كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

أصليّة ، ومغايرتها مع التبعيّة بالاعتبار.

وأمّا على الثالث : فبأنّه مصادرة ، إذ كون التأويل أولى من التعطيل أوّل الدعوى.

وأورد بعض على جميع ما ذكره : فعلى الأول : بأنّ هذه الأولويّة كسائر الأولويّات في باب تعارض الأحوال ، وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ المذكور هناك ما كان في دليل لا في دليلين ، إلا أنّ المناط واحد ، وعلى الثاني : بأنّ الدلالة التبعيّة مغايرة مع الأصليّة مفهوما حقيقة ، ومتحدة معها وجودا كذلك ، فلا وجه لدعوى المغايرة الاعتباريّة ، وعلى الثالث : بأنّ السند مانع ، ويكفيه مجرّد المنع (١) ؛ غاية الأمر أنّه ذكر سند المنع تفضّلا ، ولا يلزم تماميّة السند في صحّة المنع ، بل هو صحيح وإن كان السند باطلا.

قلت : أنت خبير بما فيه ، أمّا ما ذكره أولا : فلأنّ الأولويّات المذكورة في تعارض الأحوال راجعة إلى أظهرية أحد الدليلين ، أو أحد الوجهين في دليل واحد ، بخلاف المقام ، وعلى فرض كونها مثل المقام ممّا لا يرجع إلى الأظهريّة ؛ فمنع اعتبارها في محلّه ، ولعلّ صاحب الفصول لا يقول باعتبار مثله هناك أيضا.

وأمّا ما ذكره ثانيا : فلأنّ المغايرة الحقيقيّة في المفهوم والاتحاد الحقيقي في الوجود الخارجي هو ملاك ما ذكره صاحب الفصول من التغاير الاعتباري.

وأمّا ما ذكره ثالثا : فلأنّ ظاهر كلام السيد استناد المنع إلى ما ذكره من الوجه ، وإلّا فيعترف بمقالة العلّامة ، مع أنّ كون السند مصادرة يكفي في توجّه الإيراد.

ثمّ إنّ هذا الدليل يمكن حمله على الجمع الدلالي والعملي كليهما ، وليس صريحا في الأوّل ، كما تخيله البعض ، بل يمكن دعوى أظهريته في الثاني ، إذ هو المناسب للتعبير بالأخذ بالدلالة التبعيّة أو الأصليّة ، إذ ظاهره إبقاء الدلالة على حالها وعدم التصرف فيها ، إلا أنّه يؤخذ بها أو بأحدهما في مقام العمل ، ولو كان المراد الجمع الدلالي كان المناسب أن يقال : العمل بالدليل بحمله على المعنى المجازي أولى من طرح أصله بعد عدم حمله على معناه الحقيقي ، ويقول الطرف المقابل :

__________________

(١) لعل مراده من كفاية مجرد المنع ؛ أنّ المنع موافق للأصل فلا يحتاج إلى دليل يستند له في المنع.

١٦١

الأخذ بأصالة الحقيقة في دليل واحد أولى من الأخذ بمجازين في دليلين ، بل كلام العلّامة كالصريح في ذلك ؛ حيث قال :

إنّ في الطرح أخذ بدلالة أصليّة وتبعيّة من دليل ، وذلك لأنّه لا يمكن أن يحمل اللفظ على حقيقته ، وهي الدلالة الأصليّة ومجازه وهو الدلالة التبعيّة في استعمال واحد ، فيعلم من ذلك أنّ مراده أنّه إذا بنى على العمل بأحد الدليلين فقد أخذ بتمام معناه وببعضه في ضمنه ، وهذا أولى من الأخذ بالبعضين من دليلين.

الثالث : (١) [ما عن الشهيد من أنّ الأصل في الدليلين الإعمال] ما عن الشهيد السعيد قدس‌سره في التمهيد (٢) من أنّ الأصل في الدليلين الإعمال فيجمع بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ، واستشكل عليه :

أوّلا : بأنّ قوله «لاستحالة .. الخ» مستغنى عنه ، وأنّه لا يناسب علّة لشيء ممّا ذكره.

ثانيا : بما في القوانين (٣) من أنّ المفروض عدم ملاحظة.

الترجيح (٤) بناء على الجمع وإلّا فهو موجود في بعض الصور.

وأجيب عن الأول :

تارة بأنّ قوله (لاستحالة ..) علّة لقوله (الأصل في الدليلين الإعمال ..) فيكون غرضه أنّه لو لم يعمل بهما وطرح أحدهما يلزم الترجيح بلا مرجّح ، وأنت خبير بأن هذا لا ينفع في قبال طرح كليهما أو التخيير بينهما.

وتارة بأنّه علّة لوجوب الجمع المستفاد من قوله فيجمع بينهما فيكون الغرض أنه لو لم يحكم بوجوب الجمع وحكم بالتخيير (٥) بينه وبين الأخذ بأحدهما يلزم الترجيح بلا مرجح على فرض الأخذ بأحدهما وفيه ما لا يخفى من البعد ، مع أنّه

__________________

(١) على ترتيب النسخة (ب) يكون هذا هو الثاني.

(٢) تمهيد القواعد : ٢٨٣.

(٣) توجد كلمة «بما في نين» في نسخة الأصل ، واحتملنا أنّ المراد منها القوانين ، وإن كانت هذه الكلمة لا توجد في نسخة (ب).

(٤) في نسخة (ب) : المرجّح.

(٥) في نسخة (ب) : وأنّه مخير.

١٦٢

أيضا لا ينفى طرحهما أو أحدهما مخيرا (١).

وثالثة بأنّه يرجع إلى قوله مهما أمكن فيكون غرضه أنّه يجب الجمع بما أمكن لا بكل وجه وإن لم يكن متعينا ؛ لأنّه في صورة عدم التعيين يلزم الترجيح بلا مرجح في اختياره (٢) أحد التأويلات.

وفيه : أنّه يكفيه حينئذ قوله «مهما أمكن» ؛ لأنّه إذا تعددت المحتملات ولم يكن معيّن لا يصدق الامكان مع انه بعيد عن العبارة.

ورابعة : بأنه علّة لوجوب الجمع بدعوى انّ الأصل اعمال الدليلين في الجملة وهذا لا يقضي الأخذ بكل منهما فوجوب هذا دون الاقتصار على أحدهما من جهة استحالة الترجيح بلا مرجح.

وفيه : إنّ الدليل الذي يقتضي الإعمال ـ وهو عموم ما دلّ على اعتبار كلّ خبر يقتضي عدم الاقتصار على أحدهما ـ مع أنّه أيضا لا ينفي التخيير ، فالأولى إسقاط قوله لاستحالة ... الخ.

وأجاب في نين عن الثاني : بأنّ المراد أنّه بعد التأويل (٣) إذا أمكن العمل بكلّ منهما ، وجعل موضوعه مغايرا لموضوع الآخر ـ لو عمل بأحدهما دون الآخر ـ يلزم الترجيح بلا مرجح ، وأورد عليه في المناهج بأنّه إذا فرض مغايرة الدليلين موضوعا فلا وجه للتعبير بالترجيح بلا مرجّح إذا اقتصر على أحدهما ، ألا ترى أنّه لو وجب صلاة الصبح والظهر مثلا ، وترك المكلّف إحداهما ؛ لا يقال إنّه رجّح إحداهما بلا مرجّح.

قلت : يمكن دفعه بأنّ المراد أنّه إذا أمكن الحمل على مغايرة الدليلين في الموضوع بالأخذ بالتأويل ؛ فعدم ذلك والأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجّح (٤).

وأورد عليه في الفصول بأنّه لا معنى حينئذ للتعليل ، إذ غرض الشهيد أنّه ترجيح بلا مرجّح لو لا الجمع ، لا أنّه بعد الجمع لو بنى على العمل بأحدهما يلزم الترجيح

__________________

(١) في نسخة (ب) بعد قوله أيضا : لو أخذ بأحدهما مخيرا أو طرحا معا لا يلزم ما ذكر.

(٢) في نسخة (ب) : في اختيار.

(٣) قوله «بعد التأويل» لا يوجد في نسخة (ب).

(٤) قوله «فعدم ذلك .. الخ» لا يوجد في نسخة (ب).

١٦٣

بلا مرجّح ، إذ لا إشكال في وجوب العمل بهما بعد ثبوت حجّيّتهما ، لعدم المنافاة حينئذ حتى يستند إلى لزوم الترجيح بلا مرجّح.

وفيه : ما عرفت في دفع كلام صاحب المناهج ، إذ المحقّق القمي لم يقل إنّه بعد الجمع لو لم يؤخذ بهما يلزم ما ذكر ، فمراده أنّه مع إمكان حمل كل على ما يغاير الآخر لو لم يحمل على ذلك ، وأخذنا بأحدهما يلزم ذلك ، بل هذا صريح كلامه حيث قال ـ بعد ذكر الإشكال وتوجيهه ـ .. أن يقال مراده إنّه إذا أمكن العمل بكل منهما ولو كان بإرجاع التوجيه إلى كليهما ، فمع ذلك لو عمل بأحدهما .. إلى آخره ، وكيف كان ؛ فقد عرفت أنّ الأولى إسقاط هذه الفقرة عن الدليل ؛ هذا.

وقال بعض الأعلام : إنّ هذا الدليل لا مساس له بالمقام ، إذ الكلام في الجمع الدلالي على وجه يرتفع به التنافي بين الدليلين ، وهذا ناظر إلى الجمع العملي فلا وجه لذكره في المقام والاستدلال به على هذا المرام.

قلت : لا يخفى ما فيه ، فإنّ الدليل المذكور بظاهره وخافيه ينادي بالجمع الدلالي حسبما حمله عليه جميع من تعرّض له.

وإن أبيت عن ذلك ـ بقرينة تفريع الشهيد عليه الجمع في (١) البيّنتين ـ فلا أقلّ من حمله على الأعمّ ، ولا مانع منه كما تقدم ، وعلى أي حال فالتحقيق أن يقال : إن كان المراد وجوب الجمع مع الإمكان العرفي والشاهد ، حسبما حمله عليه بعضهم ، فلا كلام ، وإن كان المراد وجوب الجمع في جميع الصور المتقدمة ، فإن كان المراد من الأصل ما ذكره من استحالة الترجيح بلا مرجّح كما هو أحد المحتملات حسبما عرفت ؛ فلا وجه له ، وإن كان المراد منه عموم ما دلّ على حجيّة كلّ خبر مثلا فهو مسلّم ؛ إلا أنّه يجب الخروج عنه ، بسبب الأخبار العلاجيّة ؛ لأخصيّتها كما عرفت إذا كان الكلام في قبالها ، ومع ملاحظتها ، وإن كان الكلام مع الإغماض عنها فيجب الرجوع إلى القاعدة العقليّة في تعارض الخبرين ؛ لعدم إمكان الجمع ـ بالتقريرين المتقدمين ـ فيكون حال الظاهرين حال النصّين.

__________________

(١) في نسخة (ب) : بين.

١٦٤

وأجاب المحقق الأنصاري قدس سرّه عن الدليل المذكور بما حاصله (١) : إنّ ما ذكر من [أنّ] الأصل هو الإعمال مسلّم ، إلا أنّه معلّق على الإمكان ؛ المفروض عدمه في المقام ، إذ العمل بالخبرين بإخراجهما عن ظاهرهما ليس عملا بهما ، إذ كما يجب مراعاة السند مع احتمال شرائط الحجيّة ؛ كذا يجب مراعاة الظاهر بعد فرض وجوب التعبّد بسنده إذا لم تكن قرينة التعبّد بصدور أحدهما معيّنا أو مخيرا ثابتة على تقديري الجمع وعدمه ، فيجب التعبد بظاهره ، ويدور الأمر بينه وبين صدور الآخر ولا أولويّة للثاني ؛ بل قد يتخيل العكس لاستلزام الجمع طرح ظاهرين ، والطرح طرح سند واحد ، ولكنّه فاسد ، لأنّ ترك ظاهرها عدا المتّفق على التعبّد بسنده غير مخالف للأصل ؛ بل التعبد غير معقول ، إذ لا ظاهر حتى يتعبّد به.

وقياس المقام على مقطوعي الصدور حيث يؤخذ فيهما بخلاف ظاهرهما فاسد ، لأنّ القطع بالصدور فيهما قرينة على إرادة خلاف الظاهر فيهما ، لعدم إمكان رفع اليد عن سندهما ؛ بخلاف المقام ، فإنّ ظاهر كل منهما معارض لسند الآخر ، والأمر دائر بينهما ، ولا أولويّة ، ولا حكومة في البين ، لأنّ الشك فيهما مسبّب عن ثالث.

ومن ذلك يظهر فساد القياس بالنص والظاهر ، فإنّ سند النص وإن كان معارضا بظهور الظاهر ؛ إلا أنّه حاكم عليه ، لأنّ من آثار التعبّديّة رفع اليد عن ذلك الظهور ، إذ الشك (٢) فيه مسبّب عن الشك في التعبّد بالنص ، وكذا قياسه على الخبر الذي لا معارض له وقام الإجماع على خلاف ظاهره ، حيث إنّه يؤخذ فيه بالمعنى التأويلي.

وجه الفساد عدم الدوران فيه ؛ بخلاف المقام ، حيث يمكن رفع اليد عن كل من الظهور في أحدهما والسند في الآخر.

فالحق عدم الجمع ؛ لأنّ وجوب العمل بالخبرين مقيّد بالإمكان ، فالمرجع فيه العرف ، وهو حاكم بعدمه في المقام.

أقول : في كلامه أنظار ؛ وإن كان قريبا من مسلكنا المتقدم على التقرير الثاني :

أحدها : أنّه أخذ في تحقيق المعارضة ـ بين عموم ما دلّ على وجوب الأخذ

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٢٠ ـ ٢١.

(٢) في نسخة (ب) : والشك فيه ...

١٦٥

بالسند وما دلّ على الأخذ بالظاهر ـ مقدمة هي كون أخذ الخبرين قدرا متيقنا حتى يكون ظاهره واجب الأخذ ، ليعارض ما دلّ على وجوب الأخذ بالسند ، وإلا فلا يجب الأخذ بظاهر ما لم يجب الأخذ بسنده (١) ، وليس طرحه مخالفا للأصل ، ثمّ جعل المعارضة بين الظاهر من كلّ مع سند الآخر ، وقال لا حكومة في البين ، بخلاف النص والظاهر ؛ ويرد عليه :

أولا : أنّ الجواب على هذا البيان إنّما يتم في مقابل القول بالتخيير أو الترجيح ، بملاحظة الأخبار العلاجيّة أوّلا بها ؛ إذا جعلنا الأصل وجوب الترجيح والتخيير ، وإلا فلا يتمّ في مقابل القول بأنّ الأصل في الخبرين التساقط ، بخلاف مسلكنا المتقدم ، فإنّه ـ حسبما عرفت ـ واف بردّ القاعدة ، سواء كان الكلام في قبال الأخبار العلاجيّة ، أو في قبال القاعدة العقليّة ، ولو قلنا فيها بالتساقط.

وثانيا : أنّ المقدمة التي أخذها في الجواب لا حاجة إليها ، وعلى فرض الحاجة لا يمكن إثباتها بالوجه الذي ذكره ، أمّا بيان عدم الحاجة إليها فلما (٢) عرفت من مسلكنا في الجواب من أنّ عموم دليل الأخذ بالسند معارض بعموم دليل الأخذ بالظاهر ، وإن لم يكن هناك ظاهر معلوم الأخذ إلا بعد الأخذ بالسند ، إذ يكفي فيه وجود الظاهر في حدّ نفسه ، وإن كان وجوب الأخذ به متفرعا على الأخذ بالسند ، لأنّ وجوب الأخذ بظاهر قول الإمام عليه‌السلام ثابت في عرض وجوب الأخذ بقول الإمام عليه‌السلام ، وتأخر الموضوع طبعا لا يضر في المعارضة ، فهو كما لو كان أحد السندين متأخرا طبعا عن السند الآخر ، فإنّه لا يدفع المعارضة بينهما ، ولا يقدم الثاني لتقدمه الطبعي بعد تساوي نسبة العموم إليهما.

وهذا بناء على كون وجوب الأخذ بالظواهر من باب التعبد واضح ، وعلى كونه من باب بناء العقلاء ـ كما هو الحق ـ فكذلك ؛ بعد ثبوت بنائهم على الأخذ بكلّ ظهور (٣) لا يكون عليه قرينة إذا كان (٤) بناء وجوب الأخذ بالسند من باب التعبد ، أو

__________________

(١) ويحتمل في العبارة : فلا يجب الأخذ بظاهره ما لم يجب الأخذ بسنده.

(٢) في النسخة : فما ..

(٣) في نسخة (ب) : ظاهر.

(٤) في نسخة (ب) : إذا فرض.

١٦٦

لبنائهم عليه أيضا ، فيعدّون المقام ممّا لا يمكن الأخذ (١) بالسند ؛ لبنائهم على الأخذ بظاهره عند أخذه.

نعم لو كان وجوب الأخذ بالظاهر عندهم مقيّدا بالإمكان أمكن أن يقال : إذا تعبدنا الشارع بالأخذ بالسند فلازمه الأخذ به وطرح الظاهر ، لأنّه مقيّد بالإمكان ؛ المفقود بالفرض ، إذ ليس لازما غير منفكّ في بنائهم ، فحينئذ يصير السّندان عندهم كمقطوعي الصدور ، لكنّ الأمر ليس كذلك ؛ كما لا يخفى!.

وأمّا بيان إمكان إثباتها بالوجه الذي ذكره فهو : أنّ اللازم ـ على ما ذكره ـ وجود ظاهر يكون سنده واجب الأخذ من حيث هو ، مع قطع النظر عن قاعدة الجمع ، وعموم دليل السّند ؛ حتى يدور الأمر بين الأخذ به والأخذ بالسّند الآخر ، وهذا لا يكون إلا إذا علم إجمالا صدور أحد الخبرين ، حتى يكون قدرا متيقنا في البين ، وليس الحال كذلك في جميع المقامات ، بل في الغالب يحتمل كذب الخبرين معا ، والقدر المتيقن الذي لزم من اتفاق الجامع والمانع ، حيث إنّ الأول يأخذ بهما فيأخذ بأحدهما ، والثاني يأخذ بأحدهما إمّا معيّنا أو مخيّرا ، فيكون أحدهما متفقا عليه لا ينفع (٢) ، إذ القائل بالجمع إنّما يأخذ أحدهما منضما إلى الآخر ، ومن باب أنّ الأخذ بعموم دليل السند فيهما واجب ، ومعه لا يكون المتيقن المتفق عليه إلا أخذ (٣) الخبرين المجرّد عن الظهور ، إذ لازم الأخذ بهما عدم الأخذ بظهورهما.

وبعبارة أخرى : الجامع إنّما يأخذ بأحد الخبرين بشرط عدم الأخذ بالظهور ، فلا يكون الظهور في أحدهما محرزا واجب الأخذ حتى يصلح للمعارضة ، وأيضا اللازم عنده كون الخبر متيقّن الأخذ مع قطع النظر عن الجمع والأخذ بالعموم ، والجامع إنّما يأخذ به بلحاظ شمول العموم ، فلا يصلح الاتفاق الحاصل على هذا الوجه لجعل الظهور معارضا لذلك العموم ، إذ إحرازه إنّما هو بشرط الأخذ بالعموم ، فكيف

__________________

(١) إلى هنا وينقطع اتصال النسخة (ب) بما سبق ، ويبدأ كلام جديد لا صلة له بهذا الموضوع ، ثم يعود الاتصال في النسخة (ب) عند قوله «وكيف كان ..» في صفحة ٩٨ ـ ٩٩ من نسخة الأصل.

(٢) هذا خبر قوله «والقدر المتيقن» ؛ والمقصود أنّ القدر المتيقن لا ينفع في ثبوت الأخذ بأحدهما يقينا.

(٣) ويحتمل في الكلمة : أحد.

١٦٧

يكون معارضا له ، مع أنّ القائل بالطرح أيضا إنّما يأخذ أحد الخبرين بلحاظ شمول الأخبار العلاجيّة المتفرّع على عدم جريان القاعدة ، والأخذ على هذا الوجه لا يمكن أن يكون معارضا لها ، إذ هو بشرط عدم الأخذ بالعموم.

فالإجماع المذكور أدون من الإجماع التقييدي ، حيث إنّه مركّب من القول بالجمع الذي هو مقيّد بالأخذ بالعموم ، ومن القول بالرجوع إلى الأخبار ، الذي هو مقيّد بترك الأخذ بالعموم (١) ، فظهور الخبر المتفق عليه على هذا الوجه لا يصح أن يكون معارضا للعموم ، على البيان الذي ذكره.

نعم لو كان الجامع والمانع كلاهما متفقين ، مع قطع النظر عن قاعدة الجمع ودليلها ، وهو العموم ، وعن الأخبار العلاجيّة على الأخذ بأحد الخبرين ، وكان في الأخذ بالآخر بحيث لو لم يقل الأول بالجمع ولم يقل الثاني بالرجوع إلى الأخبار العلاجيّة كانا متّفقين على الأخذ بأحدهما ، تمّ ما ذكر ؛ وليس كذلك.

الثاني : أنّ ما ذكره في بيان فساد تخيل أولويّة العكس ، وهو الأخذ بسند أحدهما وظاهره ، لأنّه ليس إلا مخالفة لظاهر واحد ؛ بخلاف الأخذ بالسندين ، مع أنّ ترك ظاهر الخبر الغير المتفق عليه ليس مخالفا للأصل.

فيه : ان قبل الأخذ بالسندين وإن لم يكن إلا ظهور واحد ، لكن بعد الأخذ بهما يلزم طرح ظاهرين ، فإذا دار الأمر بين الأخذ بما يوجب طرحا لظاهرين ، وما يوجب طرحا لسند واحد فالثاني أولى ، ويكفي هذا المقدار في الأولويّة كما لا يخفى!.

الثالث : أنّ ما ذكره من منع الحكومة في المقام وثبوتها في النص والظاهر ، حيث إنّ سند النص حاكم على ظهور الظاهر.

فيه : أنّا إن لاحظنا دليل الاعتبار والشك في أنّ المعتبر هو سند هذا أو دلالة ذاك فلا حكومة حتى في النص والظاهر ، إذ الشك فيهما مسبّب عن أنّ المجعول في حقّنا ما ذا؟ وإن لاحظنا بالنسبة إلى الإرادة وعدمها فالحق ثبوت الحكومة في

__________________

(١) باعتبار أنّ الإجماع التقييدي هو الإجماع البسيط المقيّد من جهة واحدة ، بينما هذا الإجماع مركب من مجموع قولين وكل منهما مقيد بخلاف ما قيّد به الآخر ، ففي أحدهما مقيد بوجوده وفي الآخر مقيد بعدمه ، فهنا الإجماع غير متحقق ، وذلك لمنع أحد جزئيه عن تحقق جزئه الآخر ، اللازم للمنع من تحقق موضوعه.

١٦٨

المقامين ، إذ كما أنّه يمكن أن يقال إنّ الشك في إرادة الظاهر من العام مسبّب عن الشك في صدور سند الخاص ، وإذا حكم الشارع بالصدور بمقتضى عموم صدّق العادل فيكون رافعا للشك تنزيلا ، فكذا في المقام ، إذ الشك في إرادة الظاهر في كلّ من الخبرين مسبّب عن الشك في صدور الآخر ، وحكم الشارع بالصدور موجب لرفع الشك ، إذ المفروض أنّه على فرض الصدور لا يمكن إرادة الظاهر في الآخر.

نعم ؛ هذا إنّما يتمّ في الظاهرين المحتاجين إلى تأويلين ، وأمّا في مثل العامّين من وجه ممّا يحتاج إلى تأويل أحدهما لا بعينه فلا حكومة ، إذ يمكن أن يكون الخبر الآخر صادرا ، وظهور هذا أيضا باقيا بأن يكون المأوّل نفس ذلك الآخر المحكوم بصدوره دون هذا ، لكن كلامه في المقام في الظاهرين المحتاجين إلى تأويلين.

الرابع : أنّ ما يظهر منه في المقام وغيره من جعل التعارض في الخبرين بين سند أحدهما ودلالة الآخر لا وجه له حسبما أشرنا إليه سابقا أيضا ، نعم علاج التعارض يمكن برفع اليد عن واحد من السند أو الظهور ، ومن المعلوم أنّ ما فيه التعارض غير ما به علاجه ؛ بل التحقيق أنّ التعارض إنّما هو في الدلالتين أولا ، وبتبعها يسري إلى السندين ؛ فهما متعارضان بلحاظ الدلالتين.

وحينئذ فإن كان أحدهما نصا أو أظهر لما (١) كان التعارض بين الدلالتين بدويا يرتفع بملاحظة أحدهما قرينة على الآخر ، فيرتفع بين السندين أيضا ، وفي الظاهرين يبقى بين دلالتيهما ، فيبقى بين السندين أيضا ، ويشملهما الأخبار العلاجيّة أو القاعدة العقليّة ، إذ يدخلان حينئذ تحت ما لا يمكن الجمع بينهما ، لدوران الأمر بين الأخذ بعموم السند أو بعموم دليل الظاهر ، وعلى بيانه من أنّ التعارض بين سند كلّ ودلالة الآخر يبقى الإشكال ؛ لما عرفت من حكومة دليل السند على دليل الظاهر ، فلا بدّ عليه من الأخذ بالسندين وطرح الدلالتين : إمّا بالأخذ بالتأويل البعيد أو الإجمال.

الخامس : أنّ ما يظهر منه من أنّه يؤخذ بالمعنى التأويلي للخبر الذي لا معارض له إذا كان ظاهرا مخالفا للإجماع ؛ مشكل ، إذ لو صار الإجماع قرينة على إرادة ذلك

__________________

(١) الظاهر زيادة «لما» هذه.

١٦٩

المعنى فذاك ، وإلا فمجرّد قيامه على ما يخالف ظاهر الخبر لا يكفي في الأخذ بالتأويل البعيد.

نعم ؛ لو كان الخبر قطعي الصدور أمكن ذلك ؛ بدعوى أنّ العرف يفهم منه ذلك بعد ملاحظة قطعيّة صدوره وقطعيّة عدم إرادة ظاهره من جهة الإجماع ، حسبما عرفت في الخبرين القطعيين ؛ لكن كلامه في الخبر الظنّي السند.

تنبيه : [يتعلق ببعض حالات الجمع]

لا فرق ـ حسبما عرفت من بياناتنا ـ في الجمع وعدمه بين الظاهرين المحتاجين إلى تأويلين ـ على فرض الجمع ـ وبين الظاهرين المحتاجين إلى تأويل أحدهما لا بعينه ؛ كالعامين من وجه ، وكقوله اغتسل للجمعة الظاهر في الوجوب ، وقوله ينبغي غسل الجمعة الظاهر في الاستحباب ، فيجري فيهما جميع ما تقدم من الكلام والنقض والإبرام.

نعم بناء على مذاق المحقق الأنصاري قدس سرّه من جعل التعارض بين سند كلّ ودلالة الآخر (١) لا يجري فيهما الحكومة التي أجريناها هناك حسبما أشرنا إليه آنفا ، لأنّ الشك في إرادة ظاهر كل منهما ليس مسببا عن الشك في سند الآخر ؛ لإمكان صدور الآخر وإرادة ظاهر هذا ، وكون المؤول ذلك الآخر ، وكيف كان ؛ فالقائل بالجمع يجمع بينهما ، ويأخذ بأحد التأويلين إذا كان أقرب ، وإن كان بعيدا في نفسه ، وإلا يحكم بالإجمال ، أو يأخذ بأحدهما اقتراحا ، وعندنا إذا كان أحدهما أظهر بحيث يمكن أن يكون قرينة على الآخر في نظر العرف يجمع بينهما ، وإلا فالمرجع الأخبار العلاجيّة ، ومع الإغماض عنها : القاعدة العقليّة ، وذلك لصدق التعارض الموجب للحيرة ، وعدم إمكان العمل بهما معا.

ولا يخفى أنّه إذا أخذنا أحدهما من باب الترجيح أو التخيير بحكم الأخبار العلاجيّة ، فلا نترك الآخر إلا بالنسبة إلى مادة الاجتماع ، وكذا إذا حكمنا بتساقطهما من باب القاعدة العقليّة يحكم بذلك في غير مادّة الافتراق ، فنحكم بصدور كليهما بالنسبة إلى مادة الافتراق ، ولا نحكم به بالنسبة إلى مادة الاجتماع ، ولا يضرّ هذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٢٣.

١٧٠

التفكيك بعد كون الحكم تعبديا كما عرفت نظيره سابقا ، واستبعاد ذلك من حيث إنّ المضمون الواحد لا يمكن أن يتبعض في الصدق والكذب ، والصدور وعدمه ، استبعاد لغير البعيد ، فإنّ مقتضى الدليل وإن كان تصديق العادل في قوله بتمام مضمونه ؛ إلا أنّ المانع وهو التنافي في مادة الاجتماع يمنع عن ذلك بالنسبة إليهما دون مادتي الافتراق.

ألا ترى أنّه لو كان خبر واحد متضمنا لحكم أصولي وفرعي بمضمون واحد يؤخذ به بالنسبة إلى الثاني دون الأول ، بناء على حجيّته فيه دونه ، ومعنى الأخذ به في الفروع الحكم بصدوره ، ومعنى عدم حجيّته في الأصول عدم الحكم بصدوره ؛ لا أنّه يحكم بصدوره ثمّ لا يعمل به في الأصول ، نعم لو قلنا باعتبار الأخبار من باب الظن الفعلي بالصدور ، لا يمكن التفكيك ، لكن معه لا يجري حكم التعارض ، إذ حينئذ يعمل بما يكون مظنون الصدور ويطرح الآخر ؛ هذا.

ويمكن أن يقال إنّ ظاهر الأخبار العلاجيّة وجوب الأخذ بالأرجح ، وطرح المرجوح مطلقا ، ولو في مادّة الافتراق ، فمع الرجوع إليها لا يؤخذ بمادة الافتراق أيضا ، فيبقى ما ذكرناه من التفكيك بناء على الرجوع إلى القاعدة العقليّة ، إذ معه لا ينبغي التأمل في أنّ الطرح إنّما هو بمقدار المانع ، إلا أن يقال بناء عليه أيضا : إنّه يصدق تنافي الخبرين على وجه لا يمكن الجمع بينهما ، وإذا كان هذا موضوعا للحكم العقلي بالتساقط مثلا ، فيحكم بتساقطهما مطلقا ، ولا يلاحظ خصوص مادة الاجتماع.

وكيف كان ؛ فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وقع لما يظهر من المحقق الأنصاري من الاستشكال في جريان قاعدة الجمع في المقام ، وعدمه بعد البناء على عدم جريانها في الظاهرين المحتاجين إلى تأويلين ، وجريانها في النص والظاهر والأظهر ، فإنّه قال في قاعدة الجمع (١) : وأمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّة على الآخر فالظاهر أنّ الدليل المتقدم في الجمع ـ وهو ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور ـ غير جار هنا .. إلى آخر ما قال.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٢٧.

١٧١

وقال في بحث المرجّحات الدلاليّة ـ بعد ذكر حكم النص والأظهر مع الظاهر ـ (١) : نعم يبقى الإشكال في الظاهرين اللذين يمكن التصرف في كل واحد منهما بما يرفع منافاته لظاهر الآخر .. إلى أن قال ـ : والمسألة محل إشكال.

فهو وإن قوّى ما ذكرنا من عدم الجمع ، والرجوع إلى الأخبار العلاجيّة إلا أنّ الغرض أنّه لا وقع لإشكاله ، فإنّ من الواضح عدم الفرق بين المقامين.

ثمّ إنّه ذكر في وجه عدم جريان قاعدة الجمع وأنّ المرجع هو الأخبار العلاجيّة وجوها (٢) :

أحدها : صدق موضوع تلك الأخبار من التعارض الذي يوجب الحيرة.

الثاني : أنّه لا معنى للجمع ثمّ الحكم بالإجمال كما هو لازمه.

الثالث : أنّه لا يظهر ثمر بين الجمع وعدمه ، إذ على الجمع أيضا يأخذ بمقتضى أحد الخبرين ، إمّا لعروض الإجمال في الظاهرين وتساقطهما فيرجع إلى الأصل المطابق لأحدهما ، وإمّا من باب التخيير بين الظاهرين على أضعف الوجهين ، والصحيح من هذه الوجوه هو الأول ، وإلا فقد عرفت ما في الثاني من أنّه لا مانع من التعبّد بالصدور ، وإن كان لازمه الإجمال ؛ مع أنّه لا تلزم اللغويّة في المقام ، حيث إنّه يثمر بالنسبة إلى مادتي الافتراق ؛ خصوصا لو قلنا بعدم الأخذ بهما بناء على الترجيح والتخيير ، وفي الثالث ما اعترف به من ظهور الثمر في الرجوع إلى الأخبار العلاجيّة وعدمه ، فإنّه إذا قلنا بالجمع يكون اللازم الحكم بالإجمال والأخذ بما يطابق أحدهما من الأصل ، وإذا قلنا بعدمه فربّما نرجح هذا الخبر أو ذاك ، وربّما نتخيّر بينهما ، فيختلف الحكم على حسب ذلك.

وكذا ظهر ضعف ما قد يقال من جريان قاعدة الجمع في المقام ، وإن لم نقل بجريانها في الظاهرين المحتاجين إلى تأويلين ، بدعوى أنّ الأخبار العلاجيّة غير شاملة للمقام ، وأنّ الإجماع غير واقع على عدم الجمع في المقام ، بخلاف المحتاجين إلى تأويلين ، حيث إنّ الجمع فيه خلاف الإجماع وقريب منه في

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤ / ٨٦.

(٢) فرائد الأصول : ٤ / ٨٨ ـ ٨٩.

١٧٢

الضعف التفصيل بين العامّين من وجه ، فيجري فيهما قاعدة الجمع وبين مثل قوله أغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة فلا تجري فيه ، بدعوى أنّ لازم الرجوع إلى الأخبار الأخذ بالأرجح وطرح المرجوح رأسا ، وهو موجب لترك العمل بالخبرين في مادتي الافتراق ؛ مع سلامتهما عن المانع ، والتفكيك إمّا بعيد ، أو خلاف ظاهر الأخبار ، وقد عرفت أنّه لا مانع من التفكيك ، ولا من الطرح رأسا بعد اقتضاء القاعدة ذلك ، مع أنّ المحذور المذكور جار في الثاني أيضا بالنسبة إلى القدر المشترك ، فلا وجه للفرق.

وأضعف من هذا التفصيل ما قيل من الفرق بين ما إذا كان ما يصرف إليه أحد الظاهرين على فرض التأويل متعينا ؛ بحيث صار ظاهرا فيه بعد صرفه عن ظاهره دون الآخر ، بأن كان ما يصرف إليه متعددا فيه ، وبين ما إذا كان متعينا فيهما ، أو متعددا فيهما ، فعلى الأول تجري قاعدة الجمع ، فيتعين الأول للتأويل ؛ وعلى الثانيين يرجع إلى الأخبار العلاجية ، إذ فيه أنّ مجرّد كون المعنى التأويلي في أحدهما متعينا لا يجدي ، إذ المدار على كون أحدهما قرينة على الآخر.

ودعوى أنّ نفس صدور الآخر قرينة على هذا التأويل كما ترى! إذ لعلّه يكون في غاية البعد عن اللفظ ، وإن كان متعينا على فرض الصدور والقرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وإلا فيمكن أن يجعل صدور هذا الخبر قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الآخر ، وإن لم يعيّن المعنى التأويلي فيه ، بل حكم فيه بالإجمال ؛ هذا مع أنّك قد عرفت أنّ الشك في إرادة الظاهر في شيء منها ليس مسببا عن الشك في صدور الآخر ، لإمكان كون المؤوّل ذلك الآخر.

هذا ؛ ولبعض الأعلام تفصيل في المقام ، فإنّه فصّل في العامين من وجه ، بين ما إذا كانا متناقضين ومتنافيين بالنفي والإثبات ، كما إذا قال أكرم العلماء ولا تكرم الفساق فالحكم هو ما تقدم في المتباينين ؛ من عدم الجمع إلا أن يكون أحدهما أظهر ، وبين ما إذا كانا متضادين بأن كانا مثبتين أو منفيين ، كما إذا قال إذا ظاهرت فأعتق رقبة ، وقال إذا ظاهرت فأكرم مؤمنا ، فإنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، ولا تعارض بينهما في مادّة الاجتماع ، بل في مادة الافتراق ، فإنّ مقتضى إطلاق الأول

١٧٣

جواز عتق الكافرة ومقتضى إطلاق الثاني جواز الإكرام بغير العتق ، وحينئذ فيجمع بينهما بتقييد إطلاق كلّ منهما بالآخر ، ويحكم بوجوب خصوص عتق الرقبة المؤمنة بعد العلم باتخاذ التكليف.

قلت : هذا في الحقيقة ليس تفصيلا في المقام ، إذ المثال الثاني ليس من العموم من وجه ، بل هو عموم مطلق في موردين ، إذ لا يلاحظ في النسبة تمام مدلول الخبر بل يلاحظ كل مقيّد مع مقيّده ، فكل منهما مطلق من جهة ، مقيّد من أخرى ، ومن ذلك يظهر أنّ ما عن تمهيد القواعد (١) من عدّ مثل قوله عليه‌السلام : «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غيّر لونه أو طعمه ..» (٢) ، مع قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء» (٣) من العموم من وجه ؛ ليس في محلّه ، وذلك لأنّ مفاد الأول أنّ الماء الغير المتغير طاهر وأنّ الماء المتغيّر نجس ، ومفاد الثاني أنّ الكرّ لا ينجس وغيره ينجس ، فليس مفاد كل منهما حكما واحدا ، ولعلّ نظر الشهيد إلى بعض مفاد الأول مع بعض مفاد الثاني.

ثمّ إنّ ما ذكره ذلك البعض ملاكا من كون التعارض على وجه التناقض أو التضاد لا وجه له ، إذ مثل قوله أكرم العلماء مع قوله أهن الفساق من القسم الثاني ، مع أنّه لا يحكم بالجمع بينهما ، ومثل قوله عليه‌السلام «اعتق رقبة» مع قوله لا تكرم كافرا ـ مع العلم باتحاد التكليف ـ من قبيل القسم الأول ، مع أنّه يجمع بينهما فتدبّر.

تذييل : [يتعلق بالجمع العملي]

الكلام من أول القاعدة إلى هنا إنّما كان في الجمع الدلالي ، وأمّا الجمع العملي في أدلّة الأحكام ؛ بمعنى إبقاء المتعارضين على حالهما ، بحملهما على ظاهرهما والتبعيض في مقام العمل فيما أمكن فيه ذلك ، وكذا في النصّين فقد ظهر من مطاوي ما ذكرنا بطلانه أيضا ، وذلك العدم الدليل عليه ، ودليل الحجيّة إنّما يقتضي وجوب العمل بالدليل في مدلوله ، ولو بعد حمله على المعنى التأويلي ، فمع إبقائه على

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٢٨٤.

(٢) الرواية ذكرها المحقق في المعتبر مرسلة وكذا أرسلها في السرائر ، وهي في الوسائل : ١ / ١٣٥ الباب ١ من أبواب الطهارة حديث ٩ ، وذكر أنّها متفق على روايتها.

(٣) وسائل الشيعة : ١ / ١٥٨ الباب ٩ من أبواب الطهارة حديث ١ وما بعده ، وفيه : إذا كان.

١٧٤

حاله ، والعمل به في بعض مدلوله لا يقال إنّه عمل به ، فلا يشمله الدليل ؛ مع أن التعارض الموجب للحيرة موجود ؛ فتشمله الأخبار العلاجيّة ، بل هي كالنص بالنسبة إلى تعارض النصين ، وإن أمكن التبعيض في مقام العمل.

وكذا القاعدة العقليّة بناء على الإغماض عن الأخبار ، بل لو قلنا بالجمع وخصصنا الأخبار بما لا يمكن فيه الجمع العملي أيضا ، لزم كونها لغوا ، إذ مورد عدم إمكان الجمع العملي أو الدلالي في غاية الندرة.

هذا مضافا إلى انعقاد الإجماع على عدم اعتباره ، ولذا لم يحتمله أحد من العلماء ، ولم يشيروا إليه في مورد من الموارد ، ولا فرق فيما ذكرنا بين كون الأخبار معتبرة من باب الطريقيّة أو السببيّة ، ودعوى أنّه على الثاني يكون حالها حال المتزاحمين من الواجبين ، ويجب العمل بهما بقدر الإمكان كما ترى! إذ ليس المراد من السببيّة كون العمل بالخبر واجبا من الواجبات النفسيّة ، نظير إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق ، مع أنّه لا يتفاوت الحال في شمول الأخبار العلاجيّة ، فإنّها على التقديرين مقتضية لوجوب الرجوع إليها ، وكذا الإجماع محقق على المطلب من غير فرق ، فلا وجه لما التزمه بعض الأعلام من أنّ المتّجه ـ بناء على السببيّة ـ الالتزام بالجمع العملي في الظاهرين المتباينين.

وقد يذكر في وجه عدم صحة الجمع العملي في أدلّة الأحكام أنّه غير معقول ، إذ قول العادل قال : الإمام كذا لا يمكن تبعيضه في التصديق وعدمه.

وفيه : أنّه إذا قال قال الإمام عليه‌السلام أكرم العلماء ، فهو ناقل عن الإمام عليه‌السلام وجوب إكرام بعض العلماء أيضا في ضمن الكل ، فيمكن أن يصدق في البعض ولا يصدق في البعض الآخر ، فهو نظير ما لو قال الشاهد هذه الدار لزيد ، فإنّه أخبر في ضمن هذا القول أنّ نصفها أيضا لزيد ، ويمكن أن يصدق فيه كما اعترف به المستدلّ ، مع أنّه يكفي كون قول الإمام عليه‌السلام قابلا للتبعيض ، وإن لم يكن قول الراوي قال الإمام كذا قابلا له ، فتبعيض التصديق إنّما هو باعتبار تبعيض مقول قول الإمام عليه‌السلام ، مع أنّه يمكن أن يدعى أنّه يصدق في قوله كليا ، ويؤخذ ببعض المضمون في مقام العمل إذا كان قابلا للتبعيض.

١٧٥

وربّما يذكر وجه آخر ؛ وهو أنّ التبعيض مستلزم للمخالفة القطعيّة ، وإن كان موجبا للموافقة القطعيّة أيضا ، حيث إنّه عمل بكلّ من الدليلين ، وترك لكل منهما غير أنّه إنّما يتم إذا كان حقيّة مضمون أحد الخبرين معلوما بالإجمال ، وأمّا مع عدم ذلك ـ كما هو الغالب ـ فلا يلزم ذلك ، إذ يمكن أن يكون كلاهما كذبا ، ويمكن أن يكون كلاهما صدقا ، لكن كان المراد من كلّ منهما البعض على حسب ما عمل بهما إذا فرض كونهما ظاهرين ، مثل قوله أكرم العلماء ولا تكرم العلماء.

ودعوى أنّه مع عدم العلم الإجمالي بمطابقة أحدهما للواقع أيضا يلزم المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ الحجّة غير خارجة عنهما ، فالعمل بهما مستلزم لترك العمل بالحجّة.

مدفوعة بأنّه لا معنى لكون الحجّة أحدهما ؛ إذ المفروض أنّ كلّا منهما واجد لشرائط الحجيّة ، فالعمل بهما عمل بالحجّتين ، وليس هناك واقع مجهول حتى يلزم مخالفته من العمل بهما معا ، وهذا واضح ، ولا فرق في ذلك بين القول بالطريقيّة والسببيّة ، فما قد يقال [من] أنّ الوجه المذكور تمام على القول بالسببيّة دون الطريقيّة كما ترى!

هذا ؛ وذكر بعض الأعلام (١) في وجه عدم صحّة الجمع العملي أنّ قاعدة الجمع بالمعنى المذكور مخصّصة بالأخبار العلاجيّة ؛ لأنّ المتعارضين إمّا متعادلان ، وقد ورد فيهما أخبار التخيير ، أو متفاضلان وقد ورد فيهما أخبار الترجيح ، والنسبة بينهما معا مع قاعدة الجمع هي العموم المطلق ، ولو لوحظت النسبة بينهما وبين أدلّة الأحكام فالنسبة هي التباين ؛ لأنّ نسبة مجموعهما بالنسبة إلى تلك الأدلة نسبة التباين ، وإن كانت النسبة بينهما وبين كلّ من الطائفتين عموما مطلقا ، فيجري حكم التباين ، ولازمه التعارض والتساقط ، فيرجع إلى أصالة البراءة وأصالة عدم وجوب العمل.

قلت : إنّه لاحظ النسبة بين نفس القاعدة والأخبار ، وجعلها عموما مطلقا ؛ مع أنّها عموم من وجه ـ كما اعترف به سابقا ـ بناء على جعل الإمكان عنوانا في القاعدة ، وأمّا ما ذكرنا من التخصيص فهو إنّما كان بلحاظ دليل القاعدة ، وهو دليل حجيّة

__________________

(١) الميرزا الرشتي في بدائعه : فراجع ص ٤٠٨ ـ ٤٠٩ منه.

١٧٦

الأخبار لا نفسها ، وأمّا ما ذكره من المعارضة بين الطائفتين من الأخبار وأدلّة الأحكام ، فلا محصّل له ؛ مع أنّه ليس النسبة بينها وبين كلّ منها عموما مطلقا ، فإنّ قوله أكرم العلماء مثلا يقتضي وجوب إكرامهم ، وإذا كان معارضا بقوله لا تكرم العلماء ، وكان هو الأرجح فمقتضى أخبار الترجيح عدم العمل به ، وإن كانا متساويين فمقتضى أخبار التخيير التخيير ، فهو إمّا مشمول لهذه الطائفة أو لتلك ، ولا يمكن أن يكون مشمولا بكلّ منهما ، إذ لا يمكن أن يكونا تارة متقابلين ، وتارة متساويين ، حتى يقال إنّ النسبة بينها وبين كلّ منها عموم مطلق ، وبين المجموع تباين ، ثمّ إنّ هذا كلّه حال الجمع الدلالي أو العملي بالنسبة إلى أدلّة الاحكام.

وأمّا بالنسبة إلى أمارات الموضوعات ؛ فمن المعلوم عدم جريان الجمع الدلالي فيها ، فلا يمكن أن يحمل ظاهر إحدى البيّنتين المتعارضتين على ما يرجع إلى الأخرى إذا كانتا ظاهرتين ، إذ لا دخل لإحداهما بالأخرى ، والجمع في الأخبار إنّما كان من جهة أنّ جميع الأئمة بمنزلة متكلّم واحد ، نعم لو كان التعارض بين كلام اللغويين ، وكان كل واحد ناقلا عن الواضع ، بحيث رجع إلى الإخبار عنه ؛ أمكن الجمع الدلالي إذا كان المتعارضان ظاهرين.

وأمّا الجمع العملي فالحق أيضا عدم جريانه فيها ؛ لعدم الدليل ، ومنع اقتضاء أدلّة حجّيّتها العمل بها بقدر الإمكان ، ولو جعلنا من باب الموضوعيّة والسببيّة ؛ لأنّ العمل على وجه التبعيض ليس عملا بشيء منهما في الحقيقة ، حتى يشمله دليل وجوب العمل.

ولكن قد يقال : إنّه مقتضى القاعدة ، وينزّل عليه ما ذكره الفقهاء من تنصيف دار تداعياها ، وكانت فى يدهما وخارجة عنهما ، وأقاما بيّنة ، فإنّه من باب العمل بكل منهما في النصف ، وربّما يؤيد ذلك بما ورد من تنصيف الدرهم فيما لو أودعه رجل درهما والآخر درهمين ؛ مع تلف أحدها ، وقد يقال في تأييده : بأنّه غاية الميسور في العمل بها ، فإنّ الجمع بحسب الدلالة غير ممكن فيها ، بخلاف أدلّة الأحكام ، فإنّ الجمع الدلالي فيها ممكن ، فلا تضر المخالفة القطعيّة ، لأنّ الحقّ فيها لمّا كان لمتعدد فيتناسب التبعيض جمعا بين الحقّين ؛ بخلاف الأحكام ، فإنّ الحق فيها لواحد وهو

١٧٧

الشارع ، وهو لا يرضى بالمخالفة القطعيّة ، مقدمة للعلم بالإطاعة ، وفي الجميع نظر! أمّا كونه مقتضى القاعدة ؛ فلما عرفت من المنع ، وأنّ التبعيض لا يعدّ عملا بالأمارة ، بل عند العرف يعدّان ممّا لا يمكن العمل بهما ، وأمّا في التنزيل فلإمكان أن يكون نظر الفقهاء إلى تساقط البيّنتين ، وكون التنصيف من باب عدم خروج الدار عن المتنازعين ، ولو بحسب الظاهر ، ولهذا يقولون بذلك فيما لا بيّنة لأحدهما ولا يد ، بل في المثال الأول يمكن أن يكون من باب تقديم بيّنة الداخل أو الخارج ؛ حسبما احتمله المحقق القمي «ره».

وأمّا في التأييد ؛ فلأنّ الخبر خاص بمقام لا يجوز التعدي عنه ، مع أنّه ليس من تعارض الأمارتين ، وأيضا المفروض فيه العلم بعدم خروج الدرهم عن المودعين ، فلا يمكن التعدي إلى صورة يحتمل [فيها] كذب الأمارتين كما هو الغالب.

وأمّا في الأخيرة ؛ فلأنّ وجوب العمل بالقدر الميسور أول الدعوى ، وأمّا في الفرق بين أدلّة الأحكام والموضوعات ؛ فلأنّ في الأولى أيضا قد لا يمكن الجمع الدلالي كما في النصين ، وكون الحق لواحد أو متعدّد لا يكون فارقا ؛ [ولا] سيّما مع عدم انحصار المناص في الجمع ؛ لإمكان كون الحاكم مخيّرا ، كما أنّه مخيّر في ترجيح أحد الخبرين اللذين هما مدرك الحكم ، وإمكان التساقط والرجوع إلى الأصل ، وإمكان التشخيص بالقرعة .. إلى غير ذلك.

فالأقوى عدم الجمع فيها مطلقا ؛ لا بحسب الدلالة ولا بحسب العمل ، هذا ؛ ولعلّه يأتي لذلك تتمة إن شاء الله.

[الأصل في المتعارضين]

ولنتكلّم في هذا البحث في أنّ مقتضى الأصل في المتعارضين ـ بعد عدم إمكان الجمع المعتبر مع قطع النظر عن الدليل الوارد ـ ما ذا؟ ولا يخفى أنّه لا يتفاوت الحال في ذلك بين الأدلّة للأحكام والأمارات للموضوعات ، إذ المفروض قطع النظر عن جميع الأمور إلا دليل الاعتبار ، ومن المعلوم تساوي الجميع في ذلك ؛ فنقول :

أولا : هل يجب الأخذ بالمرجّحات أم لا؟ ومرادنا مجرّد مزيّة في أحد الدليلين لم ينص الشارع على اعتبارها ، وإلا فمع اعتبارها شرعا لا إشكال ، ومع عدمها أو

١٧٨

فرض عدم وجوب الأخذ بها ، فهل الأصل التساقط أو التوقف أو الاحتياط أو التخيير؟ وجوه ؛ ويزيد في أمارات الموضوعات احتمال سادس (١) وهو القرعة ، ولا مجرى لها في أدلّة الأحكام ؛ للإجماع على اختصاصها بالموضوعات ، إلا أن يقال : القدر المعلوم عدم جريانها في نفس الأحكام ، وأمّا مقدّماتها فلا بأس بجريانها فيها ، ألا ترى أنّها تجري في تعارض البيّنتين في الجرح والتعديل في الرواة ، وفي قولي اللّغويّين ، مع أنّها من مقدّمات الأحكام الكليّة.

هذا ؛ ولكنّ الظاهر قيام الإجماع على عدم جريانها في تعيين الحجّة من الخبرين هذا ؛ وإنّما خمّسنا الاحتمالات لأنّ كلامنا في الأصل في المتعارضين الأعم من المتعادلين والمتفاضلين ، ومن ربّعها يحذف الاحتمال الأول كالمحقق الأنصاري قدس سرّه فلأنّه فرض الكلام في المتعادلين.

وقبل الشروع في تحقيق الحال لا بدّ من ذكر أمور :

أحدها : [تحديد محل البحث]

أنّ مورد الكلام ما إذا كان لكلّ من المتعارضين دليل يدل على اعتباره بظاهره ، بأن لا يكون الدليل عليه لبّيا قاصرا ، أو لفظا منصرفا عن صورة المعارضة ، فإنّهما أو أحدهما حينئذ يسقط عن الاعتبار ؛ لا للمعارضة ، بل لعدم شمول الدليل ، ولا بدّ أن يكون النظر مقصورا على دليل الاعتبار فقط ، بأن لا يلاحظ ما ورد من الشارع في علاج المتعارضين ، فمحلّ البحث أنّه إذا كان هناك عموم يدلّ على اعتبار الخبر مثلا ، ولم يكن فيه قصور ولا تقصير ، وفرض تعارض فردين منه : فهل الأصل ما ذا؟ (٢)

ومن ذلك يظهر ما ذكرنا من أنّ البحث يجري في الأمارتين أيضا ، وعدم شمول دليل الاعتبار في بعض المقامات لا يضرّ بالكليّة المدّعاة ، إذ الكلام في تحقيق الكبرى ، لا تشخيص الصغريات ، وكذا ورود العلاج في بعض الأدلة كالأخبار والبينتين ، فإنّ الكلام مع الإغماض عنه ، ثم إنّ حكم تعارض الأصلين له محلّ آخر

__________________

(١) فالأمور التي ذكرها هي ـ بالإضافة للترجيح ـ : التخيير والتوقف والتساقط والاحتياط فتكون القرعة هي السادسة ؛ وهو المناسب لقوله بعد ذلك «وإنّما خمّسنا ..».

(٢) هذه العبارة الأخيرة فيها ضعف ؛ لتكرر أداة الاستفهام بلا موجب ، وحق العبارة حذف إحداهما وهي ـ هل ـ وتكون العبارة هكذا : فما ذا يكون الأصل هنا؟

١٧٩

وإن كان يمكن استفادة حكمه ممّا ذكر ، ولعلّنا نتعرض لذلك إن شاء الله.

الثاني : [في تصوير الوجوه المذكورة] فنقول :

أمّا الترجيح ؛ فهو عبارة عن الأخذ بما يكون من الدليلين مشتملا على مزيّة إمّا مطلقا أو في مناط الحجيّة ، والحكم بسقوط المرجوح عن الاعتبار إن كان الدليل عامّا ، بمعنى أنّ العقل الحاكم بوجوب الأخذ بالأرجح حاكم بخروج الآخر عن الحجيّة ، وعن تحت دليل الاعتبار ، لا أنّه أيضا حجّة إلا أنّه يجب الأخذ بذي المزيّة تعبّدا ، كمسألة الأهم وغير الأهم في الواجبات ، حتى يكون البحث في صورة العمل بالمرجوح كالبحث في الإتيان بغير الأهم مبنيّا على مسألة الضد.

فإن قلت : بناء على الموضوعيّة اللازم ذلك ؛ لأنّ المفروض أنّه يجب الأخذ بكلّ من الأمارتين من حيث هما ، فيصيران كالواجبين المتزاحمين.

قلت : وإن كان يتراءى في ظاهر النظر ذلك ؛ إلا أنّ باب الأمارات غير باب الواجبات ، ومقام الحجيّة والاعتبار غير مقام الإتيان بالواجبات ، فالمرجوح يسقط عن الاعتبار أصلا ، بناء على وجوب الترجيح ، إذ لا معنى لتعبديّة الأخذ بالراجح إلا أن يخرج عن الأماريّة ويجعل موضوعا من الموضوعات ؛ من غير نظر إلى الواقع أصلا ، بأن يكون تصديق العادل نظير إكرام العالم ، وحينئذ نلتزم بأنّه مثل الأهم وغيره ، وأنت خبير بأنّه خارج عن المفروض ، وأنّه تصويب باطل كما سيأتي ، فالمراد من الموضوعيّة في المقام ليس على الوجه المذكور كما سيتضح إن شاء الله هذا.

وأمّا من يقول بعدم وجوب الترجيح فيقول : إذا كان الدليل شاملا لكل من المتعارضين ، والمفروض أنّ هذه المزيّة ممّا لم ينص الشارع على الأخذ بها ، فلا دليل على ترجيح ذيها.

وأمّا التخيير فهو عبارة عن حكم العقل بوجوب الأخذ بأحدهما لا على التعيين ، بعد فرض شمول الدليل لكلّ واحد منهما على التعيين ، فالحجيّة حينئذ كلّ واحد منهما لا على التعيين ، لا بمعنى أنّ أحدهما لا على التعيين حجّة ، إذ الحجيّة نظير الوجوب في الواجبات التخييريّة ، حيث إنّ نحو الوجوب التخييري غير نحو

١٨٠