كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

في بعضها الأخذ بمخالف العامّة ولو كانت هناك موافقة الكتاب بالنسبة إلى الخبر الآخر ، وبعضها بالعكس ، بل وكذا إطلاق فقرات المقبولة والمرفوعة بالنسبة إلى كل واحد من المرجّحات ؛ إذ هما تدلان على وجوب الأخذ بالمشهور مثلا مطلقا سواء كان هناك (١) شهرة أم لا ، فيتعارضان في صورة كون أحد الخبرين أشهر وأحدهما موافقا للكتاب .. وهكذا.

والجواب :

أولا : إنّ ذلك غاية سقوط الأخبار في مادة الاجتماع ، ويكفي الأخذ بها في مادة الافتراق ، وهي صورة التساوي من جميع الجهات إلا من حيث صفات الراوي أو الشهرة والشذوذ أو نحو ذلك ، ودعوى ندرة الفرض المذكور فيلزم حمل المطلقات على الفرد النادر وهو بعيد مدفوعة بمنع الندرة كما لا يخفى على الممارس.

وثانيا : إنّ هذا الإشكال لا يرد على مثل المقبولة والمرفوعة ممّا اشتمل على جلّ المرجّحات ؛ إذ لو أخذنا بالترتيب المذكور فيها فلا إشكال ؛ لأنّ مقتضاه الأخذ بالشهرة مثلا وإن كان سائر المرجّحات مع الخبر الآخر ، ولو لم نأخذ بالترتيب فيجب حملها على كون المقصود تعداد المرجّحات ، فليس لكل واحد من الفقرات على هذا التقدير إطلاق حتى تحصل المعارضة ، نعم صورة التعارض خارجة عنها وللكلام فيها مقام آخر وسيأتي استفادة كون المدار على أقوائيّة أحد الخبرين فيجب حينئذ الأخذ بالأقوى من الترجيحين المتعارضين.

وبالجملة ؛ مع الإغماض عن ذلك فغاية الأمر سقوط الأخبار الدالّة على الأخذ بواحد من المرجّحات من جهة المعارضة ، ولا يضرنا ذلك ؛ إذ هي منها ما هو مختصّ بالأخذ بمخالف العامّة ، ومنها ما هو مختصّ بالأخذ بموافق الكتاب ، ومنها ما هو مختصّ بالأخذ بالاحدث وسقوط الاولين غير مضرّ ؛ لوجود المقبولة وكفايتها في وجوب الأخذ بالمرجحين المذكورين.

وأمّا الثالث ؛ فوجه الاقتصار فيه على الأحدثيّة كون المفروض أنّ الراوي علم

__________________

(١) جاء بعدها في نسخة (د) هكذا : موافقة للكتاب أو لا ، وما دلّ من فقرة المقبولة على الأخذ بموافق الكتاب أيضا مطلق أعمّ من أن يكون هناك ...

٤٠١

بصدور الخبرين كلاهما فلا محل هناك للأخذ بسائر المرجّحات ، ففي مورد يجب الاقتصار على هذا المرجّح مع أنّه يرجع إلى الأخذ بمخالف العامّة ، فتأمّل.

هذا مع إمكان حمل الأخبار المذكورة على بيان الأمر الفلاني مرجح (١) في الجملة ، من غير نظر إلى نفي سائر المرجحات ، ووجه الاقتصار كون ذلك موردا لابتلاء السائل ، وله غالبا ، بل من نظر في الأخبار المذكورة بعين الإنصاف لا يتأمّل في ذلك ؛ إذ ليس شيء من الأخبار المذكورة آبيا عن ذلك ، فلا يستفاد منها أزيد من مرجحيّة الأمر الفلاني ، فعليك بالتأمّل والمراجعة.

ومنها : أنّ الأخبار المذكورة مختلفة غاية الاختلاف ؛ ففي بعضها (٢) اقتصر على واحد من المرجّحات ، وفي بعضها على اثنين ، وفي بعضها على ثلاثة ، وفي بعضها على أزيد مع اختلافها في الترتيب أيضا ؛ ففي بعضها أمر بالتوقف أولا ، وبعضها أمر به في آخر الأمر ، وبعضها أمر بالتخيير بعد فقد واحد منها (٣) ، وبعضها لم يذكر التخيير والتوقف ، هذا مع ورود المطلقات بالتخيير أو التوقف ، ومثل هذا الاختلاف الفاحش لا يناسب كون الأخذ بالمرجّح واجبا ، فيجب حملها على الاستحباب نظير أخبار البئر ، كيف؟ ولو حملت على الوجوب لزم تأخير بيان المطلقات الدالّة على التخيير عن وقت الحاجة ؛ إذ الظاهر أنّ سؤال السائلين كان في زمان حاجتهم مع أنّ اللازم ورود رواية مشتملة على جميع الترجيحات وليس.

وبالجملة ؛ مقتضى قاعدة المطلق والمقيّد وإن كان الأخذ بالمقيّد وتقييد المطلقات بكلّ واحد من الأخبار المشتملة على المرجّحات إلا أنّه في مثل المقام يعدّ (٤) من المتعارضين ؛ إذ المطلق إذا كان واردا في زمان الحاجة يكون كالنص في جميع أفراده ، فهذا الاختلاف (٥) ـ بضميمة كون المطلقات في مقام الحاجة ـ يمنع

__________________

(١) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : على بيان أنّ الأمر الفلاني مرجّح.

(٢) في نسخة (د) : فبعضها. وهكذا ما سيأتي من قوله ففي بعضها.

(٣) في نسخة (د) : واحد منها معينا.

(٤) في نسخة (د) : يعدّان.

(٥) في نسخة (د) : فهذا الاختلاف الفاحش.

٤٠٢

من كون التقييد وجوبيا (١).

والجواب : إنّ هذا الاختلاف موجود في غالب المسائل ، فلا يكون مضرّا ؛ إذ بناء الأئمة عليهم‌السلام في بيان الأحكام على ذلك ، وكون جميع موارد الأخبار مقام الحاجة بالنسبة إلى جميع المرجحات ممنوع ، مع أنّ الخبر المشتمل على كلّ المرجحات أو جلّها موجود وهو المقبولة والمرفوعة ، مع إنّ المراد من المطلقات إن كان مطلقات التخيير فهي كسائر المطلقات في سائر الموارد ، وإن كان مطلقات الأخذ ببعض المرجّحات فقد عرفت أنّها في مقام الإهمال ، وأنّ الأمر الفلاني مرجّح في الجملة ، ولعلّه كان مورد حاجة السائل خصوص ذلك المرجح ، خصوصا مع كونه الفرد الغالب مطلقا أو بالنسبة إلى ذلك الزمان.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل قال (٢) : إنّ المستدلّ بهذه الأخبار إن أراد إثبات المرجّحات المنصوصة بعناوينها المخصوصة ففيه أنّها متعارضة وحملها على صورة التساوي من سائر المرجحات بمعنى الأخذ بها في مادة الاقتران فقط بعيد ؛ لأنّه حمل للإطلاقات على الفرد النادر ، ومستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإن أراد إثبات الترجيح على سبيل الإطلاق فهي قاصرة عن ذلك إلا بتنقيح المناط الممنوع على المدّعى ، بل مقتضى إطلاقها اعتبار هذه المرجّحات مطلقا أفادت الظن أم لا ، وهذا ينافي البناء في الترجيح على مطلق الظن ، نظير منافاة إثبات حجيّة الأخبار بحجيّة مطلق الظن حال الانسداد ؛ فلا بدّ لمن لا يقتصر على هذه المرجحات من توجيه الأخبار بما يرجع إلى الظن بالترجيح (٣) مطلقا.

ومن هنا يظهر أنّ ترديد بعض الأجلّة ـ بعد نقل الأخبار في كون اعتبارها تعبدا محضا أو منوطا بإفادتها مطلق الظن أو ظنا مخصوصا ـ من ظهور الأخبار (٤) في الاقتصار عليها ، ومن دلالة فحواها على إناطة الترجيح بالظن ليس في محلة ؛ لأنّه

__________________

(١) المقصود من صوغ هذا الإشكال أن تكون نتيجة المنع من كون التقييد وجوبيا هي حمل الترجيح بالمرجّحات على الاستحباب.

(٢) بدائع الأفكار : ٤٣٦.

(٣) من قوله «حال الانسداد» إلى قوله «بالترجيح» لا يوجد في نسخة (د).

(٤) من قوله «في كون اعتبارها» إلى قوله «الأخبار» لا يوجد في نسخة (د).

٤٠٣

كلام من يقتصر على هذه المرجّحات خاصة ولا يتعدّى إلى غيرها ، كما هو ظاهر الوافية ؛ فإنّ له أن يردّد في ذلك لا (١) من يتعدى عنها إلى غيرها ، فصدور مثل ذلك عنه ناش عن سهو القلم ؛ إذ بعد البناء على التعدي لا بدّ من الخروج عن ظاهرها وحملها على ما يرجع إلى العمل بمطلق الظن في باب الترجيح ، واحتمال إمكان الجمع بين الأمرين بأن يقال : أمّا الترجيح بغير هذه المرجّحات المنصوصة فهو منوط بالظن ، وأمّا هي فبأحد الوجوه الثلاثة في غاية الفضاحة (٢) والبشاعة ، بل مقطوع بفساده ، ومدفوع بالإجماع كما لا يخفى ، انتهى.

أقول :

أولا : يمكن التخصيص ، وقد عرفت الجواب عن التعارض.

وثانيا : التعميم ومنعه ليس في محلّه كما سيأتي ، لا بمعنى أنّه المدار على الظن بالواقع ، بل المدار على ما يوجب قوّة أحد الخبرين في طريقيّته ، وهذا مستفاد من الأخبار بحملها على تعداد المرجحات ، وكونها من باب المثال ، ولعلّ هذا أي كونها من باب المثال عدم استقصاء جميع المرجحات واقتصار بعضها على واحد أو اثنين مع إنّه سيأتي (٣) أنّ جملة من فقرات الروايات تدل على التعميم من غير حاجة إلى تنقيح المناط ، وكون مقتضى إطلاقها اعتبار هذه المرجّحات وإن لم تفد الظن لا يقتضي عدم التعميم ، إذ لا يعتبر في الترجيح بها بناء على التعدي حصول الظن فعلا ، فنحن نعمم إلى ما يكون من سنخها ممّا يوجب قوّة الطريق ، لا إلى مطلق الظن ، وفي مقام المعارضة نقول : المدار (٤) على الأقوى ، لا في الظن الفعلي بل في الطريقيّة.

ثمّ إنّ تنظيره المقام بإثبات حجيّة الأخبار بحجيّة مطلق الظن كما ترى! إذ لا يريد المتعدي أن يثبت اعتبار خصوص هذه المرجّحات خاصّة بما دلّ على حجيّة الظن ،

__________________

(١) في نسخة (د) بدل كلمة «لا» يوجد «أما».

(٢) في نسخة (د) : الفضاعة.

(٣) يأتي في : ٤٦٧ ، ٤٩٢ ـ ٤٩٣.

(٤) في نسخة (د) : أنّ المدار.

٤٠٤

بل يريد إثبات (١) حجيّة مطلق الظن (٢) من الأدلّة الدالّة على حجية خبر الواحد ، مثل أن يقال : يستفاد من قوله عليه‌السلام خذ بقول فلان لأنّه ثقة ، أنّ المدار على مطلق الوثوق بالواقع ، فما ذكره ناظر إلى ما صنعه صاحب المعالم ، حيث استدلّ على حجيّة خبر الواحد بدليل الانسداد ، وأنت خبير بأنّ المقام ليس كذلك ، ثمّ إنّ ما نقله عن صاحب الفصول (٣) ، ليس كما نقله فإنّه ـ بعد ما ذكر الأخبار ـ قال : هل التعويل على هذه الوجوه تعبّدي ، ولو لإفادتها الظن ظنا مخصوصا ، أو دائر مدار حصول الظن المطلق بها ، حتى إنّها لو تجردت عن إفادته لم يعول عليها ، ولو وجد هناك مرجح آخر أقوى (٤) عوّل عليه دونها ، وجهان : من الاقتصار على ظاهر الاعتبار ومن دلالة فحواها على إناطة الترجيح بالظن ... انتهى.

ولعلّ نسخة الفصول التي كانت عنده كانت غلطا ، وكان بدل قوله «ولو لا فإنّها» «ولو لإفادتها» (٥) مع أنّه لا يصير عذرا بعد التصريح بقوله (٦) وجهان.

وكيف كان فصاحب الفصول وإن كان مذهبه التعدي عن المنصوصات ، إلا أنّ غرضه في المقام بيان الوجهين ، وفي مقام آخر يختار الثاني (٧) ، وهذا لا بأس به ، إذ كثيرا ما يقولون : هل الحكم كذا أو كذا ؛ وجهان ، وفي مقام آخر يختارون أحدهما فهذان الوجهان أو الوجوه ليسا بناء على عدم التعدي (٨) ، بل أحدهما وجه للتعدي والآخر لعدمه.

ومن هنا (٩) يظهر أنّه بناء على ما ذكره لا يناسب صاحب الوافية الترديد ، إذ هو لا

__________________

(١) في نسخة (د) : أن يثبت.

(٢) جاء في هامش نسخة (د) بعد هذا الكلام : في الترجيح من هذه الأخبار فهو نظير ما إذا أريد إثبات حجيّة مطلق الظن.

(٣) الفصول الغرويّة : ٤٢٧.

(٤) في نسخة (د) : أقوى منها.

(٥) في نسخة (د) هكذا : وكان بدل قوله «ولو لإفادتها» قوله «أو لإفادتها».

(٦) في النسخة : بعد تصريح قوله.

(٧) في نسخة (د) : الوجه الثاني.

(٨) في نسخة (د) بعده : ولا على التعدي.

(٩) في نسخة (د) : ومن هذا.

٤٠٥

يتعدى ، فلا وجه للإناطة بمطلق الظن عنده ، إذ هو من مذهب من يتعدى ، ثمّ إنّه ـ مع قطع النظر عن كلام صاحب الفصول ـ يمكن أن يختار الترجيح بهذه المذكورات في الأخبار تعبدا ، والتعدي فيها إلى الترجيحات الأخر من دليل آخر لا يحتمل الإخبار على بيان مطلق الظن ؛ فتدبّر!.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى هذه الإشكالات ـ على فرض ورودها ـ مختلفة في الرجوع إلى أخبار التخيير أو إلى الأصل ، وذلك لأنّ لازم الإشكال (١) سقوط أخبار الترجيح ، وأمّا أخبار التخيير (٢) فإن قلنا بقطعيتها فهي غير ساقطة ، فيجوز الرجوع إليها ، وإن قلنا بعدم قطعيّتها فهي أيضا (٣) ساقطة ، لأنّ مسألة التخيير أيضا أصوليّة ، والأوجه سقوطها ، لأنّه لا يمكن دعوى القطع بأنّ الحكم هو التخيير وإن كان سندها قطعيّا من جهة استفاضتها واحتفافها بقرينة الصدق ، وذلك لأنّ المعتبر في الأصول بناء على اعتبار العلم [....](٤) العلم بالواقع ، ولا يكفي العلم بالصدور فقط ، وعلى فرض إمكان دعوى العلم بأنّ الحكم الشرعي هو التخيير فلا يمكن هذه الدعوى إلا في صورة التساوي ، وعدم وجود مرجّح ما ، وأمّا معه فلولا الإجماع على عدم التخيير فلا نقطع (٥) به أيضا كما هو واضح ؛ إلا أن يقال إنّ الأصول لا تثبت بأخبار الآحاد ، وأمّا بالخبر القطعي فتثبت ولو كان ظني الدلالة ، وهو كما ترى! إذ الدليل مشترك الورود.

وأمّا الإشكال الثاني : ـ فعلى فرض تماميّته ـ يستلزم سقوط أخبار التخيير أيضا ، إذ هي أيضا من قبيل الخطاب الشفاهي ، واتحاد الصنف غير متحقق ، لاحتمال اختصاص التخيير بمن يمكنه تمييز الأخبار الصادرة عن غيرها غالبا ، كما في الحاضرين ، وأمّا الغائبون فيلزم من تخييرهم تخييرهم في غالب الموارد ، إذ في

__________________

(١) في نسخة (د) : الإشكال الأول.

(٢) في نسخة (د) : سقوط أخبار التخيير فإن قلنا بقطعيتها ...

(٣) الظاهر زيادة كلمة أيضا هنا ، لأنّ الحكم هنا عكس الحكم السابق فهناك الحكم بعدم السقوط وهنا الحكم بالسقوط.

(٤) كلمة غير مقروءة ، وفي نسخة (د) : فيه.

(٥) في النسخة : تقطع ، وفي نسخة (د) : فلا أقل من عدم القطع به أيضا.

٤٠٦

الغالب لا يمكنهم تمييز الصحيح من السقيم ، ويكون الخبران متساويين عندهم.

وأمّا الإشكال الثالث : فلازمه سقوطهما أيضا للمعارضة.

وأمّا الإشكال (١) الرابع (٢) : فلازمه سقوط أخبار الترجيح فقط ، فيكون المرجع أخبار التخيير ؛ إلا أن يقال : يستفاد من مجموع الأخبار اعتبار مرجح من هذه المرجحات وإذا لم يكن معيّنا فلازمه عدم التمسك بأخبار التخيير مطلقا ، إذ الشك ليس راجعا إلى أصل التقييد ، بل إلى تعيين المقيّد بعد العلم به ، فلا يمكن التمسك بإطلاقها إلا في غير المرجّحات المنصوصة.

وأمّا الإشكال الخامس : فلازمه أيضا بقاء أخبار التخيير ، وكذا الإشكال السادس إذ هما أيضا راجعان إلى الإشكال الرابع ؛ كما لا يخفى!

__________________

(١) في النسخة : اشكال.

(٢) في نسخة (د) : لا يوجد كل من الإشكال الثاني ولا الثالث ، ورقم الإشكال الرابع هنا بالثاني في تلك النسخة.

٤٠٧

[الإشكالات [المختصة] الموردة على روايات الترجيح]

وأمّا الإشكالات الخاصة ببعض الأخبار ؛ فقد أورد على المقبولة بوجوه :

منها : أنّها ظاهرة في الحكومة والترافع إلى الحاكم ؛ لا بمعنى قاضي التحكيم كما يظهر من الرسالة (١) ، إذ هي ظاهرة في القاضي المنصوب ، كما لا يخفى ، بل هي أحد الأدلة على نصب الحاكم الشرعي ، وإذا كانت ظاهرة في الحكومة فلا يناسبها التعدد ، ولا اختيار كلّ من المترافعين حكما ، إذ أمر المرافعة بيد المدّعي وحملها على صورة التداعي بعيد خصوصا في مسألة الدّين ، إذ الغالب في النزاع فيه أن يكون أحدهما مدّعيا والآخر منكرا ، ولا غفلة كل من الحكمين عن مستند الآخر ، إذ يعتبر في القاضي الاجتهاد واستفراغ الوسع في تحصيل الأدلة ومعارضاتها ، ولا الحكم بعد الحكم ، وحملها على صورة حكمهما دفعة بعيد ، ولا تحري المترافعين في مدرك الحكم من الأخبار ، والأخذ بالأرجح منهما (٢).

ويمكن دفع الأول : بالحمل على قاضي التحكيم وإن كان خلاف ظاهرها ، وفيه يجوز التعدد.

ودعوى أنّه حينئذ إذا اختلفا يسقطان عن الحكومة فلا وجه للأخذ بأعدلهما ، إذ تحكيم الاثنين يقتضي نفوذ حكمهما عند اتفاقهما ، فصورة الاختلاف خارجة عن قصد المترافعين.

مدفوعة بإمكان أن يكون مقصودهما من التحكيم العمل بقولهما مطلقا ، من غير نظر إلى اشتراط اتفاقهما ، ولا تعيين الحال في صورة اختلافهما ، فحينئذ يمكن أن يكون الواجب الأخذ بأعدلهما تعبدا.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الرسالة من إيراد هذا الإشكال ، مع أنّه جعل الرواية ظاهرة في قاضي التحكيم ، إلا أن يقال : إنّ مراده من لفظ التحكيم الحكومة ، لا تحكيم قاضي التحكيم ، ويؤيد بعد دعواه الظهور في قاضي التحكيم ، مع أنّها كالصريحة في المنصوب ، ويبعده قوله بعد ذلك في الموضع الأول في التكلم في

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) في نسخة (د) : منها.

٤٠٨

الأخبار : ويمكن التفصي عنه بمنع جريان هذا الحكم في قاضي التحكيم ، فيظهر منه مفروغيّة كون المراد من الرواية قاضي التحكيم ، ولعلّه جعلها ظاهرة في قاضي التحكيم من جهة قوله «قلت : فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا .. الى آخره» مع أنّه لا دلالة له على ذلك كما لا يخفى ؛ فتدبّر!

ويمكن أن يقال : إنّ غرض السائل أنّه لو كان هناك حاكمان منصوبان مختلفان فحكم أيّهما نافذ؟ فلا يكون من تعدد الحاكم فعلا ، فيكون المراد من حكومتهما بيان الحكم الشرعي الذي هو مقدمة الحكم بمعنى القضاوة ، ومن ذلك يظهر الجواب عن إشكال تعدد الحكم في الواقعة الواحدة ، مع أنّ النافذ هو الحكم الأول.

ويمكن الجواب عنه أيضا : بمنع نفوذ الأول ولو كان الثاني أفقه وأعدل ، فإنّ المشهور على وجوب كون الحاكم أعلم كالمفتي ، فعلى هذا يسأل الراوي عن حكم ما إذا رجعنا أولا إلى حاكم فحكم بحكم ، وثانيا إلى آخر فحكم بخلاف الأول والإمام عليه‌السلام يقول : إنّ في صورة الاختلاف ينبغي الرجوع إلى الأعلم والأعدل ، ولا يكون حكم غيره نافذا ، فيكون الرجوع إلى الأول إذا كان غير أعلم في غير محله ، فلا يكون حكمه نافذا من هذه الجهة.

ويمكن دفع الثاني : بأنّ كون أمر المرافعة بيد المدّعي مسلّم إلّا أنّ مورد الرواية تراضيهما بالرجوع إلى الاثنين.

ويمكن دفع الثالث : بمنع منافاة الغفلة ، خصوصا في ذلك الزمان ، وباحتمال اطلاع كلّ منهما على فساد مدرك الآخر.

ويمكن دفع الخامس بأنّ المترافعين كانا مجتهدين ، كما هو الغالب في ذلك (١) الزمان ، فلا بأس بإعمالهما المرجحات ، وإنّما لم يرجعا إليها أوّلا ؛ لأنّ وظيفة المتخاصمين ـ ولو كانا مجتهدين ـ الرجوع إلى ثالث ، ولمّا لم يثمر ؛ للاختلاف ، رجعا إلى ترجيح المستند.

هذا (٢) ولو حملنا الرواية على الرجوع إلى الحاكم الشرعي لأخذ الفتوى ، فيكون

__________________

(١) في نسخة (د) : في أهل ذلك ...

(٢) لا توجد كلمة «هذا» في نسخة (د).

٤٠٩

المراد أنّ كلّا منهما استفتى عن واحد واختلفا فيما حكما ؛ أي في بيان الحكم الشرعي ، بأن يكون المراد من قوله «رضيا أن يكونا الناظرين في حقهما» أنّه رضي كل منهما بواحد لا أنّ كلا منهما رضي بالاثنين ؛ تندفع (١) جميع الإشكالات المذكورة.

والإنصاف أنّ الرواية غير آبية عن هذا ، فتكون دليلا على وجوب الرجوع إلى الأعلم والأعدل في صورة اختلاف المفتين ، وإن أبيت عن ذلك وحملتها على المرافعة فنقول : يمكن أن يكون المراد أنّ كل واحد منهما رجع إلى قاض فحكم له والإمام عليه‌السلام لم يقرّر جواز رجوع كلّ منهما إلى من يختار ، ليكون إشكالا ، بل قال يجب الأخذ بقول الأعلم والأعدل ، ثمّ إنّ المحامل التي ذكرنا وإن كانت خلاف ظاهر الرواية ، إلا أنّه لا بأس بها في مقام الحمل وإخراج الرواية عن إشكال خلاف الإجماع.

ومنها : أنّها قدّمت صفات الراوي على الشهرة ؛ مع إنّ عمل العلماء (٢) على العكس ، مع أنّه على فرض تقدم الصفات على الشهرة لا يمكن القول به في صورة اشتهار المشهور بين من هو أرجح من راوي غير المشهور في الصفات ، والرواية مطلقة في الأخذ بالصفات ، فهي شاملة للصورة المفروضة ، وأيضا مقتضاها الرجوع إلى الصفات في الراوي وإن كانت المرتبة الأعلى في السند على العكس ، مع إنّه لا يمكن (٣) القول به ، خصوصا إذا كان راوي الآخر في جميع المراتب المتقدمة أرجح في الصفات من راوي الآخر رجح (٤) في هذه المرتبة المتأخرة (٥).

والجواب : أمّا عن تقديمها الصفات على الشهرة ؛ فبأنّ الرواية محمولة على تعداد المرجّحات ، وليس الترتب منظورا ، مع إنّه يمكن الالتزام بتقديمها على الشهرة ،

__________________

(١) هذا الفعل واقع في جواب لو ؛ والتركيب هكذا : لو حملنا الرواية ... تندفع ...

(٢) في نسخة (د) : مع أنّ العلماء.

(٣) في نسخة (د) : مع أنّ يمكن القول به.

(٤) في نسخة (د) : الارجح ـ بدل كلمة الآخر ـ ولا يوجد كلمة «رجح».

(٥) هكذا في النسخة والمعنى مشوش جدا : ولعلّ المقصود أنّ راوي الحديث الآخر المقابل لغير المشهور أرجح في الصفات في جميع مراتبه المتقدمة ، رجح هذا في مرتبته المتأخرة.

٤١٠

خصوصا مثل الأفقهيّة ، وليس الإجماع على خلافه ، غاية الأمر أنّ المشهور على خلافه ، ولا يضر مع إنّه يمكن منع الشهرة أيضا ؛ خصوصا في صورة اجتماع الصفات المذكورة ، كما هو مورد الرواية.

وأمّا عن الخبرين فبأنّ الرواية منزّلة على الصورتين المفروضتين ، بل ظاهرة في غيرهما خصوصا بالنسبة إلى الأخير ، إذ الظاهر عدم وجود الطبقات في مفروض السؤال ، بل المورد نقل كلّ منهما (١) عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة.

ومنها : أنّ ظاهرها اجتماع الصفات مع إنّ كل واحدة منها كافية في الترجيح عند المشهور.

والجواب : إنّ الواو بمعنى أو ؛ بقرينة قوله «لا يفضل واحد منهما» مع إنّ غاية الأمر أنّ المذكور فيها ذلك ، وأنّ اجتماع الصفات مرجّح ، وأمّا أنّه لا يكون كل منهما كافيا فلا يستفاد منها ، فيمكن استفادة ذلك من المرفوعة ، أو من دليل آخر ، ومن ذلك يظهر الجواب عن إشكال جمعها بين موافقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة العامّة ، وجعلهما (٢) مرجّحا واحدا ، مع إنّ كلّا منها كاف ، ولا يمكن جعل الواو بمعنى أو ؛ لذكره مخالفة العامّة فقط بعد ذلك.

ومنها : أنّ الصفات المذكورة فيها لم تجعل من مرجحات الرواية والراوي ، بل جعلت مرجحا للحاكم.

والجواب : (٣) إنّ المراد من الحاكم الراوي ، لما قلنا من أنّ المراد منها الاستفتاء والمفتي في ذلك الزمان كان ينقل الرواية ، ومع الإغماض نقول : اعتبار قول الحاكم إنّما هو من حيث نقله الرواية ، فيكون الوجه في تقديم الحاكم الأعلم كونه راويا فتدلّ على اعتبار الصفات في الراوي أيضا.

هذا مع إمكان دعوى تنقيح المناط ؛ مضافا إلى إنّه على فرض عدم الدلالة لا يضرنا ، إذ نستدل على اعتبارها في الراوي أيضا بدليل آخر مثل المرفوعة ، أو ببناء

__________________

(١) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : بل المورد نقل كل منهما الرواية عن الإمام ...

(٢) في نسخة الأصل ونسخة (د) : جعلها.

(٣) جاء في نسخة (د) : والجواب أولا.

٤١١

العقلاء ، ولعلّ ترك تعرض الإمام عليه‌السلام لها على فرضه من جهة مركوزيّته في أذهان الناس ، فلا يحتاج إلى البيان.

ومنها : ما عن السيد الشارح للوافية من أنّ الراوي سأل عن حكم المتعارضين فأجاب الإمام عليه‌السلام بالترجيح بالصفات ، ثمّ فرض التساوي فأجاب بالترجيح بالشهرة ، وهكذا ...

فنقول : إمّا أن يكون المفروض صورة التساوي من سائر الجهات إلا من جهة الصفات مثلا ، فيكون الجواب بالترجيح بالصفات في محلّه ، لكن مع فرض التساوي فيها أيضا لا وجه للجواب بالأخذ بالشهرة ، بل ينبغي الجواب حينئذ بالتخيير أو التوقف ، وإمّا أن يكون المفروض عدم التساوي من سائر الجهات أيضا وحينئذ فيجب الجواب بالأخذ بالأقوى ظنّا من المرجّحات ، لا خصوص (١) واحد واحد.

والجواب : إنّ المفروض ليس صورة التساوي ولا التفاضل ؛ بل السؤال عن الحكم مع الإغماض عن جميع الجهات ، أو عمّا عدا المسئول أولا ، والمفروض تساويهما فيه ؛ فلا إشكال ، مع إنّ الظاهر أنّ الفرض تعداد الجهات المرجحات وبيان الجهات ، مع إنّه على فرض الأخذ بالترتيب المذكور لا وقع للإشكال أصلا ، إذ في صورة التفاضل من سائر الجهات أيضا يجب الأخذ بما قاله الإمام عليه‌السلام.

هذا وحكي عنه أنّه جعل هذا الإشكال منشأ لحمل الأخبار على الاستحباب أيضا ؛ [مع أنّه وارد على الاستحباب](٢) كما لا يخفى!.

ومنها : أنّها أمرت في آخرها بالإرجاء ، مع إنّ الحكم هو التخيير.

والجواب : إنّ ذلك لا يضرنا ؛ لأنّ عدم العمل ببعض الخبر لا يستلزم طرحه ، ومن ذلك يظهر أنّه لو لم يمكن الجواب عن بعض الإشكالات المذكورة أو تمامها فلا يضرّ في ظهورها في وجوب الترجيح بالأمور المذكورة ، ولا توجب وهنا فيها فتدبّر.

ويرد على المرفوعة : أنّها ضعيفة السند بالرفع ، مع إنّ صاحب الحدائق (٣) طعن

__________________

(١) في النسخة : مخصوص ، والصواب ما ذكرنا.

(٢) كتبت في هامش النسخة ، وهي مثبتة في نسخة (د).

(٣) هو الفقيه الكبير الشيخ يوسف البحراني ، وفي المتن وقع اشتباه بأن كتبت «بق» ولكن لا ـ يوجد من كتب الرجال أو كتب الفقه ما يرمز له بهذا الرمز ، ثمّ عثرنا على ما ذكره في كتاب الحدائق ، فراجع الكتاب المذكور : ١ / ٩٣ ، وطبع ايران ص ٩٩.

٤١٢

في كتاب الغوالي وفي صاحبه (١) ، فلا تصلح للحجيّة ، وأيضا يرد عليها الإشكال الأخير الوارد على المقبولة.

والجواب : أمّا عن الإشكال الأخير فبما مرّ ، وأمّا ضعف السند فبإمكان دعوى جبرها بالشهرة ، وبكون مضامينها مطابقة للمقبولة وسائر الأخبار ، إلا أن يقال إنّ الشهرة تطابقيّة لا استناديّة ، ومطابقة المضامين لا تثمر في الحجية ، وهو كذلك إلا أنّا نقول إنّا لا نحتاج إليها (٢) إلّا في الترجيح بالاحتياط وإلا فسائر مضامينها موجودة في المقبولة وهي كافية ؛ نعم هي مؤيدة للمقبولة ؛ نعم يبقى الإشكال في الترجيح بصفات الراوي ؛ إذا خصّصنا الصفات في المقبولة بالحاكم ، إذ الدليل عليها منحصر في المقبولة والمرفوعة ، فبعد عدم حجيّة المرفوعة وعدم دلالة المقبولة ؛ يبقى اعتبارها في الراوي بلا دليل ، إلا أنّك قد عرفت استفادة ذلك من المقبولة ، مضافا إلى كفاية بناء العقلاء في اعتبارها ، بل الإجماع العملي ، بل الأخبار المذكورة بناء على التعدي عن المرجّحات فيها ، بحملها على المثاليّة (٣).

ويرد على أخبار رسالة القطب ما في المناهج (٤) من عدم ثبوت الرسالة عنه والجواب :

أولا : إنّه يكفينا نقل صاحب (٥) الوافية (٦) فإنّ كلامه ظاهر في كون الرسالة منه ،

__________________

(١) كتاب غوالي اللئالي ؛ للشيخ محمد بن أبي جمهور المولود سنة ٨٣٨ ه‍ والمتوفى أوائل القرن العاشر ؛ راجع مقدمة كتاب كشف البراهين في شرح رسالة زاد المسافرين ـ طبع مؤسسة أم القرى / سنة ١٤٢٢ ه‍ ، والمقصود الطعن على طريقة الرجل في كتابه هذا من حيث الجمع للروايات غثها وسمينها ، لا الطعن في ذات الرجل.

(٢) في نسخة (د) : إليهما.

(٣) المقصود بالمثاليّة : التمثيل بمعنى أنّ ما ذكر فيها بغرض ذكر بعض الأمثلة والمصاديق للكلي ليس إلا.

(٤) منهج المقال للميرزا محمد بن علي الاسترابادي المتوفي سنة ١٠٣٨ ه‍ :

(٥) في نسخة (د) : نقل مثل صاحب الوافية.

(٦) الوافية : ٣٢٥.

٤١٣

لأنّه نقلها عن رسالته بعنوان المسلميّة (١).

وثانيا : لا حاجة إليها ؛ لأنّ كل ما فيها موجود في المقبولة إلا الترجيح بمخالفة أخبار العامّة ، ويمكن درجه في مخالفة العامّة بدعوى أنّ المخالفة لهم أعمّ من المخالفة لأقوالهم أو لأخبارهم ، هذا إذا لم يعاملهم (٢) بالخبر الذي ينقلونه ، وإلا فهي هي بعينها.

ويرد على الأخبار الدالّة على الترجيح بموافقة الكتاب بأنّ موردها خارج عن مقامنا ، وذلك لأنّ المقصود في المقام أنّه إذا تعارض خبران ، كلّ واحد منهما حجّة في حدّ نفسه ، وكان أحدهما موافقا لعموم الكتاب أو إطلاقه يقدّم على الآخر ، وهذه الأخبار تدلّ على أنّ مخالف الكتاب باطل وزخرف (٣) ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله (٤) ، فيكون موردها ما إذا كان خبر المخالف خارجا عن الحجية من حيث هي ، من جهة مخالفته لصريح الكتاب ، فيكون من معلوم الكذب.

والجواب : إنّ ما كان منها متضمنا للتعبيرات المذكورة فكما ذكر ، إلا أنّ مثل المقبولة وغيرها ممّا ليس دالّا إلا على تقديم الموافق يكون دليلا على المطلب ويكفي ، إذ لا منافاة بينها حتى تحمل المقبولة أيضا على الصورة المفروضة ، ووحدة السياق أيضا ممنوعة ، فيكون الخبر المخالف للكتاب قسمين :

[ـ] قسم يكون مخالفا لصريحه ، وهذا ليس حجّة من حيث هو.

[ـ] وقسم يكون مخالفا لعموماته وإطلاقاته ، بحيث لو لا المعارض لكنّا نخصص الكتاب أو نقيّده به ، وهذا حجّة من حيث هو ، إلا أنّه في مقام المعارضة يقدم غيره عليه ، والأخبار المذكورة طائفة منها دالّة على الأول وطائفة منها دالة على الثاني.

ويمكن أن يراد من كلّ من الطائفتين القدر المشترك : بأن يكون المراد أنّ المخالف يطرح لعدم حجيّته فعلا ، إلا أنّه في بعض المخالفات ليس حجّة من حيث هو أيضا ، وفي بعضها حجّة من حيث هو ؛ لكنّه ليس حجّة فعليّة إذا عارضه غيره ،

__________________

(١) علاوة على هذا نقل صاحب الوسائل عن الرسالة كذلك.

(٢) في نسخة (د) : إذا لم يعمل عملهم ...

(٣) تقدم تخريجها.

(٤) تقدم تخريجها وسيأتي.

٤١٤

لكنّه بعيد.

ويرد على أخبار الأحدثيّة أنّ موردها ما إذا كان الخبران معلومي الصدور ، فلا تدلّ على كون الأحدثيّة مرجّحة في مقامنا من الأخبار الظنيّة الصدور.

والجواب :

أولا : إنّ خبر المعلّى أعمّ ؛ لأنّ قوله «إذا جاء حديث» أعمّ من المعلوم والمظنون وقوله في الجواب «حتى يبلغكم» أيضا أعمّ من البلوغ المعلوم والمظنون ، ولا يضر كون مورده ما إذا كان أحدهما عن إمام والآخر عن آخر ، بعد اتحاد المناط ، فلا فرق بين كونهما عن إمامين عليهما‌السلام أو إمام عليه‌السلام واحد ، مع إنّ قول الكليني في حديث آخر «خذوا بالأحدث ..» حرفيا فرض المناط الأحدثيّة فتأمل! (١)

وثانيا : نقول : يمكن أن يقال إذا وجب الأخذ بالأحدث في المعلومين فكذلك في المظنونين ، بعد شمول دليل الحجيّة لكليهما ، إذ الترجيح المذكور كأنّه نوع جمع بين الخبرين ، فيكون كما إذا ورد أنّه يجب تقديم الخاص على العام إذا أخبرتك بحديث في العام ، وأخبرتك بآخر في عام آخر ، يفهم منه أنّ هذه قاعدة العام والخاص من غير فرق بين القطعيين والظنيين.

والحاصل : أنّ المستفاد من الأخبار المذكورة أنّ الواجب في الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما أحدث الأخذ به مطلقا.

ويرد على الأخبار الدالّة على الأخذ بما خالف العامّة أنّ مقتضى الجمع بينها وبين خبر سماعة المنقول عن الاحتجاج : أن يقيّد هذا الترجيح بما إذا لم يمكن التوقف والاحتياط ؛ لأنّه خصّص الأخذ بمخالف العامّة بذلك ، فلا يكون هذا المرجح في عرض سائر المرجحات ، وإن ضممنا إلى ذلك عدم القول بالفصل بين المرجحات في كونها مطلقة أو بعد عدم إمكان الاحتياط ، فيكون إشكالا على الجميع.

والجواب : إنّ هذا الخبر يجب طرحه من هذه الجهة ؛ لعدم مقاومته لسائر الأخبار ، ويمكن حمله على الندب ، فلا إشكال.

__________________

(١) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : يمكن أن يقال فيه إنّه جعل الأحدثيّة فتأمل.

٤١٥

وأمّا الإشكالات الواردة على بعض المرجحات المذكورة : فقد أورد على الترجيح بالأصدقيّة والأورعيّة والأعدليّة : أنّ هذه الصفات لا توجب إلا الأقربية إلى الصدور (١) ؛ مع إنّ المقصود في الترجيح الأقربيّة إلى الواقع.

وفيه منع ذلك ؛ فإنّ المقصود قوّة أحد الخبرين في الطريقيّة ، ومن المعلوم حصولها بها ، وليس المناط القرب إلى الواقع حسبما عرفت سابقا ، مع إنّها من حيث هي توجب الأقربيّة إلى الواقع أيضا ، لأنّ الأقربيّة إلى الصدور أقربيّة إلى الواقع ، إلا أن يعارض في خصوص مقام بما يوجب أقربيّة الآخر من جهة أخرى ، والكلام في صورة تساوي الخبرين من سائر الجهات ، فإذا كانا في احتمال التقيّة وغيرها من الجهات متساويين ، وكان راوي أحدهما أعدل فلا شكّ أنّه أقرب إلى الواقع من حيث إنّه أقرب إلى الصدور ، مع إنّه ـ على فرض اختصاص احتمال التقيّة بخبر الأعدل بأن علم أنّ الخبر الآخر ليس صادرا على وجه التقيّة ، واحتمل صدور هذا تقيّة ، لا بأن يكون موافقا للعامّة من حيث إنّه أحد المرجحات فيصير من التعارض بين المرجحين ؛ إذ الظاهر إرادة المتكلم ظاهر كلامه ، فيكون مظنون المطابقة للواقع نوعا ، من حيث إنّه مظنون الصدور نوعا ؛ بملاحظة كون راويه أعدل ، لهذا كلّه بناء على كون المرجّحات معتبرة من باب الظن.

وأمّا بناء على تعبّديتها ـ كما هو مذهب الأخباريّة وصاحب المناهج ـ فالأمر أوضح ، إذ ليس الملاك القرب إلى الواقع ، ولا القرب إلى الصدور ، ومن هذا الأخير يظهر الجواب عن الإشكال على الترجيح بالأحوطيّة ، حيث إنّ موافقة الاحتياط لا توجب قوّة في أحد الخبرين أصلا ، لكنّ الإنصاف عدم الترجيح به من جهة ضعف المرفوعة ، ولا دليل عليه غيرها.

ودعوى دلالة العمومات الواردة في الاحتياط كليّة كما ترى ؛ لأنّها محمولة على الاستحباب ، بقرينة أخبار البراءة ، مع إنّ المراد منها الاحتياط في المسألة الفرعيّة كليّة ، لا الأخذ به في الجملة ؛ كما في المقام ، حيث إنّ مقتضى الترجيح به هو الأخذ بالاحتياط في صورة كون أحد الخبرين موافقا له ، لا للعمل به مطلقا ، كما هو مفاد

__________________

(١) لا توجد في نسخة (د) كلمة «إلى الصدور».

٤١٦

تلك العمومات ، مع إنّك قد عرفت إمكان (١) كون المراد من المرفوعة الرجوع إلى الاحتياط لا جعله مرجّحا ، وكيف كان ؛ فالترجيح بالاحتياط إنّما يتم بناء على تعبديّة المرجحات ، وتماميّة المرفوعة من حيث السند والدلالة ، وكلّها محلّ منع.

وأورد على الترجيح بموافقة الكتاب بأنّها لا تصلح للمرجحيّة ، إذ المراد إن كان الموافقة لقطعيّاته فهذا ممّا لا يحتاج إلى العرض على الكتاب ؛ لوضوح الحكم حينئذ ، وإن كان الموافقة لظواهره المختلف فيها ، فهذا لا يناسب ما اشتملت عليه من التأكيد والتشديد ، وأنّ المخالف زخرف وباطل ، لا سيّما بعد القول بجواز تفسير الكتاب بخبر الواحد ، وتخصيصه به ، وخصوصا عند من منع حجيّة ظواهر الكتاب ما لم يرد تفسيرها في الخبر (٢) ، مع إنّ الأحكام المستنبطة من الكتاب التي لها تعلّق بالمقام ليست إلا أقلّ قليل ، فلا وجه لتقديم العرض عليه ، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الآيات الدالّة على أصالة البراءة والإباحة ، فهي وإن تكثرت فروعها في الأحكام إلا أنّ مخالفتها ممّا يوجب التأكيد (٣) المذكور ، بل يجوز مخالفتها بخبر الواحد وغيره ، [ولا] سيّما عند من منع من حجيّتها وذهب إلى التوقف والاحتياط.

وفيه : إنّ المراد الموافقة لظواهره ولا يضرّ اختلافهم فيها ؛ فإنّ المدار على فهم كل مجتهد بالنسبة إلى نفسه ، فلو رأوا (٤) ظهوره في شيء عمل بمقتضاه ، كما في سائر الأمور الواقعيّة المختلف فيها ، فالمرجّح الواقعي هو الظهور (٥) ، وفي الظاهر المتّبع نظر المجتهد ، وأمّا الموافقة لقطعيّاته فلا تكون من المرجحات ، إذ الخبر المخالف لها ليس حجّة في حدّ نفسه كما عرفت.

والأخبار المشتملة على التأكيدات المذكورة واردة في القسم الثاني فهي خارجة عن المقام.

__________________

(١) في نسخة (د) : مع أنّك قد عرقت سابقا.

(٢) كما هو مبنى أكثر الأخباريين.

(٣) في نسخة (د) : ممّا لا يوجب.

(٤) في نسخة (د) : فلو رأى.

(٥) في نسخة (د) : هو الظهور الواقعي.

٤١٧

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الفصول (١) من الجواب بجواز اختيار كل من الوجهين وأنّ مجرّد الموافقة للقطعيّات لا يستلزم عدم الحاجة إلى العرض ، فإنّ ذلك مسلّم إلا أنّك قد عرفت أنّ الكلام في صورة كون كلّ من الخبرين حجّة في حدّ نفسه ، هذا ولا فرق فيما ذكرنا من العرض على الظواهر ـ أي العمومات والإطلاقات ـ بين القول بحجيّة الظواهر وعدمها ، إذ يمكن أن يكون الشيء مرجّحا مع عدم حجيّته ؛ كالشهرة وأيضا لا فرق بين القول بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد وعدمه ، إذ على القول بالعدم لا يخرج الخبر من حيث هو عن الحجيّة حتى يخرج عن المقام وإن كان لو لا المعارض لا يخصص الكتاب به ؛ فتأمّل!

ثمّ إنّ ما ذكره من قلّة الآيات المتعلقة بالمقام ممنوع ، إذ لا يخفى كثرة العمومات المستنبطة منها الأحكام ، مع إنّ القلّة لا تستلزم عدم المرجحيّة في ذلك المقدار ، أو عدم تقدم هذا الترجح على بقيّة المرجحات بناء على تقدمه وهذا واضح.

ومن ذلك يظهر حال سائر ما ذكر في الإشكال ، وعليك بالرجوع إلى الفصول فإنّه أوضح المطلب كمال الإيضاح ، وأفصح عن دفع الإشكال كل إفصاح ، وتمام ما ذكر إلا ما أومأنا إليه ؛ فتدبّر!

وأورد في المناهج (٢) على الترجيح بموافقة السّنّة بأنّ المراد من السنّة الطريقيّة (٣) ، لعدم ثبوت النقل في لفظ السنّة ، وهي غير معلومة إلا من جهة الإجماع أو الحديث ، والأول إذا تحقق لم يكن الخبر المخالف حجّة ، لكونه مخالفا للإجماع ، والحديث لا يفيد هنا لاختلافه.

وفيه : إنّ المراد من السنّة الأخبار النبويّة العامّة والمطلقة ، وعلى فرض كون المراد منها الطريقيّة (٤) فالمراد الطريقة المعلومة والمظنونة على (نحو) (٥) العموم ، وحينئذ فإذا علمنا ورود عامّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو نقل لنا بخبر الواحد وكان هناك خبران

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٢٤.

(٢) لم نعثر عليه في مناهج الأصول للفاضل النراقي.

(٣) في نسخة (د) : الطريقة.

(٤) جاءت في نسخة (د) : الطريقة.

(٥) أضفناها من نسخة (د).

٤١٨

متعارضان خاصّان : أحدهما يوافق ذلك العموم ؛ نقول بوجوب تقديمه كما في موافق الكتاب وهذا واضح ، وكذا المراد من موافقة أحد الخبرين لأخبارهم المعلومة ، فإنّ المراد موافقته لعموماتها ، فإذا كان هناك عامّ منقول عن أحد الأئمة عليهم‌السلام على وجه القطع مثل قوله عليه‌السلام «لا يحلّ مال امرئ إلا بطيب نفسه» (١) ، وتعارض خبران خاصان بمورد فيقدم ما هو موافق لهذا العموم.

ومن هنا يظهر ضعف ما في المناهج من الإشكال على هذا المرجّح أيضا بأنّ المراد من قوله عليه‌السلام «أحاديثنا» الأحاديث المعلومة عنهم عليهم‌السلام ، وهي غير موجودة لنا.

وأورد على الترجيح بالأحدثيّة بأنّه خلاف الإجماع ؛ قال بعض الأفاضل : وأمّا تأخر الوارد فهو باطل في أخبار الإماميّة اتفاقا ، كما صرّح به الفاضل التوني (٢) إلا من الصدوق ـ عليه الرحمة ـ في بعض مسائل الوصيّة ؛ نظرا إلى أنّ إمام العصر أعرف بما قال ، لا إلى هذه الأخبار الدالّة عليه ، والحق أنّه ليس مخالفا (٣) في المسألة ؛ لأنّ الكلام في كون التأخر مرجّحا من حيث هو ، حتى لو كان في كلام إمام لأخذنا [به] ، وكلامه مبني على أنّ كل إمام عليه‌السلام أعرف بما قال ، وهو غير ما نحن فيه ، كما لا يخفى ، والأخبار الدالّة عليه غير معمول بها في أخبار الإماميّة ، وأمّا النبويّة فلا بأس بها إلا أنّها خارجة عنها ، لما في تلك الأخبار من التصريح بورودها في الأول ، وتوجيهها بحمل المتأخر على التقيّة كما فعله بعض منظور فيه ، كما ننبّه عليه في ذكر المرجحات ؛ انتهى.

أقول : لم يدّع الفاضل التوني الاتفاق على عدم اعتبار هذا المرجّح ؛ بل قال ـ بعد نقل الأخبار ـ (٤) : وهذه الثلاثة دالّة على أنّ الواجب الأخذ بالرواية الأخيرة ، ولا أعلم أحدا عمل بها غير ابن بابويه في الفقيه .. في باب الرجل يوصي إلى رجلين ، حيث نقل خبرين مختلفين ثمّ قال : ولو صحّ الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بالأخير ،

__________________

(١) الكافي : ٧ / ٢٧٣ حديث ١٢ ، الفقيه : ٤ / ٦٦ حديث ١٩٥ ولفظه فيه «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ، مسند أحمد : ٥ / ٧٢.

(٢) الوافية : ٣٣١.

(٣) في نسخة (د) : ليس أيضا مخالفا.

(٤) الوافية : ٣٣٣.

٤١٩

كما أمر به الصادق عليه‌السلام ، وذلك أنّ الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام عليه‌السلام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس .. انتهى ؛ وهو كما ترى! ليس فيه إلا دعوى عدم العلم بالعامل ، ومجرّد هذا لا يكون اتفاقا على العدم ، فإذا كان الخبر الدالّ عليه معتبرا كما هو كذلك ؛ إذ بعض أخباره صحيح فلا بأس بالعمل به ، والصدوق ناظر إلى هذه الأخبار قطعا وتعليله لا ينافيها (١) ، كما هو واضح ؛ والسر في عدم إعمال العلماء لهذا المرجّح كثيرا عدم وجود مورد له أو قلّته في أنظارها (٢) ؛ لأنّ الغالب عدم العلم بالتاريخ (٣) ووجود سائر المرجّحات ممّا هو أقوى من هذا المرجح ، فلا يبقى له محلّ ، وفي المناهج (٤) أسند العمل به إلى جماعة ، منهم الصدوق في (٥) باب الوصيّة واختاره ، وكثيرا ما يعوّل عليه في مقام الترجيح في (٦) كتاب المستند فراجع (٧).

وبالجملة ؛ فطرحه بدعوى كونه خلاف الإجماع ممّا لا وجه له أصلا ؛ فتدبّر! هذا ولكن يمكن أن يستشكل في هذا المرجّح بأنّ ذلك إن كان من جهة احتمال النسخ فيختص بما إذا كان كلا الخبرين أو الأول منهما منقولا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كان من جهة احتمال التقيّة فلا بدّ أن يكون مخصوصا بزمان الحضور ؛ حيث إنّه إمّا أن يكون الأول تقيّة أو الثاني ، وعلى كلا التقديرين يجب الأخذ بالثاني في ذلك الزمان :

أمّا على الأول فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ ذلك مقتضى مصلحة التقيّة ، وأمّا في زماننا فحيث لا مقتضي للتقيّة فلا يجب الأخذ بالأحدث ؛ فتدبّر!.

وأورد على الترجيح بمخالفة العامّة بأنّه إن أريد مخالفة جميعهم ؛ فلا يمكن العلم به ، وإن أريد مخالفة بعضهم ؛ فلا تصلح مرجحا ، لأنّه إذا خالف بعضهم فوافق

__________________

(١) من قوله «هو كذلك» إلى قوله «لا ينافيها» لا يوجد في نسخة (د).

(٢) المقصود أنظار العلماء.

(٣) في نسخة (د) : بالتأخير.

(٤) مناهج الأصول : ٣١٨.

(٥) في النسخة : وفي ...

(٦) في نسخة (د) : وفي.

(٧) مستند الشيعة : ٥ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، ٦ / ٩٥ وقال فيه : .. إذ من المرجحات المنصوصة تقديم الأحدث ، ولا شك أنّ رواية الاحتجاج أحدث من الجميع.

٤٢٠