كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

البعض ، وتقديم جهة المخالفة ليس بأولى من تقديم جهة الموافقة ، فيتعارضان فيكون مثل ما لو لم يكن ترجيح (١) ، وصورة الشك ملحقة بالأخير ؛ لأنّ الترجيح إذا كان موقوفا على مخالفة الجميع فمع الشك فيه لا سبيل إليه ؛ نعم قد تكون الموافقة والمخالفة من أسباب الترجيح من باب القاعدة ، لا من جهة الأخبار المذكورة .. كذا قال بعض الأفاضل.

وفيه ما عرفت مرارا من أنّ المراد من المخالفة مخالفتهم في الجملة لا مخالفة جميعهم ، فإذا كان أحد الخبرين موافقا لبعضهم ، والآخر مخالفا لهذا البعض يقدم الثاني إذا لم يعلم [أنّ] مذهب البقيّة (٢) مخالف للخبرين معا ، كما إذا فرض أنّ أحد الخبرين يدلّ على وجوب شيء والآخر على حرمته ، والعامّة بعضهم يقول بالوجوب وبعضهم بالاستحباب ، فيقدم الخبر الدالّ على الحرمة ؛ لأنّه مخالف للعامّة ، بخلاف الدال على الوجوب ، إذ هو موافق لهم في الجملة.

وأمّا ما ذكره من الفرض فهو داخل تحت قوله «لو كانا معا موافقين لهم أو مخالفين لهم» حيث فرض الراوي وجود المرجّح في كليهما ، وأجاب الإمام عليه‌السلام بالرجوع إلى مرجّح آخر ، فلا يحتاج إلى الإتعاب (٣) في دعوى أنّ حيثيّة الموافقة والمخالفة تتعارضان.

وأورد في المناهج (٤) على الترجيح بالشهرة ومخالفة ميل قضاة العامّة والأعدليّة وأخواتها بأنّها غير ممكنة التحقق في هذا الزمان ؛ لعدم إمكان الاطلاع على الإجماع على الرواية ؛ إذ ليس عندنا من كتب المحدّثين إلا أقل قليل ، وباتفاق هذا المعدود لا يحصل الإجماع ، وعلى فرض إرادة (٥) الشهرة من قوله عليه‌السلام «المجمع عليه» نقول : لا يمكن الاطلاع على الشهرة أيضا ؛ إذ المراد من الشهرة شهرة الرواية ، ولا يمكن

__________________

(١) في نسخة (د) : مرجّح.

(٢) في نسخة (د) توجد إضافة وهي : .. مع العلم بأنّ لهم مذهب أو مع العلم بعدم تعرضهم أو مع الشك في أنّهم تعرضوا لهذه المسألة أم لا ، وكذا إذا كان مذهب البقيّة ...

(٣) لا توجد كلمة «إلى الإتعاب» في نسخة (د).

(٤) مناهج الأصول : ٣١٧.

(٥) في النسخة : الإرادة الشهرة.

٤٢١

الاطلاع عليها غالبا ، قال : وميل القضاة ليس أمرا مضبوطا ، بل يختلف باختلاف الأوقات والحالات والأشخاص ، وظاهر أنّ مراد المعصوم (عليه‌السلام) (١) قضاة زمانه وحكّامه ، وهو أمر لا نكاد نعلمه ، وكذا الأعدليّة وأخواتها لا سبيل لنا إلى معرفة الواقعيّة منها ، ولا إلى العلم بها ، ولم يرد الترجيح بظن الأعدليّة.

فإن قلت : إذا انسدّ باب العلم تعيّن الظن.

قلنا : إذا لم يرد غيره ، وقد ورد أنّ مع فقد المرجّحات يجب الحكم بالتخيير .. ؛ انتهى.

وفيه : منع عدم إمكان تحصيل العلم بالأمور المذكورة ؛ غاية الأمر قلّته ، وهو لا يستلزم السقوط بالمرّة ، مع إنّ دعوى القلّة أيضا ممنوعة ، إذ المراد من الشهرة اشتهار نقل أحد الخبرين في ذلك الزمان ؛ بل أو (٢) في أحد الأزمنة ، ولو في زماننا هذا ؛ لأنّه يصدق عليه أنّه مشهور بين الأصحاب ، فلو فرضنا أنّ أحد الخبرين مشهور بين علماء زماننا ، وينقلونه في كتبهم ويتمسكون به دون الخبر الآخر حيث إنّهم لا ينقلونه أو لا يتمسكون به ، يصدق على الأول أنّه مشهور ، ولا يعتبر في الشهرة اتفاقهم على النقل أو العمل به أو لا ؛ لشهرة خصوص ذلك الزمان ، لأنّا ذكرنا سابقا أنّ قوله «خذ» كناية عن أنّ الحكم كذا ، فكأنّه قال في الخبرين المتعارضين يجب الأخذ بأشهرهما ؛ لأنّه ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى الآخر ، ألا ترى أنّه لو فرض أنّ الخبر لم يكن مشهورا في زمان الإمام (عليه‌السلام) (٣) المنقول عنه ، ثمّ صار مشهورا بعده ، يصدق عليه أنّه مشهور ويدخل تحت المقبولة والمرفوعة ، فكذا الحال لو اشتهر في زمان الغيبة أيضا ، وتتحقق الشهرة في المقام بنقل جماعة من أصحاب الحديث أو العلماء ، ولا يعتبر ذكر الجميع أو الأكثر له ؛ فتدبّر!

وكذا المراد من مخالفة ميل الحكّام أنّ المدار في صورة وجود القول (٤) بين العامّة على قول القضاة والحكّام ، وهذا ممّا يمكن تحصيل العلم به بعد ضبط قاضي

__________________

(١) أثبتناه من نسخة (د).

(٢) هكذا في النسخة.

(٣) أثبتناه من نسخة (د).

(٤) في نسخة (د) : القولين.

٤٢٢

كلّ زمان وكل بلد في الكتب ، وليس المراد من مخالفة ميل حكّامهم الميل النفساني ، بل فتواهم وقولهم ، ووجه كون المدار على فتوى الحكّام والقضاة دون البقيّة أنّ التقيّة منهم غالبا.

ثمّ إنّه يمكن أن لا يختص هذا بقضاة زمان الإمام عليه‌السلام ، بل يكون المدار على قاضي كل زمان وكل بلد بالنسبة إلى أهل ذلك الزمان وذلك البلد ، بناء على أنّ الوجه في الترجيح محبوبيّة مخالفتهم ، لا التقيّة.

وأمّا الأعدليّة وأخواتها فحالها حال العدالة المشترطة في حجيّة الخبر : المدار فيها على ما يستفاد من المراجعة إلى الرجال وأقوال أهله ، وليس المدار فيها على العلم ، بل يكفي الوثوق والاطمئنان ، وإلّا لزم عدم حجيّة الخبر الواحد ؛ لأنّ الشرط فيها العدالة الواقعيّة ، ولا سبيل إلى العلم بها ، فكما يكتفى بالظن في أصل العدالة فكذا في الأعدليّة ؛ مع إنّ المعيار كون أحدهما أوثق في النفس ، على ما يستفاد من المرفوعة ، ومن قوله في المقبولة «لا يفضل أحدهما على الآخر» (١) حيث إنّه يستفاد منه أنّ المعيار مجرّد زيادة أحدهما على الآخر ، وظنّ الأعدليّة زيادة كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّه لا وجه لما ذكره من الرجوع حينئذ إلى أخبار التخيير ، إذ المفروض أنّها مخصّصة بالأمور المذكورة ، فبمجرد عدم إمكان الاطلاع عليها لا تكون ساقطة واقعا حتى يكون المرجع تلك المطلقات ، إلا أن يراد أنّه مع (٢) الشك في وجودها ندفعها بالأصل بعد عدم حجيّة الظن بوجودها ؛ لكنّ هذا إنّما يتم مع تحقق حالة سابقة لعدم وجودها ، وتصويره مشكل في بعضها مع إنّه خارج عن كلامه ، إذ ظاهره التمسك بالإطلاق بمجرّد عدم العلم بها ، مضافا إلى أنّه لو فرضنا العلم الإجمالي بوجود بعضها لا يمكن النفي بالأصل أيضا فتدبر!

وكيف كان ؛ فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وقع لشيء من الإشكالات المذكورة ، وأنّ جملة المرجّحات المنصوصة ثلاثة عشر ؛ الصفات الخمسة المذكورة في المقبولة

__________________

(١) سبق تخريجها.

(٢) في النسخة : كتب الحرف (خ) على كلمة (أنّه) ، والحرف (م) على كلمة (مع) ، والمقصود تقديم المتأخر وتأخير المتقدم من الكلمتين ، ولعله اشتباه ، وذلك لاستقامة العبارة هكذا.

٤٢٣

والأوثقيّة المذكورة في المرفوعة ، بمعنى الترجيح بكل واحدة منها ، أو باجتماع الأربعة ـ بناء على الجمود على ظاهر المقبولة ـ والشهرة ، والشذوذ ، وموافقة الكتاب ، وموافقة السنّة ، وموافقة ما علم من أخبار الإماميّة ، بل ما نقل عنهم بالنقل المعتبر ؛ لأنّه يشمله قوله «وأحاديثنا» في الرواية المتقدمة ، ولا يكون في طرف المعارضة ؛ لأنّا نفرضه عامّا في قبال الخاصين المتعارضين ، ويمكن إدراج هذا المرجّح في السابق ، دليلا ومدلولا كما لا يخفى ، ومخالفة العامّة ، وموافقة أخبارهم ، وموافقة ميل حكّامهم ، ومشابهة الخبر لأخبارهم وأقوالهم في طرز البيان (١).

ويمكن إرجاع الثلاثة الأخيرة إلى السابق (٢) ، بجعل الجميع من مخالفة العامّة والأحدثيّة من باب النسخ أو من باب التقيّة ، والأحوطيّة والأسهليّة والأرشديّة وجميع هذه معتبرة ، سوى الثلاثة الأخيرة ، لضعف المرفوعة وخبر البحار الدالين عليها سندا ودلالة (٣) ، مع إنّه لا يفهم معنى محصّل للأرشديّة ؛ هذا مع عدم كون بناء العقلاء عليها ، بخلاف البقيّة.

نعم ؛ يمكن إرجاع الأسهليّة إلى موافقة الكتاب دليلا ومدلولا ، لمكان قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٤) .. ونحوه ؛ إلّا إنّه لا يخفى أنّه ليس المراد من الترجيح بالأسهليّة ما يشمل مثل ما لو تعارض خبران أحدهما دالّ على الوجوب والآخر على عدمه ، بدعوى أنّ الثاني موافق لسهولة الملّة واليسر بالأمّة ، وإلا رجع إلى الترجيح بموافقة أصل البراءة في اللبّ (٥) ، بل المراد به مثل ما إذا دلّ

__________________

(١) الظاهر أنّ العدد يزيد على الثلاثة عشر مرجحا ؛ إلا أن يراد منه دخول الصفات الخمس التي في المقبولة في ضمنها ، وإلا لو كان العدد بالإضافة إليها لكانت ثمانية عشر ؛ فالتفت.

(٢) أي موافقة الخبر لأخبارهم وأقوالهم ، وموافقة ميل حكّامهم ، وموافقة أخبارهم.

(٣) أمّا ضعف المرفوعة فالوجه فيه الرفع إلى المعصوم في حد ذاته ، فإنّه موجب لضعف الرواية حيث لا يعلم من سقط من سلسلة السند ، وأمّا خبر البحار فلعل تضعيفه من جهة التشكيك في كتاب المحاسن المأخوذ منه الرواية أو طريق صاحب البحار إليه وليس الوجه ما توهمه البعض من تردد الكتاب بين نسبته للأب أو لولده فإنّ لا يوجب فرقا مع توثيق كليهما.

(٤) البقرة : ١٨٥.

(٥) الظاهر أنّ مجرد موافقة أحد المرجحين لمفاد أصل ما لا يوجب كونه رجوعا للعمل به ، وهنا فيما لو كان مفاد الترجيح لعدم الوجوب موافقا لنتيجة القول بالبراءة ، إلا أنّه لا يلزم أن يكون عملا بالبراءة ، وذلك لوضوح أنّ الموجب للقول بعدم الوجوب موافقته لسهولة الشريعة.

٤٢٤

أحد الخبرين على وجوب ما يوجب ضيقا وحرجا على النوع ، بل أو (١) على الشخص أيضا ، والآخر على عدمه بحيث لو لا الثاني لخصصنا أدلّة العسر والحرج بالخبر الأول مثل الأخبار الدالّة على وجوب شراء الماء ـ مثلا ـ للوضوء ، ولو بأضعاف القيمة ؛ فتدبّر!

وهذا نظير ما يقال : إنّ الترجيح بموافقة عمومات الكتاب الدالّة على البراءة مثل قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٢) .. ونحوه ، إنّما (٣) إذا دلّ أحد الخبرين على البراءة والآخر على الاحتياط ، ولا يشمل ما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء واقعا والآخر على عدم وجوبه واقعا ؛ فإنّه لا يمكن أن يقال بترجيح الثاني لموافقته لعموم قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ) .. إلى آخره.

ثمّ إنّ صاحب المناهج (٤) ذكر في تعداد المرجّحات المنصوصة وجها لا يخلو عن حزازة قال :

هي ثمانية : الأول الأخذ بالأخير والأحدث ، الثاني بالمجمع عليه ، الثالث بموافقة الكتاب والسنّة ومخالف العامّة ، الرابع والخامس والسادس بكل منها فقط ، السابع بالموافق للكتاب وحديثهم ، الثامن بما يخالف ميل الحكّام والقضاة من العامّة ، وترك الصفات ؛ لأنّها من مرجّحات الحكمين دون الراويين.

ثمّ إنّه جعل المعتبر منها ثلاثة : الأحدثيّة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة.

واستشكل في البقيّة ؛ فراجع ، وقد أشرنا إليه سابقا وآنفا.

واقتصر صاحب الحدائق أيضا في الدّرر النجفيّة (٥) على ثلاثة من المذكورات :

الموافقة للكتاب ، ومخالفة العامّة ، والشهرة والشذوذ ، وسيأتي نقل كلامه ، وقد تبع في هذا الاقتصار الكليني في الكافي (٦) حيث إنّه أيضا لم يذكر إلا هذه الثلاثة قال :

__________________

(١) هكذا في النسخة.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) في نسخة (د) : إنّما هو.

(٤) مناهج الأصول : ٣١٧.

(٥) الدرر النجفيّة : ١ / ٢٩٢ ، وأشار هناك إلى ما في ديباجة الكافي.

(٦) الكافي : ١ / ٨.

٤٢٥

اعلم يا أخي أرشدك الله أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء برأيه إلا على ما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله عليه‌السلام «اعرضوهما (١) على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله عزوجل فردّوه» (٢) ، وقوله عليه‌السلام «دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم» (٣) ، وقوله (عليه‌السلام) «خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه ممّا لا ريب فيه» (٤) ، ولا نعرف (٥) من جميع ذلك إلا أقله (٦) ، ولا نجد شيئا أحوط من ردّ علم ذلك كله إلى العالم عليه‌السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام :

«بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» .. انتهى.

وقد يقال (٧) : إنّه ترك الأعدليّة والأوثقيّة ؛ لأنّ الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف ، وعن بعض الأخبارين (٨) : إنّ وجه إهمال هذا المرجّح كون أخبار كتابه كلها صحيحة.

أقول : والأولى أن يقال إنّه لم يفهم من المقبولة كون الصفات من مرجّحات الراوي ولا دليل عليها غيرها عنده ، والمفروض أنّه لا يتعدى عن النص ، وكيف كان فظاهر كلامه اعتبار هذه الثلاثة ، وإن كانت قليلة ؛ لكن يظهر من صاحب الحدائق استظهار كون مذهبه التخيير مطلقا من العبارة المذكورة ، فإنّه قال في الدّرر النجفيّة (٩) : المستفاد من كلام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني في ديباجة كتابه الكافي أنّ مذهبه فيما اختلفت فيه الأخبار هو القول بالتخيير .. ، ثمّ نقل عبارته المتقدمة

__________________

(١) في الكافي : أعرضوها.

(٢) عنه أخذ وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩ ، وكلمة العالم في الاصطلاح يشار بها للإمام الكاظم عليه‌السلام إلا أنّ هذه الرواية قد وردت عن الصادق عليه‌السلام.

(٣) الكافي : ١ / ٦٧ ، عنه وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ١٩.

(٤) هذا المقطع من مقبولة عمر بن حنظلة ؛ الكافي : ١ / ٦٧ ـ ٦٨ ، وعنه أخذ وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث الأول.

(٥) في الكافي : ونحن لا نعرف.

(٦) في نسخة (د) : من جميع ذلك أقله.

(٧) القائل به هو الشيخ الأعظم في فرائده : ٤ / ٧٦.

(٨) حكى هذا المعنى المحدث البحراني في الحدائق الناضرة عن بعض مشايخه : ١ / ٩٧.

(٩) الدرر النجفيّة : ١ / ٣٠٨.

٤٢٦

وشرحها بما سيأتي ، ثمّ قال (١) : وبما شرحناه يظهر ما في كلام المحدّث الاسترابادي من الغفلة ، وحاصل ما نقله عنه من الغفلة أنّه نسب إلى الكليني القول بوجوب الترجيح بالأمور المذكورة ، وأنّ التخيير عند عدم ظهور شيء منها ، ثمّ أورد عليه : أنّ الكليني وإن ذكر هذه المرجّحات إلا إنّه أعرض عنها معتذرا بأنّه لا يعرف من جميع ذلك إلا أقلّه وتخطّاها واعتمد على القول بالتخيير مطلقا.

أقول : الكليني لم يعرض عنها مطلقا ، بل في صورة عدم معرفتها ، وعدم العلم بها ، وكيف كان ؛ قال في الدّرر النجفيّة (٢) ـ بعد نقل عبارة الكليني ـ قوله :

ونحن لا نعرف .. إلى آخره : الظاهر أنّ معناه أنّا لا نعرف من كل الضوابط الثلاث إلا الأقل ، ويمكن توجيهه بأن يقال أمّا بالنسبة إلى الكتاب العزيز فلاستفاضة الأخبار بأنّه لا يعلمه على التحقيق إلا أهل البيت ، والقدر الذي ربّما يمكن الاستناد إليه من الأحكام الشرعيّة ـ مع قطع النظر عن تفسيرهم عليهم‌السلام ـ أقل قليل ، ففي جملة من الأخبار في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا)(٣) الآية .. دلالة على اختصاص ميراث الكتاب بهم عليهم‌السلام ، ومثله جملة أخرى وردت في تفسير قوله تعالى (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(٤) .. إلى أن قال : وأمّا بالنسبة إلى مذاهب العامّة فإنّه لا يخفى على من وقف على كتب السير والآثار ، وتتبع القصص والأخبار ممّا عليه مذهب العامّة في الصدر الأول من التعدد والانتشار ، واستقرار مذاهبهم على هذه الأربعة المشهورة إنّما وقع في سنة خمس وستين وستمائة ، كما نبّه على جميع ذلك جملة من علمائنا وعلمائهم ، وحينئذ فإذا كانت مذاهبهم غير منحصرة في عدّ ، ولا واقفة على حدّ ؛ فكيف يتيسر لنا الآن العرض عليها لنأخذ بخلافها؟ على أنّ المستفاد من جملة الأخبار أيضا وقوع التقيّة في فتواهم عليهم‌السلام وإن لم يكن على وفق شيء من أقوال العامّة ، كما حققناه في محلّ آخر.

وأمّا بالنسبة إلى المجمع عليه فإن أريد بالنسبة إلى الفتوى ؛ فهو ظاهر التعسر ،

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ١ / ٣٠٨.

(٢) الدرر النجفيّة : ١ / ٣٠٥.

(٣) فاطر : ٣٢.

(٤) العنكبوت : ٤٩.

٤٢٧

لأنّ كتب المتقدمين كلّها مقصورة على نقل الأخبار ، ولتفرق الأصحاب وانزوائهم في زوايا التقيّة في أكثر البلدان ، وإن أريد في الرواية ؛ بمعنى أن يكون مجمعا عليه في الأصول المرويّة المكتوبة عنهم عليهم‌السلام ففيه أنّها قد اشتملت على الأخبار المتخالفة والأحاديث المتنافية ، فهي مشتركة في الوصف المذكور ، وحينئذ فمتى تعذّر معرفة هذه الضوابط الثلاثة المذكورة على الحقيقة فكيف يتيسر العرض عليها أو الرجوع إليها ، فالمعتمد عليها ربّما يقع في المخالفة من حيث لا يشعر ، وتزلّ قدمه من حيث لا يبصر ، والحال أنّهم رخّصوا لنا في الأخذ من باب الردّ إليهم ، والتسليم لأمرهم عليهم‌السلام ، فلا شيء أسلم من الأخذ بما وسّعوا فيه ، فإنّ فيه تحرزا عن القول على الله سبحانه بغير علم ، وتخلّصا من التهجم على الأحكام بغير بصيرة وفهم .. انتهى.

أقول : وأنت ـ بعد ملاحظة ما قدمناه ـ خبير بمواقع النظر في كلامه ، وأنّه لا وجه لترك الرجوع إلى هذه المرجّحات ، بل ولا غيرها من المنصوصات حسبما عرفتها ، وعرفت الدليل عليها ، ثمّ إنّ هذا كلّه (١) مزيّة ، والغرض أنّ المتعبّد بما في الأخبار أيضا لا ينبغي أن يقتصر على البعض ، بل يجب عليه اعتبار جميع ما استفيد من الأخبار.

بقي هنا أمران :

الأول : [اعتبار الترتيب بين المرجحات وعدمه]

هل الترتيب المذكور في الأخبار معتبر بين المرجّحات المذكورة أو لا؟.

إن قلنا بالتعدي عن المنصوصات من جهة حمل الأخبار على المثال ؛ فلا يعتبر ، بل المدار على الأقوى منها ، ويكون الترتيب المذكور ترتيبا ذكريا ؛ لأنّ المقصود تعدادها والأقوائيّة مختلفة في المقامات.

نعم ؛ يبقى الكلام في أنّ أيّا منها أقوى نوعا؟ وسيأتي الكلام فيه بقول كلّيّ عند البحث عن تعارض بعض المرجحات مع بعض (٢) ، نعم لو تعدّينا عن المرجحات

__________________

(١) جاء بعده في نسخة (د) : مع الإغماض عن الدليل على التعذر عن المرجحات المنصوصة وأنّ المستفاد من الأخبار الترجيح بكل ...

(٢) يأتي في المقام الخامس ؛ ص ٤٨٨.

٤٢٨

المنصوصة من جهة دليل خارجي غير هذه الأخبار يمكن اعتبار الترتيب المذكور بينها ، بناء على تعبديّتها ، وإن كان المدار في غيرها على الأقوى ، لكنّه بعيد.

وأمّا إذا قلنا بعدم التعدي أصلا فمقتضى القاعدة اعتبار الترتيب ، وحينئذ فأول المرجّحات الصفات ؛ بناء على استفادة مرجّحيتها من المقبولة ، ولا يضر مخالفة المشهور ، وكون عملهم على تقديم الشهرة والشذوذ ؛ لأنّ ذلك منهم من جهة أنّ مذهبهم التعدي ، وعلى فرض اختصاص الصفات في المقبولة بالحكمين :

فأول المرجّحات : الشهرة والشذوذ ، وثانيها : الصفات إن عوّلنا على المرفوعة ، وإلا فهي ساقطة بالمرّة ، والمدار على الترتيب المذكور في المقبولة ، ويبقى الإشكال فيما يكون في سائر الأخبار ؛ مثل الأحدثيّة ومشابهة أقوال (١) العامّة .. ونحوهما ، ويمكن أن يقال : مشابهة أقوالهم في عرض مخالفتهم ، وكذا موافقة أخبارهم ، كما أنّ موافقة الأخبار المعلوميّة الإماميّة في عرض موافقة السّنّة أو في طولها ، وهي في طول موافقة الكتاب.

وأمّا الأحدثيّة فإن كانت من حيث احتمال [التقيّة](٢) ففي عرض مخالفة العامّة ، وإن كانت من حيث احتمال النسخ ، فمقتضى القاعدة تقديمها على جميع المرجّحات ، لأنّها راجعة إلى الجمع الدلالي ، إلّا أنّه يشكل من حيث ندور النسخ وسيأتي الكلام في هذا بعد ذلك إن شاء الله.

هذا ؛ وقال في الوافية (٣) ـ بعد نقل الأخبار ووجوه التراجيح ـ : واعلم أنّ ظاهر الرواية التاسعة ـ يعني المقبولة ـ أنّ الترجيح باعتبار السند من أوثقيّة الراوي ونحوها مقدّم على العرض على الكتاب ، وعلى هذا فإذا تعارض حديثان ، ويكون الراوي لأحدهما أوثق وأفقه وأورع من راوي الآخر ، يقدم الأوّل وإن كان مخالفا للقرآن ، ولكنّ ظاهر كثير من الروايات أنّ العرض على الكتاب مقدّم على جميع أقسام التراجيح ، بل روى الكليني في باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب أخبارا كثيرة دالّة

__________________

(١) في نسخة (د) : أحوال.

(٢) أضفناها من نسخة (د).

(٣) الوافية : ص ٣٣٥.

٤٢٩

على أنّ الخبر الغير الموافق لكتاب الله زخرف وباطل ، ويلزم طرحه وإن لم يكن له معارض ، وعلى هذا فإذا تعارض حديثان ينبغي عرضهما على القرآن أو السنّة المقطوع بهما والعمل بالموافق لهما ، وإن لم يعلم الموافقة والمخالفة فالترجيح باعتبار الصفات ، ومع التساوي فالترجيح بكثرة الراوي (١) وشهرة الرواية ، ومع التساوي فالعرض على روايات العامّة ومذاهبهم أو عمل حكامهم ، وتأخر هذا عمّا قبله ممّا صرّح به في المقبولة ورواية رسالة القطب (٢).

وإن لم يعلم الموافقة والمخالفة فالعمل بالأحوط ؛ للمرفوعة ، وللروايات الأخر الدالّة على الاحتياط ، ومع عدم تيسر العمل بالأحوط فالتوقف إن أمكن ؛ للروايات الدالّة على التوقف عند فقد المرجّح ، وإن لم يمكن التوقف فالتخيير ؛ لأنّه عليه‌السلام جعل التوقف في رواية الاحتجاج مقدّما على العرض على مذهب العامّة ، وهو مقدّم على التخيير على ما في كثير من الروايات ، وفيه نظر ؛ وتقدم التوقف على التخيير (٣) ، وكذا عكسه محل تأمّل .. انتهى بأدنى تغيير.

وقال صاحب الحدائق في الدّرر النجفيّة (٤) : الذي ظهر لي من تتبع الأخبار وعليه أعتمد ، وإليه أستند أنّه متى تعارض الخبران على وجه لا يمكن ردّ أحدهما إلى الآخر فالواجب أولا هو العرض على الكتاب العزيز ؛ وذلك لاستفاضة النصوص بالعرض عليه ، وأنّ ما خالفه زخرف وباطل ، ولعدم جواز مخالفة أحكامهم الواقعيّة للكتاب العزيز .. إلى أن قال : ويدلّ على تقديمه على مخالفة العامّة صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال «إذا ورد عليكم حديثان

__________________

(١) هكذا في النسخة.

(٢) المقصود منه القطب الراوندي من علماءنا المتقدمين ، ورسالته هذه غير متوفرة إلا أنّ صاحب الوسائل ينقل عنها ولعله ينقل بالواسطة أيضا.

(٣) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : وتقدم التوقف عند فقد المرجح على التخيير وكذا عكسه محل تأمل ...

(٤) الدرر النجفيّة : ١ / ٣١١.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٩ ، عنه بحار الأنوار : ٢ / ٢٣٥.

٤٣٠

مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما (١) على أخبار العامّة».

وأيضا فإنّ الغرض من العرض على الكتاب ومذهب العامّة هو تميز حكم الله الواقعي عن الكذب والتقيّة ، ومعلوميّة ذلك بالعرض على الكتاب العزيز أوضح وأظهر ، لكون أحكامه غير محتملة لشيء (٢) من الأمرين المذكورين ، والمراد بالعرض على الكتاب العرض على نصوصه ومحكماته دون مجملاته ومتشابهاته ، إلّا مع ورود النصوص لبيان تلك المجملات ، وتفسير تلك المتشابهات ، فيعمل على ما ورد به النص في ذلك ، ولا بدّ أولا من معرفة الناسخ من المنسوخ ، وحينئذ فإن ظهر المحكم من الكتاب وإلا فالتوقف عن هذه القاعدة ، والعرض على مذهب العامّة والأخذ بخلافهم ؛ لاستفاضة النصوص بالأمر بالأخذ بخلافهم ، وإن لم يكن في مقام التعارض بين الأخبار والاختلاف فيها ، ففي رواية علي بن أسباط (٣) أنّهم متى أفتوا بشيء فالحق في خلافهم (٤) ، وعن الرضا عليه‌السلام «إذا رأيت الناس يقبلون على شيء فاجتنبه» (٥) ، وعن أبي عبد الله عليه‌السلام «ما أنتم ـ والله ـ على شيء ممّا هم عليه ولا هم على شيء ممّا أنتم عليه فخالفوهم ، فما هم من الحنفيّة على شيء» (٦) ، وفي بعض الأخبار «والله لم يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة» (٧) ، وحينئذ وفي مقام التعارض بطريق أولى.

__________________

(١) لا توجد هذه الكلمة في نسخة (د).

(٢) في النسخة : الشيء.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٩ ، وفيه : .. فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحق فيه» ، وعلّق عليها صاحب الوسائل قائلا : حمله بعض أصحابنا على الضرورة كما هو منطوقه ، وعلى المسائل النظريّة ، فقال : من جملة نعماء الله على هذه الطائفة المحقة أنّه خلّى بين الشيطان وبين علماء العامة ليضلهم عن الحق في كل مسألة نظريّة ، فيكون الأخذ بخلافهم ضابطة للشيعة .. انتهى ، ثمّ قال : ولا يخفى أنّه ليس بكلي ويمكن حمله على من بلغه في مسألة حديثان مختلفان وعجز عن الترجيح ، ولم يجد من هو أعلم منه.

(٤) في نسخة (د) : فالحق في خلافه.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٣١.

(٦) المصدر السابق ؛ حديث ٣٢.

(٧) لم نعثر عليه في ما بأيدينا من مصادر روائيّة.

٤٣١

ثمّ مع عدم إمكان العرض على مذهبهم فالأخذ بالمجمع عليه للمقبولة والمرفوعة والمرسل الذي تضمنه كلام ثقة الإسلام من قوله عليه‌السلام «خذ بالمجمع عليه» ، إلا أنّ في تيسر الاجماع لنا في مثل هذه الأزمان نوع إشكال ، فهذه القواعد الثلاث متى تيسر حصولها فلا يمكن خلافها ، ومع عدم إمكان الترجيح بها فالوقوف على ساحل الاحتياط .. إلى أن قال : وأمّا الترجيح بالأوثقيّة والأعدليّة فالظاهر أنّه لا ثمرة له بعد الحكم بصحة أخبارنا التي عليها مدار ديننا ، ومنها نأخذ شريعتنا (١) ، ولعلّ ما ورد في المقبولة محمول على الحكم والفتوى ، كما هو موردها ، أو يقال باختصاص ذلك بزمانهم قبل وقوع التنقية في الأخبار وتصفيتها من شوب الأكدار ، والله تعالى وأولياؤه اعلم ؛ انتهى.

أقول : وأمّا (٢) ما ذكره صاحب الوافية (٣) من تقديم العرض على الكتاب على الصفات فلا وجه له بعد تقديمها في المقبولة ، والمفروض أنّه لم يناقش في دلالتها ، ولعلّ نظره ـ كما ذكره ـ إلى ما ورد من أنّ المخالف للكتاب باطل ، وقد عرفت أنّه لا دخل لهذه الأخبار بما نحن بصدده ، ومن ذلك يظهر ضعف كلام صاحب الحدائق من الاستدلال بها على ما نحن فيه.

وأمّا ما ذكره صاحب الحدائق من تقديم العرض على مذهب العامّة على الشهرة والشذوذ ؛ فلا وجه له أيضا ، مع إنّه خلاف ترتيب المقبولة والمرفوعة ، والنصوص المذكورة لا تدلّ على ذلك ، بل على مجرّد الترجيح به.

ودعوى أنّ مقتضاها عدم حجيّة الخبر الموافق أصلا ، وكونه كذبا فينبغي تقديمه على الشهرة كما ترى ، إذ لا يمكن الأخذ بظاهر هذه الأخبار ، وإلا لزم طرح الخبر الغير المعارض إذا وافقهم ، مع أنّه خلاف الإجماع ، فيعلم من هذا أنّ الغرض مجرّد التأكيد ، مع إنّه لو كان الأمر كذلك لوجب (٤) تقديمه على بعض فروض موافقة الكتاب ، وكونه في عرض بعضها الآخر كما لا يخفى.

__________________

(١) في نسخة (د) : شريعتها.

(٢) لا توجد كلمة «وأمّا» في نسخة (د).

(٣) الوافية : ص ٣٣٥.

(٤) في نسخة (د) : يوجب.

٤٣٢

وأمّا ما ذكره من عدم الاعتبار بالصفات من جهة كون الأخبار صحيحة ؛ ففيه أيضا أنّ مجرّد ذلك لا يقتضي طرحها بالمرّة ، حتى مثل الأفقهيّة مع إنّ كون كلها (١) صادرة مقطوع العدم.

مضافا إلى أنّ مقتضى ذلك عدم الترجيح بالشهرة والشذوذ أيضا ، إذ المفروض صحّة الشاذ أيضا ، إلا أن يقال : الوجه في طرحه عدم صدوره لبيان الحكم الواقعي لكنّ الظاهر أنّ السرّ فيه احتمال عدم الصدور كما لا يخفى ، بل أقول : مقتضى ما ذكره عدم وجود الأخبار المخالفة للكتاب أيضا في كتب الأخبار ؛ لأنّها عنده من معلوم الكذب فتدبّر! ثمّ لا وجه لعدم ذكر هذا (٢) الترجيح بموافقة السنّة ، بل وكذا سائر المرجّحات ممّا استفيد من الأخبار.

وكيف كان بناء على التعبّد في المرجّحات ـ كما هو مذهب الأخباريّة ـ لا وجه للعدول عن ترتيب المقبولة ، ولو قالوا إنّ الترتيب غير منظور ، بل الغرض مجرّد الذكر والتعداد ، فلا وجه لتعيين الترتب (٣) على ما ذكروه ؛ لأنّه راجع إلى الاجتهاد المنافي عندهم للتعبّد.

هذا وأمّا الكليني فالظاهر عدم كون نظره إلى الترتيب المذكور في كلامه ، بل غرضه مجرّد ذكرها ، ولعلّ صاحب الحدائق تخيّل أنّه بان على هذا الترتيب فأخذ منه ، وبيّن وجهه بما عرفت.

وقال الشيخ المحقق في الرسالة (٤) : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار ـ بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول ، وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها إنّما هو بين الحكمين ، مع قطع النظر عن ملاحظة مستند هما ـ هو أنّ الترجيح أوّلا بالشهرة (٥) والشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة والأوثقيّة ، ثمّ مخالفة العامّة ، ثمّ مخالفة ميل الحكّام ، وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ، فهو من باب اعتضاد

__________________

(١) هكذا في النسخة.

(٢) في نسخة (د) : لعدم ذكرها.

(٣) في نسخة (د) : الترتيب.

(٤) فرائد الأصول : ٤ / ٧٣.

(٥) لا توجد كلمة «بالشهرة» في نسخة (د).

٤٣٣

أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور ، وإلا لا إشكال في وجوب الأخذ به ، وكذا الترجيح بموافقة الأصل.

أقول : ظاهر كلامه مراعاة الترتيب المذكور في الأخبار ، وهو مشكل ؛ بناء على مذهبه من التعدي عن المنصوصات من جهة أنّ المفهوم من الأخبار أنّ المدار على مطلق المزيّة ؛ إذ قد عرفت أنّه بناء على هذا يكون الغرض تعداد المرجّحات ، ثمّ إنّ (١) ما ذكره من أنّ الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور غرضه أنّه ليس من الترجيح المقصود في المقام ، وهو إنّما يتم إذا كان أحد الخبرين موافقا للكتاب ، والآخر مخالفا ؛ لا بالإطلاق (٢) والتقييد والعموم والخصوص ، بل العموم من وجه ونحوه ممّا يمكن التصرف في كل واحد من الكتاب وذلك الخبر ، كما إذا فرض أنّ الكتاب دلّ على وجوب إكرام العلماء ، وكذا أحد الخبرين ، وكان مفاد الخبر الآخر حرمة إكرام الفساق ، فحينئذ يكون الكتاب معاضدا للخبر الأول ، وفي الحقيقة يكون الخبر الثاني معارضا للكتاب ، ولا يصلح للمعارضة ، فيقدم الخبر الأول الموافق للكتاب ، وعلى هذا يكون هذا الترجيح مقدّما على سائر الترجيحات إلا الترجيح بالأحدثيّة إذا أمكن جعل الخبر الثاني ناسخا أو كاشفا عن النسخ.

وأمّا إذا كانت الموافقة بنحو العموم والإطلاق بأن يكون الخبران خاصّين بالنسبة إلى الكتاب ، فلا يكون من باب الاعتضاد ، بل إذا قلنا بالترجيح بالموافقة يكون من الترجيح الذي نحن بصدده ، فهو إمّا تعبد أو لأنّه موجب لقوة الخبر الموافق وأقربيته إلى الواقع أو الصدور ، لكنّ الشيخ لا يقول بالتقديم في هذه الصورة ، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا (٣) إن شاء الله ، وهذا القسم لا يجب تقدّمه على سائر وجوه التراجيح كما لا يخفى.

__________________

(١) لا توجد كلمة «إنّ» في نسخة (د).

(٢) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : والآخر مخالفا للإطلاق والتقييد ...

(٣) في نسخة (د) : بعد ذلك.

٤٣٤

الثاني : [أنّ المدار في الترجيح على الواقع]

لا إشكال في أنّ المدار في المرجّحات المذكورة على واقعيّاتها بمعنى أنّ الشهرة الواقعيّة مرجّحة للمشهور ، وكذا مخالفة العامّة في الواقع .. وهكذا ، وعلم المجتهد طريق إليها ، فلو تخيّل أنّ راوي أحد الخبرين أعدل ولم يكن كذلك في الواقع ، فهو كما لو تخيّل عدالة الراوي مع عدم كونه عدلا ، فإنّ خبره ليس حجّة ، وهو مخطئ في اجتهاده ، نعم يستفاد من قوله عليه‌السلام في المرفوعة «وأوثقهما في نفسك» أنّ المرجح الأوثقيّة في نظر المجتهد ، إلا أنّ الظاهر أنّه أيضا من باب الطريقيّة لا الموضوعيّة.

وبالجملة ؛ مسألة الترجيح كسائر المسائل في كون المدار فيها على الواقع ، وعلم المجتهد أو ظنّه طريق ، وحينئذ فإن انفتح باب العلم بالتراجيح المذكورة (١) فلا إشكال في أنّه يعمل بعلمه ، ومع عدمه يرجع إلى الأصل من التخيير أو غيره ، ولو حصل له الظنّ بأحد الأمور المذكورة ؛ إذ لا دليل على حجيّة هذا الظن إلا إذا قلنا بالتعدي عن المنصوصات ، وجعلنا المدار على كلّ مزيّة ، فإنّ كون أحدهما مظنون الترجيح مرجّح ، بل يمكن التسرية إلى الشك أيضا إذا اختصّ بأحدهما ، بأن يعلم عدم رجحان أحدهما على الآخر ، لكن يحتمل رجحان الثاني على الأول ، والظاهر أنّه يجوز العمل بإطلاق أخبار التخيير أيضا إذا أمكن نفي المرجّح المشكوك أو المظنون بالأصل ، كما لو كان الشك في أصل مرجحيّته ، وقد ذكرنا ذلك سابقا.

والحاصل أنّه ـ بناء على عدم اعتبار مطلق المزيّة ـ لو ظنّ وجود أحد المرجّحات المنصوصة ؛ فإن أمكن نفيه بالأصل فالمرجع إطلاقات أخبار التخيير وإلا فالمرجع الأصل.

وأمّا لو انسدّ باب العلم بكلّها أو بعضها ، كما ادّعاه بعضهم بالنسبة إلى الصفات ومخالفة العامّة والشهرة والشذوذ حسبما عرفت سابقا ، فهل يجوز التعويل على الظن أو لا؟ الوجه أن يقال : إن انسد باب العلم بها كليّة فهو راجع إلى انسداد باب العلم بالطريق ؛ لأنّ غالب الأخبار متعارضة ، وفي الغالب الأخبار للمرجحات (٢)

__________________

(١) لا توجد كلمة «المذكورة» في نسخة (د).

(٢) جاءت العبارة في (د) هكذا : وفي الغالب المرجحات موجودة في الواقع.

٤٣٥

موجودة في الواقع ، والمفروض عدم العلم بها ، فيجوز له العمل بالظنّ في تحصيلها فإنّ باب العلم بالواقع منسد ، وإنّما المنفتح باب العلم بالطرق ، بناء على حجيّة خبر الواحد ، وإذا فرضنا أنّ غالب أخبار الآحاد متعارضة ، وأنّ الغالب وجود التراجيح الواقعيّة الغير المعلومة ، فيرجع الأمر إلى انسداد باب العلم (١) بالأحكام وبالطرق ، ومقتضى القاعدة حينئذ التخيير بين العمل بالظن بالواقع أو بالطريق ، خلافا لصاحب الفصول (٢) ؛ حيث يعيّن العمل بالظن بالطريق ، والمحقق (٣) الشريف (٤) ، وفاقا للمحقق القمي حيث يقولان بتعين العمل بالظنّ بالواقع (٥).

فنحن وإن لم نقل بحجيّة مطلق الظنّ أولا إلا أنّه إذا فرض الأمر كما قلنا ـ من انسداد باب العلم بالتراجيح ـ فنرجع إلى العمل بالظن ، وحيث إنّ الواقع لم يقيّد بالطريق ، وأنّ الشارع جعل لنا هذه الطرق في عرض الواقع ، فنكون مخيّرين بين العمل بالظن بالواقع ، أو بالطريق ، ولا يرجع إلى الظن المانع والممنوع كما لا يخفى ؛ لأنّ الظنّ بأنّ راوي هذا الخبر أعدل ، وإن كان ظنّا بالمسألة الأصوليّة إلا أنّه ليس باقيا ، لحجيّة الظن بالواقع إذا فرض حصوله من الخبر الآخر ، فالمقام ـ على (٦) الفرض المذكور ـ نظير ما إذا علمنا بحجيّة خبر العادل ولم يمكن لنا تحصيل العلم بعدالة الرواة كليّة ، أو انسد (٧) باب العلم بجميع التراجيح بشرط آخر من شروط حجيّة الخبر ؛ هذا إذا انسد باب العلم بجميع التراجيح.

وأمّا إذا انفتح باب العلم بجميعها إلا واحدا مثلا ، فلا يجوز فيه العمل بالظنّ بل يرجع ـ مع عدم العلم الإجمالي ـ إلى إطلاق أخبار التخيير إن أمكن نفيه بالأصل ، وإلى الأصل إن لم يمكن ، ومع العلم الإجمالي بوجود ذلك المرجّح في كثير من

__________________

(١) لا توجد كلمة «العلم» في نسخة (د).

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٧٨.

(٣) في نسخة (د) : وللمحقق.

(٤) انظر ضوابط الأصول ـ ص ٢٦٦ ـ حيث حكى قول أستاذه شريف العلماء ، ومفاتيح الأصول للسيد المجاهد : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٥) قوانين الأصول : ١ / ١٧٩ ، وفي طبعة أخرى : ٤٤٠.

(٦) جاءت كلمة «أعم» بدل من كلمة «على» في نسخة (د).

(٧) في نسخة (د) : إذ انسد.

٤٣٦

الأخبار يجب عليه العمل بالاحتياط في الأخذ بمظنون الأرجحيّة ؛ لدوران الأمر بين التخيير والتعيين ، ولا يجب عليه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ؛ لأنّ المفروض أنّه لو لا الترجيح [لكان] مخيّرا في العمل بالخبرين ؛ فتدبّر!.

٤٣٧
٤٣٨

المقام الثالث (١)

في التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدمه

قولان : قد عرفت من كلام الكليني عدم التعدي ، وهو لازم مذهب الأخباريّة ، بل هو المنسوب إلى جماعة منهم ، وصرّح به صاحب الوافية (٢) ، وصاحب الحدائق في الدّرر النجفيّة (٣) وفي مقدمات الحدائق (٤) ، واختاره في المناهج (٥) ؛ قال : وما للرعيّة الجاهل وتمييز روايات الإمام عليه‌السلام بهذه الأوهام من دون رخصة فيه؟ بل مع النهي الصريح عنه ، كما في الرواية الرابعة عشر ـ وأشار إلى رواية العيون (٦) ـ.

والمشهور على التعدي إلى كلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع نوعا ، ويظهر من بعضهم التعدي إلى كلّ مزيّة وإن لم يفد الأقربيّة إلى الواقع ، ولا إلى الصدور ، مثل تقديم الحاظر على المبيح ، والناقل على المقرّر ، أو العكس ، ويظهر من بعضهم أنّ المدار الظن الفعلي بالواقع أو الصدور (٧) ، ويظهر من المحقق القمّي (قدس‌سره) أنّ المدار على الأقرب إلى الواقع نوعا ، إلا إذا حصل الظن الفعلي بالواقع مطابقا للآخر ، فالمدار عنده على الظن بالواقع فعلا مع وجوده ، ونوعا مع عدمه ، والأقوى التعدي إلى كلّ ما يوجب قوّة الطريق في (٨) طريقيّته النوعيّة ، سواء حصل منه الظنّ الفعلي بالواقع ، أو بالصدور أو لا ، بل وإن كان الظنّ الفعلي على خلافه ، إذا كان ذلك الظنّ حاصلا من الخارج ، من الأمور الغير المعتبرة عند العقلاء (٩).

ويحتمل في المسألة التفصيل بين صفات الراوي وغيرها ، ففي الصفات يقال

__________________

(١) كان المقام الأول في وجوب الترجيح ، والمقام الثاني في عرض روايات الترجيح ، وهذا هو المقام الثالث من الثالث.

(٢) الوافية : ص ٣٣٣.

(٣) الدرر النجفيّة : ١ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٤) الحدائق الناضرة : ١ / المقدمة الأولى منه.

(٥) مناهج الأصول : ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٦) عيون أخبار الرضا : ٢ / ٢١ ، ويحتمل إرادة رواية الحسن عن أبي بن حيون مولاه : ١ / ٢٩٠.

(٧) في النسخة : المصدور.

(٨) في نسخة (د) : إلى بدل كلمة في.

(٩) قوانين الأصول : ٤٤٠ ـ ٤٤١.

٤٣٩

بالتعدي عن منصوصاتها ، وفي غيرها لا يقال بالتعدي ، وسيظهر وجهه لنا على ما ذكرنا على بناء العقلاء حسبما عرفت سابقا ، وإجماع العلماء على ما حكي عن جماعة ممّن تقدم ذكرهم ، والظاهر منهم التعدي إلى الظنون النوعيّة ، وليس المدار عندهم على الظنّ الشخصي كما لا يخفى ؛ إلا من بعض متأخري المتأخرين من القائلين بالظن المطلق ، والقدر المتيقن من الإجماع ما ذكرنا من المرجّح الذي يوجب قوّة الطريقيّة دون مطلق المزيّة ، وإن كان عمل بعضهم على المطلق ، إلا أن يقال لا ينفع الإجماع فيما ادّعيت من حيث إنّه لو حصل الظنّ الفعلي بخلاف خبر الأرجح من حيث هو لم يعلم كون عملهم على تقديمه دون ما وافقه الظنّ ، فليس مختارك قدرا متيقنا ، ولكن لا يضر هذا بما نحن بصدده من إثبات التعدي في الجملة من هذا الإجماع.

هذا ؛ مع أنّ المنساق من أخبار الترجيح كون المناط الأقربيّة النوعيّة ، ووجود ما يوجب قوّة أحد الخبرين في الطريقيّة ، وذلك لأنّ جميع ما عدّ فيها من المرجّحات يكون من قبيل ما ذكر سوى الأحوطيّة في المرفوعة ، وقد عرفت سابقا قوّة احتمال كونها مرجعا لا مرجّحا ، فيظهر من هذا أنّ الملاك ما ذكرنا ؛ خصوصا بملاحظة اختلاف الأخبار في ذكر بعضها وعدمه ، وفي الترتيب بينها ، وعدم تعرّضها لصورة تعارض بعضها مع بعض ، مع إنّه الغالب ؛ إذ صورة التساوي من جميع الجهات إلا من واحدة قليلة ، ولعمري إنّ هذا من أظهر الشواهد على كون المناط القوّة ، وأنّ ذكرها من باب المثال ، وأنّ المقصود تعداد جملة من أسباب القوّة.

ودعوى أنّ بعض المرجّحات المذكورة ليس ممّا يوجب الأقربيّة فيكون من باب التعبّد ، ويكون قرينة على تعبّديّة البقيّة مثل الأعدليّة والأورعيّة والأفقهيّة كما ترى ؛ إذ من المعلوم أنّها أيضا مفيدة للأقربيّة إلى الصدور ، أو إلى الواقع ، فتورث القوّة ويمكن أن يؤيّد ما ذكرنا بدعوى أنّ المنساق من أخبار التخيير أيضا الاختصاص بصورة عدم المزيّة لأحدهما على الآخر ، وأنّه مختصّ بصورة الحيرة المفقودة مع وجود المرجّح ، خصوصا مع كون بناء العقلاء على تقديم الأرجح ، فإنّه لو منع حجيّة بنائهم من حيث هو ـ كما قد يدّعى حسبما عرفت سابقا ـ أمكن جعله وجها

٤٤٠