كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

الوجوب العيني ، وإلا فالمفروض للوجوب كلّ واحد منهما ، فقولنا «لا على التعيين» قيد للحجيّة ، لا لمعروضها ، وإن شئت فقل وجوب العمل بها تخييرا لاحق لكل منها ، غاية الأمر أنّ التخيير في المقام ظاهري عقلي.

وأمّا الاحتياط فالمراد به الاحتياط في المسألة بعد فرض دوران الأمر بين مؤدّى الخبرين ، ونفى الاحتمال الثالث ، فإن كان مفاد أحدهما الاستحباب والآخر الوجوب يحكم بوجوب الاتيان به ، وإن احتمل الحرمة أيضا فلا يجعل من دوران الأمر بين المحذورين ، وليس المراد الاحتياط في المسألة بعد إلغاء الخبرين بالمرّة ، الذي لازمه عدم الجريان في الفرض المذكور ؛ لعدم إمكانه ، والحكم بالوجوب إذا احتمل وكان خارجا عن الخبرين ، بأن كان أحدهما دالا على الاستحباب والآخر على الكراهة أو الاباحة ، وقد تخيل أنّ المراد منه الأخذ بالخبر الموافق للاحتياط ؛ بدعوى أنّ ما ذكرنا في الحقيقة تساقط ، وأنت خبير بأنّ ذلك ترجيح بالاحتياط ، لا رجوع إليه ، وأنّ ما ذكرنا لا يرجع إلى التساقط إلا إذا قلنا بالاحتياط وإن كان خارجا عن الخبرين ، وقد قلنا بنفي الثالث ، والاحتياط بالنسبة إلى مفاد الخبرين.

وأمّا التوقف فهو عبارة عن الوقوف عن تعيين أحدهما للحجيّة بعد فرض أنّ الحجّة غير خارجة عنهما ، ولذا لا يرجع إلى الأصل المخالف ، فهو موقوف على فرض شمول الدليل لأحدهما أو كليهما ، وإلّا فمع عدم شموله لواحد منها يرجع إلى التساقط.

وأمّا التساقط فهو أن يحكم بسقوطها عن الاعتبار بعد فرض شمول الدليل بعمومه لكل منهما : بدعوى أنّ لازم الشمول عدم الشمول لإسقاط كلّ منهما الآخر ، بمعنى أنّ الدليل من حيث هو غير قاصر من جهة الانصراف أو نحوه ، بل عدم الشمول إنّما هو من باب عدم إمكان كونهما حجّة معا ، نظير تساقط عقدي الوكيلين مع اتحاد المتعلّق ، واختلاف المشتري في آن واحد ، وقد يطلق التساقط على ما فرض عدم شمول الدليل له من حيث هو أيضا ، لكنّه ليس تساقطا حقيقة كما لا يخفى!

فإن قلنا بعدم شمول الأدلة صورة المعارضة من جهة الانصراف ، أو كونها لبيّة

١٨١

يحسن إطلاق التساقط.

هذا ؛ ولازم التساقط جواز الرجوع إلى الأصل المخالف أيضا إذا فرض عدم العلم بصدق أحد الخبرين.

الثالث : [هل أنّ أدلة الحجيّة شاملة لكلا المتعارضين أم لا؟]

إذا قلنا بعدم إمكان التعارض عقلا أو شرعا ، وأنّه لا يجوز نصب الحجّتين المتعارضتين ؛ لاستلزامه التناقض ـ حسبما عرفت ـ فلا إشكال في عدم شمول عمومات أدلّة الحجيّة لكلا المتعارضين ، وأمّا إذا قلنا بإمكانه عقلا وشرعا ، فهل الأدلّة الدالة على اعتبار الأدلة شاملة لهما ، أو لأحدهما ، مع قطع النظر عن الأخبار العلاجيّة وغيرها أم لا؟ قد يقال بعدم الشمول ؛ أمّا إذا كان لبّيا كالإجماع ونحوه فلعدم العموم ، وأمّا إذا كان لفظيّا عاما فلأنّ ظاهره الوجوب العيني ، وهو غير ممكن مع فرض المعارضة ، والفرد لا بعينه ليس فردا ، والتخيير خلاف ظاهر الدليل ، مع أنّه مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين ، حيث إنّ وجوب العمل في غير مورد المعارضة عيني.

وفيه :

أولا : أنّه لا فرق بين اللفظي واللبّي ، إذ في اللبّي أيضا يمكن أنّ معقد الإجماع حجيّة كل خبر لا دليل على عدم حجيّته ، ولا مانع منه شرعا ، والظاهر أنّ الإجماع المنعقد على حجيّة أخبار الآحاد كذلك ، كما لا يخفى!

وثانيا : أنّه لا مانع من إبقاء العموم على حاله من الوجوب العيني ، والحكم بالتخيير في مقام العمل ، من باب حكم العقل ، إذ ذلك لا يستلزم التصرف في خطاب الشارع ، وذلك لأنّ التنجز ليس إلا بحكم العقل ، وليس الخطاب مستعملا فيه حتى يكون حكم العقل بعدمه ؛ إلا في أحدهما لا بعينه ، مستلزما لصرفه عن ظاهره ، ففي مثل قوله أنقذ الغريق مفاده ليس إلا إيجاب إنقاذ كلّ غريق عينا ، فإن لم يكن مانع من تنجزه بأن لم يكن المكلّف جاهلا ولا عاجزا ، يحكم العقل بكونه منجزا ، وإلا فهو باق على وجوبه ، إلا أنّه غير منجّز ، وإذا فرض المانع من أحدهما لا بعينه يحكم بعدم التنجز إلا في واحد لا بعينه ، فبعد حكم الشرع بوجوب كلّ منهما

١٨٢

عينا يحكم العقل بالتخيير ؛ من دون استلزام تصرف ، ألا ترى أنّ الخطابات الواقعيّة غير منجّزة في حق الجاهل بحكم العقل ، ومع ذلك فهي باقية على حالها ، ولا تصرف فيها.

والحاصل : أنّا نختار أنّ الدليل شامل لكلّ منهما ؛ بوجوبه العيني ، إلا أنّ الحكم الفعلي ليس إلا التخيير بحكم العقل.

ويمكن أن يقال في تقريب عدم شمول الأدلّة للمتعارضين : أنّ في صورة التعارض تعلم بكذب أحد الخبرين ، بمعنى عدم مطابقة مضمونه للواقع ، إمّا لكذب الراوي ، أو لإرادة خلاف ظاهره ، أو لصدوره تقيّة ، أو نحو ذلك ، ولا يجب العمل بمقتضاه في الواقع ، فيكون نظير العام المخصّص بالمجمل في سقوطه عن الاعتبار بالنسبة إلى أطراف الإجمال ، وإذا لم يكن الخبر الكاذب معلوما عندنا ؛ بل ولا عند الشارع ؛ لاحتمال كذب كليهما ، فلا تشملهما أدلّة الاعتبار ، لا لأنّ الحجّة خصوص الصادر الواقعي ، حتى يقال إنّ الملاك في الحجيّة وجود الشرائط لا مطابقة الواقع ، بل للعلم الإجمالي المانع من التمسك بالعموم ، بعد العلم بعدم وجوب العمل واقعا بما كان مخالفا له ، فالمقام نظير الأصل العملي ، فإنّه إذا علم بمخالفة الواقع في أحد الأصلين يسقطان عن الحجيّة.

فإنّ ملاك الحجيّة ـ وهو الشك ـ وإن كان موجودا فيهما ، إلا أنّ العلم بمخالفة الواقع في أحدهما يمنع عن ذلك.

وفيه :

أولا : أنّ لازم ذلك سقوط الخبرين أو الأخبار عن الحجيّة إذا كان عالما بكون أحدهما مخالفا للواقع ، وإن لم تكن متعارضة ، فإذا علم في طائفة من الأخبار المتفرقة في الموارد أنّ واحدا منها مخالف للواقع ، فاللازم على ما ذكر عدم جواز العمل بشيء منها ، مع أنّهم لا يلتزمون بذلك فتأمّل.

وثانيا : نمنع عدم وجوب العمل بما كان مخالفا للواقع في الواقع ، إذ لازمه قصر وجوب العمل في الواقع على الأخبار الصادرة ، وعدم حجيّة غيرها ، مع أنّ الحجيّة ليست دائرة مدار المطابقة ، بل الخبر الكاذب الواقعي أيضا حجّة إذا كان جامعا

١٨٣

للشرائط ، إذ واقع الحجيّة ليس إلا ما وجب العمل عليه في الظاهر ، وعدم الوجوب الواقعي بالنسبة إلى الحكم الفرعي الذي هو مؤدّى الخبر لا ينافي الحجية الفعليّة ، والمعلوم عدم حجيّة ما علم كذبه بخصوصه ، فالعلم الإجمالي إنّما ينافي العمل بالظاهر إذا كان هناك واقع وراء مؤداه ، ومع قطع النظر عنه ، وهذا إنّما يتم بالنسبة إلى العمومات المثبتة للأحكام الواقعيّة ؛ فمثل (١) قوله أكرم العلماء إذا علم بعدم وجوب إكرام واحد منهم في الواقع ، فإنّه يوجب الإجمال إذا لم يكن معيّنا ، لأنّ العموم إنّما يثبت الحكم الواقعي ، والمفروض العلم بخلافه في بعض الأفراد ، فبالنسبة إلى ذلك البعض لا وجوب في الواقع ، وهذا بخلاف العموم المثبت للحجيّة ، فإنّه ليس للحجيّة واقع وراء واجديّة الشرائط ، والمفروض تحققها بالنسبة إليهما ، فلا موقع لإيراد العلم الإجمالي بالكذب في المقام (٢).

وبالجملة ما ذكر إنّما يتم إذا كان الخبر الكاذب الواقعي غير واجب العمل في الواقع ، وإن لم يعلم كذبه بوجه من الوجوه ، مع أنّه ليس كذلك ؛ نعم العمل بمؤداه بما هو حكم واقعي غير لازم ، وهذا غير عدم وجوب العمل به بما هو حجّة ، فحجيّة الأمارات نظير حجية الأصول ، ومن المعلوم عدم خروجها عنها بمجرّد العلم الإجمالي ، بل لا بدّ من كونه منجزا للتكليف الذي يلزم من العمل بالأصلين طرحه ، وفي المقام أيضا نلتزم بذلك ، إذ لو فرض لزوم مخالفة قطعيّة عمليّة من العمل بالخبرين نحكم بعدم حجيّتهما وخروجهما عن دليل الاعتبار ، كما إذا دلّ خبر على عدم وجوب الجهر بالبسملة مثلا ، وآخر على عدم وجوب الاستعاذة قبل الفاتحة ، وعلمنا بوجوب أحدهما ، فكلّ منهما وإن كان جامعا لشرائط الحجيّة إلا أنّ هذا العلم الاجمالي المنجّز للتكليف مانع عن حجيّتهما فعلا ، فمجرّد العلم بمخالفة أحدهما للواقع لا يضرّ في الحجيّة (٣).

__________________

(١) في النسخ المعتمدة هكذا : مثل ...

(٢) كتب في النسخ هكذا : فلا موقع لإيراث العلم بالكذب الإجمالي .. ؛ وما كتبناه في المتن قد كتب في هامش النسخة.

(٣) وخلاصة المطلب أنّ الحجيّة لما هو المعلوم فعلا وليس لما هو في لوح الواقع ، فإنّ الحجّة ـ الموجودة بنحو ما يعبر عنه بأنّه مرتسم في لوح الواقع عند الله لا طريق للعلم به ، وعليه فالعلم الإجمالي بأنّ أحدهما غير المعيّن مخالف للواقع ليس بذي أثر.

١٨٤

وثالثا : لو سلّمنا أنّ المقام من قبيل العام المخصّص بالمجمل ، وأنّ دليل الحجيّة نظير أدلة الأحكام الواقعيّة ، نمنع الإجمال فيما إذا كان المخصص منفصلا ، بل القدر المسلّم من ذلك ما إذا كان متصلا ، حيث إنّه يسقط حينئذ ظهور العام ، وأمّا المخصّص المنفصل ، فلا يوجب سقوط ظهور العام من حيث هو ، وحينئذ فإن كان مفاد المخصص تكليف إلزامي يلزم طرحه من العمل بالعموم في جميع الأفراد لا يعمل بالعموم كما في الأصول العمليّة ، وإلا فيعمل بالعموم ، فإذا قال لا يجب إكرام العلماء ، وورد أكرم زيدا ، وكان مردّدا بين شخصين ، لا نعمل بالعموم ؛ لأنّه مستلزم لطرح تكليف إلزامي منجز ، وأمّا إذا قال أكرم العلماء وورد لا يجب إكرام زيد يعمل بالعموم ، ويحكم بوجوب إكرام كلّ منهما بمقتضى العموم ، ولذا لو كان المجمل الوارد مرددا بين التخصيص وعدمه ، كما إذا كان زيد مشتركا بين الجاهل والعالم لا يحكم بإجمال العام ، بل قد يقال إنّ ظهور العام رافع لإجماله ، ويكون دليلا على أنّ المراد منه زيد الجاهل ؛ هذا.

وعلى فرض تسليم حدوث الإجمال في العموم بالمخصّص المنفصل المجمل فإنّما (١) يسلم ذلك فيما إذا كان خطابا مجملا لا مجرّد العلم بعدم ثبوت حكم العام بالنسبة إلى جميع الأفراد ، ففرق بين قوله لا تكرم زيدا بعد قوله أكرم العلماء ، وبين العلم الإجمالي بخروج أحد الشخصين أو الأشخاص عن العموم من دون ورود خطاب مجمل ، ففي الثاني يعمل بالعموم إذا لم يستلزم طرح التكليف المنجز ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وممّا يؤيد ما ذكرنا من عدم الإجمال بمجرّد العلم الإجمالي من دون ورود خطاب أنّه لا فرق في كون ذلك بالنسبة إلى عموم واحد أو أحد العمومات ؛ مع أنّ هذا العلم حاصل بالنسبة إلى مجموع العمومات الواردة في الشريعة ، أو جملة منها ، ولا يتوقف أحد في العمل بها بمجرّد ذلك.

ويمكن أن يقال إنّ اعتبار ظواهر العمومات إذا كان من باب بناء العقلاء فهم

__________________

(١) في النسخة : إنّما.

١٨٥

متوقفون في صورة العلم الإجمالي بالخلاف ؛ أعمّ من أن يكون لورود خطاب مجمل أو لا ، ولكن يشكل بما ذكرنا : من أنّ اللازم عدم التمسّك في الصورة التي فرضنا ، ولا يمكن الالتزام ؛ إلا أن يفرق بين قلّة الأطراف وكثرتها ، وكون ذلك في العام الواحد والعمومات المتعددة ، وهو كما ترى!.

والتحقيق جواز التمسّك بها خصوصا في صورة العلم الغير المستند إلى خطاب مجمل ؛ هذا.

ولا يخفى أنّا لو قلنا بعدم جواز التمسّك بالعمومات في المقام من جهة توقف العقلاء فلا نقول بذلك في مقامنا ، إذ هو خاص ، بما كان الحكم الواقعي ثابتا في حدّ نفسه ـ كما ذكرنا ـ لا مثل عمومات دليل الحجيّة ، ولذا لا يقال بالتوقف في عمومات أدلّة الأصول مع العلم الإجمالي بخلافها ، إلا أن يكون منجزا للتكليف ، والسرّ أنه لا تضر مخالفة الواقع في الواقع في جعلها حسبما عرفت ، فالعلم الحاصل بالخلاف ليس علما بعدم ثبوت هذا الحكم الظاهري في بعض الأطراف حتى يكون مانعا عن شمول العموم.

فما قد يتخيّل من عدم الشمول من جهة أنّ المدرك في العمل بالعمومات بناء العقلاء ، وهم لا يعملون مع العلم الاجمالي بالخلاف ، لا وجه له ، إذ على فرض تسليمه إنّما يقدح في عمومات أدلّة التكاليف لا عمومات أدلّة الحجيّة ، والفرض أنّ هذا الإشكال ـ على فرض تماميته ـ إنّما يقدح في الجواب الثالث لا الثاني.

فالحق أنّه لا مانع من شمول العمومات في المقام ، إلا على ما ذكرنا سابقا من عدم إمكان نصب الحجّتين المتعارضتين ، لاستلزامه التناقض ؛ خصوصا بناء على الطريقيّة ، ومع الإغماض عن ذلك لا مانع ، وحيث عرفت سابقا أنّ الحق عدم الإمكان ، فالحق عدم الشمول ، لكنّ هذا إذا قلنا إنّ معنى الحجيّة إيجاب العمل بالمؤدى.

وأمّا إذا قلنا إنّ معناها جعل الشيء مثبتا للواقع ؛ حسبما يأتي بيانه ، فلا مانع من الشمول ، إذ يمكن أن يجعل طبيعة الخبر مثلا مثبتا للواقع ، ونازلا منزلة العلم ، وإذا تعارض فردان منها فكما لو تعارضت بعض الأسباب العقليّة مع بعض ، ولازمه

١٨٦

التساقط في مقام العمل كما سيأتي ، والسرّ في الفرق بين الوجهين أنّه بناء على جعل المؤدى يكون التناقض في نفس المجعول ، وعلى فرض جعل الحكم الوضعي وهو المثبتيّة لا يكون التناقض في المجعول ، إذ هو ليس إلا جعل طبيعة الخبر كاشفا عن الواقع ، وإثبات صفة الكاشفيّة لها ، نعم لازمه عدم إمكان العمل في صورة التعارض ألا ترى أنّ مع تعارض الأسباب العقليّة لا يخرج عن السببيّة ، بمعنى الاقتضاء ، وإن لم تكن مؤثرة فعلا ؛ للتمانع ، ففي المقام أيضا الشارع جعل الخبر بمنزلة السبب العقلي في إراءة الواقع ، نظير كون العقد سببا للملكيّة أو الزوجيّة ، وهذه السببيّة والاقتضاء موجودة في كلّ من المتعارضين ، فيسقط كلّ منهما الآخر فعلا ، وفي التأثير الفعلي فتدبر!.

فإن قلت : بناء على جعل المؤدى أيضا يمكن أن يجعل طبيعة الخبر واجب العمل.

قلت : إيجاب العمل بالمؤدى في طبيعة الخبر يرجع إلى جعل كل واحد من المؤدّيات ، وإلا فلا يمكن إبقاء القضيّة طبيعيّة ، نعم لو جعل المراد من الوجوب الوجوب الشأني ارتفع التناقض ؛ لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة ، إذ يصير حينئذ معنى قوله صدّق العادل أنّ مؤدّاه له شأنيّة كونه واجبا أو حراما أو غير ذلك ، وإن لم يكن بالفعل كذلك من جهة المانع ، الذي هو التعارض أو غيره ، ومن المعلوم أنّه خلاف الظاهر.

هذا ؛ ويمكن الحكم بشمول الأدلة لكل من المتعارضين ؛ بحملها على إيجاب العمل أعمّ من العيني والتخييري ، بإرادة القدر المشترك ، وإيكال التعيين إلى الخارج ، ففي غير صورة التعارض المراد الوجوب التعييني ، وفي صورة التعارض الوجوب التخييري ، لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة أيضا ، وقد يتخيل إمكان الشمول مع إرادة الوجوب التعييني أيضا ، بعد الاعتراف بعدم إمكان جعل كل من المتعارضين حجّة بجعل الإيجاب كذلك ؛ توطئة لإفادة الوجوب التخييري في صورة التعارض ، بتقريب : أنّ الشارع الحكيم إذا كلّف بالعمل بكلّ خبر عينا حتى المتعارضين يستكشف العقل من ذلك أنّ ذلك للتنبيه على أنّ كلّ واحد منهما مشتمل على

١٨٧

المصلحة المقتضية للجعل وللوجوب التعييني ، وإن لم تبق تلك المصلحة في صورة المعارضة ، وكان اللازم الأخذ بأحدهما بلا عنوان ، أو تخييرا.

وفيه : أنّ التخيير فرع إمكان تعميم الخطاب وإرادة الوجوب التعييني حقيقة حتى يحكم العقل ـ بعد العجز عن الامتثال ـ بالعمل بقدر الإمكان ، والمفروض عدم إمكان ذلك ، والحمل على إرادة التوطئة ـ مع أنّه خلاف الظاهر ، ومحتاج إلى القرينة ، ولا يكفيه مجرّد العموم الظاهر في العيني الغير الممكن إرادته ـ إنّما يصح إذا كان الأمر كذلك في غير صورة المعارضة أيضا ، وإلا لزم الاستعمال في أكثر من معنى (١) ، حيث إنّ المراد من الإيجاب في غير صورة المعارضة الإيجاب الحقيقي ، وفي صورة المعارضة الإيجاب التوطؤ المجازي.

فتحصل أنّه لو قلنا بإمكان جعل المتعارضين فالأدلّة شاملة لكل من المتعارضين بظاهرها من الوجوب التعييني على فرض جعل المؤدى ، أو المرآتية والكاشفيّة التعيينيّة على فرض كون المجعول هو الحكم الوضعي ، واللازم على الأول الحكم بالتخيير عقلا ، وعلى الثاني التساقط ، ولو قلنا بعدم الإمكان كما هو المختار على فرض كون المجعول مؤدّيات الأخبار ، فلا يمكن شمولها لهما ؛ لا عينا لعدم الإمكان ولا تخييرا لكونه خلاف ظاهرها ، ولا بإرادة القدر المشترك لذلك أيضا.

الرابع : [هل أنّ اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة أو الموضوعيّة؟]

في أنّ الأخبار معتبرة من باب الطريقيّة أو الموضوعيّة والسببيّة؟ ولا بدّ أولا من تصويرهما فنقول : أمّا الطريقيّة فهي عبارة عن كون اعتبار الخبر من جهة كونه موصلا إلى الواقع ، وهو متصور على وجهين ؛ لأنّه إمّا أن لا تكون هناك مصلحة إلا في الجعل ، ولو كانت مصلحة التسهيل على العباد ، وكانت المصلحة في الواقع ، ولو خالف الواقع يفوت بلا شيء ، أو يتداركه الشارع من الخارج تفضلا ؛ إذا كان الجعل في حال الانفتاح ، وإمّا أن تكون المصلحة في تطبيق العمل على الطريق ؛ على فرض المخالفة ، لا في المؤدى.

وأمّا الموضوعيّة فيمكن تصويرها بوجوه :

__________________

(١) كتبت في النسخ المعتمدة هكذا «معنيين» ؛ والظاهر أنّه اشتباه ، أو المراد معيّنين.

١٨٨

أحدها : أن يقال إنّ تصديق العادل بما هو تصديقه موضوع من الموضوعات وفيه المصلحة ، وهو الواجب من غير نظر إلى مؤداه.

الثاني : أن يقال إنّ مؤداه موضوع من الموضوعات المشتملة على المصلحة كائنا ما كان ، والفرق بينهما واضح ، إذ المجعول على الأول نفس التصديق ، وعلى الثاني مؤدّيات الأخبار ، ويظهر الثمر فيما لو أخبر عشرة بحكم واحد ، فعلى الأول إذا أتى به يكون ممتثلا لعشر واجبات ، وعلى الثاني لواجب واحد ، وعلى التقديرين : إمّا أن يكون الواقع أيضا بحاله أو لا؟

الثالث : أن يقال بثبوت الواقع في الواقع ، وأنّ مؤدى الخبر ـ على فرض المخالفة ـ بدل عنه ، ومشتمل على مصلحة ، فيكون كأنّه في اللبّ مخير بين إدراك مصلحة الواقع أو مصلحة هذا البدل ، فالواقع في هذه الصورة منظور بخلاف الصورتين السابقتين.

الرابع : أن يقال بكون مؤدّى الخبر حكما تعبديا في مرحلة الظاهر ، من غير نظر إلى كشفه عن الواقع ، مع ثبوته في الواقع ، نظير الأصول التعبديّة ، وهذا هو الذي يمكن تعقّله بناء على ما هو الحق من التخطئة ، إذ الوجوه المتقدمة كلّها راجعة إلى التصويب الباطل ؛ مع أنّ الأولين على أحد الوجهين مستلزمان للتناقض ، فالقول بالموضوعيّة في المقام ، نظير ما يقال إنّ البينة معتبرة من باب التعبديّة ، لا الظن ؛ فإنّه ليس المراد أنّ مؤداها حكم واقعي وفيه مصلحة من حيث إنّها موضوع من الموضوعات ، فما يظهر من بعضهم من جعل الموضوعيّة على غير الوجه الأخير وترتيب الآثار عليها ، على أحد الوجوه الثلاثة الأول ، لا وجه له ؛ بعد كون بطلان التصويب ضروريا من مذهب الشيعة ، فلا معنى للترديد بين الطريقيّة والموضوعيّة على هذه الوجوه.

فحاصل الكلام أنّ الأخبار هل هي معتبرة من حيث كشفها عن الواقع أو تعبد لا بلحاظ الكاشفيّة؟ والحق هو الأول لوجهين :

أحدهما : أنّ ظواهر أدلّة حجيتها ذلك ، فإنّ آية النبأ بملاحظة تعليلها بعدم الإصابة بالجهالة والوقوع في الندم ظاهرة كمال الظهور في كون خبر العادل معتبرا من حيث

١٨٩

كشفه ، وكذا قوله خذ بقول فلان لأنه ثقة ، وقوله : «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني .. إلى غير ذلك ، مثل الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى الأعدل والأصدق ونحوهما.

الثاني : أنّ مقتضى الأصل فيما شكّ كونه معتبرا من باب التعبّد أو الطريقيّة هو الثاني إذا كان كاشفا عن الواقع نوعا ؛ خصوصا إذا كان معتبرا في طريقة العقلاء وأمضاه الشارع ، وذلك لأنّ الظاهر أنّ الشارع اعتبره من حيث كشفه.

فإن قلت : هذا الظهور مسلّم إلا أنّه لا يرجع إلى اللفظ ، فلا دليل على اعتباره.

قلت : يمكن إرجاعه إلى الظهور اللفظي ؛ بدعوى : أنّ العرف يفهم من دليل اعتباره اعتباره على هذا الوجه ، ومن هذه الحيثيّة.

وقد يقال : إنّ مقتضى الأصل الطريقيّة لا لما ذكر ، بل لأنّ الموضوعيّة تحتاج إلى لحاظ زائد ، وهو لحاظ البدليّة عن الواقع ، والأصل عدمه.

وفيه : ما ترى فإنّ الجعلين متباينان ، وليسا من الأقلّ والأكثر ، بل يمكن دعوى أولويّة العكس ؛ لأنّ التعبديّة يكفيها مجرد الأمر بالعمل ، والطريقيّة تحتاج إلى لحاظ زائد وهو لحاظ الإيصال ، ولحاظ البدليّة غير لازم على التعبديّة ؛ إذ هي قهريّة مع أنّ أصل البدليّة ممنوعة.

ودعوى أنّ فرض الكلام إنّما هو فيما يكون كاشفا فمجرّد الاعتبار يقتضي الطريقيّة مدفوعة بأنّ الكاشفيّة الموجودة غير كافية ، فمجرد الاعتبار لا يقتضي إلا ما ذكرنا من التعبديّة.

والتحقيق ما عرفت من أنّهما متباينان ؛ فلا يتم الأصل إلا بالوجه الذي ذكرنا ، وممّا ذكرنا ظهر أنّ الحقّ كون البيّنة واليد والسوق ونحوها معتبرة من باب الطريقيّة.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن أن نفرق بين السببيّة والموضوعيّة أيضا بأن يراد من الأولى كون الخبر موجبا ومقتضيا لوجوب العمل بمؤداه مثلا ، ومن الثانية كونه موضوعا له لا سببا ومقتضيا ؛ فتدبّر!.

الخامس : [اشتباه اللاحجّة بالحجّة]

إذا اشتبه الحجّة واللاحجّة ـ سواء كانا متعارضين أو لا ـ فهل تبطل حجيّة الحجّة

١٩٠

أيضا بمعنى أنّ الحجّة هو خبر العدل المعلوم ؛ فيجوز الرجوع إلى حكم مخالف لهما أو لا؟ وعلى الثاني فهل يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة التعبديّة ؛ لأنّ مدارها على عدم الحجيّة المعلومة أو لا؟ بل الحجة الغير المعلومة أيضا دليل اجتهادي بالنسبة إليها ، وعلى فرض عدم جريانها : فهل مقتضى القاعدة التخيير بالأخذ بأحدهما لا على التعيين في صورة المعارضة أو لا؟ بل مقتضى القاعدة الاحتياط مع إمكانه ، وإلا فالتخيير.

الحقّ في المقام الأول : أنّ مجرّد الاشتباه لا يخرج الحجّة عن الحجيّة ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصل المخالف لهما ، وإن لم يعلم صدق أحدهما ، ودعوى أنّه يلزم أن يكون للحكم الظاهري أيضا واقعيّة مدفوعة بمنع بطلانه.

والحقّ في المقام الثاني : أنّه يجوز الرجوع إلى الأصل العملي المطابق لأحدهما ، لأنّ وجود الحجّة المشتبهة لا يكفي في عدم جريانه ، فيكون كما لو فرض العلم بعدم الاحتمال الثالث ، ودوران الأمر بين مؤدّى الخبرين ، فالحجّة المشتبهة بمنزلة القطع في نفي الاحتمال الثالث ؛ ويجري الأصل في تعيين الاحتمالين.

والحقّ في المقام الثالث : ـ على فرض الإغماض عمّا اخترنا في الثاني ـ التخيير لا الاحتياط ، وإن كان أحد الخبرين دالا على الوجوب أو الحرمة ، والآخر على الإباحة ؛ لجريان حكم العقل بالبراءة.

ودعوى أنّه إذا فرض عدم جريان الأصل العملي فلا رافع لاحتمال الوجوب أو الحرمة ، فلا بدّ من الاحتياط بحكم العقل ؛ لسدّ الاحتمال المذكور ؛ مدفوعة بمنع حكم العقل بذلك ، بل هو حاكم بالبراءة وإن لم يجر الأصل التعبدي من الاستصحاب أو البراءة الشرعيّة ، فمرادنا من التخيير ليس إلا العملي منه الذي هو في معنى البراءة في المقام فتحصل ان مقتضى القاعدة في تعارض الحجة واللاحجة التوقف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ان كان وإلا فالتخيير العملي.

السادس : [بيان المراد من الحجّية]

في بيان المراد من الحجيّة قد يتخيل أنّ المراد منها وجوب العمل على طبق الشيء ، وبعبارة أخرى : جعل مؤداه حكما شرعيّا ، وعليه فيكون المجعول في

١٩١

نصب الطرق الأحكام الشرعيّة التي تضمنتها ، فمعنى قوله صدّق العادل في قوله إنّ الواجب هو الظهر مثلا ، ليس إلا الحكم بأنّه الظهر ، وهذا معنى ما يقال «إنّ المراد وجوب ترتيب الآثار على مؤداه ، والأولى أن يقال : إنّ الحجيّة من الأحكام الوضعيّة ، ومعناها جعل الشيء طريقا موصلا إلى الواقع ، فالمجعول صفة المرآتية والكاشفيّة وتنزيله منزلة العلم الطريقي ، وهذه الصفة أمر قابل للجعل ، ودعوى أنّ الكاشفيّة صفة واقعيّة في الخبر ؛ فلا معنى لجعلها ؛ مدفوعة بأنّ الكاشفيّة الظنيّة النوعيّة غير كافية في الشرع ، خصوصا بعد نواهي العمل بالظن ، فالشارع يجعله بمنزلة العلم في الكاشفيّة الكافية ، فالخبر في حدّ نفسه ليس طريقا فعليّا ، والشارع يجعله طريقا كجعل ما ليس سببا عقليا سببا شرعيّا ، بناء على كون الأحكام الوضعيّة مستقلة في الجعل ـ كما هو الحق المحقّق في محلّه ـ ويلزمه حينئذ جعل المؤديات ، فالحجيّة بمعنى المثبتة ، وتنزيل غير العلم منزلة العلم في الإثبات والإراءة.

وهذا بناء على كون حجيّة الأخبار من باب الطريقيّة واضح ، وأمّا بناء على كونها من باب السببيّة بالمعنى الذي ذكرنا ؛ وكذا في الأصول فتصويره مشكل ، إلا أن يقال إنّ المراد منها حينئذ جعل الشيء مثبتا لمؤداه ، ولو في الظاهر ، وبدلا عن الواقع ، نعم ؛ لا معنى لإطلاق الحجية في الأخبار إذا قلنا باعتبارها من باب الموضوعيّة بمعنى كون الخبر موضوعا من الموضوعات ، أو كون مؤداه كذلك ، إذ حينئذ يصير كجعل سائر الأحكام لموضوعاتها ، وليس فيها جهة إثبات ، بل هو جعل للحكم من الأول لهذا الموضوع ، كجعل الحرمة للخمر ، والوجوب لإكرام العلماء.

نعم ؛ بناء على تصوير الموضوعيّة بمعنى جعل مؤدى الخبر بدلا عن الواقع في الواقع تتصوّر الحجيّة أيضا من حيث إنّ جعل البدل إثبات للواقع ولو ببدله ؛ فتدبّر!.

السابع : [البحث في التخيير]

للتخيير أقسام : عقلي واقعي كما في المتزاحمين ، وميزانه إيجاب الشارع لكل من الشيئين عينا بعد الفراغ عن تماميّة الطلب والمصلحة في كل منهما مع كون المكلف عاجزا عن الإتيان بهما ، فلو فرض عدم إمكان الإيجاب العيني من جانب الشارع لا يحكم العقل بالتخيير ، كما في مقامنا ـ بناء على عدم إمكان جعل المتعارضين ـ فإنّه

١٩٢

لا يمكن له الأمر بالعمل بهما حتى يحكم العقل بالتخيير بسبب العجز ، ففي الحقيقة المانع من قبل المكلّف لا المكلّف.

وعقلي ظاهري كما في الدوران بين المحذورين مع عدم الدليل على التعيين.

وشرعي ظاهري كما في الخبرين إذا قلنا بالتخيير فيهما من جهة الأخبار العلاجيّة.

وشرعي واقعي كما في خصال الكفّارة ؛ وملاكه كون المصلحة الملحوظة للآمر موجودة في شيئين أو أشياء مع كفاية أحدها في إحرازها ، ولو فرض عدم الحكم من الشارع في مثل هذا الموضوع بالتخيير ؛ بمعنى عدم العلم به ، واستكشفنا كون الأمر كذلك ؛ يحكم العقل بالتخيير ، وبقاعدة الملازمة يثبت شرعا أيضا ، فهو أيضا معدود من التخيير الشرعي ؛ بخلاف القسم الأول فإنّه لا يكون شرعيّا بقاعدة الملازمة ؛ لعدم جريانها ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم الشرعي فيه هو التعيين.

وعلى ما ذكرنا فلو قلنا بعدم شمول أدلّة الحجيّة لصورة التعارض ، وعلمنا أنّ مناط الحجية الكشف النوعي المحقّق في كلّ من الخبرين ؛ فالعقل يحكم بالتخيير بمقتضى هذا المناط ، ويصير تخييرا شرعيّا ؛ بقاعدة الملازمة ، لكنّ الفرض بعيد من حيث عدم إمكان العلم بالمناط ، إذ لا أقل من احتمال كون عدم المعارض شرطا في اعتبارهما ، ومع فرض العلم به فالأمر كما ذكرنا ، فليكن هذا على ذكر منك.

الثامن : [البحث في موارد التوقف]

لا يخفى أنّ مورد التوقف ما إذا كان هناك واقع مجهول معيّن في الواقع ، كما في التوقف عن تعيين الأحكام الواقعيّة عند الشك فيها ، وأمّا مع عدم التعيين في الواقع أيضا فلا مورد للتوقف ، وحينئذ ففي دوران الأمر بين الحجّة واللاحجّة يصح الحكم بالتوقف ، وأمّا في مقامنا إذا قلنا بعدم إمكان شمول الدليل للمتعارضين ، لا يصح ذلك ، إذ ليس هناك واقع مجهول.

ودعوى العلم بأنّ أحدهما معينا حجّة عند الشارع ولا نعلمه ؛ فاسدة ، إذ المفروض أنّ مناط الحجيّة وهو كونه خبر عدل موجود في كليهما ، فلا معيّن لأحدهما.

فإن قلت : هما وإن كانا متساويين بالنظر إلى دليل الاعتبار ، إلا أنّه يحتمل أن

١٩٣

يكون الشارع عيّن واحدا منهما حين التعارض ، ومع احتمال ذلك أيضا يصحّ الحكم بالتوقّف.

قلت :

أولا : الكلام مع الإغماض عن جميع الأشياء إلا دليل الاعتبار كما عرفت ، والمفروض تساويهما بالنسبة إليه ، فلا وقع للاحتمال المذكور مع هذه الملاحظة.

وثانيا : مجرّد الاحتمال لا يكفي في إيجاب التوقف والحكم بنفي الاحتمال الثالث الخارج عن الخبرين ؛ كما هو لازم القول بالتوقّف.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : مقتضى القاعدة في المتعارضين أولا الترجيح بما يأتي من أحد الوجهين :

إمّا بأقوائيّة المناط في أحدهما ، كأن يعلم أنّ المناط في جعل الخبر هو الظن النوعي والكشف الغالبي ، فإذا كان أحدهما أعدل راويا أو أصدق فهو أقوى في المناط ، فيكون هو مصبّ دليل الحجيّة من أول الأمر ، ويخرج الآخر ؛ فإنّه في قباله كأنه معدوم ، ولذا ترى أنّ المولى من أهل العرف إذا قال لعبده ارجع إلى أهل الخبرة ، واختلف اثنان ، وكان أحدهما أخبر ؛ يقدم قوله ، ولا يتوقف من جهة وجود المعارض ، بل لا يجعله معارضا ، لكنّ هذا إذا كانت الأقوائيّة بمقدار يجعل الآخر في جنبه كالمعدوم.

وإمّا بتعدد الدليل في أحد الجانبين ، كأن يكون من أحد الطرفين خبر واحد ، ومن الآخر أزيد ؛ فإنّه حينئذ يمكن أن يقال :

يبقى أحد الخبرين بلا معارض ، ولذا في طريقة العرف يقدمون الاثنين من أهل الخبرة على الواحد ، وأولى من ذلك أن يكون في أحد الطرفين دليلان ـ خبر وإجماع منقول بناء على حجيّته ـ وفي الآخر أحدهما ، أو كان أحد الدليلين داخلا تحت عنوانين من الحجّة والآخر تحت عنوان واحد ، فحال الأدلّة المتعارضة في الترجيحين المذكورين حال تزاحم الواجبين ، حيث إنّه يقدم منهما الأهم والآكد في الوجوب ، وما كان واجبا بعنوانين على ما ليس كذلك ، غاية الأمر أنّ في التزاحم الدليل من حيث هو شامل لهما بظاهره من الوجوب العيني ، والعقل يرجح في مقام

١٩٤

العمل ، وفي المقام ليس إلا شاملا لأحدهما بعد كون كل منهما صالحا للشموليّة من حيث هو.

والحاصل : أنّ المدّعى أنّ أهل العرف يفهمون من العمومات ـ بعد ملاحظة المناط ـ أنّ المراد في حال المعارضة هو خصوص الأرجح ، لأنّ المرجوح في نظرهم كالمعدوم ، وما ذكرنا إنّما يتم بناء على المختار من كون الأخبار معتبرة من باب الطريقيّة ، وأمّا على الموضوعيّة فلا يجري الترجيح بقوة المناط ، لعدم العلم به ، وإمّا بتعدد الدليل فيجري بناء على بعض صورها ، من كون تصديق العادل موضوعا من الموضوعات ؛ حيث إنّ الأمر إذا دار بين تصديق عادل أو عادلين فالثاني أولى كما إذا دار الأمر بين إنقاذ غريق أو غريقين ، ولا يجري على المختار من أنّ المراد منها وجوب العمل تعبدا ظاهريا.

ولذا لا يرجح الأصلان على أصل واحد ، وكذا بناء على كون مؤدى الخبر موضوعا من الموضوعات ، فإنّ المؤدى واحد ولو كان الدليل متعددا ، والمفروض أنّ المصلحة إنّما هي في المؤدى فلا ينفعه تعدد الدليل ؛ كما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين مستفادا من دليلين ، فإنّه لا اعتبار به ؛ بل المدار على تعدد عنوان الواجب ، ومع عدم الترجيح بأحد الوجهين ، أو البناء على عدم الاعتبار بهما فالأصل التساقط ، بمعنى عدم شمول الدليل ، أو التساقط المصطلح أي إسقاط كل منهما الآخر.

بيان ذلك : إنّه إن قلنا إنّ معنى الحجيّة وجوب العمل على طبقه (١) بمعنى جعل مؤدّاه حكما شرعيّا فاللازم التساقط بالمعنى الأول ، وذلك لما عرفت من عدم إمكان شمول الدليل للمتعارضين معا ، لا لما ذكره بعضهم من عدم إمكان الوجوب التعييني فيهما ، لما مرّ ، ولا للعلم بكذب أحدهما.

ولا يجب العمل بالخبر الكاذب واقعا ؛ لما مرّ من أنّ الملاك ليس هو الصدق ؛ بل واجديّة الشرائط ، وأنّ الكاذب الواقعي حجّة واقعا ، بل لما ذكرنا من استلزامه التناقض ؛ بعد فرض أنّ المجعول هو المؤدّى ، كما عرفت مفصلا ، وإرادة الوجوب

__________________

(١) تذكير الضمير هنا لرجوعه للخبر.

١٩٥

التخييري خلاف ظاهر الدليل ؛ مع استلزامه الاستعمال في معنيين ، وإرادة القدر الجامع لا دليل عليها ، والواحد لا بعينه ليس فردا (١) فيسقطان عن الحجيّة ، نعم ؛ لو علم المناط حكم العقل بالتخيير.

فإن قلت : المانع إذا كان عقليا فيقدّر بقدره ، والعقل لا يحكم إلا بعدم إمكان إرادتهما معا ، ويمكن الحكم بخروج أحدهما لا على التعيين ، وبلا عنوان ؛ فبقي أحدهما بلا عنوان بحكم العقل ، لا بالتصرف في اللفظ ، نظير ما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم واحدا من زيد وعمرو ، فإنّه يبقى أحدهما تحت الحكم من غير تعيين واقعا أيضا.

قلت : إن أردت من ذلك أنّ العقل يحكم بخروج أحدهما مع عدم التصرف في الدليل ؛ فلا يمكن إلا بعد إرادة الوجوب العيني بالنسبة إليهما من الدليل ، وقد عرفت أنّه لا يمكن ذلك ، ومعه فالحكم التخييري [هو] العقلي ؛ لا ما ذكر من الأخذ بأحدهما بلا عنوان ، وإن أردت أنّ العقل يكشف عن مراد الشارع ، فيلزم ما ذكر من الاستعمال في معنيين.

وإن قلت : إنّه يكشف عن إرادة القدر الجامع ، والخصوصيّة مستفادة من الخارج بوجود البدل وعدمه ، فلا دليل عليه ، لأنّ الأمر وإن كان حقيقة في القدر المشترك بين التعييني والتخييري ، إلا أنّ الظاهر منه بحسب الإطلاق [هو] العيني ، وإذا لم يمكن إرادة العيني فالأمر يدور بين ما ذكرت وبين عدم إرادتهما معا ، ولا معيّن لما ذكرت.

ودعوى أنّ اللازم العمل بالدليل ما أمكن ، وهذا الوجه ممكن مدفوعة بعدم الدليل بعد عدم المعيّن.

ثمّ أقول حسما لمادة الشبهة : إنّه فرق بين أن يحكم العقل بخروج أحدهما لا بعينه ـ كما في المثال المذكور ، حيث إنّ الشارع حكم بخروج واحد من زيد وعمرو ـ وبين أن يحكم بعدم إمكان إرادتهما معا ، ففي الصورة الأولى يكون الحكم بالخروج

__________________

(١) المراد أنّ عنوان الواحد لا بعينه عنوان كلي وليس فردا مشخصا خارجا ، كما يمكن أن يكون مراده الإشارة لكونه من الفرد المردّد الذي لا واقعيّة له ، ولذا فهو باطل فيسقط عن الحجيّة.

١٩٦

على الوجه المذكور قرينة على إرادة الدخول على وجه عدم التعيين ، وحينئذ فإن لم يكن مانع عن إرادة التخيير من الدليل يكون قرينة عليه ، كما إذا قال أكرم العلماء ، ثمّ قال لا تكرم واحدا لا بعينه منهم ، فإنّه يكشف عن إرادة التخيير من الأمر ، وإن كان هناك مانع كالمثال المذكور ؛ حيث إنّه لا يمكن إرادة التعيين بالنسبة إلى غير زيد وعمرو ، والتخيير بالنسبة إليهما يكون حكم الشارع قرينة على إرادة القدر المشترك [منه] ، وأمّا في الصورة الثانية فلا يعلم أزيد من عدم إرادتهما معا ، ولا يكون قرينة على الدخول على وجه عدم التعيين ، إذ المفروض أنّ العقل لا يحكم بأزيد من أنّه لا يمكن جعلهما وإرادتهما ، وأمّا أنّ الحكم بعد ذلك ما ذا فلا تعرّض له ، فليس المقام ممّا يقدّر فيه المانع بقدره ؛ بل يمكن أن يقال في المثال المذكور إذا قال الشارع لا تكرم واحدا من زيد وعمرو فهو الدليل على وجوب إكرام أحدهما ، فلا بدّ فيما إذا كان المانع عقليّا أن يحكم العقل بثبوت الحكم في أحدهما ، والمفروض عدم حكمه بذلك.

والحاصل أنّ إرادة أحدهما لا على التعيين تحتاج إلى قرينة صارفة ومعينة ، والعقل لا يصلح إلا للصارفيّة.

إن قلنا إنّ معنى الحجيّة جعل المثبت والطريق ، وجعل الكاشفيّة للخبر ، نظير جعل السببيّة ؛ فحينئذ وإن كان يمكن شمول الدليل لكل منهما ؛ لإمكان جعل طبيعة الخبر مرآة وكاشفا عن الواقع ، من غير نظر إلى فرد دون فرد ، ولا يلزم التناقض ، لعدم جعل المؤدى أولا على هذا التقدير ـ كما عرفت سابقا ـ إلا أنّ لازمه التساقط بالمعنى الثاني ، فإنّه إذا تعارض المقتضي لشيء والمقتضي لضدّه يتساقطان ، كما إذا عقد الوليّان أو الوكيلان في آن واحد لشخصين ، وكذا في سائر المقتضيات العقليّة ، فبعد جعل الشارع يصير الخبر مثل المقتضيات العقليّة في أنّ تأثيره فعلا موقوف على عدم المانع ، وكون كلّ منهما مانعا عن الآخر.

فإن قلت : إذا اعترفت بشمول الدليل لكل منهما : فلم لا تقول بالتخيير العقلي كما في الواجبين المتزاحمين؟

قلت : لأنّ مجرّد الشمول لا يقتضي ذلك ؛ إذ هو لا يفيد إلا كون كلّ منهما مقتضيا

١٩٧

للإثبات ، ومع التعارض لا يمكن أن يؤثر شيء منهما في ثبوت الحكم ، لعدم إمكان ثبوت حكمين متناقضين ، والتخيير العقلي فرع تماميّة الوجوب التعييني لكلّ منهما من قبل المكلّف وعجز المكلّف عن الامتثال.

هذا ؛ ولا فرق فيما ذكرنا بين القول بالطريقيّة والموضوعيّة ، إذ كما أنّه لا يمكن جعل طريقين متناقضين بناء على كون المجعول هو المؤدى ، كذا لا يمكن جعل حكمين تعبديين في الظاهر لواقع واحد ، إذ لا فرق في التناقض بين أن يكون الحكم واقعيا بحسب لسان الدليل ، كما على الطريقيّة أو ظاهريّا تعبديّا كما على الموضوعيّة ، فلا يمكن أن يقال يجب في يوم الجمعة البناء على وجوب الظهر وعدم وجوبها ؛ بل لا يمكن ذلك في الأصول أيضا ، فلو شكّ في أنّه متطهّر أو محدث ؛ لا يمكن أن يقال ابن على الطهارة وابن على الحدث ، وكذا إذا جعلنا الموضوعيّة بمعنى جعل المؤدى بدلا واقعيّا عن الواقع ، إذ لا يمكن جعل بدلين لمبدل واحد ؛ مع كونهما متناقضين ، نعم ؛ بناء على تصوير الموضوعيّة بأحد الوجهين الأولين من الوجوه المتقدمة يصير من قبيل تزاحم الواجبين ، ويجب الحكم بالتخيير العقلي ، لكنّك عرفت أنّها من التصويب الباطل ، وأنّ المعقول من الموضوعيّة ـ بناء على مذهب المخطئة ـ أحد الوجهين الأخيرين ؛ بل خصوص الأخير ، وعليه فالحال ما عرفت من عدم إمكان الجعل ، وشمول الدليل.

هذا ؛ مع أنّ تصوير الموضوعيّة على وجه يصير من قبيل الواجبين المتزاحمين يستلزم وجوب العمل بكلا الخبرين مع الإمكان ، بأن أخبر أحدهما بوجوب الظهر ، والآخر بالجمعة ، ولو أخبر أحدهما بوجوب شيء والآخر بإباحته وجب الإتيان به ، لأنّه غير مناف للإباحة ، إذ لا يكون الاعتقاد مطلوبا ، بل الغرض مجرّد تطبيق العمل ؛ فينحصر التزاحم والتخيير العقلي بدوران الأمر بين الواجب والحرام ، أو بما يطلب فيه الاعتقاد والتديّن.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه للتفصيل الذي ذكره (١) المحقق الأنصاري قدس سرّه من أنّه بناء على الموضوعيّة الحق التخيير كالواجبين المتزاحمين ، وعلى الطريقيّة الحق

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٣٧ ـ ٣٨ ، ٥١.

١٩٨

التوقّف ، وذلك لأنّ مراده من الموضوعيّة كون حجية الخبرين من باب التعبد الظاهري ، حيث قال في تفسير السببيّة : بأن يكون قيام الخبر على وجوب فعل واقعا سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على المكلّف ، وحينئذ فلا وجه لجعله من قبيل الواجبين المتزاحمين.

وأمّا ما ذكره على تقدير الطريقيّة من التوقف ففيه : أنّ التوقف إنّما يكون فيما كان هناك واقع مشتبه ، والمفروض في المقام أنّه ليس أحد الخبرين حجّة معينة في الواقع ؛ لتساويهما في ملاك الحجيّة وعدم إمكان شمول الدليل لهما معا باعترافه ، مع أنّ ما ذكره في بيان الوجه للتوقف إنّما يفيد التساقط حيث جعل مصلحة الجعل ـ بناء على الطريقيّة ـ الإيصال الغالبي ، وقال (١) : إذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجيّة لا يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما بحيث لو أمكن الجمع بينهما أراد الشارع إدراك المصلحتين ؛ بل وجود تلك المصلحة في كل منهما بخصوصه مقيّد بعدم معارضته بمثله ، قال : ومن هنا يتجه الحكم بالتوقف ؛ لا بمعنى أنّ أحدهما المعيّن واقعا طريق ولا نعلمه بعينه ـ كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ـ بل بمعنى أنّ شيئا منهما ليس طريقا في مؤداه بالخصوص ؛ انتهى.

فإنّ من المعلوم أنّه إذا كانت المصلحة مقيدة بعدم المعارض لا يمكن أن يكون شيء منهما مع ذلك مشمولا للدليل ومعتبرا ، فلا وجه للتوقف ونفى الثالث ، ولعلّه يريد أنّ كلّ واحد منهما يتساقط بالآخر ، ولكن هما معا داخلان تحت دليل الاعتبار بالنسبة إلى مدلولهما الالتزامي ؛ وهو نفى الثالث.

وفيه : أنّ هذا عين القول بالتساقط ؛ غاية الأمر أنّه يدّعى أنّ لازم التساقط ليس إلا عدم الأخذ بهما في مدلولهما المطابقي ؛ مع أنّك ستعرف الإشكال في الحكم بنفي الثالث بعد عدم شمول الدليل ، هذا مع عدم العلم بصدق أحد الخبرين ، وإلا فالتوقف في محلّه ، لكن بالنسبة إلى تعيين الحكم الواقعي الموجود في البين لا بالنسبة إلى تعيين الحجّة ، ونفي الثالث حينئذ مستند إلى العلم.

ثمّ ممّا يرد على ما ذكره أنّه يبقى سؤال الفرق بين الأصول والأدلة ـ بناء على

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٣٨.

١٩٩

الموضوعيّة ـ فإنّه إذا كان لازم الموضوعيّة التخيير من جهة التزاحم ، فينبغي أن يكون حال الأصول كذلك ، مع أنّه قائل فيها بالتساقط إذا لم تكن حكومة في البين.

ودعوى أنّ ذلك من جهة عدم تحقق المصلحة في العمل بالأصول ومؤدّياتها ، بل المصلحة إنّما هي في جعلها ؛ بخلاف الأمارات بناء على الموضوعيّة.

مدفوعة بعدم الفرق ؛ فإنّ في الأمارات أيضا يمكن دعوى أنّ المصلحة في جعلها حكما ظاهريا أو جعل مؤدياتها كذلك ، فلا يتم الفرق إلا بناء على حمل الموضوعيّة على ما يرجع إلى التصويب ، مع عدم كون الحكم الواقعي باقيا بحاله ، وإلا فلا ينفعه التزام التصويب أيضا ؛ لاستلزامه التناقض أيضا كما على الطريقيّة.

هذا مع أنّ التخيير في المتزاحمين ليس منوطا بوجود المصلحة فيهما ، وإن كان الأمر كذلك بناء على مذهب العدليّة ؛ بل المراد تحقق الطلبين من الشارع في حدّ نفسهما مع عدم إمكان الامتثال ، فلا فرق في ذلك بين مذهب الأشعري والعدليّة القائلين بالمصلحة في المأمور به ، والقائلين بها في الجعل.

هذا ؛ وربّما يورد على ما ذكره من الوجه في التوقف بأنّه يرجع إلى تعارض الحجّة واللاحجّة ، وأيضا يلزم أنّ مناط الجعل وهو الظنّ النوعي حاصل في المتعارضين ، والطريقيّة حكمة لا علّة ، فلا يضرّها المعارضة ، وأيضا يلزم ممّا ذكره التوقف فيما لو علم كذب أحد الخبرين ، ولو لم يكونا متعارضين ، ولا يلتزم به.

قلت : إنّه صرّح في كلامه بأنّ المقام ليس من تعارض الحجّة واللاحجّة ، وأيضا وجه التوقف ـ على ما يظهر من كلامه ـ : عدم إمكان جعل الطريقين لواقع واحد ؛ لا مجرّد العلم بكذب أحد الخبرين ، فيندفع الإيرادان الأخيران ؛ فتدبّر.

ثمّ إنّ بعض الأعلام من تلامذة المحقق المذكور (١) تبعه في أصل التفصيل ، إلا أنّه خالفه في تقرير المطلب ، ومحصّل ما ذكره : أنّ الدليل لا يمكن أن يشمل شيئا من المتعارضين ، لكونه ظاهرا في الوجوب العيني الغير الممكن إرادته ، والحمل على التخيير خلاف ظاهره ، مع أنّه مستلزم للاستعمال في معنيين ، ولا فرق في ذلك بين القول بالطريقيّة والموضوعيّة ؛ بل الحال كذلك في سائر الواجبات المتزاحمة ،

__________________

(١) الميرزا الرشتي في رسالة التعارض الملحقة ب بدائع الأفكار : ٤١٥ ـ ٤١٦.

٢٠٠