فعلا ، بل هو قهري ، وهو لا يحتاج إلى وجود محكوم ، بل يكفيه كونه بحيث لو كان هناك أصل مجعول لكان محكوما ومنظورا إليه في مثل لا حرج أيضا ، إذا لم يكن شيء من الأحكام يلزم لغويّة النظر بالنسبة إلى كلّ واحد من التكاليف ، فمع عدم بعضها لا يلزم اللغويّة ، إذ نظره على نحو العموم ، فلا ينافيه إخراج بعض الأفراد عنه.

ثمّ إنّه قد يحكى عن بعضهم في ميزان الحكومة : أنّ كل دليل كان تعقله في

__________________

(١) في نسخة (ب) : هذا وأمّا.

٦٠