كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

لفهم الاختصاص في أخبار التخيير ، لا أقلّ من الشك في شمولها للصورة المفروضة بالملاحظة المذكورة ، فلا يكون دليلا على التخيير ، فنرجع إلى الأصل ، وقد عرفت أنّ مقتضاه ـ في الدوران بين التخيير والتعيين ـ التعيين ؛ والمفروض أنّه لا إشكال في أنّ الحكم ـ مع عدم الترجيح ـ التخيير ، فتكون المسألة من الدوران المذكور.

ولكن قد عرفت سابقا منّا الخدشة في هذا الأصل ، وأنّ الحق في صورة الدوران التخيير ؛ فراجع (١).

وكيف كان ؛ فلا ينبغي التأمّل (٢) فيما ذكرنا بملاحظة مجموع ما ذكر من الإجماع ، وبناء العقلاء ، وسياق أخبار التخيير ، وأخبار الترجيح ؛ هذا كلّه مضافا إلى أنّ في الأخبار فقرات تدلّ على المختار :

منها : الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة والأوثقيّة في المرفوعة ، فإنّه يمكن أن يفهم منهما (٣) التعدي إلى جميع صفات الراوي ، فإنّه يمكن أن يفهم منهما التعداد من جميعها في الأصدقيّة (٤) ، فإنّ المراد من الأصدقيّة ليس مجرد كون الراوي من حيث هو أصدق ، بل الأصدقيّة من حيث نقله الحديث ، ولذا قال «وأصدقهما في الحديث» ، فلو فرضنا أنّ أحد الراويين عادل والآخر غير عادل ، أو أحدهما إماميّ والآخر عامّي ، أو نحو ذلك ، أمكن أن يقال إنّ العدل أصدق من الفاسق ، والإمامي أصدق من العامي ، وهكذا يمكن أن يقال : الأضبط أصدق من غيره ، ويمكن إدراجها في الأوثق ، بل يمكن أن يقال إنّ ناقل اللفظ أوثق من ناقل المعنى وهكذا ..

فجميع الصفات من المنصوصات وغيرها داخلة في الأصدقيّة أو الأوثقيّة ، أو فيهما معا ، ولذا اقتصر في المرفوعة على الأعدليّة والأوثقيّة ، بل الظاهر أنّ الأوثقيّة فيها

__________________

(١) راجع الصفحة ١٨٧ ـ ١٨٨ ، وموارد متعددة أخرى من الكتاب.

(٢) في نسخة (د) : وكيف كان فمقتضى التأمل ...

(٣) لا توجد كلمة «فيهما» في نسخة (د).

(٤) هكذا العبارة في النسخة ؛ وكما ترى فإنّ فيها اضطرابا ، نعم يمكن التوجه للمراد من خلال معرفة أنّه يريد إرجاع كل الصفات إلى صفة الأصدقيّة ، وجاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : فإنّه يمكن أن إدراك جميعها في الأوثقيّة أو في الأصدقيّة من حيث نقله الحديث. والعبارة بعدها لا توجد في نسخة (د) إلى قوله : ولذا قال «وأصدقهما ..».

٤٤١

من باب ذكر العام بعد الخاص ، فعلى هذا جميع الصفات من المرجّحات المنصوصة.

ومن هنا يمكن أن يقال ـ بناء على عدم التعدي عن المنصوصات ـ بالتعدي بالنسبة إلى الصفات كما أشرنا إليه آنفا ، وهذا الوجه من الاستدلال أولى ممّا ذكره المحقق الأنصاري في الرسالة ، حيث لم يدرج الصفات في الأصدقيّة والأوثقيّة ، بل قال : إنّه يفهم من اعتبارهما أنّ المدار على أقربيّة الواقع ، لا على خصوصيّتهما ، بخلاف سائر الصفات من الأعدليّة والأفقهيّة ، فإنّهما يحتملان الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاص ، وجه الأولويّة : أنّه يرد على بيانه إمكان دعوى عدم الفرق بينهما وبين غيرهما من الأعدليّة وأختيها في أنّ الظاهر من اعتبارها كونها موجبة للأقربيّة ، لا من حيث هي هي ، إذ من المعلوم أنّ وجه تقديم الأعدل ليس أنّ الأعدل أولى بالاحترام من العادل في سماع خبره وهكذا ..

وكذا في (١) الأصدقيّة والأوثقيّة ، وكما يحتمل كون الأعدليّة معتبرة من حيث كونها سببا خاصا في الأقربيّة ، فكذا يحتمل ذلك في الأصدقيّة والأوثقيّة ، فكلّها سواء في أنّ المناط فيها الأقربيّة لا مجرّد الاحترام مثلا ، وسواء أيضا من حيث احتمال كون معيار الأقربيّة من السبب الخاص.

وأمّا على ما ذكرنا فلا يرد هذا الإيراد ، وذلك لأنّا أدرجنا جميع الصفات في الصفتين المذكورتين ، ومنها قول الراوي «قلت فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر» ، فإنّه فهم من كلام الإمام عليه‌السلام أنّ المعيار وجود زيادة لأحد الراويين على الآخر ، ولذا لم يذكر من المذكورات إلا العدالة ، وذكر المرضي ، مع إنّه ليس في كلام الإمام عليه‌السلام ، وقال لا يفضل واحد منهما ، يعني في أمثال الصفات المذكورة ، والإمام عليه‌السلام قرّره على فهمه هذا.

ودعوى إمكان كون المراد لا يفضل واحد منهما في الترجيح المذكور ، وهو اجتماع الصفات المذكورة ـ يعني ليس أحدهما جامعا لهذه الصفات دون الآخر ـ فلا يكون لأحدهما فضل.

__________________

(١) لا توجد كلمة «في» في نسخة (د).

٤٤٢

مدفوعة ببعد ذلك عن العبارة كما لا يخفى! كيف ولو (١) كان كذلك لوجب أن يسأل عن صورة وجود بعض هذه الصفات ، أو تعارض بعضها مع بعض ، مع إنّهما من الأفراد الغالبة المتبادرة إلى ذهن كلّ أحد ، فهذه الفقرة أيضا دليل على التعدي إلى مطلق الصفات ، نعم لا يستفاد منها التعدي إلى سائر المرجّحات ممّا لا يرجع إلى الصفات.

ومنها : تعليله الأخذ بالمشهور بقوله عليه‌السلام «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» بعد معلوميّة أنّ مجرّد كون الخبر معروفا مشهورا بين الأصحاب لا يوجب كونه ممّا لا ريب فيه من جميع الجهات ، فيكون المراد أنّه لا ريب فيه بالنسبة إلى الخبر الشاذ ، بمعنى أنّه يحتمل في الشاذ أن يكون كذبا وأن يكون تقيّة ، وهذان الاحتمالان إمّا منتفيان في الخبر المشهور أو بعيدان عنه ، فيدل بمقتضى وجوب الأخذ بعموم العلّة أنّ كلّ خبرين يكون أحدهما لا ريب فيه في جهة من الجهات بالنسبة إلى الآخر يجب الأخذ به ، وإنّما قلنا إنّ مجرّد الشهرة لا يقتضي كونه ممّا لا ريب فيه من جميع الجهات ؛ لأنّه ـ مضافا إلى وضوحه في نفسه من حيث إنّه يمكن أن لا يكون صادرا أو لا يكون المراد ظاهره ـ لو كان كذلك لم يكن معنى لكونهما معا مشهورين ؛ إذ لا يمكن كون كلا الخبرين قطعي السند والدلالة ، ولم يكن وجه لتأخره عن الصفات ، ولم يكن وجه للرجوع بعده إلى سائر المرجّحات.

ودعوى أنّ حيثيّة الدلالة خارجة عن المقام ، ويمكن حمله على كون المراد أنّ المشهور قطعي السند بخلاف غيره ، ومعه يمكن أن يكونا معا مشهورين ، ويمكن الرجوع إلى سائر المرجّحات فإنّه لا منافاة بين كونهما قطعيين والرجوع إلى مخالفة العامّة أو موافقة الكتاب.

مدفوعة :

أولا : بأنّه لا وجه مع هذا أيضا لتأخره عن الصفات ، إلا أن يمنع كون الصفات للراوي ، بل هي من مرجحات الحكمين.

وثانيا : إنّه على هذا أيضا يكون دليلا على المختار ؛ إذ على هذا أيضا يكون ممّا لا

__________________

(١) في النسخة : كيف لو ...

٤٤٣

ريب فيه في الجملة ، أي باعتبار السند فقط ، فيكون حاصل المراد أنّه يجب الأخذ بالخبر المشهور ؛ لأنّ سنده قطعي وإن لم يكن مقطوع الدلالة ؛ بخلاف الشاذ فإنّه ليس كذلك ، فالمشهور ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى الشاذ ، فيكون مقتضى عموم التعليل أنّه يجب الترجيح بكل ما يكون قطعيّا في الجملة ، فنقول : إذا فرض كون إحدى الروايتين منقولة باللفظ ، والأخرى بالمعنى ، فإنّ (١) الأولى قطعيّة من حيث عدم احتمال كون الراوي مخطئا في فهمه مراد الإمام عليه‌السلام ، ونقله ؛ بخلاف الثانية فإنّه يحتمل أن لا تكون مضمون كلام الإمام عليه‌السلام فتكون الأولى ممّا لا ريب فيه بالنسبة ، وهكذا .. ، هذا (٢) مع أنّ مجرّد المعروفيّة لا يقتضي قطعيّة السند كما عرفت ، إذ الجميع ينقلونه عن واحد ، وليس المراد بالمعروفيّة أن يكون كلّ واحد من الأصحاب ناقلا له عن الإمام عليه‌السلام وإلا كان من المتواتر.

فإن قلت : يمكن أن يكون المراد نفي الريب الشرعي التعبّدي ؛ يعني في صورة تعارض الخبرين يجب الأخذ بالمشهور ، فإنّ وجوب الأخذ به ممّا لا ريب فيه ، فيكون الإمام عليه‌السلام منشأ لعدم الريب فيه بقوله (عليه‌السلام) (٣) هذا ، إلا أنّه مخبر بعدم الريب فيه وأنّه يجب الأخذ به من هذه الجهة ، ويؤيّده أنّه على هذا يمكن إرادة نفي الريب المطلق ، كما هو الظاهر منه ، وأيضا على المعنى الأول تكون صورة كون الخبرين كليهما معروفين داخلة تحت ما لا يكون (٤) ممّا لا ريب فيه ؛ إذ المفروض تساويهما من هذه الجهة ، مع إنّ الظاهر من الخبر أنّها داخلة تحت ما يكون كليهما ممّا لا ريب فيه ، يعني أنّ المرجح الذي ذكرت موجود في كليهما ، لا أنّه ليس موجودا في واحد منهما.

وعلى هذا فلا وجه للتعدي ؛ لأنّ العلّة على هذا ليست علّة حقيقيّة ، بل إنشاء للحكم بلسان التعليل ، كأن يقال في مقام إنشاء حلّيّة شيء كل اللحم ـ مثلا ـ لأنّه طيّب أي طيّب شرعي ، وعلى فرض كونها علّة حقيقيّة فاللازم التعدية إلى ما يكون

__________________

(١) في النّسخ : انّ.

(٢) لا توجد كلمة «هذا» في نسخة (د).

(٣) لا توجد في نسخة (د).

(٤) في نسخة (د) هكذا : ما يكون ...

٤٤٤

ممّا لا ريب فيه شرعا ، وهو لا يكون إلا بعد ثبوت الترجيح شرعا.

قلت : هذا الاحتمال ـ مضافا إلى بعده في نفسه حيث إنّ ظاهر التعليل كونه إرشادا إلى ما هو المعلوم ، وإن كان إنشاء بالنسبة إلى وجوب الأخذ به ، يعني أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه من حيث هو ، فيجب الأخذ به كما إذا قال خذ بقول زرارة لأنّه ثقة ؛ فإنّه ليس المراد أنّه (١) جعلته موثوقا به ـ ينافيه الاستشهاد بحديث التثليث ، إذ الظاهر من الاستشهاد أنّ الخبر المشهور من قبيل الحلال البيّن ، ومن بيّن الرشد من حيث هو ، والخبر الشاذّ من قبيل المشتبه من حيث هو.

ومنها : تعليل طرح الخبر الموافق للعامّة بأنّ فيه التقيّة ، كما في قوله عليه‌السلام «ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة» (٢) ، أو ب «أنّ الرشد في خلافهم» (٣) ، فإنّ من المعلوم أنّ القضيّتين غالبيّتان ؛ لا دائميّتان ، فيكون المراد أنّه يجب طرح (٤) الموافق ؛ لأنّه يحتمل كونه تقيّة ؛ لأنّ الغالب فى «ما سمعتم منّي يشبه قولهم» التقية ، أو لأنّه يحتمل كونه خلاف الحق ، لأنّ الغالب كون الحق في خلافهم ، فيدلّ بمقتضى عموم التعليل على وجوب الأخذ بما لا يتطرق إليه هذا (٥) الاحتمال عند الدوران.

ولا ينافي ما ذكرنا كون الحمل على التقيّة من الجمع الدلالي في الحقيقة ، بناء على وجوب التورية على الإمام عليه‌السلام ؛ وذلك لأنّ الاستدلال إنّما هو بالتعليل المذكور لا بمجرّد عدّه ممّا يجب معه التقديم ، حتى يقال إنّه جمع دلالي لا ربط له بمقامنا ، فاندفع بذلك ما قيل في مقام الإيراد على الاستدلال المذكور من أنّ وجه تقديم الخبر المخالف للعامّة :

إن كان هو التقيّة فالترجيح بها يخرج عن مورد الكلام من الترجيح السندي ، بل هو داخل في الترجيح الدلالي ـ بناء على وجوب التورية على الإمام عليه‌السلام في مقام التقيّة وعدم جواز الكذب مع إمكانها ـ لأنّه على هذا يكون الخبران متساويين من

__________________

(١) في نسخة (د) : أنّي.

(٢) التهذيب : ٨ / ٩٨ ، عنه الوسائل : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٤٦.

(٣) الكافي : ١ / ٦٧ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ١٩.

(٤) لا توجد كلمة «طرح» في نسخة (د) بل كتبت كلمة «الأخذ» ثمّ شطب عليها.

(٥) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : بما لا يتطرق إليه مثل هذا الاحتمال.

٤٤٥

جميع الجهات ؛ من السند والدلالة ، إلا في احتمال إرادة خلاف الظاهر في الخبر الموافق من جهة التقيّة ، وهذا الاحتمال لا يجري في الخبر المخالف ؛ فيؤخذ بسندهما ، ويحمل الموافق على إرادة خلاف الظاهر.

وإن كان الوجه هو كون الرشد في خلافهم ، فمع عدم تعيين كون الوجه ذلك لمساواة احتمال كونه هو التقيّة في الموافق ، لا يقاوم ظهوره في التعدي ظهور سوق الأخبار في الاقتصار ، وعدم الاعتبار بكل مزيّة من جهات عديدة.

وجه الاندفاع ما عرفت من أنّ محلّ الاستشهاد والاستدلال التعليل بالقضيّة الغالبيّة ، ولو كان الحمل على التقية من باب الجمع فالإمام عليه‌السلام علل وجوب الطرد باحتمال كون الخبر صادرا على وجه التقيّة ، لا بأنّه يمكن الجمع الدلالي ، مع أنّ هذا الجمع ليس ممّا يساعد عليه العرف ، فليس من الجمع المقبول ، فوجوب الأخذ إنّما يكون من باب الترجيح السندي ، ألا ترى أنّه لو لم ترد الأخبار بوجوب الأخذ بمخالف العامّة لم نكن نقول (١) به من حيث إنّه جمع بين الأخبار ، ولو كان من الجمع المقبول لم يحتج إلى ورود التعبد به (٢).

وأمّا ما ذكره في الوجه الثاني من كون الاحتمال المذكور مساويا لاحتمال التقيّة ففيه أنّ المفروض أنّ الإمام عليه‌السلام علل الحكم بكون الرشد في خلافهم ، فنحن نأخذ بعموم هذا التعليل ، وإن كان السرّ الواقعي في الأخذ بخلافهم في المقام هو التقيّة ، فالحجّة ظاهر العنوان المذكور في مقام التعليل ، والمدار عليه ، وأمّا دعوى عدم مقاومة هذا الظهور لسوق الأخبار في الاقتصار ، فلا يخفى ما فيه ، إذ بعد ظهوره في التعدي لا يبقى لها سوق ، وسيأتي التكلّم في الجهات التي ادّعى إفادتها الاقتصار وأنّها لا تفيده.

هذا ؛ ومن الغريب ما ذكره بعض آخر في الإيراد على الدليل المذكور حيث قال : إنّ الترجيح بالمخالفة إمّا من جهة كشف الموافقة عن البطلان ؛ لغلبة مخالفة

__________________

(١) في النسخة : نقل.

(٢) باعتبار أنّ الجمع المقبول عرفا كاف في الاعتبار به ، كما هو حال الجمع بين كل كلامين ظاهرهما التعارض بإلقائهما على العرف.

٤٤٦

أحكامهم للواقع ، وإمّا من جهة كون الموافقة أمارة على التقيّة ، فعلى الأول نمنع كون غلبة المخالفة موجبة للأخذ بالمخالف إذا لم يفد الظن ؛ بل لا نتحاشى من دعوى إفادة الغلبة ـ في مقام التعارض ـ للظن بحقيّة المخالف.

وأمّا على الثاني فلا ربط له بالترجيح بالأقربيّة والأبعديّة ، بل يكون الأخذ بذي المرجّح حينئذ من باب التعبّد بمجرّد احتمال التقيّة ، ولا نتحاشى عن الأخذ بهذا المرجّح بخصوصه مجرّدا عن الظن ، نظرا إلى إجماع العلماء عليه ، واستقرار بنائهم على الترجيح بمجرّد المخالفة ؛ انتهى.

وغرضه من هذا الكلام أنّه لا يستفاد من التعليل المذكور التعدي إلى كل مزيّة ، وإن لم تفد الظن الفعلي ، وأنت خبير بأنّ غلبة كون الحق في خلافهم لا توجب الظنّ الفعلي في كلّ مقام ، مع أنّ الإمام عليه‌السلام أطلق وجوب الأخذ به بالتعليل المذكور ، فيدل على التعدي إلى كل ما يكون من هذا القبيل أي ما يفيد الظنّ النوعي ، وأمّا ما ذكره من عدم كون غلبة التقيّة موجبة للأمر به (١) ؛ ففيه ما لا يخفى! إذ لا فرق بين هذه الغلبة وغلبة كون الحق في خلافهم ، فكيف تفيد تلك الظن الفعلي في جميع مقامات التعارض ، وهذه لا تفيد الأقربيّة أيضا ، مع أنّه بناء عليه يدل ـ بمقتضى عموم التعليل ـ إلى كل ما يكون من قبيله ، وهذا واضح.

هذا ؛ ولا يخفى أنّ المستفاد من الفقرات المذكورة التعدي إلى ما يكون من سنخ المذكورات ممّا يوجب قوّة الخبر في طريقيّته ، ولا يكفي من الصفات ما لا يكون كذلك ، وكذا غيرها من المزايا ، فلا يرجح بكل احتمال ، وبكل أقربيّة إلى الواقع إذا لم تكن ممّا يوجب القوّة نوعا ، ولا يعتبر حصول الظنّ الفعلي منها ، كما إنّه لا اعتبار بالظنّ الفعلي بالواقع أو بالصدور إذا لم يكن حاصلا ممّا يكون نوعه موجبا للقوّة والأقربيّة ، كالحاصل بالاستحسان والقياس والنوم (٢) ؛ ونحو ذلك من الطرق الغير المعتبرة عند العقلاء.

__________________

(١) في نسخة (د) : للأقربيّة. وهو الصواب لما سيأتي.

(٢) المقصود أنّه لا يتحقق من هذه الأمور ظن نوعي بل لا يتعدى عن كونه ظنّا مختصا بالشخص الذي تحقق عنده استحسان أو شكل قياسي.

٤٤٧

ودعوى أنّ المستفاد من قوله «لا يفضل» أنّ المدار على مجرّد الزيادة ، ولازمه كفاية مجرّد وجود احتمال في أحدهما مفقود في الآخر ، وكذا من قوله عليه‌السلام «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ، بعد حمله على الريب النسبي.

مدفوعة : بأنّ المراد من الفضيلة ما يكون فضيلة في نظر العرف ، فمثل الحريّة والعبديّة والأعدليّة في الجملة ، والأورعيّة كذلك ممّا لا يعتنى به عند العقلاء ، ويعدّ عندهم الخبران من المتساويين ، لا اعتبار بها (١) ، وإن كانت زيادة بحسب الدقّة العقليّة ، وكذا المراد من الريب : الريب العرفي ، ومن المعلوم عدم صدقه عرفا بمجرّد وجود بعض الاحتمالات ، وهذا ليس تقييدا في الخبر ، كما لا يخفى! بل هو انسياق عرفي (٢) ، ففي المنصوصات أيضا مثل الأعدليّة لا اعتبار بكل أعدليّة ، وإن كانت زيادة يسيرة ، وهذا واضح بعد عدم كون الرجوع إليها من باب التعبد ، بل من باب الأقوائيّة في الطريقيّة ، كما هو المفروض ؛ بناء على التعدي والمعلوم من حيث هو ، ألا ترى أنّه لو دار أمر أهل العرف في الرجوع إلى أهل الخبرة بين شخصين ، وكان أحدهما أخبر في الجملة لا يقدمونه حينئذ ، بل يتوقفون ويجعلونهما متساويين ، فلا وجه للدعوى المذكورة.

كما لا وجه لدعوى أنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام «فإنّ الرشد في خلافهم» أنّ المدار على الظن بالحقية وإن لم يكن حاصلا من الأمور المتعارفة ، وكذا من قوله عليه‌السلام (٣) «وأصدقهما» ؛ وذلك لأنّ المستفاد من الفقرة المذكورة الاعتبار بما يكون الحق معه غالبا ، أو يكون خلافه كذبا غالبا ؛ لأنّه كأنّه قال خذ بخلاف العامّة ؛ لأنّ الغالب كون الرشد في خلافهم فلا بدّ من تحقق مثل هذه الغلبة في مورد التعدي أيضا ، وكذا

__________________

(١) في النسخ : لا اعتبار به.

(٢) مرّ سابقا لفظ السّوق ، ويذكر الآن لفظ الانسياق ، فينبغي التمييز بينهما ، فعندنا ألفاظ ثلاثة : السياق والمساق والانسباق ؛ فأمّا السياق فالمقصود منه ما سيقت لأجله الجملة من معنى يراد تأديته بها في ضمن جمل أخر أو ضمن كلمات أخر ، والمساق هو الغرض الداعي لسوق الجملة ، والانسباق واضح وهو ما يسبق إلى الذهن قبل غيره من المعانى المحتملة في الكلمة أو في الهيئة التركيبيّة.

(٣) من قوله «فإنّ الرشد في ..» إلى هنا لا يوجد في نسخة (د).

٤٤٨

(المناط) (١) المستفاد من قوله «وأصدقهما» الظن بالواقع ؛ الذي استفيد من مثل الأصدقيّة ، كما يكون من الأسباب للظن نوعا ، فعلى هذا لا نتعدى إلى كل ما ذكره الأصوليون من المزايا التي سنذكرها.

ثمّ لا يخفى أنّه لا فرق في المرجح الذي يوجب التقديم بين أن يكون مفيدا للظن النوعي بالواقع أو لا ، أو بواسطة الظن بالصدور نوعا ؛ لأنّه وإن كان النظر إلى الواقع والأقربيّة إليه ، لكن يكفي الأقربيّة إلى الصدور ؛ لأنّها أقربيّة إلى الواقع ، بل يكفي إذا كان موجبا لأقربيّة الخبر الآخر إلى خلاف الواقع ، وإلى الكذب ، فقوة أحد الخبرين إمّا بضم ما يوجب أقربيّته إلى الواقع إليه ، وبعبارة أخرى .. بأمارة على حقيته أو بأمارة على عدم حقيّة الآخر ، لقوله عليه‌السلام «فإنّ الرشد في خلافهم» فإنّ غلبة كون الرشد في خلافهم أمارة على بطلان الخبر الموافق ، لا على حقيّة المخالف ، لعدم انحصار خلاف العامّة في مفاد الخبر المخالف ، إلا أن يعلم من الخارج حقيّة أحد الخبرين واقعا ؛ وهو نادر.

والحاصل أنّ المرجّح قسمان : قسم يكون موجبا لأقربيّة هذه إلى الواقع ، وقسم يكون موجبا لأبعديّة الآخر عنه ، وهذا أيضا نوع قوّة في الخبر ، كما لا يخفى ، ولا فرق في هذا بين ما اخترنا من الاعتبار بالأمارة المفيدة للظن النوعي ، وبين القول بكفاية مجرّد الاحتمال ، وبين القول باعتبار الظن الشخصي ، إذ القائل بكفاية مجرّد الاحتمال أيضا له أن يقول : وجود احتمال البطلان في أحدهما دون الآخر من جهة من الجهات موجب لرجحانه ، والقائل باعتبار الظن أيضا له أن يقول بكفاية الظن ببطلان الآخر أو كذبه ، وإن لم يحصل الظنّ بصدق هذا (٢).

ثمّ إنّه قد يستدلّ على المختار من التعدي بقوله عليه‌السلام «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٣) فإنّ الخبر المقرون بمزيّة من المزايا لا يريب بالنسبة إلى الآخر ؛ لمكان وجود احتمال من كذب أو تقيّة أو نحوهما في الثاني دون الأول.

__________________

(١) كلمة غير مقروءة ، وأثبتناها من نسخة (د).

(٢) في نسخة (د) هكذا : بصدقه هذا ...

(٣) عوالي اللئالي : ١ / ٣٩٤ حديث ٤٠ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / باب ١٢ حديث ٥٤.

٤٤٩

وفيه :

أولا : إنّ المراد منه الاحتياط والعمل بما لا ريب فيه مطلقا ، ولازمه العمل بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، إلا أن يقال إنّ المفروض إذا كان عدم وجوب الاحتياط في المسألة الفرعيّة وأن المدار على التخيير أو العمل بالأرجح ، فيكون الثاني ممّا لا ريب فيه بقول مطلق ، فهو نظير الاحتياط في المسائل الفرعيّة من بعض الجهات دون بعض ، مثلا إذا شكّ في وجوب السورة ، فإتيانها ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى تركها ، وإن لم يعلم معه بصحّة الصلاة من جهات أخرى ، فيمكن التمسك بهذا الخبر للاحتياط من الجهة المذكورة ، ففي المقام أيضا إذا ترك العمل بالمرجوح وعمل بالأرجح ؛ فقد ترك ما فيه ريب إلى ما لا ريب فيه ، بعد عدم وجوب الاحتياط الكلي بالمفروض (١).

وثانيا : إنّ الخبر محمول على الاستحباب أو الإرشاد ، بناء على ما حقق في محلّه من عدم وجوب الاحتياط في الشبهات البدويّة ، ومسألة الأقل والأكثر (٢).

وثالثا : إنّ هذا الخبر يدل على وجوب الاحتياط عند عدم الدليل على خلافه ، فلا يكون معارضا للدليل ، وبعبارة أخرى : لسانه لسان الاحتياط لا بيان الواقع ، فنقول في مقامنا : ليس العمل بالمرجوح ممّا فيه ريب ؛ لأنّ مقتضى إطلاق أخبار التخيير جواز العمل به فيخرج عمّا فيه الريب ، وليس المراد من الريب احتمال خلاف الواقع حتى يقال إنّه موجود حينئذ أيضا.

وبعبارة أخرى : لو كان مفاده وجوب إدراك الواقع مهما أمكن ؛ أمكن أن يقال يجب الترجيح بمجرّد الاحتمال ، لكن ليس كذلك ؛ بل علّق الوجوب على الريب الغير الموجود في صورة وجود الإطلاق ، كما في المقام ، فهو لا يعارض الدليل ، ولا

__________________

(١) هذه الكلمة غير واضحة ؛ وكأنّه كتبت ثمّ شطب على بعضها. وجاءت في نسخة (د) ٦ بالفرض.

(٢) أمّا بالنسبة للشبهات البدويّة فالمحقق عند الشيخ وجماعة وجوب الاحتياط فيها قبل الفحص وعدمه بعدها وهذا خلاف ما ذكره هنا ، ولعله يقصد المحقق عنده كما مرّ بيان نظره سابقا ، وأمّا بالنسبة للأقل والأكثر فهي محل خلاف فالبعض يختار الاشتغال والبعض يختار البراءة عن الأكثر ؛ هذا على تفصيل ليس هذا محله بين الأجزاء الخارجية والذهنيّة فالتفت!

٤٥٠

يخصص الإطلاق كسائر أخبار الاحتياط ؛ فتدبّر!

والحاصل أنّ هذه الرواية ـ على فرض عدم اختصاصها بعدم الريب المطلق من جميع الجهات ، ودلالتها على الوجوب ـ إنّما تنفع لو شك في وجوب الترجيح في قبال التخيير ، ولم يكن دليل من إطلاق أو عموم على عدم الوجوب ، كما في الشبهة الموضوعيّة المصداقيّة ، وأمّا في مثل المقام فلا ؛ إذ هي لا تصلح لتقييد الإطلاقات بل مرافقة (١) لموضوعها ، وهو الريب ؛ بناء على تنزيلها على الريب في جواز العمل وبناء على إرادة الريب من حيث إدراك الواقع فالإطلاقات حاكمة عليها كحكومتها على سائر أخبار الاحتياط كما في سائر المقامات.

ويمكن أن يستدل على عدم التعدي وتعبديّة المرجّحات ـ مضافا إلى العمومات الدالّة على حرمة العمل بغير العلم (٢) ، وخصوص خبر العيون (٣) حيث قال في الخبرين المتعارضين بعد ما ذكر الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة «ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكفّ والتثبت والوقوف .. إلى آخره ـ بإطلاقات أخبار التخيير بعد منع نهوض أخبار الترجيح للدلالة على العمل بكل مزيّة ، ومنع ظهور الفقرات المذكورة في التعدي بما أشرنا إليه في ضمن الاستدلال بها.

والجواب : ما عرفت من تماميّة دلالتها ؛ مضافا إلى الإجماع وبناء العقلاء وما ذكرنا من أنّ مساق أخبار التخيير صورة التساوي ، بحيث يتخيّر المكلّف في مقام العمل ومع وجود ما يقوي أحد الخبرين لا حيرة.

وأمّا خبر العيون ؛ فهو وإن عارض الأدلّة ـ بناء على تماميّة دلالته ـ لكنّها ممنوعة ، فيكون المراد العمل بمثل الظنون القياسيّة والاستحسانيّة (٤) ونحوها لا ما يكون مثل موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامّة .. ونحوها ، فإنّ الاعتماد عليها في ترجيح أحد الخبرين ليس عملا بالرأي ، مع أنّه يمكن أن يكون المراد لا تقولوا في مقام إثبات

__________________

(١) وردت في نسخة (د) هكذا : بل هي رافعة ...

(٢) في النسخة : العمل.

(٣) عيون أخبار الرضا : ٢ / ٢١ ، عنه : وسائل الشيعة : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢١.

(٤) أي يكون المنهي عنه هو خصوص الظنون القياسية والاستحسانيّة.

٤٥١

الحكم الشرعي بآرائكم بمعنى لا تعيّنوا الحكم بآرائكم ، فلا يكون ناظرا إلى ترجيح أحد الخبرين على الآخر ، فإنّه قال «وما لم (١) تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم» (٢) ، يعني ردّوا إلينا علم الحكم الشرعي ولا تقولوا فيه بآرائكم ، أي لا تعملوا بالقياس (٣) ونحوه ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ قوله عليه‌السلام «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه» إشارة إلى كون المذكورات فيه من باب المثال ؛ فتدبّر!.

هذا ؛ وقد يقال إنّ المستفاد من سياق أخبار الترجيح التعبديّة والاقتصار ، فهي ظاهرة بمقتضى سياقها في ذلك ظهورا يساوي ظهور بعض الفقرات المذكورة في التعدي على فرض تسليمه ، وذلك لأنّها لو لم تكن تعبديّة ، وكان المدار على مطلق المزيّة لوجب ذكر هذا بنحو القاعدة الكليّة ، ولم يكن وجه للعدول عنها ببيان بعض المرجّحات ، وأيضا يستفاد من كثرة سؤال السائل عن فرض المساواة في بعض المرجّحات ، وجواب الإمام عليه‌السلام بالرجوع إلى مرجح آخر أنّه لم يفهم منها إلا التعبديّة والاقتصار دون المثاليّة ، وإلا لم يسأل مرّة ثانية عن صورة المساواة والإمام عليه‌السلام قرّره على ذلك ، وإلا لأجاب بأنّ المعيار الأقوائيّة من أي جهة كانت ، أو نبّهه على غفلته عن فهم المراد ، وأيضا لو لا التعبديّة لم يكن وجه للحكم بالتخيير بعد فقد المنصوصات ، بل وجب الإرجاع إلى سائر المزايا.

وفيه : إنّه يمكن أن يقال إنّ تعداد المرجّحات المذكورة وعدم بيان القاعدة الكليّة إنّما هو للإرشاد (٤) إلى مقولاتها ، مع أنّ هذا وارد على جميع الأخبار في جميع الأبواب ، إذ كان يمكن إعطاء الكليّات مع أنّهم ذكروا الأحكام بأمثلة جزئيّة ، ألا ترى أنّه لم يرد في نجاسة الماء القليل خبر بنحو القاعدة الكليّة ، بل هي مستفادة من

__________________

(١) لا توجد كلمة «وما لم» في نسخة (د) ، بل الموجود : لا تجدوه ...

(٢) عيون أخبار الرضا : ٢ / ٢١ ، عنه : وسائل الشيعة : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢١.

(٣) في نسخة (د) : لا تعملوا فيه بالقياس.

(٤) في النسخة هكذا : للإرشاد لأنواعها فلو بيّنها بنحو القاعدة الكليّة لم يلتفت السائل إلى مقولاتها .. ، وقد وضع خط صغير جدا على تلك العبارة.

٤٥٢

أخبار خاصّة بموارد جزئيّة ، وكذلك مانعيّة نجاسة الثوب والبدن عن الصلاة ، وهكذا في حجيّة خبر العادل أو الثقة ، فالظاهر أنّ المصلحة كانت مقتضية لهذا النحو من البيان ، وإلا كان على الإمام عليه‌السلام أن يكتب من أوّل الفقه إلى آخره رسالة وافية كافية واضحة.

وأمّا ما ذكره من أنّ الراوي لم يفهم المثاليّة فهو ممنوع ، فإنّه فهم مثاليّة الأعدليّة وأخواتها لمقولة المرجّحات الراجعة إلى صفات الراوي ، فسأل عن مقولة أخرى فأجاب الإمام عليه‌السلام بالترجيح بالشهرة ، ففهم منه الترجيح بما يرجع إلى قوّة الصدور كليّة ، فسأل عن مقولة أخرى فأجاب عليه‌السلام بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، ففهم منه الترجيح بما يرجع إلى قوّة المضمون كليّة.

وأمّا دعوى أنّه لا معنى للأمر بالتخيير بعد فقد المنصوصات فلا وجه لها بعد ما ذكرنا من أنّ الإمام عليه‌السلام بيّن ـ بمقتضى التعليلين المذكورين ـ جميع المرجّحات ، مع أنّه لم يبق من المرجّحات ممّا يكون معتبرا عندنا ، ولا يرجع إلى المذكورات في الأخبار إلا اليسير ، بناء على التعدي أيضا ، كما لا يخفى ؛ فإنّ الأصوليين ، وإن ذكروا كثيرا ممّا لا يكون منصوصا إلا أنّ جميع ما يكون من قبيل صفات الراوي داخل في الأوثقيّة وغيرها ، أمّا ما يرجع للمنصوصات (١) أو لا يكون ممّا يوجب قوّة الخبر في طريقيّته فلا اعتبار به إلى أحد (٢) ؛ وسيأتي بيانه إن شاء الله (٣).

ثمّ على فرض ظهور الفقرات المذكورة في التعدي أو ظهور بعضها فيها لأخبار سوق ، وعلى فرضه (٤) : من المعلوم أنّ الظهور السياقي لا يقاوم الظهور اللفظي ، خصوصا مثل ظهور التعليل في العموم ؛ هذا مع أنّ غاية الأمر عدم دلالة الأخبار على التعدي ، أو عدم كفايتها وحدها ، لكن مع ضمّ ما ذكر من الإجماع وبناء العقلاء لا إشكال في الحكم أصلا.

__________________

(١) في النسخة : أمّا يرجع المنصوصات. وفي نسخة (د) : إلى أحد المنصوصات.

(٢) لا توجد كلمة «إلى أحد» في نسخة (د).

(٣) هكذا في النسخة ؛ والعبارة فيها تشويش.

(٤) كأنّ العبارة فيها سقط ، وجاءت في نسخة (د) هكذا : أو ظهور بعضها فيها لا يبقى للأخبار سوق في الاقتصار وعلى فرضه : من المعلوم ...

٤٥٣
٤٥٤

المقام الرابع (١)

في بيان أقسام المرجحات وذكر أحكامها

واعلم أنّ جميع المرجّحات راجعة إلى ثلاثة أنواع : لأنّها (٢) إمّا ترجح الصدور ، أو ترجح المضمون ، أو ترجح الأخذ والعمل ، وبعبارة أخرى إمّا توجب الأقربيّة إلى الصدور ، أو الأقربيّة إلى الواقع ، أو لا تفيد الأقربيّة ، بل توجب رجحان الأخذ بأحد الخبرين في مقام العمل.

فالنوع الأول خاص بالظنيين ؛ إذ لا يتعقل الترجيح الصدوري بعد قطعيّتهما من حيث الصدور.

والثاني شامل للقطعي والظنّي ؛ مثل مخالفة العامّة وموافقة الكتاب ، حيث إنّهما يجريان في الظنّيين والقطعيّين والمختلفين.

والثالث أيضا كذلك مثل موافقة الأصل ـ بناء على الترجيح به وكونه تعبّديا ـ ومثل تغليب الحرمة على الوجوب ، وترجيح المؤسّس على المؤكّد ، ونحو ذلك ؛ فإنّها لا تفيد قوّة في الصدور على فرض كون الخبرين ظنيّين ، ولا قوّة المضمون ، بل معنى الترجيح بها كونها موجبة لرجحان الأخذ بأحد الخبرين.

ويمكن منع اعتبار هذا القسم من المرجّح ، إذ لا معنى للترجيح بما لا يوجب قوّة في أحد الخبرين ـ لا صدورا ولا مضمونا ـ فهي مرجع لا مرجّح.

وبلحاظ آخر تنقسم : إلى ما يرجع إلى السند ، وما يرجع إلى المتن بالمعنى الأعم من اللفظ والمضمون ، وما يرجع إلى أمر خارج عن الخبر ، والتقسيم الأول بلحاظ مورد الرجحان ، والثاني بلحاظ مورد المرجّح ، فمورد المرجّح إمّا سند الخبر من صفات الراوي ، وكيفيّة الرواية من المشافهة وغيرها ممّا يذكر بعد ذلك ، وإمّا متن الخبر أي نفسه من لفظه ومدلوله ، فالمرجّح المتعلّق باللفظ مثل الفصاحة وعدم الاضطراب ، والمرجّح المتعلّق بالمدلول مثل النقل باللفظ ، ومثل مخالفة العامّة

__________________

(١) هذا هو المقام الرابع من المقام الثالث إلا وهو الترجيح.

(٢) أي ذات المرجحات.

٤٥٥

وتأخّر الورود ، والتعلّق بأمر خارج مثل موافقة الكتاب والسنّة.

فظهر أنّه لو كان الملحوظ في مقام التقسيم مورد الرجحان فالأولى (١) أن تقسّم إلى الصدوريّة والمضمونيّة بعد إسقاط الثالث ؛ لما عرفت.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة : فهي راجعة إلى المضمونيّة مثل مخالفة العامّة سواء كان الترجيح من جهة التقيّة أو من جهة كون الرشد في خلافهم ؛ إذ الراجح حينئذ مضمون الخبر المخالف ، إذ هو أقرب إلى الواقع ، نعم يمكن أن تقسم بعد ذلك إلى :

الداخليّة والخارجيّة ، وتقسم الصدوريّة إلى : المتنيّة والسنديّة ، والمراد بالمتنيّة حينئذ ما يرجع إلى اللفظ فقط ، ولو كان الملحوظ مورد المرجّح ؛ فالأولى التقسيم إلى السنديّة والمتنيّة والخارجيّة ، كما صنعه المحقق القمّي (٢) ؛ لكنّ الأصوليين قسّموها بهذا اللحاظ بتقسيمات مختلفة ، فعن التهذيب والمنية (٣) : أنّ وجوه التراجيح خمسة :

أحدها : ما يتعلّق بإسناد الخبر.

وثانيها : ما يتعلّق بحال وروده.

وثالثها : ما يتعلّق بمدلوله أي الحكم الذي يدل عليه.

ورابعها : ما يتعلّق بمتنه.

وخامسها : ما يتعلّق بأمر خارج عن هذه الأمور.

وفي المعالم (٤) ضبطها بأربعة بإسقاط الثالث ، وفي الزبدة (٥) كذلك بإسقاط الثاني ، وفي الفصول (٦) إنّها خمسة مثل ما في التهذيب ، إلا أنّه بدل الثالث بما يتعلّق بكيفيّة الرواية ، والأولى ما صنعه القوانين ، لرجوع الخمسة أو الستّة إلى ما ذكره من الثلاثة ؛ بعد إرادة الأعم من اللفظ والمدلول من المتنيّة.

__________________

(١) في نسخة (د) : الأولى.

(٢) قوانين الأصول : ٢ / ٣٩٧.

(٣) حكاه عنهما الميرزا الرشتي في بدائعه : ٤٣٦.

(٤) معالم الدين : الخاتمة ص ٣٩١ وما بعدها.

(٥) حكاه الميرزا الرشتي في بدائعه : ٤٣٦.

(٦) الفصول الغرويّة : ٤٢٥.

٤٥٦

وقسّمها في الرسالة (١) باللحاظ الأولي إلى الصدوريّة والجهتيّة والمضمونيّة ، ثمّ قال : وأمّا تقسيم الأصوليين المرجحات السنديّة والمتنيّة فهو باعتبار مورد المرجح لا باعتبار مورد الرجحان ، ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة مثل الفصيح والأفصح ، والنقل باللفظ والمعنى ، بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم .. وأشباه ذلك.

قلت : الظاهر أنّ مراده تقسيمهم لها إلى السنديّة والمتنيّة والخارجيّة ، وإلا فلو قسّموها إلى السنديّة والمتنيّة وأسقطوا الخارجيّة لأمكن (٢) أن يكون بلحاظ مورد الرجحان ، فإنّ المرجّحات السنديّة تفيد رجحان السند ، فيكون السند موردا للرجحان ، كما أنّه مورد للمرجّح ، ومعنى رجحان السند أقربيّة الخبر إلى الصدور ، وكذا المرجّحات المتنيّة تفيد رجحان المتن ، يعني المضمون أو اللفظ ، فالمتن مورد للرجحان ، والمرجّح إمّا في المتن أو في الأمر الخارج.

ثمّ الاستشهاد الذي ذكره من قوله : ولذا يذكرون .. ؛ لا يكون شاهدا على ما ذكره كما لا يخفى! ثمّ قد عرفت أنّ المرجحات الجهتيّة راجعة إلى قوّة المضمون ورجحانه ، فلا ينبغي عدّها في مقابل المضمونيّة.

هذا ؛ وفي موضع آخر من الرسالة (٣) قسّمها أولا إلى الداخليّة والخارجيّة وجعل المراد من الداخليّة كل مزيّة غير مستقلّة في نفسها ، بل متقومة بما فيه ، ومن الخارجيّة ما يكون أمرا مستقلا بنفسه ولو لم يكن خبرا ؛ كالأصل والكتاب ، ثمّ قسّم المستقل إلى ما يكون معتبرا كالمذكورين ، وغير معتبر كالشهرة ونحوها ، وقسّمه أيضا إلى ما يفيد الأقربيّة إلى الواقع كالكتاب والأصل ـ بناء على كونه من باب الظن ـ وإلى ما لا يؤثر في الأقربيّة ؛ ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب ، والأصل بناء على التعبّد ، ثمّ قال : جعل المستقل مطلقا ـ خصوصا ما لا يؤثر في الخبر ـ من المرجّحات لا يخلو عن مسامحة ، ثمّ قسّم الداخلي إلى الصدوري والجهتي

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٨٠.

(٢) في النسخة : أمكن.

(٣) فرائد الأصول : ٤ / ٧٩.

٤٥٧

والمضموني ، ومثّل للأخير بالمنقول باللفظ وبشهرة الرواية.

أقول : لا يخفى أنّ هذا التقسيم لا يمكن أن يكون بلحاظ مورد الرجحان ، إذ التقسيم إلى الداخلي والخارجي إنّما يكون بلحاظ مورد المرجّح كما هو واضح ؛ ولذا لم يذكر في هذا الموضع أنّ هذا التقسيم بلحاظ مورد الرجحان ، وإنّما ذكر ذلك في الموضع السابق حيث أسقط التقسيم إلى الداخلي والخارجي ، ثمّ لا يخفى أنّه يجعل المرجّح الخارجي نفس الكتاب والأصل ، لا موافقة الخبر لها ، وهو كذلك ؛ خصوصا بناء على مذهبه من أنّ الكتاب معاضد لا مرجّح حقيقة ، ولا يجعل موافقة عمومات الكتاب من المرجّحات كما سيأتي (١) ، فلا يرد عليه أنّ موافقة الكتاب أيضا مزيّة غير مستقلة بنفسها.

ثمّ إنّ المرجّحات الخارجيّة كلّها مرجّحات مضمونيّة ، وإن كانت ربّما ترجح الصدور أيضا بتوسط مرجّحيّتها للمضمون ، فشأنها ترجيح المضمون فقط ، ولذا لم يقسّمها إلى الصدوريّة والجهتيّة والمضمونيّة ، وأيضا المرجّحات الصدوريّة من شأنها ترجيح الصدور وإن كان المضمون يترجح أيضا بتوسط رجحان الصدور ، وكذا المرجّحات الجهتيّة موجبة لرجحان الجهة أولا (وبتوسطه) (٢) لرجحان الصدور أو المضمون بناء على عدّها مستقلّة ، والمرجحات المضمونيّة الداخليّة من شأنها تقوية المضمون ، وبتوسطها قد يقوى الصدور أيضا ، فاندفع بذلك ما أورده عليه بعض الأفاضل حيث إنّه ـ بعد ما قال إنّ هذا التقسيم أنسب التقسيمات وأحسنها وأورد على بعض التقسيمات السابقة بأنّها مستلزمة لصيرورة قسم الشيء قسيما له ـ قال (٣) : لكنّه أيضا لا يخلو عن خدشة لا تليق بمقالة أهل التحقيق :

أمّا أولا فلأنّه عدول عن طريقة القوم بلا فائدة.

وثانيا : إنّ كلّا من الداخلي والخارجي ينقسم إلى مرجّح الصدور أو خبريّة (٤) الجهة أو المضمون ، فلا وجه لتخصيص الداخلي بذلك ، فهو كما لو قسّم الحيوان

__________________

(١) يأتي في : ص ٤٧١.

(٢) أثبتناها من نسخة (د).

(٣) بدائع الأفكار : ٤٣٧.

(٤) لا توجد كملة «خبريّة» في نسخة (د).

٤٥٨

إلى إنسان وفرس ، ثمّ قسم الإنسان إلى أبيض وأسود.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الأمور المعدودة من المرجّحات الخارجيّة يمكن درجها في الداخليّة ببعض الملاحظات ، مثلا مخالفة العامّة أو موافقة الكتاب أو الاعتضاد بدليل آخر إذا لوحظت بأنفسها كانت من الخارجيّة ، وإذا لوحظت بلحاظ كونها محدثة لصفة متقوّمة بالخبر المخالف أو الموافق كانت من الداخليّة.

وأمّا رابعا : فلعدم (١) المقابلة الحقيقيّة بين مرجّحات الصدور والجهة والمضمون ولزوم صيرورة قسم الشيء قسيما له ؛ لأنّ مرجّحات المضمون إمّا مرجحة للصدور أو للجهة أو لهما ، نعم قد يكون المرجح المضموني غير مؤثر في الأقربيّة إلى الصدور ، ولا يكون مرجّحا للجهة أيضا ، مثل أولويّة التأسيس ، وجلب المنفعة ، لكنّه ساقط عن الاعتبار ، وإن كان مذكورا في كلمات القوم ، فإن أريد بالمرجّح المضموني خصوص هذا القسم لزم عدم استيفاء الأقسام وخروج معظم المرجحات عن الضابط ؛ كالشهرة وأمثالها ممّا هو ناظر وطريق إلى الواقع ، وإن أريد الأعم لزم صيرورة قسم الشيء قسيما له.

ثمّ قال : وإن شئت ضابطا سليما عمّا أوردنا قلنا (٢) : إنّ المرجح إمّا أن يتوقف تعقله على تعقّل أمر خارج عن المتعارضين ؛ فهذه مرجّحات خارجيّة كالأمثلة المذكورة أو لا يتوقف ، فهذه داخليّة ؛ لانحصارها في السنديّة والمتنيّة والحاليّة ، ثمّ قلت : إنّ كلا منهما إمّا يرجح الصدور أو الجهة أو المضمون ، وإن شئت موافقة القوم في مراعاة محلّ المرجّح لا محلّ الرجحان ؛ فاختر ضابط القوانين ؛ لأنّه أخصر (٣) وأسدّ ، لا يعزب عنه شيء من المرجّحات ، مع ما فيه من مراعاة المقابلة الحقيقيّة ، ومحافظة لطريقة السّلف في تقسيم المرجّحات : إلى السنديّة والمتنيّة والخارجيّة .. انتهى بأدنى تغيير.

قلت : ـ مضافا إلى ما عرفت ما به تندفع هذه الإيرادات ـ إنّ ما ذكره من أنّه لو أريد

__________________

(١) كانت العبارة في نسخة الأصل هكذا : «فلعده». وأثبتنا هذه الكلمة من نسخة (د).

(٢) في نسخة (د) : قلت.

(٣) ويحتمل في الكلمة (أحضر) ، ويكون عليه المعنى أنّ ضابطته أكثر استحضارا للترجيح من غيرها.

٤٥٩

خصوص ما لا يؤثر في الأقربيّة من المرجّح المضموني يلزم عدم استيفاء الأقسام ؛ فيه : أنّه بناء على ما ذكره الأقسام المذكورة داخلة في الصدوريّة والجهتيّة ، فلا يلزم عدم الاستيفاء ، وأيضا لا يخفى ما في تحديده للداخليّة والخارجيّة من توقف التعقل وعدمه ، وأيضا إنّ التقسيم إلى الداخلي والخارجي يكون بملاحظة مورد المرجّح ، لا مورد الرجحان كما عرفت ؛ فلا وجه للتسليم (١) إليهما مع فرض ملاحظة الرجحان.

ثمّ إشكال عدم مراعاة المقابلة (يجري في تقسيمه أيضا) (٢) إلى الصدوريّة والجهتيّة والمضمونيّة ، فكيف يكون سليما ، وكيف كان فلا فائدة في كيفيّة التقسيم بعد أن يكون الغرض بيان الأحكام بأي نحو كان ، ونحن نذكر أولا بعض مرجحات الصدور ثمّ مرجّحات المضمون مقدما لما هو راجع إلى جهة الصدور فنقول :

[تعداد أنواع المرجحات الصدوريّة وأصنافها] :

أمّا المرجّحات الصدوريّة فهي أنواع :

أحدها : ما يتعلق بالسند ، وهي أصناف :

منها : صفات الراوي من الإسلام والإيمان وكونه إماميّا ـ على تفاوت أصنافهم من الزيديّة والفطحيّة والواقفيّة .. وغيرهم ، والعدالة ، والفقاهة ، والورع ، والزهد ، ومعرفة العربيّة ، وصحّة السمع والبصر ، وصحّة العقل في جميع الأحوال ، والحفظ والضبط ، ونحو ذلك : ككونه كثير الرواية ومقبولها أو معتمدا لمن لا يعتمد إلا على الثقة ، وكزيادة أحد هذه الصفات ممّا يقبل الزيادة في أحدها.

ومنها : ما يتعلّق بكيفيّة إثبات هذه الصفات ؛ ككونه بالعلم والشياع أو البيّنة أو خبر العدل ، أو ورود خبر صحيح أو قوي أو ضعيف ، أو نحو ذلك .. ككون عبارة المزكّي صريحة أو ظاهرة ؛ ونحو ذلك ...

ومنها : ما يتعلّق بكيفيّة الرواية من الإرسال والإسناد والرفع .. ونحو ذلك ، مع كونها حجّة بأن يكون المرسل ممّن تقبل مراسيله ، وكالنقل بطريق الحفظ أو القراءة

__________________

(١) في نسخة (د) : للتقسيم.

(٢) لم تتضح العبارة في نسخة الأصل وما أثبتناه من نسخة (د).

٤٦٠