كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

«وممّا ذكرنا ظهر أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي ليست من باب التعارض ؛ أمّا على القول بالجواز فواضح ، وأمّا على القول بالمنع فلأنّها نظير باب التزاحم ، بل منه من حيث إنّ النهي التعييني زاحم الأمر التخييري ، وحيث إنّ الأول أولى بالتقديم فيحكم بالحرمة في مقام الفعليّة ، ولذا لو فرضنا عدم المندوحة من الطرفين بأن انحصر المكان في المغضوب ودار الأمر بين ترك الصلاة أو ارتكاب الغصب لا يرجع إلى المرجحات لأحد الدليلين بل إلى مرجحات أحد التكليفين من أولويّة دفع المفسدة أو أولويّة مراعات حقّ الناس أو نحو ذلك ، وإنّما قلنا إنّها من باب التزاحم لأنّ المفروض في تلك المسألة أن يكون النهي تامّ الاقتضاء ومتعلّقا بجميع أفراد الطبيعة من حيث هي ، والأمر كذلك».

والجدير بالذكر أنّ للمصنف رسالة مستقلة في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ومن الآراء الأصوليّة التي شاع بين أهل العلم بأنّها مختار السيد ما نسب له من قوله بجواز التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية (المصداقية) للدليل ، واستظهروا ذلك من بعض مسائله في العروة ، لكنّ هذا محل تأمل! والوجه فيه أنّ التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعيّة على شقين :

١) التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعيّة لنفس الدليل العام.

٢) التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعيّة للدليل المخصص.

فأمّا الأول فهو مورد اتفاق في المنع عنه وأما الثاني فهو محل خلاف بينهم ، والمنسوب إلى السيد تجويزه في الثاني ، إلا أنّ الذي يظهر من كتابه هذا هو عدم قوله بجواز التمسك ، فإنّه قال فيما لو كانت الشبهة حكميّة أمكن التمسك بالإطلاقات والعمومات ، وأمّا لو كانت الشبهة موضوعيّة فلا يصح التمسك (١) ، نعم لو كان هنا أصل ينفي ما عدا العام من الفرد المشكوك أمكن نفيه بالأصل لا بالتمسك

__________________

(١) لا بدّ أن يكون مراده من المطلق هنا خصوص الدليل المخصص بقرينة لجوئه إلى نفي الفسق في المثال إلى أصالة عدم الفسق ليثبت به نفس ما أراد إثباته من الدليل المخصص ، وحيث إنّه لا يصح به لجأ إلى الأصل.

٢١

بالعام أو المطلق كما لو قلت أكرم العلماء إلا الفساق ومع الشك في أنّ زيدا فاسق أم لا ، فمع إجراء أصالة عدم فسقه يجب إكرامه من جهة الأصل حيث إنّه يلزم منه دخوله في أفراد العام وليس من جهة التمسك بعمومه وشموله له بل ببركة الأصل ، قال (١) :

«ثمّ إنّ التمسك بالإطلاقات في نفي الترجيح عند الشك مخصوص بالشبهة الحكميّة وأمّا في الشبهة الموضوعيّة كأن شك في وجود ما هو معلوم المرجحيّة فلا يتمسك بالإطلاق ، لكن إذا كان بحيث يجري فيه أصل العدم فالحكم كما ذكرنا» (٢)

يعتبر هذا الكتاب من الكتب التي بحثت في مسألة الحكومة والورود مفصلا بما لم يبحث أحد قبله ولا بعده في تينك المسألتين ،

وأمّا آراء السيد الفقهيّة فكفانا العروة الوثقى مرآة لتلك الفقاهة الفريدة ذات الفروع المتشعبة والتي جعلت من الأعلام والمراجع يعتبرونها مرجعا لهم ومتنا يكتبون عليه رسائلهم العمليّة لمقلديهم ، وكما تتضح هذه الفقاهة من خلال حاشيته على مكاسب الشيخ الأعظم حيث الدقة والعمق والبسط في المطالب.

مؤلّفاته :

للسيد قدس‌سره مؤلفات كثيرة ورسائل متعددة وكلّها تفصح عن قوّة في بيانه وغزارة في علمه وبعد غوره في العلوم ، وإليك بعضا ممّا وصلنا خبرها (٣) :

١) حاشية المكاسب ؛ وهو كتاب قيم جدا مشحون بالمطالب الفقهيّة العالية ، وهو شرح لكتاب المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري ، وقد طبع أخيرا في مجلدات

__________________

(١) كما توجد في حاشيته على المكاسب كلمة صريحة في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة الموضوعيّة لنفس الدليل فراجع تعليقته رقم ٥١٧ و ٧٤٣ و ٧٤٥.

(٢) إلا أنّه يمكن الإشكال على السيد في المقام ـ بعد إمكان تأييده بأنّ تنزله إلى الأصل بعد توجهه إلى عدم صحة التمسك بالدليل ـ بأنّ ما يثبت من دخول زيد في ضمن أفراد العام لازم لهذا الأصل ولا يثبت بالأصل حجيته واعتباره إلا على الأصل المثبت وهو ليس بحجّة.

(٣) نقلا عن كتاب أعيان الشيعة : ١٠ / ٤٣.

٢٢

ثلاثة من تحقيق صاحب الفضيلة سماحة الشيخ عباس آل سباع القطيفي.

٢) العروة الوثقى ؛ وهي رسالة عمليّة لمقلديه مليئة بالفروع ومرقّمة لتسهيل الوصول للمسألة ، وهذا ممّا أشهرها وجعل العلماء يكتفون بالتعليق عليها بما يوافق فتاواهم وآرائهم ، وقد طبعت عشرات المرّات مستقلة ومنضمة.

٣) رسالة في الظن المتعلق بأعداد الصلاة وكيفيّة الاحتياط ، طبعت في خاتمة حاشية المكاسب الحجريّة.

٤) رسالة منجزات المريض ؛ وقد طبعت في خاتمة حاشية المكاسب الحجريّة.

٥) أجوبة المسائل ؛ مجلد ضخم وقد عنونه في الذريعة بالسؤال والجواب وهو عربي طبع الجزء الأول منه في النجف (١٣٤٠ ق) ، جمعه تلميذه الشيخ علي أكبر الخونساري رتبه من الطهارة إلى النكاح.

٦) رسالة في اجتماع الأمر والنهي مبسوطة ، وقد فرغ منها سنة ١٣٠٠ ه‍ ، طبعت في طهران سنة ١٣١٦ ه‍ على الحجر وزيري ، وتقع في ١٧٢ صفحة وأخطأ صاحب الذريعة في عددها فقال بأنّه ٣١٤ صفحة ، وجهة الاشتباه منه ضميمة رسالة آغا جمال الخونساري في رد شبهة الاستلزام وجوابها من الملا هادي السبزواري ورد الجواب من الخونساري ، فاعتقد أنّها كلها رسالة اجتماع الأمر والنهي ، وقد تحصلت على نسخة منها.

٧) كتاب التعارض ؛ وهو الكتاب الذي بين يديك ، وسيأتي الحديث عنه.

٨) حاشية أنيس التجار ؛ لملا مهدي النراقي ، طبعت في طهران (١٣١٧ ق) مع المتن ، كما تكرر طبعها سنة ١٣٢٧ ه‍ في ٢٦٤ صفحة.

٩) حاشية تبصرة العلّامة ؛ عربي وقد طبعت في طهران سنة (١٣٣٠ ق) حجري ، كما تكرر طبعها في طهران سنة ١٣٢٩ ه‍ ، وكذا طبعت في بغداد سنة ١٣٣٨ ه‍ ، وتقع في ٢٣٩ صفحة.

١٠) حاشية على نجاة العباد للشيخ محمد حسن صاحب الجواهر ، وقد طبعت في طهران سنة ١٣٢٤ ه‍.

١١) الاستصحاب ؛ قال صاحب الذريعة : رأيته عند تلميذه الشيخ علي أكبر

٢٣

الخوانساري.

١٢) الصحيفة الكاظميّة ؛ عربي طبعت سنة ١٣٣٧ ه‍ في بغداد في ٤٦ صفحة.

١٣) طريق النجاة ؛ رسالة عمليّة طبعت سنة ١٣٣٠ ه‍.

١٤) حاشية على الجامع العباسي ؛ طبعت سنة ١٣٢٥ ه‍ في طهران.

١٥) مجمع الرسائل ؛ طبع سنة ١٣١٥ ه‍ في بمبئي (٣٨٩ صفحة) ، وفي طهران سنة ١٣٣٢ ه‍ (٤٨٢ صفحة).

١٦) حاشية على رسائل الشيخ الأنصاري ؛ خرج منها خصوص ما كتبه على ثالث مقدمات دليل الانسداد ، وقد يقال لها (رد المقدمة الثالثة) وكانت عند تلميذه الشيخ علي أكبر الخونساري ، وقد تحصلت على نسخة منها جلبتها من مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام ، وهي رديئة الخط وكثير الغلط والشطب على كلماتها ، ولكن مع ملاحظتها ظهر لي أنّها من تقريرات بعض تلامذته لشرحه على رسائل الشيخ الأنصاري وليست بقلمه الشريف (١).

١٧) رسالة في إرث الزوجة من الثمن والعقار ؛ وقد ردّها شيخ الشريعة برسالة (إبانة المختار في إرث الزوجة من الثمن والعقار) وكانتا في مكتبة السيد محمد الحجّة بكربلاء.

١٨) بستان نياز وگلستان راز ـ فارسي ـ في المناجاة ، طبع في بغداد سنة ١٣٣٧ ه‍ في ٣٥ صفحة.

١٩) الكلم الجامعة والحكم النافعة ؛ كلمات قصار من إنشائه ، طبعت مع العروة الوثقى سنة ١٣٢٨ ه‍.

٢٠) قوت لا يموت ؛ في الطهارة والصلاة ، ذكره صاحب الذريعة.

٢١) مسالك الهداية ؛ مسائل فرعيّة بطريق السؤال والجواب.

٢٢) منتخب الأحكام ؛ رسالة عمليّة طبعت في طهران سنة ١٣٤٥ ه‍.

٢٣) ملحقات العروة الوثقى ؛ طبعت مستقلة في جزءين منضمين ، وقد اشتملت

__________________

(١) طبع الجزء الأول من هذه الحاشية أخيرا ، وهي من تقرير الشيخ محمد حسين اليزدي ، وتحقيق الشيخ محمد حسين سيبويه.

٢٤

على بحوث القضاء والربا والوكالة والوقف والعدد والهبة.

النسخ المتوفرة من الكتاب :

لقد توفرت لدينا ثلاث نسخ من كتاب التعارض وهي كالتالي :

١ ـ نسخة مسجد گوهرشاد ـ مشهد ـ وهي المرقمة ب (١٤٤٤) ، وهذه النسخة جيدة الخط ، إلا أنّه يتخللها النقص في الوسط في بعض الموارد التي سنشير إليها ، كما أنّها ناقصة الآخر ، وتختلف عن النسخة الأصل التي اعتمدنا عليها في موارد كثيرة ، وقد رمزنا لها بالرمز (ب).

٢ ـ نسخة مكتبة وزيري يزد والمرقّمة ب (٢٣٧٣) ، وقد تحصلنا عليها من مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام ، وهذه النسخة رديئة الخط ، ناقصة الأول ، فهي تبدأ من المقام الثاني في التعادل ؛ إلا أنّها تمتاز بأنّ تاريخ كتابتها هو سنة ١٣٠٩ ه‍ ، وقد كتبها السيد حسين بن السيد عبد الغفور اليزدي ، وقد رمزنا لها بالرمز (د).

٣ ـ النسخة المعتمدة عندنا في التحقيق ، وهي النسخة المتوافرة في بعض المكتبات الخاصة ، وقد طبعت في طهران بحجم وزيري (حجري) في ٢٩٦ صفحة في زمان المؤلف سنة ١٣١٦ ه‍ ، كما أنّها قد طبعت في طهران سنة ١٣١٧ ه‍ (١) ، فهي متأخرة بسبع سنوات عن كتابة النسخة الأولى ، إلا أنّها تمتاز بأنّها كاملة ومصححة من قبل مجموعة من الفضلاء ، علاوة على حسن خطها وسهولة قراءتها وتعنون مطالبها من قبل الفضلاء المراجعين ، ولذا جعلناها النسخة الأم ، وجرت مقابلة النسخ الأخرى عليها وإضافة الفروقات بينها في هامش النسخة ، ونرمز لها في هامش الكتاب بالرمز (الأصل ، الأم ، النسخة ، نسخة الأصل).

كما أنّنا لاحظنا تشابه النسختين (ب) و (د) كثيرا مع اختلاف طفيف بينهما ، وعلى كل حال .. فإنّا نشكر القائمين على إدارة كل من مكتبتي الإمام الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) وقد اشتبه الشيخ آغا بزرك الطهراني في الذريعة بأن ذكر أنّ طباعتها كانت منضمة إلى تعليقة آغا جمال الخونساري على حاشية المحقق السبزواري ، والحال أنّ المنضم للتعليقة هو رسالة السيد اليزدي في اجتماع الأمر والنهي لا رسالة التعارض.

٢٥

وگوهرشاد على توفير هاتين النسختين المهمتين لإكمال مهمة تحقيق الكتاب وإخراجه إلى الوجود ووضعه بين يدي العلماء والباحثين والمحققين.

عملنا في التحقيق

١) قمنا أولا ـ بعد صف الكتاب على الكامبيوتر ـ بتقطيع النص المكتوب على حسب الطريقة الأدبيّة المتعارفة في التحقيق.

٢) ثمّ بعد ذلك قمنا بعمليّة المقابلة بين نسخة الأصل والنسخ الأخرى على التوالي فبدأنا بمقابلتها مع النسخة (ب) ، ثمّ مع النسخة (د) ، وأشرنا في هامش الكتاب إلى موارد اختلاف النسخ مع الأصل ، وكذا إلى موارد النقص من تلك النسخ أو النواقص منها.

٣) ومن ثمّ بعد تماميّة الكتاب من جهة النص بدأنا في تخريج النصوص من آيات وروايات ، ثمّ تخريج المصادر التي رجع إليها المصنف قدس سرّه ، وأخذ بعض العبارات أو الكلمات ، فنشير إلى موردها من الكتاب المرجع.

٤) كما قمنا بتوضيح بعض العبارات أو الكلمات المشكلة ، وكذا نشير إلى بعض الإشكالات التي يشير لها المصنف إجمالا ، ولم نقتصد كثرة التعليق على الكتاب دفعا لملالة القارئ.

٥) قمنا بتصحيح الضمائر المذكرة والمؤنثة على حسب ضوابط العربيّة.

٦) إضافة عناوين للكتاب على حسب الحاجة لتسهيل الرجوع للمطالب.

هذا وقد اشترك في المقابلة مع النسختين تعاقبا عدّة أفراد من أهل العلم ، فلا يفوتنا تقديم جزيل الشكر لهم جميعا ، وقد استغرق العمل في هذا الكتاب ـ بلحاظ أنّ الاشتغال به يتم في أيام العطل الدراسيّة ليس إلا ـ قرابة السنتين والنصف تقريبا.

محقق الكتاب

حلمي بن الحاج عبد الرءوف السّنان

٢٦

٢٧

٢٨

٢٩

٣٠

٣١

٣٢

٣٣
٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على رسوله محمد وآله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ... فيقول الفقير إلى الله الغني محمد كاظم بن عبد العظيم الطباطبائي اليزدي : هذه رسالة في التعارض كتبتها إجابة لبعض الأخوان ، ومن الله التوفيق ، وعليه التكلان ، وبه الاعتماد ، وإليه المرجع والمآب ، وهو أعلم بالصواب.

مقدمة فيها أمور :

الأول : عنوان المسألة بباب التعارض

كما صنعنا وفاقا لبعض أولى من عنوانها بباب التعادل والتراجح ، لما هو واضح من أنّها من عوارضه وأقسامه ، إذ التعارض قد يكون مع التعادل ، وقد يكون مع الترجيح ، ومن المعلوم أنّ لكلي التعارض ـ مع قطع النظر عن قسيميه ـ أحكاما يتعلّق الغرض بالبحث عنها أيضا ، مثل أولويّة الجمع مهما أمكن ، وأنّ الأصل في المتعارضين ما ذا؟ وغيرهما.

فلا وجه لأن يقال : إنّ السرّ في العنوان بما ذكر كون الأحكام المبحوثة في الباب إنّما هي لخصوص كلّ من القسمين ، وأيضا ليس البحث عن أحكام مطلق التعارض مقدمة للبحث عن أحكامهما ، بل هو أيضا مقصود بالأصالة (١) ، فلا وجه لدعوى كون البحث عن أحكامه إنّما هو من باب المقدميّة والتبعيّة.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ ما في القوانين (٢) من عنوانه ب «باب التعارض والتعادل والترجيح» وإن كان أحسن من المذكور إلا أنّه أيضا في غير محلّه ، إذ قد عرفت أنّهما (٣) قسمان له ، فلا ينبغي جعلهما قسما له.

__________________

(١) في النسخة : الأصالة.

(٢) قوانين الأصول : ٢ / ٣٩٣.

(٣) في النسخة : أنّها.

٣٥

ثمّ لا يخفى أنّ التعبير بالتراجيح فيه مسامحة من وجوه :

أحدها : أنّ معادل التعادل : التراجح لا التراجيح ؛ إذ هو مأخوذ إمّا من العدل بمعنى الاستواء (١) ، كما هو الظاهر ؛ حيث إنّ المأخوذ منه في غير الثلاثي إنّما هو المصدر الثلاثي ، ومن العدل ـ بالفتح أو الكسر ـ بمعنى المثل ، وعلى التقديرين معناه المساواة ، فالمناسب أن يقال في مقابله التراجح الذي هو بمعنى زيادة أحد الدليلين أو الشيئين على الآخر ، لا الترجيح الذي هو بمعنى إعطاء الرجحان ، وجعل الشيء راجحا بتقديمه على غيره ، أو بغير ذلك من وجوه إعطاء الرجحان.

الثاني : أنّه أطلق الترجيح الذي عرفت معناه ، وأريد منه ما يوجب الترجيح من المزايا الموجودة في أحد الدليلين ، فيكون من باب استعمال اللفظ الموضوع للمسبّب في السبب.

الثالث : إتيانه بلفظة الجمع وإفراد لفظ التعادل.

ويمكن الاعتذار عن الأخير ـ بعد المسامحتين الأوليتين ـ بأنّ المناسب إنّما يكون هو الإفراد إذا أريد المعنى المقابل للتعادل ، وهو التراجح ، وأمّا إذا أريد منه نفس المزايا والمرجحات فالمناسب التعبير بالجمع إشارة إلى أن الغرض من البحث عن الترجيح البحث عن وجوه المزايا والمرجحات : من الشهرة ، والموافقة للكتاب ، وصفات الراوي ، فإنّ لكل واحد منها حكما يتعلق به ، بخلاف التعادل ، فإنّه وإن كان يمكن فيه أيضا لحاظ التعدد بملاحظة كل واحد من المزايا وجدانا وفقدانا ، إلا أنّه لا يتعلّق الغرض بالبحث عن خصوصيّات أفراد التساوي ، بل المعيار هو مطلقه من غير نظر إلى الخصوصيّات.

وربّما يعتذر عن التعبير بالجمع بأنّ التعادل أمر عدمي ، ولا تمايز في الأعدام ولا تعدد فيها ، وتعدد ما أضيفت إليه لا يثمر في تعددها ، بخلاف الترجيح ، فإنّه أمر وجودي ويتعدد بتعدد أفراد الأخبار المشتملة على المرجحات.

وفيه :

أولا : منع كون التعادل [أمرا] عدميّا ؛ إذ المساواة من الأوصاف الوجوديّة إذا كان

__________________

(١) فتقول هذا عدل ذاك أي مساو له.

٣٦

باعتبار الاشتمال على الوصف الوجودي.

وثانيا : قد يكون الترجيح أيضا بالأمر العدمي ، كعدم احتمال التقيّة في أحد الخبرين.

وثالثا : إنّ تعدد الأعدام بتعدد المضاف إليه يكفي إذا كانت الخصوصيّات منظورة ومتعلّقة للغرض ، خصوصا إذا لوحظ التعدد من جهة تعدد الأخبار ، فإنّ من المعلوم أنّ أفراد المساواة أيضا تتعدد بتعدد أفراد الأخبار ، كتعدد الترجيح ، فانحصر الوجه فيما ذكرنا من أنّ التعدد ملحوظ بالنسبة إلى أنواع المرجحات وهي متعلّقة للبحث من حيث الترجيح لا من حيث التعادل.

ثمّ من العجب أنّه لاحظ التعدد باعتبار تعدد الأخبار وموارد المرجّحات دون أنواعها ، قائلا : إنّ تعدد الأنواع لا يوجد (١) تعدد الترجيح والمزيّة ، لا بلحاظ تعدد الموارد أي أفراد الأخبار ، لأنّ تلك الانواع من أسباب الترجيح وهي لا توجب تعدد المسبّب ، ألا ترى أنّ تعدد أسباب الموت لا يوجب تعدده ، بخلاف تعدد الأفراد فإنّه يوجب تعدد المزيّة عند وجود سببها على حسب تعددها ، إذ فيه أنّ تعدد أفراد الأخبار ليس متعلّقا للغرض والبحث ، بخلاف تعدد أنواع المزايا ، وكون الترجيح أمرا واحدا أو متعددا لا مدخل له بعد كون النظر إلى نفس الأسباب المتعددة ، والمفروض أنّ المراد من التراجيح نفس المزايا لا المعنى المصدري.

وكيف كان فهذه المسألة من المسائل الأصوليّة ، وداخلة في مقاصدها ؛ بل هي أظهر مسائل الأصول (٢) ، إذ تدخل فيها على جميع التقادير من تعريفها بالقواعد الممهدة ، وبما يبحث فيه عن الأدلة مطلقا ، أو بعد الفراغ عن الدليليّة ، إذا البحث فيها بحث عن عوارض الدليل بعد الفراغ عن دليليّته ، سواء في ذلك البحث عن أحكام مطلق التعارض أو البحث عن أحكام قسميه.

وجعل بعضهم لها خاتمة للمسائل لا ينافي ذلك ، ولا يدلّ على الخروج كما قد يتخيل ، لأنّ الخاتمة لا بدّ أن تكون من جنس المختوم ، فالمراد أنّها آخر الأبواب ،

__________________

(١) هكذا في النسخة ؛ والظاهر أنّها : يوجب.

(٢) في نسخة (ب) : مسائل الأصوليّة.

٣٧

ولمّا كان البحث عنها بعد الفراغ عن سائر الأبحاث ، كان المناسب جعلها خاتمة ، فما عن التهذيب (١) من ذكرها قبل الأصول العمليّة لا وجه له ، ولذا أورد عليه السيد العميدي بذلك ، وعدم جريان بعض أحكام التعارض كالتخيير والترجيح فيها لا يوجب عدم جريان أصل التعارض (٢).

الثاني : التعارض

لغة من العرض وهو بمعنى الظهور والإظهار ، وضد الطول والمتاع ، وإن كان قد يحرّك على هذا المعنى ، ففي المقرب (٣) عرض أي أتى العروض (٤) ، وله كذا يعرض ـ بالكسر ـ ظهر وبدا ، عرض كسمع ، والشيء له : أظهره عليه وأراه إيّاه ، إلى أن قال :

(٥) والعرض المتاع ، ويحرّك ، وكل شيء سوى النقدين ، والجبل أو سفحه أو ناصيته (٦) ، إلى أن قال : وخلاف الطول ، ومنه دعاء عريض (٧) ، وقال : وعارضه وجانبه وعدل عنه ، وسار حياله ، والكتاب : قابله .. إلى أن قال (٨) : وفلانا بمثل صنيعه : أتى إليه مثل ما أتى ، ومنه المعارضة كأنّ عرض فعله كعرض فعله.

ويمكن أخذه من العرض بمعنى الظهور والإظهار ، كأنّ كلا من المتعارضين يظهر للآخر أو يظهر نفسه للآخر ، والأنسب أخذه من العرض بمعنى خلاف الطول ، كأنّ كلا من المتعارضين يجعل نفسه في عرض الآخر ، وكونه معنى اسميّا لا يضر بعد استعمال فعله بهذا المعنى أيضا كثيرا ، على ما يظهر من الاستعمالات المذكورة في القاموس (٩) ، ويظهر منه أيضا أخذه من هذا المعنى ، حيث إنّه والمعارضة بمعنى

__________________

(١) تهذيب الوصول ـ للعلّامة الحلي ـ مخطوط ، وتقوم مؤسسة آل البيت بتحقيقه ، وقد اتخذ نفس الترتيب في مبادئ الوصول ـ ٢٣١ ـ فيرد عليه نفس الإشكال من السيد العميدي.

(٢) في نسخة (ب) : أصل التعارض فيها.

(٣) الظاهر أنّه المقرب ؛ من كتب اللغة ، وفي نسخة (ب) : الق ؛ فيكون إشارة للقاموس.

(٤) كتب في هامش النسخة : العروض مكة والمدينة وما حولهما.

(٥) في نسخة (ب) : والفرس مرّ عارضا على جنب واحد ، وقال : العروض ...

(٦) في نسخة (ب) : ناحيته.

(٧) في نسخة (ب) : والوادي ، وأن يذهب الفرس في عدوه وقد أمال رأسه وعنقه ...

(٨) لا توجد هذه الكلمة (إلى أن قال) في نسخة (ب).

(٩) القاموس المحيط : ٢ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤ مادة عرض.

٣٨

واحد ، وأخذها بهذا المعنى حيث فسّرها بالمقابلة والإتيان بمثل ما أتى ، بل صرّح بذلك في قوله : ومنه المعارضة كأنّ عرض فعله كعرض فعله.

وفي اصطلاح الأصوليين عرّف بتنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار المدلولين وبتنافي مدلولي الدليلين ، ولا يخفى أولويّة الأول ، إذ التعارض وصف لنفس الدليلين فالأنسب جعل التنافي الذي هو ملاكه وصفا لهما أيضا ، لا مدلوليهما ، وكونه بلحاظ المدلولين لا ينافي اتصافهما به أيضا بالواسطة ، فثبوت التنافي للدليلين وحمله عليهما من قبيل أن يقال زيد شريف لشرافة أبيه ، فإنّ شرافة الأب توجب شرافة زيد فيصح اتصافه بها حقيقة ، وعلى التعريف الثاني يكون من قبيل (١) زيد شريف الأب حيث إنّه لا يدل على شرافة زيد ، ولو بالواسطة.

ومنهم ـ كالعضدي ـ من زاد على التعريف المذكور قوله بحيث لا يمكن الجمع بينهما (٢) ، وربّما يستظهر منه أنّ العام والخاص المطلق خارج عنه ؛ لإمكان الجمع (٣) ؛ فلا يكونان من المتعارضين.

وفيه : أنّ الحق دخولها ، والتعريف شامل أيضا ، إذ المراد من عدم إمكان الجمع عدمه مع الأخذ بظاهر كلّ من الدليلين ، ومن المعلوم عدم إمكانه فيهما ، ومنهم من بدّل الزيادة المذكورة بقوله على وجه التناقض أو التضاد ، ومرجعها واحد.

ثمّ التنافي أعمّ من أن يكون في تمام المدلول أو في بعضه ، كما في العام والخاص المطلقين ، أو من وجه ، وأعمّ من أن يكون عقليّا أو شرعيّا ، كصحة العتق وعدم الملكيّة ، حيث إنّه لا تنافي بين ما دلّ على الأول ، وما دلّ على الثاني عقلا ، لكنّهما متنافيان شرعا ، إذ لا عتق إلا في ملك ، والمدلول أعمّ من أن يكون مطابقيّا أو تضمنيّا أو التزاميّا ، فيشتمل التعريف (٤) ما إذا كان أحد الدليلين منافيا للآخر في مدلوله الالتزامي.

ولكن مع ذلك يشكل بأنّه قد لا يكون بين المدلولين تناف ولو بالالتزام ، مع

__________________

(١) في نسخة (ب) : من قبيل أن يقال ...

(٢) حكاه في مفاتيح الأصول : ٦٧٩.

(٣) في نسخة (ب) : خارج عن إمكان الجمع ...

(٤) لا توجد هذه الكلمة (التعريف) في نسخة (ب).

٣٩

كونهما من المتعارضين ، مثل ما دلّ على وجوب الظهر يوم الجمعة ، مع ما دلّ على وجوب الجمعة ، فإنّ كلا منهما (١) لا ينفي الآخر ، ولو بالالتزام اللفظي ، وإنّما التعارض بينهما من جهة الإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد ، ولا يكون الإجماع قرينة على إرادة التعيين من كلّ من الخبرين ، بأن يكون المراد من كل منهما أنّ الواجب الواحد الواقعي هو كذا ، وعلى فرضه لنا أن نفرض صورة لا يكون كذلك.

وبالجملة إذا لم يكن تناف بين المدلولين من حيث إنّهما مدلول ، وكان التنافي بين ذاتيهما من جهة أمر خارجي ، لا يكون قرينة على الإرادة من الكلام ليخرج عن التعريف مع أنّه داخل في المعرّف قطعا.

ومنه تعارض الأصلين من جهة العلم الإجمالي ، حيث إنّ الطهارة في أحد الإنائين مثلا لا تنافي الطهارة في الآخر ، فلا تنافي بين مدلولي الأصلين ، من حيث إنّهما مدلول ، إذ لا تثبت أصالة الطهارة في هذا الإناء أنّ الآخر نجس وبالعكس ، حتى يكون التنافي بين المدلولين إلا بالأصل المثبت ، ولا اعتبار به ، مع أنّهما متعارضان قطعا ، وهكذا إذا كان أحد الخبرين مثبتا لحكم ، والآخر لآخر ، وقام الإجماع أو الدليل العقلي على عدم ثبوتهما معا بحيث لم يكونا قرينة على إرادة نفي كلّ منهما من إثبات الآخر من اللفظ ، إلا أن يقال إنّ ذلك يرجع إلى المدلول الالتزامي الغير اللفظي والمراد من المدلول ذاته لا بوصف (٢) أنّه مدلول ، فكلّ من خبري الظهر والجمعة وإن لم يكن ناظرا إلى نفي الآخر بالدلالة اللفظيّة ، إلا أنّ نفي الآخر مدلول التزامي عقلي له بعد الإجماع المذكور ، وهو كاف في صدق التنافي بين المدلولين ، وهكذا في الأصلين ، فالمراد من تنافي المدلولين تنافي مقتضاهما ، وإن لم يكن المقتضي مدلولا لفظيّا.

ومن ذلك يظهر أنّ من عرّف التعارض بتنافي الدليلين في مقتضاهما ، ولو بالالتزام

__________________

(١) في النسخ : منها.

(٢) في نسخة (ب) : ذاته بوصف ...

٤٠