كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

الخبرين الظنيّان خصوصا بملاحظة التراجيح المذكورة فيها ؛ فإنّها لا تناسب الأخبار القطعيّة الصدور إلا أن يقال نمنع عدم الشمول بالنسبة إلى مطلقاتها خصوصا للخبرين المحفوفين بالقرائن ، فيحكم بينهما بالتخيير تعبدا ، ألا ترى أنّه يؤخذ فيها بمخالف العامّة (١) وموافق الكتاب والسنّة وغيرهما من المرجّحات الغير الراجعة إلى الصدور ، فيظهر من هذا أنّ الموضوع أعم من الظني والقطعي ، غاية الأمر عدم شمول ما اشتمل منها على المرجحات الصدوريّة ، ولا بأس (٢) بعد وجود المطلقات مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ محط السؤال والجواب في الأخبار أعم من حيث الشك في أنّ الصادر ما هو؟ والشك في أنّ الحكم ما ذا؟ فالإنصاف (٣) هو الحكم بالشمول.

ثمّ الظاهر بل المقطوع به عدم الفرق بين كون الخبرين في المسألة الفرعيّة أو الأصوليّة مثل الأخبار في حجيّة الكتاب أو الخبر الواحد والأخبار الواردة في علاج التعارض وغيرها ، ولا فرق أيضا بين الواردين في الحكم أو الموضوع المستنبط الشرعي بل العرفي أيضا كما في الغناء إذا فرض تعارض الخبرين في تشخيصه (٤) بل (٥) وكذا إذا كانا في بيان لغة من لغات الكتاب أو السنّة ، بل والأخبار الواردة في أحوال رجال الأخبار ؛ فإنّ دعوى الانصراف إلى غيرها غير مسموعة ، فالظاهر شمول أخبار التمييز لكل متعارضين تعلّقا بحكم الفروع.

وأمّا ما تعلّق منها بتفاصيل البرزخ (٦) والمعاد ونحوها ممّا يكون الخبر الواحد معتبرا فيه ، وكذا في المطالب الأخلاقيّة وأحوال الأمم السابقة .. ونحوها ، فيشكل انصراف الأخبار إليهما (٧) وإن كان الشمول ليس كل البعيد إذا كان ممّا يقبل التعبّد فيجوز نقل الخبرين في المراثي إذا كانا صحيحين على وجه بيان الواقع وأنّه صار

__________________

(١) في النسخة (ب) : بالمخالف العامّة ، وفي (د) : بمخالفة العامّة.

(٢) بعدها في النسخة (ب) : به.

(٣) في نسخة (د) : والإنصاف.

(٤) في نسخة (ب) هكذا : تشخيص موضوعه.

(٥) لا توجد كلمة «بل» في نسخة (ب).

(٦) في نسخة (ب) : أحوال البرزخ.

(٧) في نسخة (د) : إليها.

٣٢١

الأمر كذا (١) من غير إسناد إلى النقل ، ولذا يجرون أحكام التراجيح في جميع هذه المذكورات ، فتدبّر.

الثامن : [قد يقال إنّ البحث عن أحكام التعادل قليل الثمر]

قد يقال إنّ البحث عن أحكام التعادل قليل الثمر لندرة وجود الخبرين المتعارضين المتعادلين بل يمكن أن يحكم بعدم وجوده.

قلت : هو كذلك بناء على التعدي عن المرجّحات المنصوصة والحكم بالترجيح لكل ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع ، لكن مع عدم التعدي فليس كذلك خصوصا بالنسبة إلى ما يستفاد من الأخبار ممّا لم يتعرض لها الفقهاء أصلا من الفروع والأحكام التي لا يمكن تحصيل الظن بها من الشهرة والشذوذ .. ونحوهما.

هذا ولكن ينافي ذلك كثرة الأخبار الواردة في التخيير فإنّه يبعد صدور هذه الأخبار مع عدم المورد لها أو قلّة المورد (٢) فيكشف هذا إمّا عن التعدي عن المرجّحات المنصوبة (٣) أو كون الترجيح على وجه الاستحباب كما قد يقال ، أو نحو ذلك ، وقد يقال ـ في وجه عدم الثمر أو قلّته ـ إنّ العلماء لم يحكموا (٤) في موضع من المواضع من جهة التعارض والعمل بهذه الأخبار ، بل في كل مورد حكموا به فقد حكموا بالتخيير الواقعي ، مثل مسألة منزوحات البئر وذكر سجود الله (٥) معه ونحو ذلك ، وليس ببعيد ؛ لأنّ التنافي بين وجوب كل منها بعد وحدة الحكم والتكليف إنّما هو الاطلاق والتقييد بناء على ما هو التحقيق من كون التعيين أي الوجوب العيني مستفادا من إطلاق الأمر لا من حاقّ المدلول ، فعلى هذا يمكن (٦) الحكم بالتخيير الواقعي مقتضى الجمع بين الخبرين فلا يكون من مورد التخيير من جهة الأخبار.

قلت :

__________________

(١) في نسخة (د) : كذا مثلا.

(٢) في نسخة (د) : أو قلته.

(٣) في نسخة (ب) و (د) : المنصوصة.

(٤) بعدها في نسخة (ب) : بالتخيير.

(٥) في نسخة (د) : سجود السهو معه.

(٦) في نسخة (د) : يكون. والظاهر أنّه الصواب.

٣٢٢

أولا : قد يكون عدم التخيير الواقعي معلوما بل هو الغالب في موارد تعارض الأخبار.

وثانيا : إنّ الجمع الذي ذكره من الجمع غير العرفي الذي لا يرفع موضوع التعارض إذ العرف يفهم التنافي والتعارض بين قوله عليه‌السلام : «انزح ثلاثين» وقوله عليه‌السلام (١) : «انزح أربعين» ، ولا يفهم التخيير بينهما ، خصوصا مع الإشكال المعروف في التخيير بين الأقل والأكثر (٢) ، ألا ترى أنّ مثل هذا الجمع ممكن فيما إذا كان أحد الخبرين آمرا والآخر ناهيا ؛ لأنّه يمكن حمل كل منهما على الرخصة مع أنّه في خصوص (٣) النصوص جعل من المتعارضين وحكم فيه بالتخيير أو التوقف.

وثالثا : إنّ ما ذكر (٤) إنّما يتم في خصوص المورد كما اعترف به ، وأمّا في سائر الموارد من الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة (٥) فلا يتم فيه هذا الوجه من الجمع.

فالأولى في بيان عدم الثمر ما ذكرنا من أنّه بناء على التعدي عن المرجّحات المنصوصة لا مورد إلا والمرجّح موجود لأحدهما فلا يتحقق التعادل ، إذ لا أقل من الظن الخارجي بأحد الطرفين.

التاسع : [إذا فرض في خبر واحد كلامان متعارضان] إذا فرض في خبر واحد كلامان متعارضان سواء أسند كلّا منهما إلى الإمام عليه‌السلام مستقلا كأن يقول قال الإمام عليه‌السلام كذا ، وقال أيضا كذا أو لا بأن ينقل عنه كلاما يكون ذيله معارضا لصدره (٦) فهل يحكم فيه بالتخيير ؛ لأنّه في قوّة خبرين متعارضين أو لا؟ الظاهر الأول ودعوى الانصراف ممنوعة ، ومن ذلك يظهر حال

__________________

(١) لا يوجد في نسخة (د) : صيغة التسليم على الإمام.

(٢) يقصد بالإشكال المعروف هو : أنّ وجوب الأقل بنحو بشرط لا ، ووجوب الأكثر هو الأقل بشرط شيء ، ولا يجتمع بشرط لا مع بشرط شيء ، فهما من المتباينين ، ولذا مال إلى هذا الأمر المحقق العراقي قدس سرّه في بعض بياناته ، إلا أنّه وجّهت عدّة إشكالات على هذا البيان ، بالإضافة لتوجه إجابات متعددة عن هذا الإشكال من قبل الأعلام وليس هنا محلها ، ومن أبرزها أنّ وجوب الأقل هو بنحو اللابشرط ووجوب الأكثر بنحو بشرط شيء ، واللابشرط يجتمع مع ألف شرط ، فيمكن وجوب الأقل في ضمن الأكثر ، فتأمل!

(٣) لا توجد كلمة «خصوص» في نسخة (ب).

(٤) في نسخة (ب) : ما ذكره.

(٥) كلمة «والتكليفيّة» لا توجد في نسخة (ب).

(٦) في نسخة (ب) : لصدرها.

٣٢٣

الرجوع فيها (١) إلى المرجّحات الغير الصدوريّة وعدمه ، وأمّا المرجّحات الصدوريّة فلا مورد لها ؛ لأنّ المفروض وحدة الراوي في جميع الطبقات.

العاشر : [في أنّه لا يحكم بالتخيير في الخبرين إلا بعد عدم إمكان الجمع العرفي] لا إشكال في أنّه لا يحكم بالتخيير في الخبرين إلا بعد عدم إمكان الجمع العرفي ، وعدم وجود المرجحات المعتبرة ، فلا بدّ أولا من التأمّل في أنّه هل هناك جمع عرفي أو لا ، ومن الفحص عن وجود المرجحات ؛ وذلك لوضوح كون المقام كسائر المسائل الأصوليّة ممّا لا يجوز البناء عليه إلا بعد الفحص ، فلا يجوز العمل بخبر العادل إلا بعد الفحص عن معارضه ، وما نحن فيه مثله ، بل هو هو ؛ لأنّ الرجحان في الخبر الأرجح معارض للمرجوح ، فلا يجوز العمل به ولو تخييرا إلا بعد الفحص عن معارضه مضافا إلى أنّ التخيير ـ سواء كان من جهة الأخبار أو حكم العقل ـ معلّق على عدم المزيّة لأحدهما كما هو واضح ، وأصالة العدم لا تجري إلا بعد الفحص وإن كانت الشبهة موضوعيّة ؛ لأنّها راجعة إلى الحكميّة الواجب فيها الفحص بالإجماع.

__________________

(١) في نسخة (د) : فيهما.

٣٢٤

المقام الثّالث

في

الترجيح

٣٢٥
٣٢٦

[المقام الثالث]

[التراجيح] (١)

الكلام (٢) في التراجيح : عن العضدي أنّ الترجيح لغة (٣) جعل الشيء راجحا واصطلاحا اقتران أحد المتعارضين بما يتقوى به صاحبه (٤) ، قيل وهو المشهور بينهم على اختلاف في تعبيراتهم ، والظاهر أنّه من قبيل إطلاق المسبّب (٥) على السبب كما في تعريف القياس حيث إنّه من فعل المقايس ، ومع ذلك عرّفوه بأنّه مساواة الفرع والأصل ، فأطلق اسم المسبّب على سببه ، وهو المساواة في القياس ، والاقتران في المقام حيث إنّه موجب لترجيح المجتهد أي تقديمه إحدى الأمارتين ولعلّه مراد العضدي حيث حكي عنه (٦) قال : إنّ الترجيح لا يكون إلا بسبب وإلا كان تحكما ، وذلك السبب سمي بالترجيح في مصطلحهم ، قال : ولذا عرّفه الماتن باقتران أمارة بما يوجب تقديمها على معارضها.

هذا ؛ وقد يقال التعريف بالاقتران غير ملائم لما ذكره ؛ لأنّ سبب الاقتران غير الاقتران وعلاقة السببيّة (٧) إنّما هي بين التقديم وسبب الاقتران وهو المزيّة الموجودة لا بينه وبين الاقتران الفاقد لتلك العلاقة فاللازم (٨) ـ بناء على ثبوت الاصطلاح ـ أن يقال في تعريفه : إنّه ما يوجب تقديم إحدى الأمارتين على الأخرى

__________________

(١) في نسخة (د) : في التراجيح.

(٢) شطب على كلمة «الكلام» في نسخة (د).

(٣) لا توجد كلمة «لغة» في نسخة (ب). أقول : وفي مفاتيح الأصول ـ ٦٨٠ ـ عنه : الترجيح في اللغة ...

(٤) في نسخة (ب) : يقوى به على صاحبه. وهو الموافق للمصدر المحكي عنه.

(٥) في النسخة (ب) : إطلاق اسم المسبب ...

(٦) بعدها في نسخة (ب) : أنّه. راجع مفاتيح الأصول : ٦٨٠.

(٧) في نسخة (ب) : المسببيّة.

(٨) لا توجد كلمة «فاللازم» في نسخة (د).

٣٢٧

لا تعريفه بالاقتران.

قلت : لما كانت المزيّة الموجودة في الخبر إنّما توجب التقديم من حيث اتصاف الخبر واقترانه بها صحّ أن يقال إنّ الاقتران سبب بل في الحقيقة الأمر كذلك ؛ إذ وجه تقديم خبر الأعدل مثلا اتصافه بأعدليّة (١) .. وهكذا.

هذا ؛ ويظهر من القوانين (٢) إمكان (٣) كون الاستعمال المذكور في التعريف على الحقيقة بدعوى أنّ التراجيح (٤) قد يكون بمعنى الاختيار ، وقد يكون بمعنى الرجحان كما في قولهم الترجيح بلا مرجّح محال مثلا ، فإنّ الأول بمعنى الاختيار والثاني بمعنى الرجحان فيكون تعريف الترجيح بالاقتران من باب المعنى الثاني.

وأنت خبير بما فيه ؛ إذ لم يستعمل الترجيح بمعنى الرجحان إلّا مجازا ؛ للعلاقة المذكورة ، ولفظ المرجّح في قولهم بمعنى الموجب للرجحان ، ولا وجه لحمله على ما ذكره ، ولعلّه يخيل أنّ الفاعل للترجيح لا بدّ أن يكون شخصا عاقلا ولا يكون في العبارة (٥) كذلك ، فلا يمكن حمله على المعنى الأول مع أنّه أعم كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الترجيح ليس بمعنى الاختيار أيضا ؛ لظهوره في الإسناد إلى الفاعل المختار ولا يختص الترجيح به بل بمعنى التقديم وجعل الشيء راجحا ، أو لنسبته (٦) إلى المرجحات كما هو شأن باب التفعيل ، حيث إنّه قد يكون بمعنى إيجاد الفعل ، وقد يكون بمعنى النسبة إليه كالتضييق ، وكيف كان (٧) قد يعرف في الاصطلاح ـ كما عن الزبدة (٨) ـ بتقديم إحدى الأمارتين على الأخرى ، ولعله الأنسب (٩) بظاهر اللفظ مع إنّه لم يثبت الاصطلاح الجديد كما ادّعاه العضدي ، ودعوى أنّ الترجيح ليس بمعنى

__________________

(١) في نسخة (د) هكذا : بأعدليّة راويه.

(٢) قوانين الأصول : ٣٩٦.

(٣) لا توجد كلمة «إمكان» في نسخة (ب).

(٤) في نسخة (ب) و (د) : الترجيح.

(٥) في نسخة (ب) هكذا : العبارة المذكورة.

(٦) في نسخة (د) : ولنسبته.

(٧) لا توجد كلمة «وكيف كان» في النسخة (ب).

(٨) حكاه عن زبدة الأصول صاحب مفاتيح الأصول : لاحظ ص ٦٧٩.

(٩) في نسخة (د) هكذا : ولعله لأنّه.

٣٢٨

التقديم بل بمعنى جعل الشيء راجحا (١) فإنّه بتقديمه رجّحه على غيره ، نعم المفهومان مختلفان ولا بأس به ، فلا وقع لما قيل من أنّ في كلّ من تعريف المشهور وتعريف الزبدة (حزازة) (٢) ؛ لأنّ المشهور عرّفوه بالاقتران ، مع أنّ اللازم تعريفه بسبب الاقتران ؛ لأنّه الموجب للتقديم ، والزبدة عرّفه بالتقديم واللازم تعريفه ـ بناء على عدم ثبوت الاصطلاح الجديد ـ بجعل الشيء راجحا ، ثمّ إنّ الكلام في مقامات :

[المقام] الأول : في وجوب الترجيح وعدمه [ونرسم فيه أموراً]

ولا بأس بتقديم حكم الأصل ، وأنّ مقتضى الأصل الترجيح بكل ما يحتمل المرجحيّة أم لا؟ وتوضيح الحال يقتضي رسم أمور :

[الأمر] الأول : [اختلاف عناوين المرجحات]

المرجّح لأحد الواجبين على الآخر أو لأحد الدليلين على الآخر قد يكون تعدد العنوان في أحدهما أو تعدد الفرد من عنوان واحد أو عنوانين ، وقد يكون آكديّة المناط أو المصلحة (٣) في الجعل.

أمّا الأول ؛ ففي الواجبين مثل ما إذا دار الأمر بين إكرام زيد أو عمرو ، وكان أحدهما عالما والآخر عادلا أيضا ، وفرض وجوب إكرام كل من العالم والعادل ؛ فإنّه لا إشكال في تقديم ذي العنوانين ؛ لأنّ أحد العنوانين فيه سليم عن المزاحم ، فلو تركه ترك الواجب بلا جهة ، ومثل ما إذا دار الأمر بين ترك واحد من الواجب وترك فردين من ذلك الواجب أو ترك فردين من واجبين ، فلا إشكال أيضا في اختيار ذلك الواحد في مقام الضرورة ، فلو دار الأمر بين إنقاذ زيد وترك إنقاذ عمرو وبكر أو العكس (٤) وفي الأمارتين كما إذا فرض أنّ الظن من حيث هو حجّة من أي سبب حصل والخبر الواحد أيضا حجّة وتعارض خبران أحدهما مفيد للظن الفعلي دون الآخر ؛ فإنّه يقدم ما يفيد الظن لاشتماله على عنوانين : الظن والخبريّة ، وكما إذا تعارض خبران مع خبر واحد بأن كان في أحد الطرفين أزيد من خبر واحد ؛ فإنّه يقدم

__________________

(١) بعدها في النسخة (ب) و (د) : إذ التقديم من مصاديق جعل الشيء راجحا.

(٢) أثبتناها من النسخة (د).

(٣) في نسخة (ب) و (د) : والمصلحة.

(٤) بعدها في نسخة (ب) و (د) : وجب اختيار العكس.

٣٢٩

الخبران على الخبر الواحد وإن كان الواحد أيضا من حيث هو حجّة ، وكما إذا تعارض الخبر والإجماع المنقول ـ على فرض حجيّته ـ مع خبر واحد .. وهكذا ، ولا فرق في ذلك بين اعتبار الأمارات من باب الطريقيّة أو الموضوعيّة.

أمّا على الثاني (١) فواضح ، وأمّا على الأول (٢) فلأنّ العرف يقدمون العمل بالطريقين على طريق (٣) فلو تعارض أهل الخبرة في التقديم مثلا وكان في أحد الجانبين أكثر من واحد يقدمون ذلك الجانب مع أنّه يمكن أن يقال إنّه مقتضى أدلّة حجيّة الأمارات (٤) ؛ إذ يجب العمل بكل واحد من الظن والخبر مثلا ، فكأنّ الخبر عارض الخبر وبقي الظن أو العكس ، لا أقول إنّ طرف المعارضة أحدهما والآخر سليم ؛ لأنّ ذلك الواحد يعارض كليهما دفعة ، بل أقول كأنّه كذلك فتدبّر.

وأمّا الثاني ؛ ففي الواجبين كما إذا كان أحدهما (٥) أعلم أو أعدل لكن يعتبر أن تكون الأكديّة بمقدار يكفي في الوجوب وحده ، وإلا أفاد الأولويّة فقط ، وفي الأمارتين كما إذا علمنا أنّ العمل بالخبر إنّما هو من جهة الإيصال إلى الواقع والأقربيّة إليه نوعا ، وكان أحدهما أقوى في ذلك في نوعه كخبر العادل مع الموثوق به من غير الإمامي أو مع خبر الممدوح (٦) بناء على حجيّتها ، أو نحو ذلك كخبر الأضبط أو الأعدل بالنسبة إلى غيرهما ، وكالخبر بالنسبة إلى الشهرة بناء على حجيتها من حيث هي بل لو اقترن بأحد الخبرين كلّ ما يوجب أقربيّته إلى الواقع ؛ لأنّه به يكون (٧) أقوى في الطريقيّة وإن لم يكن الظن الفعلي مناطا في أصل الحجيّة بمعنى أنّه لم يجعل العمل بالخبر دائرا مداره إلا أنّه في مقام الترجيح لم يبلغ (٨) اعتباره.

__________________

(١) أي على الموضوعيّة.

(٢) أي على الطريقيّة.

(٣) جاء في نسخة (ب) و (د) هكذا : طريق واحد.

(٤) جاء بعدها في نسخة (ب) و (د) : أيضا.

(٥) جاء في نسخة (د) بعدها : أهم وآكد وجوبا من الآخر ، كأن يعلم أنّ المناط في وجوب الإكرام مثلا العلم أو العدالة ، وكان أحدهما ...

(٦) في نسخة (د) : الخبر الممدوح.

(٧) في نسخة (ب) هكذا : يكون نوعه أقوى.

(٨) في نسخة (د) : لم يلغ اعتباره ، ولعله هو الصواب.

٣٣٠

ولا ينافي ذلك وجوب كون الترجيح في المناط ، وأنّ الرجحان من جهة أخرى غير مثمر ؛ وذلك لما عرفت من أنّ المفروض أنّ المناط هو الإيصال الغالبي إلى الواقع ، وهذا يقوى بالمرجّح المذكور وكون الظن النوعي مناطا في أصل الاعتبار بمعنى كفايته ، وعدم اعتبار الظن الفعلي لا ينافي قوّة النوع في مقام المعارضة ، ففي صورة غير المعارضة (١) لا اعتبار بالظن الفعلي موافقا كان أو مخالفا ، لكنّه يثمر في مقام المعارضة.

ودعوى أنّه إذا كان المناط الظن النوعي والمفروض وجوده في المرجوح أيضا فيعارض الراجح فلا يمكن تخصيص دليل الحجيّة بالراجح.

مدفوعة : بما ذكرنا من أنّ مقتضى ذلك ليس أزيد من الاكتفاء به وعدم الإناطة بالظن الفعلي لا عدم اعتباره أصلا ، وبالمرّة ألا ترى في الواجبين المتزاحمين أنّ غير الأهم أيضا واجد لمناط الوجوب ، ومع ذلك لا يزاحم الأهم ويقدم الأهم عليه مع أنّه في أصل الوجوب لم يلاحظ الأهميّة ، فإنّ غير الأهم في مقام (٢) المزاحمة واجب.

ويظهر ما ذكرنا بملاحظة بناء العقلاء في الطرق المتعارضة المعتبرة بينهم فإنّهم يتوقّفون عنها في صورة التساوي لا في صورة أقوائيّة أحدهما ، نعم يعتبر أن تكون القوّة بمقدار واف في الترجيح فالأقربيّة في الجملة لا يعبأ بها كما لا يخفى ، وقد يكون الترجيح لأحد الواجبين أو الدليلين من باب التعبد الشرعي كالترجيح بمخالفة العامّة مثلا من حيث مجرد حسن مخالفتهم ، وكالترجيح بالأعدليّة في الجملة .. ونحو ذلك ممّا لا يعتبره (٣) العقلاء ، وهذا يحتاج إلى التوقف (٤) من الشرع ، ثمّ إنّه لا يتفاوت الحال فيما ذكرنا من الترجيح بتعدد العنوان وآكديّة المناط بين كون مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين التساقط وغيره ، وذلك لأنّه بناء على التساقط أيضا نقول : إنّه إنّما يكون إذا لم يكن مرجّح لأحد الطرفين وإلا فيكون دليل الحجيّة

__________________

(١) في نسخة (د) : ففي غير صورة المعارضة.

(٢) في نسخة (ب) و (د) : في غير مقام ...

(٣) في نسخة (د) : مما يعتبره.

(٤) في النسخة (ب) و (د) : التوقيف.

٣٣١

مختصا به.

أمّا في تعدد العنوان فواضح ، وأمّا في غيره فلبناء العقلاء على ترجيحه وعدم جعله معارضا بالآخر ، هذا في غير الترجيح التعبدي وأمّا فيه ففي صورة العلم به فهو الدليل.

[الأمر] الثاني : [دوران الأمر بين التعيين والتخيير]

ذكر الأصوليون في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير وجهين في أنّه يجب الأخذ بالمعيّن أو هو مخيّر ، وتحقيق الحال :

أنّه قد يفرض الدوران في التكاليف بين الأمارتين (١) ، وقد يفرض في الأدلة ، ولكل منهما صورتان إحداهما أن يكون المقتضى للوجوب أو للحجيّة موجودا لكل واحد من الأمرين وكان الشك في التعيين راجعا إلى الشك في سقوط الآخر عن الوجوب أو الحجيّة ففي التكاليف كالواجبين المتزاحمين إذا اقترن أحدهما بما يحتمل أن يكون موجبا لتقديمه ، وفي الأدلة كما إذا فرضنا شمول دليل الحجيّة لكل من المتعارضين بحيث يكون مقتضى القاعدة التخيير مثلا ، وشكّ من جهة وجود مزيّة في أحدهما لا سقوط (٢) الآخر عن الحجيّة.

الثانية : أن لا يكون المقتضى موجودا بأن علم من الأول وجوب شيء وشك في كونه واجبا معينا أو مخيّرا بينه وبين الآخر كما إذا علم بوجوب صلاة عليه ولا يدري أنّها الجمعة أو مخيّرا بينها وبين الظهر ، أو علم بحجيّة هذا الخبر عينا أو تخييرا بينه وبين الأخرى .. ففي الصورة الأولى من الدوران بين التعيين والتخيير في التكليف (٣) مقتضى القاعدة هو الحكم بالتخيير وعدم الاعتناء باحتمال التعيين ؛ لأنّ الشك في التعيين راجع إلى الشك في سقوط الآخر عن الوجوب والأصل عدمه.

وبعبارة أخرى : المرجح المشكوك الوجود أو المشكوك المرجحيّة على فرض وجوده أو اعتباره مانع عن وجوب الآخر والأصل عدمه من غير فرق بين أن يكون من جهة احتمال تعدد العنوان أو من جهة احتمال الأهميّة أو الآكديّة في الوجوب ؛

__________________

(١) في نسخة (ب) و (د) : الأمرين.

(٢) لا توجد كلمة «لا» في كل من النسخة (ب) و (د).

(٣) في نسخة (د) : في التكليفين.

٣٣٢

إذ على الأول الأصل عدم وجود العنوان الآخر وعدم العقاب من جهته ، وعلى الثاني أيضا نقول الآكديّة كلفة زائدة مدفوعة بالأصل ، ولو كان الواجب بل الوجوب أمرا واحدا.

ومن ذلك يظهر الجواب عمّا يمكن أن يقال : إنّ الشك يرجع إلى الوجوب الفعلي في الآخر والأصل عدمه ؛ إذ الشك في وجوبه الفعلي في الحقيقة من جهة الشك في سقوطه ووجود المانع عنه ، وهما مدفوعان بالأصل.

فإن قلت : ما ذكرت إنّما يتم إذا فرض تعلّق التكليف بالآخر فعلا ثمّ طرأ العجز عن الإتيان بهما وأمّا إذا كان من أول الأمر عاجزا فلا يدرى أنّه هل وجب عليه خصوص هذا أو ذاك (١) مخيّرا فلا يكون الشك في سقوط التكليف بل في ثبوته بالنسبة إلى الآخر مجرّد (٢) ، وأمّا وجوب هذا فمعلوم فلا يجوز تركه وإتيان الآخر.

قلت : لا نحتاج إلى الثبوت الفعلي بل يكفي شمول الدليل له من حيث هو وإن كان غير منجّز (٣) من جهة المزاحمة فمقتضى قوله أنقذ كل غريق وجوب إنقاذ كليهما والعجز عن ذلك لا يقتضي إلا عدم التنجز بالنسبة إليهما معا ، وأمّا أصل الوجوب فهو ثابت ؛ فإذا فرضنا الشك في أنّ المنجز خصوص أحدهما أو أحدهما المخيّر فنقول التعيين (٤) يحتاج إلى دليل.

فإن قلت : إنّ المفروض تنجز التكليف بالنسبة إلى أحدهما أعمّ من المعين والمخيّر وبالنسبة إلى الآخر مشكوك.

قلت : هذا لا يثمر بعد كون القدر المعلوم هو المخيّر.

فإن قلت : التخيير إذا كان بحكم العقل فهو لا يحكم به إلا بعد إحراز التساوي وعدم المزيّة (٥) فبمجرّد الاحتمال يجب اختيار ذي المزيّة تحصيلا لتعيين البراءة.

__________________

(١) في نسخة (د) : هذا أو هذا أو ذلك.

(٢) كتب على الكلمة من نسخة الأصل : كذا ، وكلمة «مجرد» غير موجودة في نسخة (د) و (ب).

(٣) جاء بعدها في نسخة (ب) و (د) : فعلا عينا.

(٤) في نسخة (ب) و (د) : إنّ التعيين.

(٥) وذلك بلحاظ أنّ التخيير مرجع بعد عدم إمكان الترجيح وليس مرجّحا في عرض سائر المرجّحات.

٣٣٣

قلت : الحاكم بالتخيير وإن كان هو العقل إلا أنّ الموضوع شرعي والمفروض أنّ الشارع علّق الوجوب على كلّ منهما من حيث هو ، ولم يعلم أنّه عيّن ـ بعد العجز ـ أحدهما أم لا ، فإذا دفعنا التعيين بالأصل فيحكم العقل بالتخيير ، فموضوع حكم العقل هو كون كلّ منهما واجبا شرعا مع عدم المزيّة لأحدهما شرعا ، ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لما ذكره الشيخ المحقق (قدس‌سره) في الرسالة (١) من أنّه مع احتمال الأهميّة يجب الترجيح.

هذا كلّه بناء على ما هو التحقيق من أنّ الدليل يشمل كلّا (٢) منهما عينا حتى في صورة العجز ، وأنّ التنجز ليس من مدلول اللفظ بل هو بيد العقل وأنّه لا ينافي الخطاب الشرعي مع (٣) وجود المانع من التنجز.

وأمّا بناء على عدم الشمول فلا بدّ من دعوى أنّ المناط معلوم في كل منهما والشك في زيادته في الآخر حتى يكون مقتضيا (٤) والأصل عدم الزيادة ولكن العلم بوجود المناط في كليهما مع عدم شمول الدليل حتى في صورة احتمال الأهميّة مشكل.

وأمّا الصورة الأولى من الدوران بين التعيين والتخيير في الحجّتين فقد يقال إنّ القاعدة تقتضي التعيين ؛ لأنّ الأصل في الأدلة عدم الحجيّة عند الشك ، ولا فرق بين أن يكون الشك في الحجيّة الابتدائيّة أو الحجيّة الفعليّة بعد إحراز الحجيّة الشأنيّة كما في المقام ؛ فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه إلا أنّ حجيّته فعلا مع معارضة الراجح (٥) غير معلوم ، فالأخذ به والفتوى بمؤداه تشريع محرم بالأدلة الأربعة.

ولكنّ الحق فيه أيضا التخيير إذا فرضنا أنّ الحكم ـ على فرض عدم المرجحيّة ـ ذلك ؛ وذلك لأنّا إذا قلنا إنّ أدلّة حجيّة الأخبار مثلا تشمل صورة التعارض أيضا وأنّ مقتضى ذلك بحكم العقل هو التخيير بينهما إلا في صورة وجود معيّن لأحدهما

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) في الأصل كتبت هكذا : كل كلّا.

(٣) لا توجد كلمة «مع» في نسخة (ب).

(٤) في نسخة (ب) و (د) : متعينا.

(٥) في نسخة الأصل : التراجح ، وما أثبتناه من النسخة (ب) و (د).

٣٣٤

فنقول : الأصل عدم المعيّن سواء كان الشك في مرجحيّة الموجود أو وجود المرجّح المعلوم الاعتبار ، والكلام في المقام بمثل (١) المقام السابق ؛ إذ الملاك وجود المقتضي للحجيّة بالنسبة إلى كليهما ، وهو الدليل الدالّ على حجيّة كل خبر والشك في المانع عنهما بالنسبة إلى المرجوح ، فبعد جريان الأصل ورفع المانع وإبقاء الآخر على الحجيّة يتحقق موضوع حكم العقل بالتخيير ، بل يمكن أن يقال في صورة الشك في مرجحيّة الموجود بعد شمول الدليل لكلّ منهما يرجع الشك إلى تقييد الإطلاق بالنسبة إلى المرجوح ، وأصالة الإطلاق مثبتة لموضوع حكم العقل وهو وجوب هذا وذلك عينا ، والعجز إنّما منع عن التنجز بالنسبة إلى أحدهما على التعيين (٢) فمقتضى إطلاق وجوب كلّ منهما في المسألة السابقة وحجيّة كل منهما في هذه (٣) ، والعجز عن الجمع التخيير (٤) ؛ إذ المرجح ـ على فرض اعتباره ـ مقيّد للإطلاق فلا يحتاج إلى أصل عملي (٥) نعم في صورة الشك في وجود المرجح المعلوم الاعتبار يحتاج إلى الأصل العملي فتدبّر.

هذا إذا قلنا بشمول الدليل لكليهما.

وأمّا إذا لم نقل بذلك ، وقلنا إنّ المناط ـ وهو الطريقيّة النوعيّة ـ موجود في كليهما فمثل السابق أيضا ، فما (٦) اشتهر من أنّ الأصل في الأدلّة عدم الحجيّة عند الشك فهو إنّما يكون إذا لم يرجع الشك إلى الشك في وجود المانع المدفوع بالأصل مثل المقام ، بناء على أحد الفرضين من شمول الدليل أو وجود المناط هذا.

ولكن قد عرفت سابقا أنّ الدليل لا يشمل المتعارضين ، وعلى فرض الشمول كما على بعض الوجوه فمقتضى القاعدة التساقط لا التخيير العقلي ، وسنشير إليه فيما

__________________

(١) في نسخة (ب) و (د) : مثل.

(٢) جاء في نسخة (ب) و (د) هكذا : لا على التعيين.

(٣) في نسخة (ب) و (د) : هذه المسألة.

(٤) كلمة «التخيير» وقعت خبرا للمبتدا من قوله «فمقتضى».

(٥) في نسخة (د) : الأصل العملي.

(٦) في نسخة (ب) و (د) : وما.

٣٣٥

بعد أيضا (١).

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّ مقتضى القاعدة يتخير (٢) في المقامين أي في التكاليف والحجيّة في صورة وجود المقتضي بالنسبة إلى كلا الواجبين (٣) أو كلا الخبرين أو الأمارتين إنّما هو إذا كان الوجوب أو الحجيّة من قبل الشارع.

وأمّا إذا كان أصل الوجوب أو الحجيّة من باب حكم العقل فلا يكفي وجود المقتضي في الحكم بالتخيير كما إذا فرضنا اشتباه القبلة بين جانبين أو أزيد أو الساتر الطاهر بين ثوبين أو أزيد ، وكان الاحتياط بالجمع متعذرا فإنّ العقل الحاكم بوجوب أحدهما بعد حكمه ـ في صورة عدم العجز ـ بوجوبها (٤) لا يحكم بالتخيير إلّا مع التساوي أي تساويهما (٥) من حيث الظن بالواقع ، وإلا فمع كون أحدهما مظنونا والآخر موهوما يحكم بوجوب اختيار المظنون وإن لم يدل دليل على اعتبار ذلك الظن ، ولذا إذا فرضنا أنّ العقل يحكم بوجوب العمل بالأخبار مثلا عند انسداد باب العلم في واقعة أو في جميع الوقائع ، وتعارض خبران وكان أحدهما مظنون المطابقة فإنه يحكم بتعيينه ، ولا يبني على التخيير بناء على حكمه به إلا بعد التساوي والسر في ذلك أنّ حكمه بالتخيير إنّما هو من جهة أنّه غاية المقدور (٦) في إدراك الواقع الذي يحكم بوجوب إدراكه مع الإمكان.

فإذا كان أحد الطرفين مظنون المطابقة فهو متعيّن في نظره من حيث إنّ المناط فيه (٧) آكد ، فإذا حكم بوجوب الصلاة إلى أربع جهات ـ مثلا ـ من حيث إنّ إدراك الواقع واجب في نظره ، فمع التعذر يحكم أيضا بالتخيير من حيث إنّه (٨) القدر الميسور في إدراكه ، ومن المعلوم أنّه إذا كان ملاك حكمه الاحتياط مهما أمكن فلا بدّ

__________________

(١) قد مرّ في ص ١١٩ ، ١٢٧ ، ١٣٩ ، وسيأتي في ص ٣٣٨ وما بعدها.

(٢) في نسخة (د) : التخيير.

(٣) في نسخة (د) : الوجهين.

(٤) في نسخة (ب) و (د) : بوجوبهما.

(٥) لا توجد كلمة «التساوي أي» في نسخة (د).

(٦) في نسخة الأصل : المقدار ، وما أثبتناه هو من النسخة (ب) ، وفي (د) : في غاية المقدور.

(٧) لا توجد كلمة «فيه» في نسخة (ب).

(٨) جاء بعدها في نسخة (ب) : المقدور و...

٣٣٦

له من تقديم المظنون على غيره .. وهكذا بالنسبة إلى العمل بالخبر ؛ فإنّه من حيث إنّه مكلّف بالواقع ولا أقرب منه في نظره فمع الدوران إذا كان أحدهما مظنون المطابقة لا يحكم بالتخيير ، بل إذا تساويا في نظره واحتمل تعيين الشارع لأحدهما لا يحكم بالتخيير أيضا ، فمجرّد كون كل منهما واجب العمل في حدّ نفسه في صورة التعذر (١) لا يكفي ، ولعله من هذا الباب حكمه بوجوب الأخذ بالظن المظنون الاعتبار (٢) عند انسداد باب العلم بناء على تقرير الحكومة دون الكشف ، فإنّه وإن لم يكن معارضا بالظن الغير المظنون الاعتبار لتعدد موردهما إلا أنّ ملاك حكمه لمّا كان تعيين الواقع بالعلم ومع عدمه فإدراكه مهما أمكن ، والمظنون الاعتبار أقوى في ذلك لإدراكه إمّا الواقع أو مصلحته ، فيقتصر في مقام الضرورة بالاكتفاء بما دون العلم عليه ودعوى أنّ لازم هذا العمل بغير مظنون الاعتبار أيضا في مورده ؛ لأنّه أقوى من الرجوع إلى الأصول في إدراك الواقع.

مدفوعة بأنّ الرجوع إلى الأصول إذا كان بحكم الشارع فهو مثل القطع بالواقع فتدبّر هذا.

وأمّا الصورة الثانية من الدوران في التكاليف الفرعيّة ؛ ففي وجوب الاقتصار على ما يحتمل تعيينه وعدمه بمعنى التخيير بينهما قولان ؛ وعمدة الوجه في عدم وجوب الاحتياط : أنّ الشك يرجع إلى التكليف (٣) ؛ لأنّ القدر المتيقن من الوجوب هو وجوب أحدهما لا على التعيين فإنّه الذي يستحق بتركه العقاب ، وأمّا مع الإتيان بأحدهما ولو كان هو المشكوك الوجوب لا يقطع بالعقاب.

وبعبارة أخرى : التعيين كلفة زائدة مدفوعة بالأصل ؛ فالمسألة وإن لم تكن راجعة إلى مسألة الأقل والأكثر إلا أنّ ملاك تلك المسألة جار فيها ، وعمدة الوجه في وجوب الاحتياط هو أنّ وجوب هذا المعيّن إمّا معيّنا أو مخيّرا معلوم ، والشك إنّما هو في سقوطه بالإتيان بالآخر والأصل عدمه.

__________________

(١) في نسخة (ب) و (د) : في غير صورة التعذر.

(٢) جاء في نسخة (ب) و (د) هكذا : المظنون الاعتبار دون غيره ...

(٣) في نسخة (ب) : إلى أصل التكليف.

٣٣٧

والجواب عنه : إنّما (١) يتم إذا كان نحو وجوب الواجب التعييني والتخييري واحدا ، وكان الإتيان بأحدهما مسقطا للتكليف عن الآخر ، فهو (٢) ليس كذلك بل نحو الوجوبين مختلف ، والواجب التخييري لا يقتضي أزيد من الإتيان بأحدهما من الأول فالشك في التعيين والتخيير راجع إلى الشك في نحو الوجوب ، والقدر المتيقّن منه ما لا يقتضي إلا اتيان أحدهما ، وتمام الكلام في محلّة.

وأمّا الصورة الثانية من الدوران في الحجيّة ؛ فمقتضى القاعدة فيها هو التعيين سواء قلنا بالاحتياط في المسألة السابقة أو لا ؛ وذلك لأنّ الشك حينئذ (٣) يرجع إلى الشك في أصل الحجيّة والأصل عدمها ، مثلا إذا فرضنا أنّ أدلة الحجيّة غير شاملة لصورة التعارض وأنّ مقتضى القاعدة التساقط ، ولكن علمنا من الإجماع أو غيره أنّ الشارع حكم بحجيّة أحدهما إمّا معيّنا أو مخيّرا فالقدر المتيقن (٤) أحدهما المعين والشك في الآخر راجع إلى أصل الحجيّة ، وكونه حجّة في صورة عدم المعارضة لا يثمر (٥) في حال المعارضة بعد عدم شمول الدليل ، ولعلّه إلى هذه الصورة ينظر الشيخ المحقق قدس‌سره حيث قال (٦) : إنّ الشك في الحجيّة الفعليّة كاف في الحكم بالعدم ولا يكفي الحجيّة الشأنيّة ؛ وهو كذلك ، فهو مثل ما إذا علمنا أنّ الشارع إمّا حكم بحجيّة خصوص الأخبار وعيّن الرجوع إليها في تعيين التكاليف الواقعيّة أو خير بينها وبين الشهرة والإجماع المنقول ، ومن المعلوم أنّه لا يجوز العمل بالإجماع والشهرة حينئذ فكذا المقام ، ومجرّد الحجيّة في بعض الأحوال لا يجدي في الفرق وهو واضح.

فهذه المسألة مثل المسألة السابقة في أنّه يؤخذ بالقدر المتيقن (من الأمر

__________________

(١) في نسخة (د) : إنّه إنّما ...

(٢) لا توجد كلمة «فهو» في نسخة (د).

(٣) في نسخة (ب) و (د) هكذا : لأنّ الشك فيها ...

(٤) جاء بعدها في نسخة (ب) : منها ...

(٥) لا توجد كلمة «لا يثمر» في النسخة (ب).

(٦) فرائد الأصول : ١ / ١٢٨ ، وفي العبارة تصرف ، لأنّ حق المطلب منها أن يقال : إنّ الشك في الحجية الإنشائيّة مساوق للقطع بعدم الحجية الفعليّة.

٣٣٨

المجعول ، فهناك يؤخذ بالقدر المتيقن من التكليف ، وهنا يؤخذ) (١) بالقدر المتيقن من الحجيّة ، فمسألة الحجيّة نظير مسألة الوجوب في الصورتين ، والفرق الموجود في الصورة الثانية إنّما جاء من قبل أنّ الأصل في الحجيّة إذا كان هو العدم فلازمه التعيين ، وفي التكليف إذا كان هو العدم فلازمه التخيير.

[الأمر] الثالث : [مقتضى القاعدة على الطريقية هو التساقط]

قد عرفت سابقا أنّ مقتضى القاعدة في التعارض هو التساقط ؛ لعدم إمكان شمول الدليل لكلّ من المتعارضين حتى يحكم بالتخيير بعد عدم إمكان الجمع ، وذلك لأنّه إذا كان معنى حجيّة الخبر وجوب العمل به فيرجع الأمر (٢) في المقام إلى التناقض ؛ لأنّه بمنزلة قوله افعل ولا تفعل سواء في ذلك الطريقيّة والموضوعيّة ، وعلى فرض كون معنى الحجيّة جعل الطريقيّة والمرآتيّة للواقع بحيث يكون العمل من آثاره بنحو القضيّة الطبيعيّة ، فيكون الدليل شاملا لصورة التعارض إلا أنّ لازمه التساقط بالمعنى المصطلح ؛ لأنّه يرجع بعد هذا الجعل إلى تعارض المقتضيين كما في العقدين المختلفين من الوكيلين بالنسبة إلى موضوع واحد في آن واحد فإنّه لا يحكم بالتخيير ، وقد مرّ الكلام (٣) سابقا ، وعلى فرض إمكان الشمول بالمعنى الأول والإغماض عن التناقض فلازمه التخيير العقلي ولو قلنا بالطريقيّة ؛ وذلك لأنّ الملحوظ في الجعل هو الكشف الغالبي الموجود في كل منهما فمناط الحجيّة موجود في كلّ منهما ، فحالها (٤) على هذا التقدير حال الموضوعيّة ؛ إذ كما أنّه على الموضوعيّة يقال كل منهما موضوع لوجوب العمل بمقتضى الدليل فكذا على الطريقيّة كل منهما موضوع لوجوب العمل على أنّه الواقع على الطريقيّة.

فتبين أنّ التخيير على المختار ليس إلا من جهة الأخبار ، وقد عرفت أيضا أنّ الشيخ قدس سرّه فرّق بين الموضوعيّة والطريقيّة ، وحكم بالتخيير العقلي على الأول

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في النسخة (د).

(٢) في نسخة (د) : الإذن.

(٣) في نسخة (ب) و (د) : مرّ تمام الكلام.

(٤) في نسخة (ب) : فحالهما.

٣٣٩

وبالتوقف على الثاني (١) ، ولازمه الرجوع إلى الأصل الموافق إن كان ، ومع عدمه فالتخيير بحكم العقل ؛ لأنّ المفروض عدم جواز الرجوع (٢) إلى الثالث لكن لا يخفى أنّ العقل على هذا لا يحكم بأزيد من وجوب العمل على طبق أحدهما ولا يدل على حجيّتهما حينئذ ولو تخييرا ؛ فإنّ لازم عدم الخروج عنهما ليس أزيد من ذلك ، وقد مرّ أيضا أنّ بعضهم سلك مسلكا آخر وهو عدم شمول الدليل التعارض (٣) لا بالبيان الذي ذكرنا ، بل موافقا للدليل المشهور المذكور هناك (ثمّ حكم) (٤) بالتوقف على تقدير الطريقيّة والتخيير على تقدير الموضوعيّة من جهة العلم بالمصلحة فيهما على الثاني دون الأول ، وقد مرّ أنّ العكس أولى ؛ وذلك لأنّه لا يمكن أن يستكشف المصلحة (٥) وهو الإيصال النوعي إلى الواقع معلومة.

ثمّ إنّهم يجعلونهما من باب الواجبين المتزاحمين بناء على الموضوعيّة ، ولا يخفى أنّه وإن كانا مثل الواجبين في أنّ كلّا منهما واجب العمل واقعا في حدّ نفسه مثلهما إلا أنّه فرق بينهما من حيث إنّ في الواجبين إذا كان أحدهما واجب التقديم من جهة الأهميّة أو نحوها لا يسقط الآخر عن الوجوب الشأني فلو أتى به نسيانا بل وعصيانا أيضا صحّ بخلاف الخبرين إذا كان مع أحدهما مرجّح معتبر ؛ فإنّ الآخر يسقط عن الحجيّة رأسا ، فلو عمل به المكلّف لم يجد شيئا وإن كان نسيانا كما لو عمل بخبر الفاسق ، والتزام كونهما مثلهما في هذا الوجه أيضا بعيد غايته ، كما أنّ التزام عدم صحّة غير الأهم وإن كان إتيانه نسيانا أيضا كذلك ، فالتقديم في مسألة الواجبين من باب التكليف في التكليف ، وفي المقام من باب التقييد.

__________________

(١) هذا وإن كان في بدو النظر صحة ما نقله السيد قدس‌سره هنا عنه إلا أنّه قد صرّح الشيخ بأنّ نتيجة التوقف التخيير أيضا ، على تفصيل بين حال التكافؤ وعدمه فراجع له الفرائد ٤ / ٧٥ ، وراجع نظر الشيخ في التفصيل بين الطريقيّة والموضوعيّة فرائد الأصول : ٤ / ٥١ ـ ٥٥ ، وكذا راجع ٤ / ٤٨.

(٢) قد كتب في هامش النسخة هكذا : من هنا إلى ورقتين بعدها سقطت من النسخ فأعيدت كتابة الورقة وأول هذه الصفحة ـ عدم جواز الرجوع ـ ، أقول سيظهر بعض الاختلافات في ما سيأتي ثمّ تتوقف النسخة وسنشير إليه في محله.

(٣) في نسخة (ب) و (د) : لصورة التعارض.

(٤) مثبتة من النسخة (ب) و (د).

(٥) جاء بعدها في نسخة (د) : بعد شمول الدليل نعم بناء على الطريقيّة ...

٣٤٠