كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

إلا أنّه بناء على الموضوعيّة نعلم بوجود المناط والمصلحة في كلّ منهما ، والعقل يحكم بالتخيير ، كما في سائر الواجبات المتزاحمة ، حيث إنّ الحكم بالوجوب التخييري ـ بعد عدم شمول الدليل ـ إنّما هو من باب العلم بالمناط على الطريقيّة ، فلا نعلم بالمناط ؛ لأنّه وإن كان هو الإيصال الغالبي ؛ إلا أنّه لعله مقيّد بعدم المعارضة ، فلا يحكم بالتخيير ، بل بالتساقط بالنسبة إلى مدلوليهما المطابقي.

وأمّا بالنسبة إلى مدلوليهما الالتزامي فلا مانع من كونهما مشمولين للدليل ، ولهذا ينفيان الثالث ، وهذا معنى التوقف.

ثمّ قال :

فإن قلت : فاللازم الحكم في الأصول أيضا بالتخيير دون التساقط ، لأنّها معتبرة من باب الموضوعيّة.

قلت :

أولا : لقائل أن يقول إنّها أيضا معتبرة من باب الطريقيّة ، بناء على علم الشارع بالمطابقة للواقع غالبا ، كعلمه بغلبة مطابقة الظنون ، فيأتي فيها ما ذكرنا فيها على الطريقيّة.

وثانيا : إنّ العقل إنّما يستقل بوجود المناط في الأحكام والأسباب الواقعيّة النفس الأمريّة ، وأمّا ما عداها من الأحكام الظاهريّة العذريّة فلا استقلال له بوجود المقتضي في كل منهما ، والمفروض عدم شمول الدليل لهما ؛ للتنافي والتعارض ، فالمرجع هو الأصل القاضي بعدم الاعتبار ؛ سواء كان ذلك الحكم الظاهري من الطرق أو الأصول.

قلت : أمّا ما ذكره من عدم إمكان شمول الدليل للوجه الذي ذكره فقد عرفت سابقا ما فيه ، إذ مجرّد عدم إمكان العمل لا يقتضي عدم الشمول ، ولذا قلنا إنّه في الواجبين المتزاحمين لا مانع من الشمول والإيجاب العيني بالنسبة إلى كلّ منهما ، فإنّ التنجز لا دخل له بخطاب الشرع ، والوجه في عدم الشمول للمتعارضين ما ذكرنا من لزوم التناقض ، وهو غير لازم في الواجبين ، وفي الخبرين ، بناء على بعض صور الموضوعيّة ؛ كالصورتين الأوليين ؛ وظاهر كلامه إرادة إحداهما ، فلا وجه للحكم

٢٠١

بعدم إمكان الشمول على مقتضى ما أراده ؛ [هذا أولا].

وثانيا : على فرض عدم الشمول ؛ لا وجه للفرق ، إذ دعوى العلم بالمناط والمصلحة على تقدير الموضوعيّة دون الطريقيّة كما ترى! إذ مع فرض عدم شمول الدليل لا يمكن إحراز المصلحة إلا بالاطّلاع على جهات الواقع ، والعقل ليس محيطا بجهات الأحكام ؛ بل دعوى العكس أولى ، إذ على الطريقيّة مصلحة الجعل معلوم بأنّها الإيصال الغالبي ، وغاية ما يكون احتمال كونها مقيدة بعدم المعارض ، بخلافه على الموضوعيّة ، إذ مقولة المصلحة غير معلومة إصلاحا (١).

وثالثا : لا وجه لما ذكره من الفرق بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة حسبما عرفت ، فبناء على ما ذكره من عدم شمول الدليل للمتعارضين لا مفرّ من القول بالتساقط.

وأمّا نفي الثالث وعدمه فسيجيء الكلام فيه ، وظني أنّه لمّا رأى العلم بوجود المناط في إنقاذ الغريقين ، ولو لم يشملهما الدليل من جهة حكم العقل بوجوب حفظ النفس ، تخيّل أنّ الحال في جميع المقامات كذلك ، وليس كذلك قطعا ، إذ العلم بوجود المصلحة لا يمكن في التعبديّات التي لا مسرح للعقل فيها إلا بشمول الدليل ، واستكشافه من شموله لسائر الأفراد وتساويها في نظرنا ممنوع.

هذا مع أنّ الحكم بالتخيير في المتزاحمين ليس منوطا بمذهب العدليّة كما عرفت ، بل العقل حاكم به وإن لم نقل بالمصلحة أصلا ، أو قلنا بها في الجعل ؛ إلا أن يبدلها بدعوى العلم بإرادة الشارع ـ واقعا ـ لكل منهما ، وإن لم يشملهما الدليل وهو كما ترى!

ثم إنّه قال (٢) : إنّه بناء على الموضوعيّة يصير حال الخبرين حال الواجبين المتزاحمين ، والأصل فيهما غير خفي ، ومجمل الكلام فيه أنّه قد يحكم فيه بالتساقط والتعطيل رأسا ، وقد يحكم فيه بالترجيح ، وقد يحكم فيه بالتخيير ، وقد يحكم فيه بالجمع ، وقد يتردد الأمر بين الجمع والتخيير.

أمّا الأول ؛ فكل موضع امتنع فيه جميع الأمور المشار إليها ؛ مثل تزاحم البينتين

__________________

(١) هكذا في النسخة ؛ والمناسب أنّها : اصطلاحا ، أو : أصلا ؛ والحاء زائدة.

(٢) بدائع الأفكار (رسالة التعارض) : ٤١٦.

٢٠٢

في الحقوق المشتركة ممّا لا يقبل القسمة ، ومنه ما لو تعارض خبران في بعض مسائل النكاح ، أو الطلاق ، أو العتق ، أو نحوها ممّا يتعلّق باثنين ، وغير قابل للقسمة ، ومنه أيضا توارد الواردين على محلّ واحد ، فإنّ الحكم عقلا أو نقلا هو التساقط.

والثاني ؛ مثل تزاحم الغريقين أو الدّينين ؛ مع عدم إمكان العمل بأحدهما ، لمانع عقلي أو شرعي.

والثالث ؛ كتزاحم الغريقين أو الدينين ؛ مع عدم إمكان كل منهما لا على التعيين.

والرابع ؛ كما إذا تعذر اختيار أحدهما لعارض ، وأمكن الجمع كما لو خاف على نفسه من أداء أحد الدّينين (١) وأمكنه التوزيع.

والخامس ؛ كتزاحم الديون أو النذور مع إمكان التبعيض والتخيير ، وكتعارض البيّنتين أو اليدين في الدار .. إلى أن قال : وإن لم يكن المحل قابلا للتبعيض بحسب المقدار فمقتضى القاعدة التبعيض بحسب الأزمان ، كمسألة الرضاع بالنسبة إلى العشر والخمسة عشر ، وقال : الظاهر قيام الإجماع على عدم التبعيض في الأحكام.

قلت : لا يخفى ما في كلامه من النظر ؛ فإنّ كلامه إنّما كان في تزاحم الواجبين لا السببين ، وأيضا لا وجه للتساقط في تزاحم الواجبين ، وأيضا ـ بناء على ما ذكره من الموضوعية ـ يكون الواجب تصديق العادل ، ولا نظر إلى كون المتعلّق قابلا للقسمة أو لا ، وكونه من حقوق الناس أو من حقوق الله ، ثمّ لا وجه لبعض الأمثلة التي ذكرها ؛ فتدبر.

(في نفي المتعارضين للثالث)

بقي الكلام في شيء وهو أنّه بناء على المختار من التساقط بأحد الوجهين إنّما يحكم بتساقطها بالنسبة إلى محل المعارضة ، فإذا كان أحد الخبرين مشتملا على حكم آخر لا يعارضه الآخر نأخذ به ، فإنّه كأنّه خبر آخر ، وكذا إذا كان بينهما عموم من وجه يتساقطان في مادّة الاجتماع دون مادة الافتراق ، وكذا إذا اتفقا صريحا على إثبات القدر المشترك ، أو نفي الثالث ، وكأنّ اختلافهما في التعيين ؛ كأن يقول

__________________

(١) في النسخ : الدليلين ، والصحيح ما أثبتناه.

٢٠٣

أحدهما «إنّ الشيء الفلاني ليس بمباح بل واجب» ، وقال الآخر «ليس بمباح بل حرام» ، فإنّهما ينفيان الإباحة ، وأمّا بالنسبة إلى محل المعارضة المحكوم بتساقطهما فيه فهل يحكم بتساقطهما مطلقا ، ويرجع إلى الأصل ، وإن كان مخالفا لهما؟ أو لا يجوز الرجوع إلى الأصل المخالف ، ويؤخذ بالقدر المشترك الضمني إن كان بينهما قدر مشترك ، حتى يكون راجعا إلى التوقف في مقام الثمر؟ ومحلّ الكلام ما لو لم يعلم بصدق أحدهما وإلا فيكون نفي الثالث وإثبات القدر المشترك مستندا إليه لا إلى الخبرين.

الحق هو الأوّل ؛ لأنّه بعد عدم شمول دليل الحجيّة أو تساقطهما لا يبقى ما يثبت القدر المشترك ، أو ينفي الحكم الخارج عنهما ، كما في الأصلين المتعارضين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر ؛ حيث إنّه مع تساقطهما يجوز الرجوع إلى أصل آخر ، مثلا إذا تعارض أصلان موضوعيّان نطرحهما ونرجع إلى الأصل الحكمي ، وإن كان مخالفا لهما ، وإذا تعارض أصلان تعبديّان حكميّان نرجع إلى الأصل العقلي كذلك.

ودعوى أنّ كلّ واحد منهما وإن لم يكن مشمولا للدليل إلا أنّ المجموع معا بمنزلة خبر واحد بالنسبة إلى القدر المشترك.

مدفوعة بأنّ المجموع ليس فردا ثالثا للخبر ، وإذا كان أحدهما خبرا والآخر دليلا آخر فالأمر أظهر ؛ هذا ولو سلمنا عدم التساقط بالنسبة إلى القدر المشترك فلا نقول [به] بالنسبة إلى نفي الثالث ، إذ لا لسان لهما بالنسبة إليه أصلا ، بل هو لازم للأخذ بكل واحد منهما ، أو بهما ، والمفروض عدم الأخذ بشيء منهما.

وقد يقال : إنّ تساقطهما إنّما هو في مقدار المعارضة ، وهو المدلول المطابقي لكلّ منهما ، وبالنسبة إلى المدلول الالتزامي ـ وهو نفي الثالث ـ لا تعارض بينهما ، بل هما متعاضدان فيه.

ويوجّه ذلك بأنّ المخبر بالوجوب مثلا مخبر بأمرين ـ الوجوب وعدم الإباحة ـ وكذا المخبر بالحرمة ، ففي أحد الخبرين هما متعارضان دون الآخر ، ولا يضر التفكيك بين المدلول المطابقي والالتزامي ، لأنّ الممنوع منه ما إذا كان التفكيك

٢٠٤

بالنسبة إلى الوجود لا في مثل المقام ؛ حيث إنّ المدلول المطابقي موجود ولا يؤخذ به ، بل الالتزامي فقط ، وهذا لا مانع منه ، فالممنوع إنّما هو مثل ما قيل في بيان صحة بعض العقود الجائزة ؛ بأنّه يشمله عموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) الدال على وجوب الوفاء ؛ الذي لازمه الصحة ، وأنّه لا يحكم باللزوم من جهة الإجماع ، فإنّه تفكيك غير جائز ، إذ مع عدم إرادة الوجوب الذي هو مدلول مطابقي لا يمكن إرادة الالتزامي ، فإنّ المدلول المطابقي ـ على هذا التقدير ـ غير موجود ، وهذا بخلاف المقام ؛ حيث إنّه موجود ولا يؤخذ به ، فلا يلزم التفكيك الممنوع منه.

ويوجّه عدم نفي الثالث في الأصول بوجهين :

أحدهما : أنّه لا لسان لها بالالتزام ، بيان ذلك : إنّ شرب التتن في نفسه قابل للأحكام الخمسة ، وله في الواقع واحد منها ؛ فمع الجهل إذا قال الشارع ابن عملك على الاباحة فهو ليس في عرض الواقع ، حتى يكون نفيا لغيرها من الأحكام الأخر.

الثاني : أنّ الأصل المثبت ليس بحجّة ، وهذا اللسان الالتزامي من الأصل المثبت بخلاف الأمارات ؛ فإنّ إثباتها (٢) أيضا حجّة.

قلت : إن أراد أن المخبر بالوجوب أخبر حقيقة بشيئين ؛ ففيه :

أولا : أنّه لا يتم في جميع المقامات ؛ فكثيرا ما يكون اللازم المذكور من اللوازم البعيدة الغير المتبادرة من اللفظ ، بحيث يكون المخبر ملتفتا إليه ، ومخبرا به.

وثانيا : أنّ الإخبار به إنّما هو بتبعيّة الإخبار بملزومه ، ودائرة مداره ، ومع عدم الأخذ به لا يمكن الأخذ باللازم ؛ فالإخبار بالوجوب وإن كان إخبارا بنفي الإباحة إلا أنّه إنّما يؤخذ به إذا أخذ بالوجوب ، لأنّه لم يكن مستقلا في الإخبار به ، وإذا لم يشمله قوله صدّق العادل كيف يمكن الحكم به ، فهو نظير المفهوم التابع للمنطوق ، فإنّه إذا طرحنا الخبر بالنسبة إلى منطوقه من جهة وجود المعارض ، لا يبقى له مفهوم بعد ذلك ؛ لأنّه ليس مدلولا مستقلا ؛ بل تابع للمنطوق ، فمقام الاعتبار يرجع إلى مقام الوجود ، إذ مع عدم الأخذ بالخبر بمدلوله المطابقي لا يبقى الالتزامي ، ووجود

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) المقصود : المثبتات منها حجة.

٢٠٥

الخبر لا يكفي بعد عدم الحكم بكونه من كلام الإمام عليه‌السلام.

وبالجملة اللازم في المقام من قبيل اللازم للمخبر به ، لا أنّه لازم مخبر به مستقلا ، فالأخذ به فرع الأخذ بالمخبر به ، وفرق واضح بين أن يقول واحد منهما إنّه ليس بمباح بل واجب ، وقال الآخر ليس بمباح بل حرام ، وبين أن يقول أحدهما إنّه واجب ، والآخر إنّه حرام ، ففي الثاني لا يحكم بنفي الإباحة إلا بعد ثبوت أحد الحكمين ، وفي الأول يؤخذ بما اتفقا عليه دون ما اختلفا فيه (١) ، ولا يعدّ من التفكيك بين المطابقي والالتزامي ، هذا وعلى فرض صحة ما ذكره فلا فرق بين الأصول والأمارات ، إذ يرد على ما ذكر من الوجه الأول للفرق : أنّ الأصل العملي وإن لم يكن له لسان نفي بالنسبة إلى الواقع ، إلا أنّه يدل على نفي الحكم العملي المغاير له ، فلا بدّ من عدم الرجوع إلى أصل آخر عملي مخالف للأصلين ؛ فإذا توارد الوجوب والحرمة على شيء واحد ، ولم يعلم المتقدم منهما فالأصل بقاء كل منهما ويتعارضان ويرجع إلى أصل الإباحة ، لا مع العلم بأحد الحكمين ، ولازم ما ذكره من البيان في الدليلين عدم الرجوع إليه.

وتوضيح ما ذكرنا من أنّ الأصل العملي يدل على نفي حكم مغاير لمفاده : أنّه لولاه لم يكن الأصلان متعارضين ، فلو لم تدلّ أصالة بقاء الوجوب على عدم سائر الأحكام بحسب العمل ؛ لا تكون منافية لأصالة بقاء الحرمة مثلا ، وإن شئت صريح الحقّ أقول : لا فرق في تضاد الأحكام بين واقعيّاتها وظاهريّاتها ، فكما أنّ إثبات أحدها بحسب الواقع ينفي البقيّة ، فكذا إثباته بحسب الظاهر ، وهذا في غاية الوضوح.

ويرد على ما ذكر من الوجه الثاني :

أولا : أنّ نفي الثالث في الحقيقة ليس من اللوازم المنفكّة ؛ بل هو عين إثبات كل من الحكمين ، فلا يكون من الأصل المثبت (٢) ؛ وذلك لأنّ الوجوب الظاهري عين

__________________

(١) فما اتفقا عليه هو نفي الإباحة ؛ لأنّه مدلول مطابقي ، وما اختلفا فيه هو القول بالوجوب أو الحرمة.

(٢) لعل مراده من ادعاء العينيّة بين المدلولين هو تقريب أنّ اللزوم من الوسائط الخفيّة التي لا ـ يلتفت لها العرف فيكون الأصل المثبت بها حجّة ، ويظهر هذا من دعوى أنّ نفي الوجوب الظاهري عين إثبات الإباحة الظاهريّة ، وإلا لزم اثنينية كل حكم فتكون الأحكام عشرة لا خمسة ، فافهم!

٢٠٦

عدم الإباحة الظاهرية ، كما أنّ الوجوب الواقعي عين عدم الإباحة الواقعيّة ، وإن كانا مغايرين لهما بلحاظ آخر ، وإنّما يكون من الأصل المثبت إذا أريد من إثبات الوجوب الظاهري إثبات عدم الإباحة الواقعيّة ، أو إثبات عدم الإباحة الظاهرية بالنسبة إلى أثر آخر متفرّع على نفيها أو وجودها ـ إثباتا أو نفيا ـ وإلا فلا يعقل الحكم بالوجوب الظاهري مع عدم الحكم بعدم الإباحة الظاهريّة ، كيف؟ ولو لم يكن كذلك لزم جواز الرجوع في مقام العمل إلى أصلين مختلفين ، وليس كذلك قطعا.

وثانيا : قد يكون اللازم المشترك من الآثار الشرعيّة فلا يكون الحكم بثبوته من الأصل المثبت ، كما إذا كان هناك ماءان مستصحبا الطهارة ، وعلم إجمالا نجاسة أحدهما ؛ فإنّ لازم كلّ منهما جواز إزالة النجاسة به ، فلو غسل بهما نجس يقيني ، فعلى ما ذكره ينبغي الحكم بطهارته ، وإن كان الأصلان متعارضين في نفس الماءين ومتساقطين ، ولا يحكم بطهارة شيء منهما ، إذ طهارة المغسول أثر شرعي لكل منهما ، مع أنّ الظاهر عدم الحكم بها إلا إذا علم طهارة أحدهما واقعا ، فإنّه حينئذ يحكم بها من جهة العلم بغسله بماء طاهر واقعي.

ودعوى الالتزام بذلك مدفوعة من أنّ المتنجس المفروض لم يغسل بالطاهر الواقعي ؛ لفرض احتمال نجاسة كلّ منهما ، ولا بالطاهر الشرعي ، لعدم جريان الاستصحابين ، ولا أصل الطهارة لمعارضتها أيضا بالأصل من الطرف الآخر.

هذا ويمكن أن يقال في وجه شمول الدليل لكلّ منهما بلحاظ إثبات القدر المشترك ، أو في نفي الثالث بما ذكرنا سابقا في تعارض ظاهري القطعيّين : من إمكان شمول الدليل لكل واحد منهما بما هو مثبت للمدلول الالتزامي أو التضمني ، وإن لم يكن شاملا ـ بما هو مثبت ـ للمدلول المطابقي ، وبعبارة أخرى : يؤخذ بالمدلول المطابقي من حيث إثباته للمدلول الالتزامي والتضمني ؛ لا أنّه (١) يطرح المطابقي

__________________

(١) في النسخة كتبت هكذا : إلا أنّه بطرح .. ويؤخذ .. ؛ والمناسب للمطلب ما كتبناه في المتن.

٢٠٧

ويؤخذ بهما ليلزم التفكيك الممنوع ، فالأخذ بالمطابقي إنّما هو بمقدار إثباته لهما لا من حيث هو ، فالمخبر به الواحد يؤخذ به ، ويترك كلّ من جهة ، وذلك كما في جريان الأصل العملي في موضوع واحد بلحاظ دون آخر ، كما إذا خرج منه شيء لا يدري أنّه بول أو منيّ ، فإنّه يحكم بعدم خروج المني بلحاظ إثبات جواز الدخول في المسجد أو اللبث فيه (١) ، ولا يحكم به بلحاظ جواز الدخول في الصلاة ، لمكان معارضته من الحيثيّة الثانية بعدم خروج البول ، فهذا الموضوع الواحد محكوم بعدمه وغير محكوم ؛ كلّ بلحاظ.

وكذا في الإقرار بالزوجيّة من أحد الزوجين مع إنكار الآخر ؛ فإنّه تثبت الزوجيّة من طرف المقرّ ، ولا يحكم بثبوتها من الطرف الآخر (٢) .. وهكذا في سائر النظائر ، والفرق بين المقام وبين عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٣) بالنسبة إلى العقود الجائزة يظهر بالتأمّل.

هذا ؛ ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الوجه أيضا مشكل ، وذلك لأنّ التفكيك المذكور إنّما يعقل فيما إذا اختلفت الآثار والحيثيّات ، كما في الزوجيّة وخروج المني حتى يقال إنّه ثابت بلحاظ أثر دون الآخر ، وفي مثل المقام ليس كذلك ؛ فإنّ الوجوب المخبر به عين عدم الإباحة من جهة ، فلو حكم بعدمها ولم يحكم بثبوته ، يلزم الأخذ بالوجوب من الحيثيّة التي لم يؤخذ به (٤) ، فإنّ المفروض أنّ ذلك العدم إنّما يجيء من قبل الحكم بالوجوب ، فلا يمكن الحكم به مع عدم الحكم به ، وهذا بخلاف الزوجيّة ؛ فإنّها محكومة بها بلحاظ مغاير للحاظ عدم الحكم بها ؛ فتدبّر!.

والتحقيق : أن يقال ـ على فرض إمكان شمول الدليل لكلّ منهما على الوجه

__________________

(١) بنحو أنّه مع اشتراط شرائط في تحقق المني وشككت في تحقق بعضها فالأصل العدم ويترتب عليه عدم الحكم بكونه منيا ، أو يشك في جواز الدخول أو اللبث في المسجد مع الشك في كون الخارج منيّا فالأصل عدم خروج المني وبه يحكم بجواز الدخول حتى يثبت المانع عنه.

(٢) وهذا من غرائب الفقه مع موافقته لصنعته ؛ وعليه فلو ادعت الزوجة الزوجيّة وجب عليها التمكين ولم يجز لها الخروج من داره إلا بإذنه وكذا بالنسبة للولد ، لكن الزوج بلحاظ أنّه منكر للزوجيّة فلا يجوز له وطؤها ؛ لأنّها أجنبيّة بالنسبة له ، والمسألة مشكلة جدا.

(٣) المائدة : ١.

(٤) المقصود لزوم أخذ الوجوب من الحيثيّة غير الموجبة له.

٢٠٨

المذكور ـ : إنّ ذلك يحتاج إلى قرينة خارجيّة ولا يكفي مجرّد عمومات أدلّة الحجيّة ، فإنّه إذا فرض تعارض الخبرين وعدم إمكان العمل بهما بمفادهما ، لا يفهم العرف شمولها لهما على الوجه المذكور ، بل يحكمون بخروجهما بالمرّة ، فالحق جواز الرجوع إلى الأصل المخالف.

ويمكن دعوى الفرق بين المقام وما سبق من تعارض ظاهري القطعيين ؛ حيث قلنا إنّه بعد الإجمال لا يرجع إلى الأصل المخالف ، ولعلّ الفرق أنّ العرف يحكم هناك بالإجمال ، وأنّ أحد الظاهرين مراد ، ولا معيّن له ، وإن لم يمكن شمول دليل الحجيّة لهما ، ولا يحكمون بسقوطها بالمرّة ، بخلاف المقام ، حيث لا يمكن أن يقال أحدهما مراد من الدليل ، ولا أنّه صادق في الواقع ، والسرّ أنّ السندين إذا كانا قطعيين فالعرف لا يحكم بعدم إرادة الظاهر إلا في أحدهما ، وإن كان ذلك محتملا فيهما ؛ إذ لا داعي إلى الحكم بالتأويل فيهما ، والمفروض أنّ العمل بالظهور من باب بناء العقلاء ، وإذا لم يحكموا بطرح كلا الظهورين فيمكن نفي الثالث ، وأمّا فيما نحن فيه : فالمدار على شمول دليل التعبد ، وهو غير ممكن الشمول ، والمناط غير معلوم حتى يحكم بحجيّة أحدهما من جهة ، والمفروض عدم العلم بصدق أحدهما ، فلا وجه لنفي الثالث.

وإن أبيت عن الفرق فنقول بجواز الرجوع هناك أيضا إلى الأصل المخالف ، وإن قوّينا سابقا عدمه.

وكيف كان ؛ فقد ظهر من جميع ما مرّ أنّ الأصل في المتعارضين التساقط ؛ بأحد الوجهين ، والرجوع إلى الأصل كائنا ما كان دون التخيير العقلي ، لأنّه فرع شمول الدليل لكل منهما ، بحيث لو أمكن الجمع وجب ، أو العلم بالمناط ، ووجوده في كل منهما ، ودون التوقف ؛ لتوقفه على كون أحدهما حجّة في الواقع ، ودون الاحتياط لعدم الدليل عليه بعد عدم شمول الدليل ، مع أنّه على فرضه فاللازم التخيير كما عرفت ، ولا فرق في ذلك بين الأدلة على الأحكام والأمارات على الموضوعات ، نعم ؛ فيها يحتمل القرعة ، ولكن لا دليل عليها كليّة (١) ، وإن كانت جارية في بعض

__________________

(١) أي لا دليل على ثبوت حجيّة القرعة بنحو كلي وكبروي ؛ بل على ذلك في بعض الموارد.

٢٠٩

المقامات في تعيين نفس الواقع ؛ لا في تعيين الأمارة إذا علم انحصار الحق فيها ، ولو من باب عدم وجود مدّع ثالث ، فيكون من باب الدعوى بلا معارض بالنسبة إليهما كما أنّه يمكن الحكم بالجمع العملي في بعض صورها ، والمفروض أنّ مقتضى القاعدة من حيث الأمارتين التساقط ، غاية الأمر أنّ الأصل بعد التساقط يختلف بحسب المقامات ؛ من حيث تعيين حكم الواقعة ، هذا هو الكلام في تعارض الدليلين والأمارتين.

[تعارض الأصلين]

وأمّا تعارض الأصلين فإن جعلنا اعتبار الاصول من باب الظن ؛ فحالها حال الأدلة وإن جعلناها من باب التعبد فمقتضى القاعدة فيها أيضا التساقط دون التخيير والترجيح ، أمّا الأول فلأنّه فرع شمول الدليل لكل منهما ، وهو غير ممكن ، وأمّا الثاني فلأنّ المدار فيها على التعبّد لا الأقربيّة إلى الواقع ؛ فلا اعتبار فيها بالمرجّحات الموجبة للقوّة بالنسبة إلى مطابقة الواقع ، نعم لا بأس بالترجيح بتعاضد بعضها ببعض ـ إذا كان العنوان متعددا ـ إذا قلنا بذلك في الدليلين حسبما عرفت ، ثمّ إنّ الوجه في التساقط هو ما ذكرنا في تعارض الدليلين ؛ لكن هذا إذا كان التعارض بين الأصلين بالذات ، كما في توارد الحالتين من الحدث والطهارة ، والخبث والطهارة ، أو الوجوب والحرمة مع الجهل بالسابق ، بناء على جريان الاستصحابين ، فإن جعل كليهما موجب للتناقض كما في الدليلين ، وأمّا إذا كان التعارض بينهما بالعرض كما في الإنائين المشتبهين حيث إنّ تعارض الأصلين فيهما إنّما هو بواسطة العلم الإجمالي ؛ فلا يجري الوجه السابق من لزوم التناقض في جعل كلا الأصلين ، إذ من المعلوم عدمه.

وإن كان ربما يقال بلزوم التناقض بالنسبة إلى دليل الواقع ، حيث إنّ النجس المعلوم في البين واجب الاجتناب واقعا ، فيلزم من الترخيص في الطرفين عدم كونه واجب الاجتناب ؛ وهو تناقض ، لكنّك خبير بمنع اللزوم حتى في العلم التفصيلي ، إذ الحكم الظاهري لا ينافي بقاء الحكم الواقعي بناء على كونه عذرا ، كيف؟ وإلا لزم

٢١٠

التناقض في جميع الأصول حتى إذا لم تكن مقرونة بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ إطلاق الترخيص ينافي إطلاق الحرمة الواقعيّة حتى مع الجهل ، فالوجه في التساقط في هذا القسم وجود المانع من جريانهما ، وهو استلزامه لطرح التكليف المنجّز ؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجز التكليف ، فاللازم العمل بالاحتياط وطرح الأصلين ، وإن كان ميزان الجريان في كلّ منهما تماما ، ولذا نقول بجريانهما فيما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال واجب الامتثال فعلا.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكره المحقق الأنصاري في آخر باب الاستصحاب (١) من أنّ الوجه حصول الغاية والعلم بالانتقاض في أحد الطرفين ، إذ هو موجب لخروجهما عن مدلول لا تنقض لا وجه له ، إذ الواجب هو النقض باليقين بالخلاف ، وهو غير حاصل في شيء من الطرفين ، وإلا لزم عدم الفرق بين كون العلم منجزا للتكليف وعدمه ، مع أنّه قائل بالفرق بينهما ، وتمام الكلام في غير المقام ، ثمّ إنّ ذلك إذا لم يكن أحد الأصلين حاكما على الآخر ، وإلا فالحاكم هو الحجّة ، وللكلام (٢) في كيفيّة حكومة بعض الأصول على بعض مقام آخر ، والغرض الإشارة إجمالا إلى أنّ مقتضى القاعدة في الأصلين أيضا التساقط والرجوع إلى أصل آخر كائنا ما كان بمقتضى ما ينافي الدليلين.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣ / ٤٠٩ ـ ٤١٢.

(٢) في النسخة : والكلام.

٢١١
٢١٢

المقام الثاني

في

التّعادل

٢١٣
٢١٤

المقام الثاني

في التعادل (١)

وهو والترجيح قسمان من التعارض ؛ ولا ثالث لهما بحسب الواقع ، نعم قد يشك في كون الدليلين متعادلين أو متفاضلين ، ولكنّه أيضا ملحق بأحد القسمين ؛ إذ لو شك في ترجيح أحدهما المعيّن والتساوي (٢) فهو ملحق بالترجيح ؛ لأنّ المشكوك في كونه أرجح أرجح ـ بناء على الترجيح بمثل ذلك ـ وبناء على عدمه أو كون الشك في ترجيح كلّ منهما على الآخر والتساوي فهو ملحق بالتعادل ، إذ هما متعادلان في الظاهر ، فيجري فيهما حكم التعادل من التخيير ؛ هذا ويمكن أن يقال بجريان حكم التعادل مطلقا ؛ بناء على أصالة عدم ترجيح كلّ منهما على الآخر.

ودعوى أنّ هذا الأصل لا يثبت التساوي ؛ لأنّه أمر وجودي والأصل عدمه فلا يجري التخيير.

مدفوعة بمنع كونه وجوديا أولا ؛ على ما قيل من أنّه عبارة عن عدم زيادة أحد الشيئين على الآخر ، وثانيا : إنّ التخيير ليس معلّقا على عنوان التعادل والتساوي ، بل على عدم وجود المرجّح كما يظهر من ملاحظة أخبار الباب ، مع أنّ بعضها مطلق في التخيير بين المتعارضين ، غاية الأمر خروج صورة العلم بوجود المرجّح ، فعلم أنّ في الظاهر أيضا لا يخرج عن أحد الحكمين ، وأنّه لا واسطة بينهما في الظاهر أيضا ، أعني بحسب الحكم في مقام العمل.

هذا ولكنّ التحقيق عدم تماميّة شيء من الوجهين كليّا ؛ إذ الأول مبني على كون التعادل والترجيح منوطين بنظر المجتهد ، وأن لا يكون لهما واقع ، وليس كذلك (٣)

__________________

(١) من هنا تبدأ النسخة (د) ونشرع في المقابلة بينها وبين النسخة (ب) على النسخة المعتمدة.

(٢) في نسخة (د) : أو التساوي.

(٣) في نسخة (د) : وليس الحال كذلك.

٢١٥

في جميع المرجّحات ؛ إذ بعضها له واقعيّة كموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، فلا يتمّ الوجه المذكور كليّة ، والثاني مدفوع بأنّ أصل (١) العدم لا يجري إلا فيما كان له حالة سابقة عدميّة ، وليس جميع المرجّحات كذلك ؛ إذ مثل موافقة الكتاب لا يمكن أن يقال الأصل عدمه ؛ لأنّ الشك إنّما هو في كون الخبر صادرا موافقا أو مخالفا ، فلم يكن سابقا غير موافق ، حتى يقال الأصل بقاؤه على عدم الموافقة ، وأصالة (٢) عدم الصدور موافقا لا تثبت اتصاف الخبر بعدم الموافقة (٣) .. وهكذا في مخالفة العامّة فالمقام نظير الماء الموجود دفعة المشكوك في كونه كرّا أو قليلا ، فإنّه لا يمكن أن يقال الأصل عدم كرّيّته ، وأصالة عدم وجود الكر أو عدم وجود الكريّة لا تثبت الاتصاف ، فلا يجري عليه حكم غير الكرّ ، نعم إذا شكّ في تحقق الشهرة بالنسبة إلى أحد الخبرين يمكن إجراء أصالة عدمها ، فلا يتمّ هذا الوجه أيضا كليّة.

فمقتضى القاعدة فيما لا يتم فيه أحد الوجهين الحكم بالتوقف ، ونفي الثالث ، للعلم بأنّ الحكم غير خارج عن الخبرين ، هذا إذا احتمل ترجيح كلّ منهما والتساوي ، وإن كان الاحتمال خاصّا بأحدهما فالمتعيّن الأخذ به ، لأنّه من دوران الأمر بين التخيير والتعيين ؛ فتدبّر!.

وكيف كان ؛ فالتعادل (٤) عبارة عن عدم مزيّة لأحد الخبرين على الآخر ، بأن لا يكون هناك مرجّح في أحدهما ، أو كان لكلّ واحد منهما ـ ولو مع الاختلاف في النوع ـ وعلى هذا العنوان ، فإذا كان مع أحدهما مرجّح غير معتبر ، يكون ملحقا بالتعادل لا أنّه داخل فيه موضوعا ، والأولى أن يجعل العنوان عدم المزيّة المعتبرة لتكون الصورة المفروضة داخلة في موضوع التعادل.

ثمّ إنّه حكي عن العميدي أنّه قال (٥) : التعادل عبارة عن تساوي مدلولي الدليلين

__________________

(١) في نسخة (د) : الأصل.

(٢) في نسخة (د) هكذا : .. على عدم الموافقة أصالة عدم الصدور.

(٣) فإنّ استصحاب العدم الأزلي لا يثبت ما كان ثبوته بنحو العدم النعتي ، وبعبارة أخرى : إنّ إثبات مفاد كان التامّة لما كان بنحو مفاد كان الناقصة مثبت ، والمثبت ليس بحجّة.

(٤) في نسخة (ب) هكذا : فالمقام الأول في التعادل وهو ..

(٥) حكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٧٩.

٢١٦

في الاعتقاد ، ويمكن إرجاعه إلى ما ذكر بأن يكون المراد تساوي الدليلين في اعتقاد المجتهد ، بمعنى عدم المزيّة لأحدهما في نظره ، ويكون الاعتقاد طريقا إلى الواقع ؛ لا جزءا للموضوع ، ويكون التعبير بالتساوي الذي هو أمر وجودي مسامحة ، لكن بناء على كون المراد من (١) التساوي في اعتقاد المجتهد بمدلولهما ؛ بأن لا يكون الظن الحاصل من أحدهما أقوى من الآخر ـ مثلا ـ يخالف التعريف السابق بالعموم من وجه ، ويكون مخدوشا طردا أو عكسا ؛ إذ لو كان أحدهما مرجّحا لا يوجب الأقربيّة إلى الواقع كمخالفة العامّة ـ بناء على كون الترجيح بها من جهة مجرّد حسن المخالفة ـ مثلا يدخل في التعادل ، مع أنّه داخل (٢) في الترجيح ، ولو كان الظن الحاصل من أحدهما أقوى من الآخر ؛ لكن كانا متساويين في ملاك الحجيّة ، ولم يرجح بمطلق الظن يخرج عن التعادل ؛ مع أنّه داخل فيه.

هذا ؛ مع أنّه لا يعتبر في التعادل والتراجيح التساوي (٣) ، والعدم في المدلول ، بل المدار على الأقربيّة إلى الواقع ، وإن كانا في المدلول متساويين.

هذا ؛ وحكي عن بعض الأفاضل أنّه قال : إنّ تعريف العميدي أعمّ من السابق مطلقا ، وذلك لأنّه في كل مورد لم يكن مزيّة لأحدهما يصدق التساوي في الاعتقاد ، وفي بعض المقامات يصدق التساوي ولا يصدق عدم المزيّة ، كما إذا كان أحد الخبرين المتساويين في المدلول مطابقا لعموم أو أصل أو قاعدة ، فإنّه أرجح من الآخر ، مع أنّهما متساويان ، وكما إذا كان في أحد الخبرين عشرة من الاحتمالات (٤) وفي الآخر تسعة ، فإنّه أيضا يصدق التساوي مع أنّ قلّة احتمال خلاف الظاهر مرجّح.

قلت : مطابقة العموم والقاعدة موجبة لقوّة المدلول ؛ فلا يكونان (٥) متساويين في المدلول ؛ إلا أن يكون مراد العميدي التساوي في دلالة اللفظ ، مع قطع النظر عن

__________________

(١) لا توجد كلمة «من» في نسخة (ب).

(٢) المرجع هنا لهذه الأفعال وأشباهها هو «المرجّح».

(٣) في نسخة (د) : والتساوي.

(٤) في نسخة (د) : احتمالات.

(٥) في نسخة (ب) و (د) : فلا يكون.

٢١٧

شيء آخر ؛ وهو بعيد ، وكذا الكلام بالنسبة إلى قلّة الاحتمال وكثرته ؛ بل هما راجعان إلى الدلالة أيضا كما لا يخفى!.

ثمّ قال : إن جعلنا حكم الصورتين المفروضتين التخيير ؛ فالتعريف (١) وهو ما ذكره العميدي أحسن ، وإن جعلنا حكمهما الترجيح فالأول.

قلت : لا ينبغي التأمّل في الترجيح بالعموم والقاعدة الاجتهاديّة ، وقلّة الاحتمال ، نعم الأصل لا يكون مرجّحا كما سيأتي ، ثمّ إنّ الظاهر أنّ المدار في التعادل على عدم المزيّة والتساوي في الواقع ، واعتقاد المجتهد طريق إليه ؛ كما في سائر الأحكام والموارد ، فالتخيير في الأخبار معلّق على عدم المزيّة في الواقع ، وكذا الترجيح ؛ نعم بعض المرجّحات لا واقع له إلا اعتقاد المجتهد ، كمطلق الظن ـ بناء على الترجيح به ـ فلو كانا في ظنّه متساويين ، ثمّ حصل الظن (٢) على طبق أحدهما فينقلب الحكم الآن ؛ وكالترجيح بالأوثقيّة والأعدليّة ؛ فإنّ الرواية دلّت على أنّ المدار الأوثقيّة في نفسك ، إلا أن يقال إنّ المراد الواقع ؛ والتعبير بقوله في نفسك من جهة الطريقيّة.

هذا وربّما يحتمل أن يكون المدار على اعتقاد المجتهد ، ويمكن استظهاره من تعريف العميدي بناء على أحد الوجهين ، وتظهر الثمرة بين الموضوعيّة والطريقيّة في الإجزاء وعدمه ، بناء على (٣) الفرق بين الأمر الظاهري الشرعي والعذري ، فإنّه لو اعتقد التساوي مثلا ، ثمّ تبيّن الترجيح لأحدهما ، وقد عمل بالآخر ؛ فعلى الموضوعيّة يكون حكمه الظاهري في السابق التخيير ، وقد عمل على طبقه ، فتكون أعماله صحيحة ، وعلى الطريقيّة يكون التخيير عذرا ، فيجب عليه الإعادة والقضاء (٤) ، ويظهر أيضا في جواز استصحاب حكم التخيير لو اعتقد التساوي ، ثمّ

__________________

(١) بعده في نسخة (ب) و (د) : الثاني ...

(٢) في نسخة (د) : ظن.

(٣) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : في الإجزاء وعدمه بناء على عدمه على الفرق ...

(٤) وذلك لأنّ المراد من المعذريّة : المعذريّة المعلّقة على عدم انكشاف الواقع ، وإلا فمع الانكشاف يتبين أنّ ما رتب عليه الأثر سابقا لم يكن هو التكليف الواقعي في حقه فتجب الإعادة أو القضاء خارج الوقت فيما لو كان ممّا يقضى.

٢١٨

زال اعتقاده وشكّ في بقاء التخيير وعدمه ، من جهة الشك في كون الأمر الفلاني مرجّحا أو لا؟ أو معتبرا أو لا؟ فعلى الموضوعيّة يجري الاستصحاب ؛ لأنّه كان حكمه في السابق ، وعلى الطريقيّة يكون من الشك الساري (١).

وعن بعض الأفاضل أنّه قرّر هذا الثمر (٢) : بأنّه لو اعتقد التساوي (ثمّ زال اعتقاده قطعا أو ظنا أو شكا ، وشكّ في بقاء التخيير من جهة احتمال كون اعتقاد التساوي) (٣) علّة للتخيير ، ولو بعد وجدان المرجّح ؛ بأن يكون حدوثه كافيا في البقاء أيضا ؛ فعلى الموضوعيّة يجري ، وعلى الطريقيّة لا يجري.

وأنت خبير بأنّ هذا الاحتمال مقطوع العدم ؛ إذ ليس اعتقاد التساوي في زمان علّة للتخيير إلا ما دام موجودا ، وتنظيره بمسألة تقليد الحي (٤) إذا مات ، فإنّه يبقى الحكم ولو بعد الموت من حيث كون التقليد علّة لبقاء الحكم إلى الأبد ؛ لا وجه له ، لما عرفت من القطع بعدم هذا الاحتمال في المقام ، ألا ترى أنّ الظن المطلق ـ بناء على الترجيح به ـ قد ينقلب أو يوجد بعد عدمه ، ولا يكون له واقع غيره ، ومعه ينقلب الحكم ولا يبقى الحكم السابق من التخيير والترجيح وهذا واضح.

في إمكان التعادل ووقوعه

ثمّ إنّهم اختلفوا في إمكان التعادل ووقوعه بمعنى إمكانه عقلا وجوازه شرعا وعدمه ، والظاهر أنّ هذا هو المراد من الاختلاف في إمكان التعارض ووقوعه وعدمه ، إذ الظاهر أنّه لا إشكال في إمكان وقوع التعارض إذا كان أحد الدليلين أرجح من الآخر رجحانا يوجب تقديمه عليه ، فإنّ الحجّة حينئذ هو ذلك الراجح فقط ، ولا يرد الإشكال (٥) ؛ بل الإشكال في المتعادلين ، وفي صورة رجحان أحدهما إذا لم نقل بترجيحه وتقديمه بحيث يكونان سواء في الحجيّة.

__________________

(١) أي يكون من الشك الساري لليقين السابق والرافع لأثره ، بخلاف مورد جريان الاستصحاب والذي يكون الشك فيه من الشك الطارئ فيرفعه اليقين السابق بإبقاء المتيقن على ما كان عليه.

(٢) بدائع الأفكار (بتصرف) : ٤١٦.

(٣) ما بين القوسين ساقط من النسخة (د).

(٤) في نسخة (د) : المجتهد الحي.

(٥) في نسخة (ب) : إشكال.

٢١٩

وكيف كان ؛ فربّما تعنون المسألة ـ كما عن تمهيد القواعد (١) ـ بأنّه لا إشكال في إمكان التعادل ووقوعه في نظرنا ، وإنّما النزاع والإشكال في التعادل الواقعي ، وربّما تعنون بأنّه هل يمكن وقوعه شرعا أو لا؟ بعد عدم الإشكال في إمكانه عقلا ، كما عن العلامة في التهذيب (٢) ؛ قال : لا إشكال في جوازه عقلا ، وإنّما الإشكال في جوازه شرعا ، والظاهر أنّ مراده من الجواز العقلي هو الإمكان الذاتي ، ومن الجواز الشرعي هو الجواز بلا لزوم محذور من عبث أو قبح أو نحوهما.

وعن العميدي (٣) أنّه قال : إنّ المراد من الجواز العقلي الجواز في الأمارات العقليّة ، ومن الجواز الشرعي الجواز في المجعولات ، والظاهر من عبارة العلّامة ما ذكرنا ، وإن كان العميدي أعرف بمراده ، وعن بعض المتأخرين المنع من إمكانه عقلا أيضا.

وقال في الفصول (٤) : لا خلاف في إمكانه ووقوعه في الأمارات المثبتة للموضوعات ، وإنّما الخلاف في أدلّة الأحكام.

قلت : التحقيق أنّه لا إشكال في إمكانه ووقوعه في نظر المجتهد ، سواء في الأمارات أو الأدلّة (٥) ، وأمّا في الواقع بمعنى كون الأمارتين أو الدليلين سواء في الحجيّة ، بحيث كان الدليل متعارضا ؛ ففي غير المجعولات بمعنى الأمارات العقلائيّة لا إشكال ؛ إذ نرى بالوجدان تعارض الأمارتين اللّتين كل منهما حجّة من حيث هي ، بمعنى أنّها أمارة (٦) وإن كانت الحجّة الفعليّة عندهم أحدهما ، أو ليس شيئا منهما ، ولا فرق في ذلك بين أمارات الموضوعات وأدلّة الأحكام ، وأمّا في المجعولات : ففي إمكان جعل كلّ منهما حجّة إشكال ، بل التحقيق أنّه لا يمكن

__________________

(١) حكاه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٨٢ ، وراجع التمهيد : ٢٨٤.

(٢) المصدر السابق في الحكاية.

(٣) حكاه عنه الميرزا الرشتي في البدائع : ٤١٦ ، قال : .. فجعل محل الوفاق الأمارات العقليّة كالبرق المتواتر في الصيف ، ومحل الخلاف الأمارات الشرعيّة.

(٤) لم نعثر عليه في محله من الكتاب.

(٥) في النسخ (ب) و (د) : .. والأدلة.

(٦) بعدها في نسخة (ب) و (د) : كاشفة عن الواقع.

٢٢٠