كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

إطلاقه على إطلاقه ، فإذا كانت المقبولة أخص والمفروض أنّها مطلقة من حيث الحضور والغيبة ، فلا بدّ من تقديمها في تمام مدلولها.

مدفوعة بأنّ ذلك مسلّم فيما إذا لم يكن هناك أظهريّة للعام ، وإلا فيقدم العام مثلا إذا قال أكرم العلماء (١) ، لا تكرم (٢) العلماء في يوم من الأيام ، ثمّ قال أكرم زيدا ، وكان الثاني مطلقا من حيث الأيام ، وكان القدر المتيقن منه اليوم الأول ، أو كان بمدلوله أظهر في اليوم الأول فلا نسلّم أنّه يحكم بوجوب إكرام زيد في سائر الأيام أيضا ، بل يقال : القدر المتيقّن (٣) خروج زيد في اليوم الأول ؛ فتدبّر!.

نعم ؛ لو كان شمول العام للأزمان بالإطلاق ، وشمول الخاص لها أيضا بالأزمان يقدم إطلاق الخاص ، لكن قد عرفت أنّ فيما نحن فيه دلالة العام ـ وهو أخبار التخيير ـ على زمان الغيبة أظهر من دلالة المقبولة عليه.

رابعها : أنّ أظهريّة أخبار التوقف بالنسبة إلى زمان الحضور ممنوعة ، إذ في أخبار التخيير أيضا ما هو نص في زمان (٤) الحضور ، أو أظهر فيه كخبر المحمل وخبر الحميري وخبر سماعة ، إلا (٥) أن يخدش في سندها أو في دلالتها ، واستشكل فيها بما ذكرنا سابقا ، والمفروض الإغماض عن ذلك كلّه.

خامسها : أنّ ملاك الجمع المذكور أظهريّة كل من الطرفين ، أو نصيّته مطلقا ، أو بالنسبة ؛ فاللازم الجمع بين أزيد من الجموع الثلاثة ، إذ لنا أن نقول إنّ أخبار التخيير أظهر في الواقعة التي لا يمكن تأخيرها ، كما أنّ أخبار التوقف بالعكس ، فالتقييد بالاضطرار والاختيار أيضا لازم ، وكذا أخبار التوقف أظهر في الإلزاميّات وأخبار التخيير بالعكس ؛ لأنّ الأول قدر متيقّن من الأولى ، والثاني من الثانية ، والمفروض أنّ القدر المتيقن أظهريته عند القائل المذكور.

ثمّ إنّه لا وجه لعدوله عن الجمع الذي ذكره المجلسي ؛ لأنّ ملاكه أيضا الأخذ

__________________

(١) لم ترد هذه الجملة في نسخة (د).

(٢) لا يوجد في نسخة ب : «لا تكرم العلماء» بل هي فيها هكذا : أكرم العلماء أكرم العلماء ...

(٣) في النسخة (ب) : القدر المتيقن منه.

(٤) في نسخة (ب) : ما هو نص بزمان.

(٥) بعدها في نسخة (ب) : إلا أن يقال ...

٢٦١

بالنص في مقابل الظاهر ، بل هو أحسن من الجموع التي ذكرها ، إذ هو أوفق بالقواعد حيث إنّ أخبار التوقف لا تفيد أزيد من الرخصة ، وأخبار التوقف ليست إلا ظاهرة في وجوب التوقف ، ولعلّ وجه عدوله ـ على ما حكي عنه ـ أنّه (١) إذا جاز الأخذ بكلّ من الخبرين ، وكانا حجّة فلا معنى لاستحباب ترك العمل بهما ، بل كما هو (٢) مفاد أخبار التوقف ، إذ مع وجود الحجّة لا بدّ من الأخذ بها.

وجوابه أنّ الوجوب في المقام إرشادي لتحصيل الواقع ، فإذا أمكن إدراكه بالتوقف والاحتياط فلا بأس به ، ولذا نقول لو دلّ خبر بلا معارض على عدم وجوب شيء يجوز الإتيان به ، بل يستحب احتياطا ، وهذا واضح ، مع أنّ مفاد أخبار التخيير بمقتضى مذهبه ليس أزيد من الرخصة في تطبيق العمل على كل واحد منهما بالتخيير العملي ، وهذا لا يفيد حجيّة شيء من الخبرين ، مع أنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة الحجيّة على هذا الوجه ، لا الحجية المطلقة ، بمعنى أنّه يجوز أن يجعل حجّة لكنّ الأرجح عدمه ؛ فتدبّر!.

وبالجملة أولويّة هذا الجمع وأوفقيّته للقاعدة لا يخفي ؛ فلا وجه لترك التعرض لها في مقام الجمع بين الجموع.

وسادسها : أنّه جعل أخبار التوقف أظهر في الدلالة على ترك الأخذ بالخبرين في مقام الفتوى من أخبار التخيير في الدلالة على الأخذ ، مع أنّ الأمر بالعكس ؛ إذ أظهريّة أخبار التوقف مسلّمة في خصوص تعيين الواقع ، وأنّه لا يجوز الإفتاء بأنّ مؤدي هذا الخبر ـ مثلا ـ هو الواقع فقط (٣) ، كالأخذ به في صورة وجود المرجّحات لا في مطلق الأخذ.

بيان ذلك : إنّ أخبار التوقف تدلّ على وجوبه في مقام تعيين حكم الواقعة ، وفي مقام الأخذ بكلّ من الخبرين والإفتاء بمضمونه من باب التسليم وفي مقام العمل ؛ أمّا بالنسبة إلى المقام الأول فلا معارض لها ، إذ أنّ أخبار (٤) التخيير لا تدلّ على أنّ كلّا

__________________

(١) لا توجد كلمة «أنّه» في نسخة (ب).

(٢) في نسخة (د) : ترك العمل بهما بما هو مفاد ..

(٣) لم ترد كلمة «فقط» في نسخة (د).

(٤) في نسخة (د) هكذا : إذ أخبار ...

٢٦٢

من الخبرين يفيد الواقع ويعينه ، وأنّ مفاده حكم الله الواقعي.

وأمّا بالنسبة إلى المقام الثاني والثالث : فهي معارضة بها ، وكون أخبار التوقف أظهر في المنع من الأخذ ، وأخبار التخيير أظهر في جواز العمل ممنوع ، بل أخبار التخيير أظهر في كلا المقامين.

والحاصل أنّ القائل المذكور أوقع المعارضة بين أخبار التوقف والتخيير في الأخذ والعمل ، وجمع بينهما بحمل الأولى على الأخذ والثانية على العمل ، وحكم بأنّ التخيير في المقام عملي ظاهري ؛ لا أنّه في الفتوى والأخذ (١) ، فإن أراد من الأخذ بالمعنى الأول (٢) أي الأخذ بالخبر ـ كما يؤخذ به في مقام الترجيح ـ فلا معارضة بينهما من هذه الجهة حتى يجيء الجمع والحمل ، وإن أراد الأخذ بالمعنى الثاني فلا نسلم أظهريّة أخبار التوقف في المنع ؛ بل الأمر بالعكس ؛ بل يمكن أن يقال : إنّ أخبار التخيير كالصريحة في جواز الأخذ والفتوى بمضمون كلّ واحد منهما من باب التسليم ، لا أنّه يتخير بينهما كصورة عدم الخبر ووجود الاحتمالين.

سابعها : أنّه لا وقع للسؤال الذي ذكره إيرادا على نفسه ؛ إذ انقلاب النسبة في المقام لا ينفع ، ولو سلّمناه في سائر المقامات ، إذ المسلّم منه ـ على فرضه ـ إنّما هو في ما لو كان ملاك التقديم والتأخير خصوصيّة الموضوع وعموميّته ، وكان الانقلاب في غيرها (٣) ، وأمّا لو كان الملاك ما ذكر وكان الانقلاب في غيرها (٤) ، بل يحسب آخر (٥) ، أو كان الملاك شيء آخر غير الخصوصيّة والعموميّة في الموضوع مثلا ؛ لا (٦) الأظهريّة في جهة ، وقد فرض بقاؤها بعد الانقلاب أيضا ، فلا نسلّم انقلاب الحكم.

بيان ذلك : إنّه قد يكون ملاك تقديم أحد الدليلين خصوصيّة موضوعه بالنسبة إلى الآخر ، وقد فرض أنّه لوجود معارض آخر انقلبت الخصوصيّة إلى العموم ، فبناء

__________________

(١) بعدها في النسخة (ب) : من الأخذ والفتوى الأخذ ...

(٢) في نسخة (د) هكذا : من الأخذ والفتوى بالمعنى ...

(٣) في نسخة (د) هكذا : وكان الانقلاب فيهما.

(٤) من قوله «وأما لو ـ إلى قوله ـ غيرها» لا يوجد في نسخة (ب) ، وفي نسخة (د) : غيرهما.

(٥) في نسخة (ب) : بل يجب آخر.

(٦) لا توجد كلمة «لا» في نسخة (ب).

٢٦٣

على صحّة الانقلاب ينقلب الحكم ؛ مثلا : إذا قال أكرم العلماء وقال لا تكرم النحويين فملاك تقديم الثاني خصوصيّة موضوعه ، فإذا فرض أنّه ورد على قوله أكرم العلماء مخصّص آخر مثل قوله لا تكرم شعراء العلماء ، فيصير مفاد قوله أكرم العلماء بعد هذا التخصيص أكرم العلماء غير الشعراء ، فتكون النسبة بينه وبين لا تكرم النحويين العموم من وجه ؛ بعد أن كان عموما مطلقا ، فلا يقدم الثاني على الأول.

وأمّا لو لم تنقلب خصوصيّة الموضوع بالنسبة إلى غيره (١) فلا يتغير الحكم (٢) ، كما لو قال أكرم العلماء ، وكان مطلقا بالنسبة إلى يوم الجمعة والسبت ، وقال لا تكرم النحويين وكان أيضا مطلقا ، وفرض أنّه قال أيضا لا تكرم العلماء في (٣) يوم السبت ، فبعد تقييد قوله أكرم العلماء بهذا ؛ يصير مفاده أكرم العلماء يوم الجمعة ، فتكون النسبة بينه وبين لا تكرم النحويين العموم من وجه (٤) ، لكن يقدم الثاني عليه ؛ لأنّ ملاك التقديم لما كان هو الخصوصيّة من حيث الموضوع ، وهو بعد باق فيحكم بأنّه يحرم إكرام النحويين في كل من اليومين ، خصوصا إذا فرض أنّ إطلاق قوله أكرم العلماء من الأول أظهر في خصوص يوم الجمعة فقط ؛ وفي غير النحويين.

وكذا لو كان ملاك التقديم غير خصوصيّة الموضوع ؛ بل الأظهريّة من جهة من الجهات ، مثلا : لو قال أكرم العلماء ، وقال أيضا لا تكرم العلماء ، وفرض أنّ الأول أظهر في يوم الجمعة ، والثاني في يوم السبت ، فملاك تقديم كلّ على الآخر أظهريته في أحد الزمنين ، فإذا فرضنا أنّه ورد أيضا قوله لا تكرم النحويين ، فيصير مفاد قوله أكرم العلماء أكرم العلماء غير النحويين ، ويكون أخص من الثاني ، إلّا أنّه لا يقدم عليه ؛ بل يعمل به في خصوص يوم الجمعة بعد هذا التخصيص أيضا ، نعم لو فرض زوال الأظهريّة بعد هذا التخصيص انقلب الحكم ؛ لكنّ المفروض عدم زوالها.

إذا عرفت ذلك فنقول إذا قدمنا الجمع المشهور فتكون أخبار التخيير والمقبولة

__________________

(١) جاء في النسخة (د) هكذا : أمّا لو لم تنقلب خصوصيّة الموضوع بل كان الانقلاب بالنسبة إلى غيره ...

(٢) لم ترد هذه الجملة «فلا يتغير الحكم» في (د).

(٣) لا توجد كلمة «في» في النسخة (ب).

(٤) في نسخة (ب) : عموم من وجه.

٢٦٤

من قبيل المثال الأول ـ أعني أكرم العلماء ـ المطلق بالنسبة إلى يوم الجمعة والسبت ، ولا تكرم النحويين كذلك ؛ إذ المفروض أنّ ملاك تقديم (١) المقبولة خصوصيّة موضوعها ، وهي بعد بحالها ، فيجب العمل بها بالنسبة إلى زمان الحضور والغيبة ، نعم إذا فرضنا أنّها أظهر في خصوص زمان الحضور ؛ بخلاف أخبار التخيير فإنّها أظهر في زمان الغيبة ، كما هو كذلك واقعا ، فلا تقدّم إلا في خصوص زمان الحضور ؛ لكنّ المفروض الإغماض عن هذه الحيثيّة ، وإلا فقد ذكرنا هذا سابقا في الإيراد الثالث.

والحاصل : أنّ مفاد أخبار التخيير ـ على هذا ـ التخيير (٢) في زمان الغيبة في كل شيء ، والمقبولة تقول في خصوص حقّ الناس يجب التوقف ـ غيبة وحضورا ـ فيقدم وإن كانت (٣) أخبار التخيير أخص من حيث الزمان الذي هو مفاد الإطلاق ، وإذا قدّمنا جمع الاسترابادي ؛ فالنسبة بين مطلقات التخيير بعد التخصيص ، ومطلقات التوقف من قبيل المثال الأخير ، إذ ملاك تقديم الثانية أظهريّتها في خصوص زمان الحضور وأظهريّة (٤) الأولى في الغيبة ، وهي بعد باقية ، وإن خصّ موضوع الثانية بخصوص حقّ الله ، فتدبّر.

ثامنها : إنّ ما ذكره ثانيا في الجواب عن السؤال من أنّ العموميّة لا تضر بعد عدم كون زمان الحضور موردا للإبتلاء ؛ فكأنّه خاص ، فيه ما لا يخفى ؛ إذ في مفاد الأخبار لا يتفاوت مورد الابتلاء وعدمه ، ولا يلحق بالخاص بلحاظ عدم الابتلاء بالنسبة إلى بعض موارده ، وهذا واضح.

ولعلّ المراد شيء آخر لم يلتفت إليه الناقل ، فتدبّر.

وتحقيق الحال : أنّ يقال إنّ أخبار التوقف أخص مطلقا من أخبار التخيير ، وذلك لأنّ مفادها ليس وجوب الاحتياط بل إرجاء الواقعة ، وعدم التعرض لها نفيا وإثباتا ، وفعلا وتركا إلى ملاقاة الإمام عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى يختص بزمان

__________________

(١) في النسخة (ب) و (د) : تقدم.

(٢) في نسخة (ب) : على هذا يصير التخيير.

(٣) في النسخ : وإن كان.

(٤) في نسخة (ب) : في أظهريّة.

٢٦٥

الحضور ، ومورد يتوقع الوصول إليه ، ويمكن فيه الإرجاء وترك التعرض ، وليست دالّة على الإرجاء مطلقا ولو في زمن الغيبة ، أو في زمان لا يمكن الوصول إليه ، ألا ترى أنّه لو قال إنّي شككت في كذا ـ مثلا ـ أنّي فعلت أو لا؟ فقيل له قف حتى تسأل حكمه عن المجتهد ، يعلم منه أنّ مراده في مورد يمكن الوصول إليه ، ويمكن تأخير الواقعة فكذا في المقام ، فقوله عليه‌السلام «قف حتى تلقى إمامك» مختصّ بما ذكر ، وكذا قوله «عليكم بالكفّ والتثبت والوقوف حتى يأتيكم البيان من عندنا» ، وقوله عليه‌السلام «ردّوه الينا» .. ونحو ذلك.

وليس المراد من قوله «ردّوه إلينا» فذروه في سنبله ، وإذا كان كذلك فيكون أخص من أخبار التخيير ، فيحكم بالتخيير في غير المورد المذكور ، ففي زمان الغيبة يحكم بالتخيير مطلقا ، وإن أبيت عن ذلك نقول : إذا كان مفاد بعض أخبار التوقف ذلك فتكون قرينة على التقيّة ، أو نقول بعضها الآخر محمول على الفتوى ، مثل قوله عليه‌السلام «ردّوه إلينا» ، فالظاهر من أخبار التوقف في وجوب الإرجاء في مقام العمل مفاده خاص بما ذكرنا ، إذ أظهرها في ذلك المقبولة ، ومن المعلوم فيها ما ذكرنا ؛ إذ لا معنى لإرجاء واقعة الدّين والميراث في زمان الغيبة إلى لقاء الحجّة.

ويمكن أن يكون هذا مراد صاحب الغوالي أيضا من الفرق بين الاختيار والاضطرار ـ يعني أنّه لو كان مضطرا إلى العمل بأحدهما فيكون مخيرا ـ لكنّ كلامه أعمّ من زمان الغيبة والحضور.

ويمكن أن يقال : في زمان الغيبة مضطر إلى العمل في جميع الوقائع ، إذ لا واقعة يمكن إرجاؤها إلى الأبد إلا نادرا ، بل لعلّه مراد المشهور أيضا ، وإن أسند (١) إليهم الفرق بين الغيبة والحضور ، إلا أنّ مرادهم ذلك ، ومرادهم من التوقف الإرجاء ، لا الاحتياط.

هذا ؛ ولكن يبعد ما ذكرنا بل ينافيه أنّ بعض أخبار التخيير ظاهر في صورة التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام ، بل ورد في صورة اللقاء ، كخبر الحميري والمحمل وخبر سماعة ، إلا أن يقال إنّ خبر سماعة دليل على التوقف بالبيان السابق ، وخبر المحمل المراد

__________________

(١) في نسخة (د) : استند.

٢٦٦

منه التخيير بين الفعل والترك ، لا الخبرين ، وخبر الحميري ضعيف ، مع أنّه فيه الإشكال السابق ، فلعلّ عدول الإمام عليه‌السلام عن جواب الواقعة إلى بيان التخيير لمصلحة ، لا لبيان أنّ الحكم في التعارض ذلك ، فتدبّر.

وعلى فرض الإغماض عن الوجه المذكور ، وعدم تماميّة شيء من الوجوه السابقة نقول ـ بعد اللّتيا والتي ـ : لا ينبغي التأمّل في رجحان العمل بأخبار التخيير في زماننا هذا ، وذلك لأنّها أظهر دلالة ، وأبعد عن الحمل على خلاف ظاهرها من عموم التخيير ، مع أنّها أكثر عددا ، وموافقة لعمل الأصحاب ، وأخبار التوقف على العكس من ذلك (١) ، فنحملها على أحد المحامل المتقدّمة (٢) ، أو بعضها (٣) على بعضها ، وآخر على آخر ، أو نقول : بعضها ضعيف السند ؛ فلعلّه غير صادر ، والبعض الآخر يمكن حمله على أحد الوجوه المذكورة.

وكيف كان ؛ فالحكم ما ذكر من التخيير وإن لم يتعين تحملها (٤) ؛ لكفاية وجوده واحتماله بعد الترجيح.

هذا ؛ ولو فرضنا تكافؤ الطرفين ، وعدم وجود جمع صالح في البين :

فإن قلنا : إنّ مقتضى القاعدة في تعارض الخبرين التخيير فيتخير بينهما فيجوز له أيضا أخذ أخبار التخيير ، والحكم بالتخيير بين الخبرين ، بل التخيير هنا ملازم للتخيير في المتعارضين ؛ غاية الأمر جواز ترك العمل بأخبار التخيير ، وأخذ أخبار التوقف ، وهذا لا يضرّ إلا إذا قلنا إنّ التخيير بدويّ ، فإنّه لو أخذ بأخبار التوقف يجب عليه التوقف في جميع موارد المتعارضين ، أو قلنا بأنّه استمراري وأخذ بها (٥) فإنّه ما دام آخذا بأخبار التوقف يجب عليه الاحتياط في تعارض الخبرين ، لكنّ هذا (٦) المقدار لا يضر.

__________________

(١) كلمة «من ذلك» لا توجد في نسخة (ب).

(٢) في نسخة (د) : السابقة.

(٣) في نسخة (د) : لبعضها.

(٤) في نسخة (ب) و (د) : محملها.

(٥) لا توجد كلمة «وأخذ بها» في نسخة (ب).

(٦) في نسخة (د) : لكنّه بهذا ...

٢٦٧

والحاصل : أنّ التخيير بين الطائفتين في المقام في معنى التخيير في جميع المتعارضين ، وإنّما يفترق الحال في الصورتين المذكورتين.

نعم يمكن أن يقال : لا معنى للتخيير في المقام وإن قلنا إنّه مقتضى الأصل في المتعارضين ، وذلك لأنّه يرجع إلى التخيير في كون الخبرين حجّة أو لا ، فإن اختار أخبار التخيير كانا حجّة ، وإن اختار أخبار التوقف لم يكونا حجّة ، فيكون أمر الحجيّة باختياره ، ولا معنى لهذا ، وهذا بخلاف التخيير في الأخذ بالخبرين في سائر المقامات ؛ فإنّه في معنى حجيّة كليهما ، إلا أن يدفع بأنّ التخيير فيهما (١) ـ في (٢) أخبار التوقف والتخيير أيضا ـ في معنى حجيّة كل خبرين متعارضين ، غاية الأمر أنّ له أن يأخذ بأخبار التوقف ، ولا يعمل بالحجّة ، وإن كان على وجه الوجوب ؛ إذ ما دام آخذا بأخبار التوقف يجب عليه الاحتياط وعدم الأخذ بالخبرين ، لكنّه بعيد.

هذا ؛ وإن قلنا : مقتضى (٣) القاعدة في المتعارضين التساقط ؛ فيتساقطان ، فيكون كما لو لم تكن (٤) أخبار علاجيّة ، فيرجع إلى الأصل في المسألة الفرعيّة كائنا ما كان.

وإن قلنا : إنّ مقتضى القاعدة التوقف ؛ فيجب عليه التوقف في هذه المسألة الأصوليّة ، والرجوع إلى الأصل الموافق ـ وهو في المقام ـ أصالة عدم التخيير ؛ لأنّه في معنى حجيّة الخبرين ، والأصل عدمها ، بل الشك فيها كاف في عدمها ، فيبنى على التوقف والاحتياط.

هذا ؛ لكنّ الإنصاف أنّه كما أنّ الأصل عدم الحجيّة كذلك الأصل عدم وجوب الاحتياط إلا إذا كان الأصل في المسألة الفرعيّة الاحتياط ، كمسألة الظهر والجمعة ، فكأنّه لا أصل في البين ، فالمرجع الأصل في المسألة الفرعيّة إن وافق إحدى الطائفتين ـ أعني أخبار التخيير والتوقف (٥) ـ وسيأتي الكلام في نظير المسألة إن شاء الله ، بل في صورة وجود الأصل في المسألة الأصوليّة أيضا يمكن أن يقال : المدار

__________________

(١) بعدها في نسخة (ب) : أي ...

(٢) في نسخة (د) : أي في أخبار ...

(٣) قبلها في نسخة (ب) و (د) : إنّ ...

(٤) في نسخة (ب) : كما لم تكن.

(٥) في نسخة (ب) : قدم لفظ التوقف على لفظ التخيير.

٢٦٨

على الأصل في المسألة الفرعيّة ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله (١).

هذا ؛ ولكن نحن في راحة من هذه الأمور بعد اختيار أخبار التخيير ، والعمل بها مطلقا ، كما أنّا في راحة من تشخيص المعيار في حقّ الناس ، وأنّ المدار فيه ما ذا ، وأنّه لو كان ذا جهتين فهل هو ملحق بحق الله أو بحقّ الناس ، أو يلحق كلّا حكمه؟

وإن كان يمكن أن يقال ـ على فرض التفصيل ـ أنّه لا حاجة إلى تعيين المعيار ، إذ المدار على ما علم (٢) كونه مثل الدّين والميراث ، وقطع بعدم الفرق بينه وبينهما ، ومع الشك يلحق بحكم الله ، فتدبر.

ثمّ إنّه على المختار من الأخذ بأخبار التخيير لا يمكن أن يقال إنّ أخبار التخيير تكشف عن شمول دليل الحجيّة لكل من الخبرين ، وأنّ الأخبار حجّة من باب السببيّة ، وإلا لوجب الحكم بالتساقط والتوقف (٣) ، فحكم الإمام عليه‌السلام بالتخيير كاشف عن عدم كون الأصل في الخبرين إلا التخيير ، وذلك لأنّه يمكن أن تجعل هذه الأخبار دليلا على حجيّتها (٤) ، وإن كانت أدلّة حجيّة الأخبار قاصرة الشمول ، وأنّ التخيير حكم تعبدي في صورة تعارض الطريقين ؛ فلا يكون كاشفا عن كون الأخبار من باب السببيّة وهذا واضح.

مع أنّ الأمر بالرجوع إلى المرجّحات المذكورة في الأخبار ، خصوصا مثل الأصدقيّة .. ونحوها ظاهر (٥) في عدم كونها من باب السببيّة ؛ إذ الظاهر منها أنّ الغرض إصابة الواقع ، وأنّها طريق إليه لا أنّ (٦) ذلك لمصلحة في العمل بالخبر ، وإن كان يمكن أن يقال ـ بعيدا ـ : إنّ المصلحة في صورة وجود الأرجح فيه فقط ، وفي صورة التساوي في كليهما.

هذا ؛ مع أنّ كون الأخبار من باب السببيّة ـ الذي لازمه كون التخيير بين الخبرين

__________________

(١) بعدها في نسخة (د) : أيضا. أقول : سيأتي في ص ٢٨٤.

(٢) في نسخة (ب) : حكم.

(٣) في نسخة (د) : أو التوقف.

(٤) في نسخة (ب) : حجيتهما.

(٥) في نسخة (ب) : ظاهرة.

(٦) في نسخة (ب) : إلا أنّ ...

٢٦٩

حكما واقعيّا ـ في غاية الوضوح من الفساد ، بل لا قائل به ، ومن عبّر بأنّها من باب السببيّة ـ مثل صاحب المعالم ـ غرضه عدم إناطتها بالظن الشخصي ، فمراده من السببيّة ؛ الظن النوعي ، لا ما يقابل الطريقيّة ، والعجب ذكر مثل الشيخ المحقق له احتمالا (١) ، وبيان ما يتفرع عليه ، وقد قدّمنا (٢) شطرا من الكلام في ذلك.

هذا ؛ وأمّا بناء على ترجيح أخبار التوقف وبناء العمل عليها ؛ فإن جعلنا مفادها مجرّد إرجاء الواقعة في مقام العمل ؛ بمعنى عدم بناء العمل على شيء من الخبرين ، والرجوع إلى الأصول (٣) ؛ فهي كاشفة عن عدم حجيّة المتعارضين ، وكذا إن جعلنا مفادها الاحتياط المطلق ، ولو كان خارجا عنهما ، وإن جعلنا مفادها مجرد الاحتياط غير الخارج عنهما ؛ فهي كاشفة عن حجيّتها ؛ فإنّه (٤) يجب الأخذ بكلّ منهما.

لكن يشكل هذا فيما (٥) إذا كان مفاد أحدهما عدم الوجوب ، إلا أن يقال إنّ الأخذ به لا ينافي وجوب الإتيان من جهة الخبر الآخر (٦) ـ الذي هو الحجّة أيضا ـ فتأمل.

والأظهر هو القول بأنّ التوقف كاشف عن عدم حجيّة شيء منهما ، وأنّه لو كان في معنى الاحتياط يلزم الاحتياط المطلق ولو كان خارجا عنهما ، فتدبّر وراجع ما ذكرنا سابقا فيما يتعلّق بهذا المطلب ، فإنّه أقرب إلى الواقع ؛ لأنّه كان مسبوقا بالتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه لو قلنا إنّ مقتضى القاعدة في تعارض الخبرين التخيير لا يمكن أن يجعل دليلا على ترجيح أخبار التخيير في المقام ؛ إذ يمكن أن يجعل أخبار التوقف ـ إذا رجّحناها ـ كاشفة عن عدم المشي على طبق القاعدة وهو واضح ، فلا ملازمة بين مقتضى القاعدة ومقتضى شيء من الطائفتين في شيء من المذكورات.

وينبغي التنبيه على أمور :

__________________

(١) راجع فرائد الأصول : ٤ / ٤٨ ، ٥١ ـ ٥٢.

(٢) مرّ في : ص ٢٧٠.

(٣) في الأصل هكذا : والرجوع إلى عدم الأصول ؛ وهو اشتباه ، والصواب ما في نسخة (ب) الذي أثبتاه في المتن.

(٤) في نسخة (د) : وأنّه.

(٥) لم يرد قوله «يشكل هذا فيما» في نسخة (د).

(٦) لم ترد كلمة «الآخر» في نسخة (د).

٢٧٠

[التنبيه] الأول : [حكم قضاء القاضي حال التعارض]

لا إشكال في أنّه ـ على المختار ـ يقضي القاضي إذا كان مستند حكمه الخبرين المتعارضين بما اختار ، ولا يخير المتخاصمين سواء كانا مجتهدين أو مقلّدين له أو لغيره ، وإن كان مختار كلّ منهما.

ولو قيل هذه الواقعة خلاف ما اختاره القاضي فهو نظير ما لو كان كلّ منهما مجتهدا عاملا بخبر بلا معارض عنده ، فإنّه في مقام المرافعة يجب عليهما العمل بفتوى الحاكم وإن كان أحدهما أو كلاهما أعلم منه ، نعم في صورة كون أحدهما مقلّدا والآخر مجتهدا أعلم من القاضي يمكن أن يقال يجب عليه العمل بمقتضى فتوى ذلك الأعلم لا القاضي إذا قلنا تقليد (١) الأعلم واجب فعلى القاضي أن يأمره بالعمل بمقتضى فتوى صاحبه ؛ لأنّه الحكم في حقه دون فتوى القاضي ، وإن كان الحكم الشرعي الواقعي بنظر القاضي فتوى نفسه .. فتأمّل!.

فإنّه (٢) مع صدق الترافع والتخاصم المدار على مذهب القاضي ، خصوصا إذا كان الاختلاف في مجرّد أخذ أحدهما ـ أي القاضي وذلك المجتهد الأعلم ـ بأحد الخبرين والآخر بالآخر.

وأمّا المفتي فكذلك في عمل نفسه غير المتعلق بغيره كعباداته ، أو المتعلّق بغيره إذا كان الغير تابعا صرفا ، كما لو نذر ـ على وجه يكون مورد التعارض الخبرين صحة وبطلانا ـ أو كان أحدهما دالّا على أنّ ماله يجب فيه الخمس والآخر على أنّه لا يجب ، فإنّه له أن يختار كلّا من الخبرين وليس للفقير معارضته في ذلك ، وهو واضح.

وأمّا عمله المتعلّق بالغير على وجه الشركة فلا يجوز له التعيين ، فلو فرضنا أنّه أوقع معاملة معاطاتيّة ، وورد فيها روايتان :

إحداهما تدلّ على الفساد ، والأخرى على الصحّة ؛ فلا يجوز له اختيار إحداهما بدون رضا شريكه ، وكذا لو ورد روايتان إحداهما (٣) على أنّ الحبوة للأكبر من حيث

__________________

(١) في نسخة (ب) و (د) هكذا : إذا قلنا إنّ تقليد ...

(٢) يظهر من هذا أنّه تعليل وبيان لوجه التأمل.

(٣) لم ترد كلمة «أحدهما» في النسخة (ب).

٢٧١

السنّ ، والأخرى على أنّها للأكبر من حيث الاحتلام ـ أي البلوغ ـ فلا يجوز له اختيار إحداهما مجتهد إن كان أحدهما (١) إلا برضا الآخر ، ومع الاختلاف فالمرجع حكم القاضي ، وإن كان كلّ منهما أو أحدهما مجتهدا إلا أن يكون هو أعلم من القاضي وكان الآخر مقلّدا (٢) ؛ للزوم تقليد الأعلم على الوجه السابق ، وأمّا في الإفتاء لعمل الغير (٣) ؛ فهل يجب عليه الإفتاء بالتخيير أو بما اختار أو يتخيّر بينهما؟ وجوه ؛ [و](٤) قبل الشروع في بيان الحال لا بأس بذكر أمور لعلّ لها دخلا في تحقيق المطلب :

أحدها : [لا إشكال في اشتراك جميع المكلّفين] لا (٥) إشكال في اشتراك جميع المكلّفين في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ـ ظاهريّة وواقعيّة ـ وأنّ العامي يقلّد المجتهد فيها ، وتصوير الشركة والتقليد في الأحكام الواقعيّة واضح ، وأمّا في الأصول ؛ فيمكن تصوره بوجهين :

أحدهما : أنّ الحكم الظاهري ثابت في موارد الأصول من حيث هو ، ولو قبل شكّ المجتهد وقبل مراجعته ؛ ففي مورد لو تفحّص المجتهد يشك (٦) في التكليف وليس عليه دليل يكون الحكم الظاهري البراءة ، ويكون مشتركا بين المجتهد والمقلّد ، وكذا في مورد يكون له حالة سابقة وليس على خلافها دليل فبعد الفحص يظهر أنّه كان الحكم على وفق الحالة السابقة .. وهكذا فيكون للأحكام الظاهريّة نوع ثبوت واقعي ، ولا يعتبر الشك الفعلي في أصل ثبوتها في تلك المرتبة ، بل هو معتبر في فعليّتها ، وعلى هذا فتكون مثل الأحكام الواقعيّة ثابتة في حدّ نفسها ، والمجتهد يبحث عنها فمرّة يصيب ومرّة يخطئ ، أو نقول : الحكم الظاهري هو ما يحصل للمجتهد بعد الفحص ، فلا يتطرق إليه الخطأ ، فيكون هذا وجه فرق بينه وبين الحكم الواقعي ، فشأنيّته بمقدار عدم تقيّد تحققه في حدّ نفسه بالشك الفعلي لا أنّه (٧)

__________________

(١) هكذا في النسخ ؛ والصواب : إن كان أحدهما مجتهدا ، أو : ولو كان أحدهما مجتهدا ...

(٢) في نسخة (د) : مقلدا له.

(٣) لم ترد كلمة «لعمل الغير» في نسخة (ب).

(٤) أضيفت من نسخة (د).

(٥) في نسخة (ب) و (د) : إنّه لا إشكال ...

(٦) هكذا في النسخ.

(٧) في نسخة الأصل هكذا : إلا أنّه ، وفي نسخة ب : كما في المتن ؛ لمناسبته لمقتضى المطلب.

٢٧٢

يتصور فيه الإصابة والخطأ.

.. وهكذا الكلام في الأحكام الظاهريّة التي هي مداليل الأدلة الاجتهاديّة إذا كانت مخالفة للواقع ؛ فإنّها أيضا لها شأنيّة في حدّ نفسها ، والمكلّف مكلّف بها قبل الاجتهاد ، وبعد حصول الظن أو القطع بخلاف الواقع تتنجز ، فالظن والعلم الفعلي لا يعتبر إلا في تنجزها ، لا في أصل ثبوتها ، فحالها حال الأحكام الواقعيّة الأوليّة.

وهذا الوجه ضعيف ؛ إذ الإنصاف أنّ الأحكام الظاهريّة تحدث عند الشك الفعلي والظن أو القطع الفعليين على خلاف الواقع ، بل مدلول خبر الواحد المخالف للواقع أيضا (١) قبل العثور عليه ليس مكلّفا به ، وإن كان حجّة من حيث هو ، إذ حجيته إنّما تكون بمعنى وجوب العمل عليه مع فرض العثور عليه ، ولذا يعاقب على ترك الواقع لو فرضنا أنّه ترك الاجتهاد ولم يعثر عليه وعمل على وجه خالف الواقع وإن وافقه (٢) ، ولو خالفه ووافق الواقع لا يعاقب عليه ، فتأمّل!

فإنّه يمكن أن يقال : المدار على الواقع في صورة ترك العمل عليه وإن كان معثورا عليه أيضا ، فليس هذا من جهة عدم تنجز التكليف به ، بل من جهة طريقيّته وإنّ لازم الطريقيّة ذلك.

وكيف كان ؛ فالحقّ ما ذكرنا من عدم التكليف بمفاده قبل العثور عليه ، وإن لم يترتب عليه الثمر المذكور ، بل لنا أن نقول لو بنينا على أنّ المدار في العقاب عليه لا على الواقع بعد العثور يمكن منعه قبله ، وهو كاف في الثمرة المذكورة ، وإن كان التحقيق ما ذكر من عدم كونه المدار مطلقا.

والحاصل : أنّ الأحكام الظاهريّة ـ سواء كانت مؤديات الأصول أو الطرق المخالفة للواقع ـ ليس لها وجود واقعي ، وإنّما تحدث حين العلم أو الظن أو العثور أو الشك.

الثاني : أن يقال : إنّ شركتها ليست على حدّ الواقعيّات ، بل هذه تثبت أولا للمجتهد ثمّ يشترك معه المقلّد ، وذلك لما عرفت من أنّ المدار فيها الشك الفعلي وهو مختصّ بالمجتهد بعد الفحص هناك حكم مشترك أولا بحيث يكون الواجب

__________________

(١) قوله «المخالف للواقع أيضا» لا يوجد في نسخة (ب).

(٢) أي وافق الخبر.

٢٧٣

على المجتهد الاجتهاد في تحصيله ، وعلى المقلّد التقليد فيه .. وهكذا في مؤدّيات القطع والظن والأدلة الظنيّة مع المخالفة للواقع ، فقبل حصولها (١) كلّ منهما مكلّف بالواقع فقط ، وتحصيل العلم أيضا واجب ؛ لأجل تحصيل الواقع لا لأجل تحصيلها ، إذ شرط حدوثها (٢) الأمور المذكورة ، ولا وجود لها قبلها حتى يجب تحصيلها ، وبعد حدوثها يحدث التكليف وتحصل الشركة ، ويجيء وجوب التقليد.

الثاني : [في كون الأحكام الأصوليّة مثل الفرعيّة]

في كون الأحكام الأصوليّة مثل الفرعيّة في اشتراك المجتهد والمقلّد فيها وجوه (٣) :

أحدها : الاشتراك ؛ فالعامي أيضا مكلّف بالعمل بالأدلّة وتحصيلها ، وبالعمل بجميع المباني اللغويّة والعرفيّة والشرعيّة مثلا ، كما أنّ المجتهد مكلّف بالعمل بخبر العادل وبقول اللغوي في أنّ الصعيد وجه الأرض ، وبتقديم العرف على اللغة وبالأرجح من المتعارضين وبإجراء الاستصحاب وسائر الأصول ومواردها .. وهكذا ؛ كذلك العامي ، غاية الأمر أنّه عاجز عن تشخيصها ، فينوب عنه المجتهد (٤) ، وذلك لأنّها أحكام شرعيّة إلهيّة ، وجميع المكلّفين فيها شرع سواء ، وحكم الله في الأولين والآخرين سواء ، و «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» (٥) من غير فرق بين مباني الأحكام الظاهريّة والواقعيّة (٦).

الثاني : اختصاصها بالمجتهد ولا تكليف للعامي إلا في الفرعيّات ، وهي مؤديات الأدلّة والمباني الأصوليّة بتفاصيلها ؛ لعجز المقلّد عن تحصيلها ، والعاجز غير مكلّف

__________________

(١) في نسخة (ب) : حصولهما ، وعلى ما في المتن يكون المراد : قبل حصول القطع والظن والأدلة الظنيّة.

(٢) في نسخة (ب) : حصولها.

(٣) الصواب : وفيها وجوه.

(٤) لم ترد العبارة «وبإجراء ـ إلى قوله ـ المجتهد» في نسخة (د).

(٥) عوالي اللئالي : ١ / ٤٥٦.

(٦) جاء بعدها في نسخة (د) : وهكذا كذلك العامي غاية الأمر أنّه عاجز في تشخيصها فينوب عنه المجتهد ، وبإجراء الاستصحاب وسائر الأصول في مواردها .. ، أقول : هذه العبارة هي التي كانت قد سقطت عن موردها ممّا أشرنا له في الهامش السابق.

٢٧٤

كما لو كان عاجزا في الفرعيّة ، فإنّه غير مكلّف بها (١) ، والأولى أن يقال : لأنّها أحكام إرشاديّة ليس لها مطلوبيّة في حدّ أنفسها ، بل المطلوبيّة في الحقيقة هو الأحكام الفرعيّة فلا ثمرة لتكليف غير المجتهد ـ الذي هو القادر على العمل بها ـ.

فلا يرد ما يقال من أنّ الأحكام الفرعيّة أيضا ليست مقدورة التحصيل للعامي فمجرّد عجزه عن التحصيل لا يضرّ في الاشتراك ، والحاصل أنّها لمكان كونها طريقة مقدميّة فالتكليف بها مختصّ بمن يقدر على سلوكها وإعمالها بمقدميّتها ، وتحصيل ذي الطريق منها.

الثالث : التفصيل بين مثل ظاهر الكتاب وخبر الواحد والإجماع المنقول .. ونحوها ممّا له اعتبار ووجود في حدّ نفسه من غير اختصاصه بشخص دون شخص ، ومن غير توقف له على صفة خاصة بشخص خاص ، ومثل الأصول العمليّة وصفة القطع وصفة الظن ـ بناء على الظن المطلق ـ والخبر الواحد إذا كان اعتباره بوصف الظن .. وهكذا ، فالتكليف بالقسم الأول مشترك ، وبالثاني مختص بالمجتهد ، وذلك لأنّ إجراء الأصل مثلا لا يمكن إلا بالشك وهو صفة للمجتهد فلا يعقل أن يكون المقلّد مكلّفا بإعمال الاستصحاب .. وهكذا سائر الأصول إلا بدعوى أنّ لها شأنيّة ووجودا واقعيّا ، ولا يعتبر فيها الشك الفعلي ، وقد عرفت منعها.

أو بدعوى أنّ المقلّد أيضا شاكّ في الحكم الواقعي ؛ غاية الأمر أنّه لا يدري أنّ الدليل موجود أو لا؟ أو أنّ الحالة السابقة ما ذا؟ فموضوع الأصل محرز في حقّه أيضا.

وفيها : أنّ الشك الذي هو معتبر في موضوع الأصول الشك لمن له أهليّة العلم ، لا مطلق الشك ، فموضوعها شك خاص وهو الشك بعد الفحص ممّن هو أهله ، وهذا واضح فشك المقلّد لا اعتبار به وإلّا فهو شاكّ في جميع الواقعيّات ، ومجرّد المصادفة في مورد الأصول بشك (٢) المجتهد لا يثمر شيئا ، ألا ترى أنّه لو حصل له الظن بالحكم في مورد يكون المجتهد أيضا ظانّا به ليس ظنّه مناطا للاعتبار ، بل ظنّ

__________________

(١) لم ترد كلمة «بها» في نسخة (د).

(٢) وردت في النسخة (ب) هكذا : لشكّ ، وفي نسخة (د) : الشك.

٢٧٥

مجتهده وإن كان موافقا له (١) .. وهكذا الكلام فيما لو كان الدليل صفة القطع أو صفة الظن ؛ إذ هما مختصان بالقاطع والظان ، فلا يعقل تكليف العامي بهما ، وكون المجتهد نائبا عنه في تحصيلهما.

والحقّ في المسألة أنّه إن كان المراد من الاشتراك في العمل بالأدلة والأمارات والأصول الاشتراك فيها بمعنى العمل على طبقها ؛ فهو كذلك ، إذ كما أنّ المجتهد مكلّف بالعمل على (٢) طبق خبر العادل .. وهكذا ؛ فكذلك المقلّد ، بل العمل (٣) بالأدلّة ليس شيئا وراء الإتيان بالواقع ، فالعمل بالطريق هو الإتيان بذي الطريق ، ولا فرق بين الأصول وصفة القطع والظن .. وغيرهما ، إذ هو أيضا مكلّف بالعمل بالأصل وبقطع المجتهد وظنّه .. غاية الأمر أنّ موضوع الأصل والدليل خاصّ بالمجتهد وإلا فالعمل به مشترك ووجوبه مشترك ، لكنّ هذا التكليف لا يثمر شيئا ؛ إذ العمل بالمسألة الفرعيّة يكفي في أدائه.

وإن كان المراد الاشتراك في العمل بها ؛ بمعنى استنباط الحكم منها والتكليف بذلك ، وبتعيينها وتحصيلها بمبادئها المتكثرة ، فلا ينبغي الإشكال في عدمه ، وأنّه مختصّ بالمجتهد ، كيف وهو عبارة عن الاجتهاد الذي هو وظيفة المجتهد ، والمقلّد عاجز عنه ولا يعقل تكليفه به.

ودعوى أنّ المجتهد ينوب عنه في ذلك واضحة الفساد ؛ إذ هو نظير أن يقال : إنّ العاجز عن الصلاة مكلّف بها ، والقادر نائب عنه ، ولا معنى له ، إذ القادر يأتي بتكليف بنفسه ، نعم لو كان مكلّفا بتحصيل الصلاة لا بفعلها أمكن ، لكنّ الكلام في تكليفه بنفس الصلاة غير المقدورة حتى تجب الاستنابة من جهة العجز ، وكذلك في مقامنا الكلام في تكليفه بالاجتهاد لا بتحصيل المجتهد (٤).

فإن قلت : إذا كان المقلّد مكلّفا بالأحكام الفرعيّة فهو مكلّف بمقدماتها ، وهي التكاليف الأصوليّة.

__________________

(١) أي : وإن كان ظن المقلد موافقا لظن المجتهد.

(٢) جاء بعدها في نسخة (ب) : طبقها مثل العمل على ...

(٣) في نسخة (د) : بل أقول العمل ...

(٤) من قوله «وكذلك ـ إلى قوله ـ المجتهد» لا يوجد في النسخة (ب).

٢٧٦

قلت : تكليفه في الفرعيّات (١) يقتضي وجوب تحصيلها بما هو في وسعه ، وهو التقليد فيها ، كما أنّ المجتهد مكلّف بالأخذ من الرواة الذين هم الطرق للمجتهد ، كما أنّه طريق للمقلّد ، وليس مكلّفا بتحصيلها بالاجتهاد ـ الذي هو خارج عن وسعه ـ والحاصل أنّ المقلّد مكلّف بالفرعيّات وطريقه التقليد فيجب عليه العمل بما يعتبر في التقليد ، والمجتهد مكلّف بها وطريقه الاجتهاد ، فيجب عليه ما يعتبر فيه من المقدمات (٢) ، كيف؟ ولو كان الأمر كذلك لكان الاجتهاد واجبا عينيّا على كلّ أحد حتى العاجزين ، وكان عليهم الاستنابة لأداء هذا التكليف وليس كذلك ، كما هو واضح ؛ إذ لا يجب على العامي أن يستنيب من يجتهد أو يحصّل قوّة الاجتهاد نيابة عنه ، نعم يجب ذلك إذا لم يكن هناك من به الكفاية ، لكن في هذه الصورة أيضا لا على وجه النيابة بل من باب تحصيل القدر الكافي ، وفرق واضح بين الاستنابة وبين تحصيل المجتهد ، نظير الفرق بين الإحجاج وبين الاستنابة في الحج.

وبالجملة ؛ كلّ حكم أصولي يرجع إلى الاستنباط أو كيفيّته فهو من وظيفة المجتهد ، ولا يشترك معه المقلّد ، وكل ما يرجع إلى العمل بالأدلّة فهو مشترك فالمقلّد مكلّف بالعمل بقول اللغوي في أنّ الصعيد وجه الأرض ، وليس مكلّفا بالرجوع إلى كتب اللغة أو أهلها ، والعمل بقول اللغوي هو التيمم بمطلق وجه الأرض ، وأمّا العمل به بمعنى استنباط أنّ المتيمّم به مطلق وجه الأرض فهو وظيفة المجتهد ، وكذا مكلّف بالعمل بالخبر الأرجح من المتعارضين ، لكن ليس مكلّفا بتحصيل الأرجح .. وهكذا.

وإن شئت قلت : إنّه ليس مكلّفا بالمسائل الأصوليّة مطلقا ؛ لما عرفت من أنّ ما ذكرنا (٣) في الحقيقة تكليف فرعي. وبالجملة ؛ : فالمطلب واضح.

الثالث : بناء على القول باشتراك التكاليف الأصوليّة فهل يجري فيها التقليد أو لا؟ الحق لا ؛ إلا أن يرجع إلى التقليد في المسألة الفرعيّة ، مثلا لو قلّد في أنّ خبر الواحد

__________________

(١) في نسخة (ب) و (د) : بالفرعيّات.

(٢) من قوله «والحاصل ـ إلى قوله ـ المقدمات» قد أخر في النسخة (ب) و (د) إلى ما قبل قوله «وبالجملة» وقدم ما بعده هنا على ـ وهو من قوله كيف ولو .. ـ في النسخة (ب).

(٣) في نسخة (د) : ما ذكر.

٢٧٧

حجّة ، وفي أنّ الأمر للوجوب ، وفي أنّ هذا خبر العادل وأنّه معارض له .. إلى غير ذلك من المبادي ، فلا بأس ؛ إذ هذا يرجع إلى التقليد في المسألة الفرعيّة ، بل التقليد في وجوب الأمر الفلاني راجع إلى التقليد في الأمور المذكورة ، والفرق إنّما هو في اللحاظ ، وفي الإجمال والتفصيل ، وصيغته في الأول إنّما هو من حيث إنّه تقليد في المسألة الفرعيّة ، لا من حيث إنّه تقليد في الأصول.

وأمّا التقليد في المسائل الأصوليّة إذا لم يرجع إلى التقليد في الفرعيّات بأن يقلّد في بعض المقدمات ويجتهد في بعضها ويأخذ بالنتيجة فلا يجوز ، بل لو قطع ببعض المقدّمات وقلّد في بعضها لا يجوز أيضا ، فلو فرضنا أنّه قطع بجميع مدارك المسألة إلا أنّه لا يدري أنّ الخبر حجّة أم لا ؛ لا يجوز له أخذ الحجيّة من المجتهد وإعمال سائر المقدمات ، بحيث تكون النتيجة بأخذه واستنباطه ، بل أقول في الفرض الأول ـ الذي قلنا بالجواز ـ يجب أن يقلّد مجتهدا واحدا (١) ، فلو أخذ البعض من أحد المجتهدين والبعض من الآخر لا يجوز ؛ لأنّ أخذ النتيجة حينئذ باستنباطه ولا يرجع إلى التقليد في المسألة الفرعيّة إذا فرضنا أنّ النتيجة مخالفة لفتوى المجتهدين ، بل وإن كانت موافقة لأحدهما أو لكليهما أيضا إذا كانت المدارك مختلفة ، وكلّ منهما يخطّئ مدارك صاحبه.

وإنّما قلنا بعدم جواز التقليد في الأصول مع أنّ المفروض أنّ التكليف بها مشترك ؛ لأنّ القدر المتيقن من الأخذ بقول الغير بلا دليل ـ الذي هو على خلاف القاعدة ـ هو في خصوص الفروع ، والإطلاقات (٢) منصرفة عن المقام ، أو يشك في شمولها له ، مضافا إلى ظهور إجماعهم على اختصاص التقليد بالفروع ، وهذا هو العمدة وإلا فيمكن منع الانصراف في الإطلاقات سيّما بملاحظة إمكان دعوى أنّ التقليد على طبق القاعدة من أنّ غير أهل الخبرة عليه الرجوع إليه ، وقد ادّعى بعضهم الإجماع على هذه القاعدة ، بل هي معلومة من طريقة العقلاء ، إلا أن يقال : إنّ القدر المتيقن منها ما إذا كان المطلب مستفادا من الأمور الحسّيّة لا الحدسيّة الظنيّة مثل مسائل

__________________

(١) جاء بعدها في النسخة (ب) : فيما لو فرضنا أنّه قلّد في الجميع.

(٢) في نسخة (د) : والإطلاق.

٢٧٨

الفقه والأصول ؛ فتدبّر.

وكيف كان ؛ ففي الإجماع كفاية ، نعم لو فرضنا أنّ المقلّد اجتهد في بعض المقدّمات على خلاف ما اعتقده المجتهد ، فيشكل جواز تقليده له في خصوص هذه المسألة ، بل لا يجوز في صورة قطعه بفساد بعض مقدّماته ، فيجب عليه تقليد غيره ؛ إمّا لقصور الأدلة عن شمول مثل هذه الصورة ، وإمّا لأنّه إذا قطع بفساد مستند الفتوى فهو قاطع بفساد رأي مجتهده ، وإن لم يكن قاطعا بفساد ما حكم به المجتهد ، ومع القطع بفساد اعتقاد المجتهد (١) حيث إنّه مستند إلى هذا الوجه الفاسد مثلا فلا يجوز الأخذ بقوله ورأيه ، لأنّ التقليد أخذ برأي المجتهد لا بالوجوب والحرمة ، وبعبارة أخرى الطريق للمقلّد رأي المجتهد ، ومع فساده باعتقاد المقلّد لا يجوز له أخذه ، فيكون كما لو قطع بفساد أصل الحكم ـ وإن شئت فقل ـ كأنّ المجتهد لا رأي له ؛ لأنّه إذا فرض اطلاعه على ما اطلع عليه المقلّد لا يفتي ، ولو اطلع سابقا لم يفت نعم في صورة الظن بفساد المبنى يمكن أن يقال بجواز تقليده ، وإن كان ذلك الظن على طبق القاعدة ؛ بمعنى أنّه حاصل من مقدمات معتبرة كظنون المجتهد ، وأمّا مثل ظنون العوامّ الحاصلة بلا رويّة ؛ فإنّه لا اعتبار به قطعا ، ولا يمنع عن تقليده.

هذا ؛ ولو فرضنا أنّ المقلّد قطع بفساد مبنى جميع المجتهدين في عصره ، لكنّه يحتمل صحّة ما حكموا به ، فلا يجوز له إلا الاحتياط في تلك المسألة.

إذا عرفت هذه الأمور فنقول : أسند الشيخ المحقق في الرسالة (٢) جواز الإفتاء بالتخيير إلى المشهور ، واستدلّ عليه بأنّ جواز العمل بالخبرين حكم مشترك بين المجتهد والمقلّد ؛ لأنّ نصب الشارع للأمارات (٣) يشمل كليهما ، ولمّا كان المقلّد عاجزا عن تتميمهما (٤) ودفع موانعهما (٥) فيرجع في ذلك إلى المجتهد ، فيكون ـ بعد إثبات المجتهد حجيّة الخبرين ـ مخيّرا بينهما مثله ، وبأنّ إيجاب مضمون أحد

__________________

(١) من قوله «وإن لم يكن ـ إلى قوله ـ المجتهد» لم ترد في نسخة (د).

(٢) فرائد الأصول : ٤ / ٤١.

(٣) في نسخة (ب) : الأمارات.

(٤) الكلمة غير واضحة ؛ وقد كتبت في هامش النسخة ، إلا أنّها في نسخة (د) هكذا : تشخيصها.

(٥) في النسخة : موانعها.

٢٧٩

الخبرين على المقلّد لم يقم عليه دليل.

أقول : لا يخفى أنّ الوجه الأول لا يفيد أزيد من جواز الفتوى بالتخيير ، والثاني يفيد وجوبه.

ثمّ إنّه ذكر احتمال وجوب الفتوى بما اختار ، واستدلّ عليه بأنّ التخيير حكم للمتحيّر وهو المجتهد ، قال (١) : ولا يقاس هذا بالشك الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي ، مع أنّ حكمه ـ وهو البناء على الحالة السابقة ـ مشترك ، لأن الشكّ هناك في نفس الحكم الشرعي (٢) الفرعي المشترك ، وله حكم مشترك ، والتخيير (٣) هنا في طريق الحكم ، فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، فلو فرضنا أنّ راوي (٤) أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ؛ لأنّه أخبر وأعرف به مع تساويهما عند المجتهد ، أو انعكس (٥) الأمر ، فلا عبرة بنظر المقلّد.

وظاهر كلامه كما ترى! ابتناء المسألة على شركة المقلّد مع المجتهد في الأصول ، وعدم الشركة وأنّ لازم الشركة جواز الفتوى بالتخيير ، وكون المقلّد مخيّرا ، وجواز كون المقلّد على نظره في الترجيح أيضا ، فإنّه فرّع عدم جواز ذلك على عدم الشركة وتبعه في ابتناء مسألتنا على مسألة الشركة بعض الأفاضل ؛ إلا أنّه حكم صريحا بالشركة وبالفتوى بالتخيير.

قال ـ بعد بيان ما ذكره الشيخ دليلا للفتوى بما اختار من عدم الشركة في الأصول ـ : ويندفع بأنّ الأحكام المقرّرة لاستنباط الأحكام الواقعيّة أيضا أحكام إلهيّة يتساوى فيها الحاضر والباد ، وعباد الله في كل ناد ، ولا اختصاص لها بطائفة دون طائفة ، كأحكام المسافر والحاضر ، فمن عرفها وقدر عليها وجب عليه العمل بها ، ومن عجز وجب عليه الرجوع إلى من عرفها ، وحينئذ فلا وجه لاختصاص الخطابات المتعلّقة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٤١ ـ ٤٢.

(٢) لم ترد كلمة «الشرعي» في نسخة (ب) و (د).

(٣) في نسخة (د) : والتحير ، أقول : هذا أنسب بالمقام.

(٤) في نسخة (ب) : في أنّ ، وفي (د) : الراوي.

(٥) في نسخة (د) : انعكاس.

٢٨٠