كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

البحث الثاني (١) : فيما تعارض الظنيان

وقد عرفت أنّه محط كلام صاحب الغوالي ، وأنّ الحق فيه هو الجمع مع الإمكان العرفي ، والإمكان بشاهد وعدمه في غيرهما ، فلنا دعويان :

أمّا الأولى ؛ وهو الجمع في الصورتين : فيدل عليه فيما إذا أمكن عرفا بأن كان أحدهما نصا أو أظهر ـ مضافا إلى إمكان دعوى الإجماع عليه كما ادعاه صاحب الغوالي ، وسيرة العلماء ، والأصحاب كما لا يخفى على المتتبع في عملهم في الفروع ، وإلى بعض الأخبار مثل قولهم عليهم‌السلام «في أخبارنا محكما ومتشابها فردوا متشابهها إلى محكمها» (٢) ، فإنّ العامّ وإن كان ظاهرا من حيث هو إلّا أنّه في مقابل الخاص يعدّ من المتشابه ، كقوله عليه‌السلام «أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن منه ناسخ ومنسوخ ، وعام وخاص ، محكم ومتشابه» (٣) ، وقد كان (٤) يكون من رسول الله كلام يكون له وجهان وكلام عامّ وكلام خاص مثل القرآن ، وكقوله «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا» (٥) ، وغير ذلك ممّا يظهر منه وجوب إرجاع بعض الأخبار إلى بعض ، مثل قوله عليه‌السلام «إنّ أخبارنا يفسر بعضها بعضا» (٦) ـ إنّ الأصل في الخبرين الإعمال بمقتضى أدلّة الاعتبار ؛ لأنّها عامّة لكل خبر ، فلا بدّ من الحكم بصدور الخبرين ، وحينئذ يكون أحدهما قرينة على الآخر في نظر العرف ، فلا يعدونهما بعد ذلك من المتعارضين ، وإن كانا منهما في أول النظر.

ومن ذلك يظهر عدم شمول الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجحات للمقام ، فإنّ منصرفها كما لا يخفى هو صورة التحير على فرض قطعيّة صدورها (٧) ، ولا حيرة مع كون أحدهما نصا أو أظهر ، كما فيما إذا كانا قطعيين ، والسرّ في ذلك أنّ التعارض ـ

__________________

(١) في النسخة كتب : المبحث ، وحفاظا على التناسب بينه والأول رسمناه «البحث».

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٢.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٥٩١ خطبة رقم ٢٠٣.

(٤) الظاهر زيادة «كان».

(٥) معاني الأخبار : ١ / ١ ، الوسائل : ٢٧ / باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٧.

(٦) لم نعثر عليها في مصدر روائي ، والكلمة كثيرة التكرر في لسان العلماء كما يشهد الوجدان بصحتها.

(٧) في نسخة (ب) : صدورهما.

١٤١

كما عرفت ـ إنّما هو بين السندين بالعرض ، من جهة سريان تعارض الدلالتين إليهما.

وإن (١) كان أحدهما قرينة على الآخر لا تعارض بينهما على وجه يوجب الحيرة حتى تشملهما الأخبار العلاجيّة ، ولا حاجة إلى ما ذكره المحقق الأنصاري قدس‌سره من حكومة سند النص على دلالة الظاهر ، إذ هو فرع كون التعارضين (٢) بين سند النص ودلالة الظاهر ، مع أنّ هذا البيان غير تام كما سيأتي إن شاء الله.

هذا مع ملاحظة الأخبار العلاجية ، وأمّا مع الإغماض عنها ، وملاحظة الجمع مع التساقط فلذلك (٣) نقول : إنّ التساقط الذي هو مقتضى الأصل إنّما هو فيما لم يمكن (٤) العمل بكلا الخبرين ، والمفروض إمكانه ، وحينئذ وإن (٥) كان النص أو الأظهر قرينة على تعيين المعنى التأويلي ـ كما هو الغالب ـ فهو ؛ وإلا فيؤخذ بهما ويحكم بإجمال الظاهر ، ولا مانع من إدخاله تحت دليل الاعتبار ، والحكم بإسقاطه من جهة الإجمال ـ كما عرفت سابقا ـ لعدم لزوم اللغويّة ، لوجود القدر المشترك في الغالب ، وعلى فرض عدمه فقد عرفت أنّه لا يضر بعد تعليق الحكم على الطبيعة الشاملة لهذا الفرد أيضا إذا كان هناك مصلحة في هذا النحو من الجعل ، مع أنّ هذا الفرض نادر ؛ بل غير واقع ؛ لأنّ الظاهر لا ينفك بعد صرف ظاهره عن مجاز قريب يحمل عليه.

ومع عدمه فالغالب وجود القدر المشترك بينه وبين النص ، فيكون دليلا على إثباته.

ودعوى أنّه يكفي فيه وجود النص وحجّيته بالفرض مدفوعة (٦) بأنّه لا مانع من كون القدر المشترك ثابتا بدليلين ، مثلا : إذا كان خبر ظاهرا في الاستحباب وآخر نصا في الوجوب يقدم الثاني ، ويحمل الأول على إرادة بيان مطلق الرجحان ، وإن كان

__________________

(١) في نسخة (ب) : واذا.

(٢) في نسخة (ب) : التعارض.

(٣) في نسخة (ب) : فكذلك.

(٤) في الأصل : فيما لم يكن ، وصححنا الكلمة من نسخة (ب).

(٥) مقتضى استقامة العبارة أن تكون : فإن كان ...

(٦) في نسخة (ب) : مدفوعة بالفرض.

١٤٢

في ضمن الوجوب ، وعلى فرض عدم حمله على ذلك ، بدعوى عدم قربه فنقول : إنّ الدليل شامل له أيضا ، وفائدة شموله إثباته مطلق الرجحان ، وإن صار مجملا بعد صرفه عن ظاهره من الاستحباب ، وثبوت الرجحان من الخبر الدال على الوجوب لا ينافي كون هذا أيضا دليلا عليه ، فيكون مطلق الرجحان ثابتا بدليلين ، وخصوص الوجوب بدليل واحد.

هذا وأمّا الجمع بالشاهد فهو أيضا في الحقيقة راجع إلى الجمع العرفي ، فإنّه وإن لم يساعد عليه العرف بملاحظة نفس الخبرين ، لمكان كون كل منهما ظاهرا مكافئا للآخر ، إلا أنّه بملاحظة الشاهد يرجع إليه ، ولا يشمل مورده الأخبار العلاجيّة ، مثلا : إذا ورد الأمر بالقصر في أربعة فراسخ ، وورد الأمر بالإتمام فيها ، فهما وإن كانا متكافئين ؛ إلا أنّه إذا ورد خبر منفصل (١) بين الرجوع ليومه أو عدمه كما يدعى بالنسبة إلى ما ورد في مقام التعليل للقصر من أنّه إذا ذهب ورجع بريدا فقد شغل يومه ؛ بدعوى : أنّه يظهر منه أنّ المدار في القصر على شغل اليوم فعلا ، وهو إنّما يكون بالرجوع ليومه ، فهذا الخبر يكون أخص من كل واحد من الخبرين الأولين فيخصّصان به ، ويصير شاهدا للجمع بينهما ، وكذا في مسألة صلاة العاري المختلفة فيه الأخبار :

منها : الآمرة بالصلاة قائما موميا (٢).

ومنها : الآمرة بالصلاة قاعدا (٣).

ومنها : المفصّلة بين وجود الناظر وعدمه (٤).

وكذا إذا كان الشاهد هو الإجماع على التفصيل : فإنّه أيضا مخصص لكل واحد من الخبرين ، وكذا إذا كان هو الحكم العقلي.

والحاصل أنّ في هذه الصورة يكون التعارض بين ثلاثة أخبار أو ثلاثة أدلّة ومقتضى الجمع العرفي ما ذكر ، فلا تدخل تحت الأخبار العلاجيّة ، ولا يكون موردا

__________________

(١) في نسخة (ب) : خبر مفصل.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلي ، حديث ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤.

(٣) المصدر السابق ؛ باب ٥١ حديث ١.

(٤) المصدر السابق ؛ باب ٥٠ حديث ٤.

١٤٣

للتساقط بناء على الإغماض عنها.

هذا واعلم أنّه قد يكون الخبران ظاهرين متساويين في الظهور ، ولا يكون هناك شاهد على الجمع من نقل أو عقل ، إلا أنّه يستفاد من الجمع بينهما وملاحظتهما معا ومعنى (١) ثالث في العرف بحيث يكون كلّ منهما قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الآخر ، مع تعين ذلك المخالف ، فيجمع بينهما بذلك ، كما في النص والظاهر ، إلا أنّ فرضه بعيد ؛ لكنّه لو وجد فحاله حالهما فيما ذكر ، ولا تشمله الأخبار العلاجيّة.

واعلم أنّه أيضا ربّما يستظهر من جماعة خلاف ما ذكرنا من وجوب الجمع إذا ساعده العرف مثل حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد ونحوهما ، منهم الشيخ في الإستبصار (٢) حيث إنّه بعد ما ذكر الأعدليّة والأكثريّة قال : فإن كانا متساويين في العدالة والعدد ، وكانا عاريين عن القرائن التي ذكرناها ، ينظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه ، وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر ، لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا.

وإن كان الخبران يمكن العمل بكل منهما ، وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل ، وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا ، لفظا أو منطوقا ، أو دليل الخطاب (٣) ، وكان الآخر عاريا عن ذلك ؛ كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار ، وإذا لم يشهد لأحد التأويلين شاهد آخر وكانا متساويين ؛ كان مخيرا في العمل بأيّهما .. انتهى.

وقريب منه ما نقل عنه في العدّة (٤) ، فإن مقتضى إطلاقه أنّ الجمع المذكور متأخر عن المرجحات السنديّة.

ومنهم بعض المحدّثين من متأخري المتأخرين : حيث أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة المعارضة خبر الرخصة ، لأنّه

__________________

(١) الظاهر أنّها : معنى ثالث.

(٢) الإستبصار : ١ / ٤.

(٣) المقصود بدليل الخطاب : لسان الفحوى ، أو الأولويّة.

(٤) عدّة الأصول : ١ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

١٤٤

طريق جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، مع أنّه من الجمع العرفي ، بل ظاهره إنكار مطلق الجمع ، وأنّ الواجب الرجوع إلى المرجّحات.

ومنهم المحقق القمي رحمه‌الله : حيث إنّه بعد الحكم بوجوب بناء العام على الخاص قال (١) : وقد يستشكل بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامة ، أو موافق للكتاب ، أو نحو ذلك ؛ وهو يقتضي تقديم العام لو كان هو الموافق للعامّة (٢).

وفيه : إنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاص من حيث العموم والخصوص ، لا بالنظر إلى المرجحات الخارجيّة ، إذ قد يصير التجوز في الخاص أولى من التخصيص في العام ؛ من جهة مرجح خارجي ، وهو خارج عن المتنازع .. انتهى.

فيظهر منه الرجوع إلى المرجّحات مع وجود الجمع العرفي ؛ غاية الأمر أنّه أيضا ملحوظ من حيث هو ، بمعنى أنّه مع التساوي من جميع الجهات الخاص مقدم.

هذا ؛ ولا يضر مخالفتهم فيما ذكرنا من دعوى الإجماع كما لا يخفى ، مع أنّ الشيخ صرّح في باب بناء العام على الخاص من العدّة ـ على ما حكي عنه ـ بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما في تعارض العامّين من وجه ، دون العام والخاص ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلا.

وكذا المحقق القمي رحمه‌الله صرّح بما ذكرنا ؛ بل لم يظهر منه في قاعدة الجمع ـ على ما ذكره في المقام ـ وفي باب تخصيص العام بمفهوم المخالفة التفصيل الذي ذكرناه ، نعم في بعض كلماته ما يظهر منه المخالفة في الجملة ، حيث إنّه ذكر أنّ الجمع الذي لا يلاحظ معه المرجّحات إنّما هو في مقابل الإسقاط بالمرّة ، وأمّا في إجراء التأويل في هذا أو ذاك فلا بدّ من ملاحظة المرجّحات ، فإنّه كما يمكن تأويل العام بإخراجه عن حقيقته كذلك يمكن تأويل الخاص.

ومراده من المرجحات كما (٣) يظهر من كلامه في باب تخصيص العام بمفهوم المخالفة أعم من مرجحات الدلالة والسند (٤) ، ولكنّه قيّد الأخذ بالمعنى التأويلي بما

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ / ٣١٥ ـ ٣١٦ ، وفي طبعة أخرى : ٢ / ٤٠٤.

(٢) في نسخة (ب) : لو كان موافقا للكتاب ، بدل من : الموافق للعامّة ، وهو الموافق للمصدر.

(٣) في نسخة (ب) : على ما.

(٤) في نسخة (ب) : الدلاليّة والسنديّة.

١٤٥

إذا ساعدت (١) عليه قواعد اللفظ والعرف (٢) ، وهذا مع قطع النظر عن كونه أخذا بالمرجّحات السنديّة في مقام الجمع ، مع أنّك عرفت تقدمها (٣) على الرجوع إليها.

وفيه (٤) : إنّ اللازم ـ على ما ذكره ـ عدم الرجوع إلى المرجحات السنديّة لإسقاط أحد الخبرين والأخذ بالآخر (٥) إذا لم يكن الجمع بالتأويل العرفي ، مع أنّه خلاف مختاره ، فلا وجه لتخصيص الرجوع إليها بمقام تعيين التأويل ، إذ هي معتبرة في مقام الإسقاط بالمرّة أيضا ؛ فتدبر وراجع كلامه هذا!

والوجه فيما ذكره من ملاحظة المرجحات السنديّة في العام والخاص أنّه قائل بمطلق الظن حتى في ظواهر الألفاظ ، فلازمه ملاحظة جميع الجهات المقوّية للظن بالواقع من المرجحات السنديّة والدلاليّة (٦) ، وعدم الترتيب بينهما ، فإذا كان العام مخالفا للعامّة ، والخاص موافقا لهم ، فقد لا يحصل الظن بالواقع من الأخذ بالخاص ، وهكذا ...

فما ذكره لازم مذهبه كما لا يخفى ، وقد صرّح في غير مقام بأنّ المدار على الظن بالواقع ، وأنّ العمل بما ورد في الأخبار من المرجّحات أو بالتخصيص أو التقييد أو نحو ذلك ممّا هو معتبر شرعا أو في بناء العقلاء ، إنّما هو من جهة كونه مفيدا للظن نوعا ، وأنّ الاعتبار به إنّما هو بملاحظته من حيث هو ، ومع قطع النظر عن سائر الجهات ، وإلا فمع كون الظن على خلافه في بعض المقامات لا يعمل به ، ففي العام والخاص ـ مع قطع النظر عن سائر الجهات ـ الخاص مقدم ، وأمّا مع ملاحظة ما يوجب قوّة الظن في جانب العام يؤخذ به ، ويؤول الخاص بما لا ينافي العام.

وعلى هذا فلا تضر مخالفته لما ذكرنا ، فإنّا نتكلم على تقدير كون ظواهر الألفاظ

__________________

(١) في النسخة : ساعد.

(٢) في الأصل : والفرق ؛ وصححنا المتن من نسخة (ب).

(٣) في نسخة (ب) : تقدمه.

(٤) في الأصل : فيه.

(٥) في نسخة (ب) : وأخذ الآخر.

(٦) في نسخة (ب) : تقدمت «الدلاليّة» على «السنديّة».

١٤٦

من باب الظن الخاص (١).

هذا ؛ ويمكن توجيه كلام الشيخ أيضا بأنّ مراده غير الجمع العرفي الذي كلامنا فيه ، وأنّ مع عدمه وعدم سائر المرجّحات السنديّة يؤخذ بالتأويل الكذائي ، فهذا عنده من جملة المرجّحات لأحد الخبرين في عرض المرجّحات السنديّة ، وحاصله أنّه إذا فقد سائر المرجّحات بعد عدم إمكان الجمع العرفي ، فإذا دار الأمر بين طرح الخبرين أو أحدهما وبين العمل بهما مع تعين التأويل في أحدهما ، وإن لم يساعد عليه العرف في أوّل الأمر فإنّه يؤخذ بهما ، بمعنى أنّه يؤخذ بما لو عمل به أمكن معه حمل الآخر على ضرب من التأويل ، ولا يؤخذ بالآخر الذي لو عمل به وجب طرح الخبر الأول ، ومع عدم إمكان ذلك ؛ بأن كان كل منهما قابلا للتأويل فالمرجع التخيير ، فكلامه خارج عن مفروض المقام.

نعم ؛ يرد عليه أنّ الترجيح بهذا الوجه لا دليل عليه ، بل مقتضى القاعدة الرجوع إلى التخيير بعد فقد المرجحات السنديّة.

والحاصل أنّ كلامه ناظر إلى إعمال الجمع الغير العرفي بعد فقد المرجحات فإعمال قاعدة الإمكان في غير ما يساعد عليه العرف قبل التخيير لا قبل الرجوع إلى المرجحات السنديّة فتدبّر!.

ثمّ اعلم أنّه لا فرق بين كون أحد الخبرين نصا مطلقا والآخر ظاهر كذلك ، وبين كونه نصا (٢) من جهة ظاهرا من أخرى ، والآخر كذلك ، فإنّه أيضا يؤخذ بمقدار نصوصيّة كل منهما ، ويجعل قرينة على ظهور الآخر ، وكذا إذا كان كل منهما أظهر من جهة ظاهرا من أخرى ، كما إذا قال أكرم العلماء وقال أيضا لا تكرم العلماء ، وفرض كون مورد السؤال في الأول العالم العادل ، ومورد السؤال في الثاني العالم الفاسق ، فإنّ الأول حينئذ نصّ في العادل ، والثاني في الفاسق ، وكلّ منهما ظاهر في الآخر ، وذلك لعدم إمكان التخصيص بإخراج المورد.

__________________

(١) من قوله «ويؤول ـ إلى قوله ـ الخاص» لا يوجد في نسخة (ب).

(٢) لا توجد كلمة «نصا» في نسخة (ب).

١٤٧

وقد يعدّ من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ثمن العذرة سحت» (١) وقوله عليه‌السلام «لا بأس ببيع العذرة» (٢) بدعوى أنّ الأول نصّ في عذرة غير المأكول ، وظاهر في غيرها ، والثاني نصّ في عذرة المأكول ظاهر في غيرها.

قال المحقق الأنصاري قدس سرّه في أوّل المتاجر (٣) ـ بعد ما نقل عن الشيخ الجمع بينهما بحمل الأول على عذرة الإنسان ، والثاني على عذرة البهائم ـ : ولعلّه لأنّ نصّ الأول (٤) في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها ، بعكس الثاني ، فيطرح ظاهر كلّ منهما بنص الآخر.

وقال بعض الأعلام في هذا الباب : وهو (٥) في غاية الجودة والاستقامة ، ولا يحتاج إلى شاهد خارجي.

قلت : وهو غير جيد ؛ لأنّ الملاك في النصوصيّة أن يكون الخبر بحسب مدلوله نصا ولو من جهة الاحتفاف بالقرائن ، كما مثلنا من قرينة (٦) مورد السؤال ، وفي المقام ليس كذلك ، غاية الأمر أنّه على فرض حرمة البيع تكون عذرة غير المأكول أو خصوص الإنسان قدرا متيقنا ، كما إنّه على فرض الجواز تكون عذرة المأكول قدرا متيقّنا ، وهذا لا يكفي في القرينيّة ، وفي الجمع الذي نحن بصدده ، ولذا لم يجعلهما المحقق (٧) في هذا الباب من النص والظاهر ، بل جعلهما من الظاهرين المتكافئين.

هذا ؛ ولا وجه لعدّ الجمع بين الخبرين المذكورين من الجمع بشاهد الإجماع ، كما قد يتخيّل ، بدعوى أنّ الإجماع قائم على حرمة بيع عذرة غير المأكول على فرض كون الحكم هو الحرمة ، وعلى جواز بيع عذرة المأكول على فرض كون الحكم هو الجواز ، وذلك لأنّ هذا الإجماع تقديري ، لا يثمر في مقام الشهادة.

__________________

(١) في النسخة : العذرة سحت. وانظر الوسائل : ١٧ / الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ١.

(٢) المصدر السابق ؛ حديث ٣.

(٣) في النسخة : المتأخر ، والصواب ما ذكرنا. ولاحظ المكاسب : ١ / ١٣ طبعة النعمان.

(٤) في المصدر هكذا : لأنّ الأول نص في عذرة الإنسان ...

(٥) في نسخة (ب) : هو.

(٦) في نسخة (ب) : قرينيّة.

(٧) بعدها في نسخة (ب) : المذكور.

١٤٨

وكذا لا وجه لعدّ الجمع بين مثل (١) قوله أكرم العلماء ولا تكرم العلماء بحمل الأول على العدول ، والثاني على الفسّاق ، من الجمع بشهادة العقل ، فإنّه إذا وجب إكرام العلماء فالعقل يحكم به في العدول ، وعلى فرض الحرمة العقل يحكم بها في الفساق بالأولى ، لأنّ الأولين أولى بالإكرام والآخرين بتركه ، فالعقل شاهد للجمع ، وذلك لأنّ حكم العقل على فرضه تقديري فلا يثمر ، وإنّما المثمر ما إذا حكم فعلا بوجوب إكرام عدول العلماء ، وحرمة إكرام فساقهم ، وليس (٢) ؛ فالحكم بالأولويّة على فرض الوجوب أو الحرمة لا يصلح أن يكون شاهدا ، إذ في الحقيقة لا بدّ أن يكون العقل مخصّصا للعامّين ، وحكم العقل التقديري لا يصلح للتخصيص كما هو واضح.

ثمّ اعلم أيضا أنّه لا فرق فيما ذكرنا من الجمع العرفي في المقام والمقام السابق من القطعيين والمختلفين بين النص والظاهر ، والظاهر والأظهر ، فإنّه كما أنّ النص قرينة على الظاهر ، وبملاحظتهما معا يحكم العرف بالتأويل في الظاهر ، فكذا في الأظهر (٣) ؛ فإنّه أيضا قرينة على الظاهر.

وكذا بناء على مذاق المحقق الأنصاري قدس سرّه من جعل التعارض بين سند النص ودلالة الظاهر حكومة الأول على الثاني ، فإنّ الأمر كذلك في الأظهر والظاهر أيضا ، ومجرّد إمكان التأويل في الأظهر أيضا من حيث إنّه لا يخرج عن كونه ظنيّا دون النص ، لا يكون فارقا كما هو واضح ، فلا وجه لما ذكره المحقق المذكور في باب الجمع في المرجحات الدلاليّة من الفرق بينهما ، وأنّ الحكومة متحققة في النص والظاهر دون الأظهر والظاهر ، فإنّهما متعارضان ؛ لإمكان التأويل في كليهما ، غاية الأمر أنّ الأظهر يرجح من جهة قوة الدلالة ، ولعلّه لما ذكرنا عدل عن ذلك في حاشية له حيث قال (٤) : إنّه بعد إحراز الترجيح العرفي للأظهر يصير كالنص ، ويعامل معاملة الحاكم ، لأنّه يمكن أن يصير قرينة للظاهر ، ولا يصلح الظاهر أن يكون قرينة له ، بل لو

__________________

(١) لا توجد هذه الكلمة «مثل» في نسخة (ب).

(٢) أي : وليس من حكم عنده فعلا بوجوب إكرام عدول العلماء وحرمة إكرام فسّاقهم.

(٣) بعدها في نسخة (ب) : والظاهر فإنّ الأظهر قرينة.

(٤) فرائد الأصول : ٤ / الهامش من صفحة ٢٦.

١٤٩

أريد التصرف فيه احتاج إلى قرينة من الخارج ، والأصل عدمها .. انتهى.

هذا ؛ ولكن لا بدّ في الأظهر أن تكون قوّة دلالته بالنسبة إلى الظاهر بمرتبة يصلح أن تكون قرينة ، فلا يكفي مجرّد المزيّة والقوّة ما لم تبلغ إلى هذا الحد ، فالمدار على كونهما بحيث لو جمعا في كلام متكلّم واحد جعل الأظهر قرينة ، وحكم بعدم المنافاة بين الكلامين ، فما يظهر من المحقق المذكور في مبحث الترجيح الدلالي الذي هو جمع (١) في الحقيقة من الاعتماد على كلّ أظهرية نوعيّة ، مثل كون أحد العامّين أقل فردا من الآخر ، أو كون تخصيص أحدهما من التخصيص بالقليل دون الآخر ، ونحو ذلك ممّا ذكروه في ترجيح بعض الأحوال على بعض ؛ لا وجه له ، إذ مثل ذلك لا يصلح (٢) للقرينيّة في نظر العرف.

ودعوى أنّ ذلك ليس من باب الجمع بل من باب الترجيح الدلالي ، ويكفيه مطلق المزيّة.

مدفوعة بأنّه صرّح بأنّ الترجيحات الدلاليّة من باب الجمع ، ولذا تقدم على سائر المرجّحات ، وإلا لم يكن وجه لتقديمها عليها ، بل يمكن ـ بناء على عدم رجوعها ـ منع اعتبارها ، لاختصاص الأخبار بالترجيحات السنديّة ؛ فتأمل! وكيف كان ففي طرف التفريط من هذا الإفراط ما ذكره بعض الأعلام من منع اعتبار الأظهريّة أصلا لا في الظنيين ولا في القطعيين والمختلفين ، وأنّ الأظهر والظاهر حكمهما حكم الظاهرين المتكافئين ، وذلك لعدم الدليل على اعتبار الأظهرية مطلقا ، بعد كون الأصل في المتعارضين التساقط ؛ لا الترجيح ، ولا التخيير ، والإجماع على الجمع لو كان : فهو خاص بأدلة الأحكام ولا يجري في الموضوعات.

وتظهر الثمرة في مثل الوصايا والأوقاف ، فإذا اجتمعا في كلام متكلم واحد فلو أوصى بشيء ثمّ أوصى بما ينافيه فإن أظهر البداء كان الحكم للثاني ، وإلا حكم بالإجمال ، ويرجع إلى الأصول مع مراعاة العلم الإجمالي ، وإن كان أحدهما أظهر ، إذ لا دليل على تأويل الظاهر بما يرجع إلى الأظهر ، مع أنّ الإجماع على التقديم في

__________________

(١) في نسخة (ب) : الجمع.

(٢) في نسخة (ب) : ليس صالحا.

١٥٠

أدلة الأحكام أيضا ممنوع ، لإنكار صاحب الوافية له ، وأقرّه عليه الشرّاح فإنّه قال في الآيتين المتعارضتين بتقديم النص على الظاهر ، وإن كان أحدهما نصا وإلا فالإجمال (١) ، ومقتضى إطلاق كلامه الحكم بالإجمال مع كون أحدهما أظهر وأمضاه شرّاحه.

ودعوى بناء العرف والعقلاء على تقديمه مدفوعة بمنع البناء أولا ، ومنع اعتباره ثانيا ، وذلك لأنّ بنائهم إنّما يعتبر في تشخيص الظهورات لا في الأحكام اللاحقة لها وكيفيّة العمل واستكشاف المرادات بها.

وبالجملة فإقامة الدليل على اعتبار الأظهريّة مطلقا أو في خصوص أدلّة الأحكام (٢) دونه خرط القتاد.

أقول : قد عرفت أنّ وجه التقديم أنّه عند العرف يعدّ قرينة للظاهر ، فيكون حاله حال النص ، ولا يحتاج إلى الإجماع على الجمع ، ولا يضره مخالفة صاحب الوافية مع أنّها غير معلومة من العبارة المذكورة ، إذ لعلّ ذكره للنص من باب المثال لكل ما يكون قرينة.

ودعوى عدم بناء العقلاء كما ترى ، وكذا دعوى عدم اعتباره في المقام ؛ لأنّ حكمهم في أنّها (٣) أيضا ترجع إلى تشخيص الظاهر ، وأنّ المراد من الكلامين الصادرين على الوجه المذكور إذا لوحظا معا هو كذا ، مع أنّا نمنع عدم اتباعهم في مثل هذه الأحكام اللاحقة للظواهر ، نعم لا تتّبع أحكامهم الاستقلاليّة الغير الراجعة إلى الظواهر أصلا.

ثمّ إنّ ما ذكره في مثال الوصيتين المتنافيتين فيه ما لا يخفى ، إذ في الوصيّة المنافية للأولى تقدّم الثانية وإن كانتا متساويتين في الظهور ، ولم يعلم البداء ؛ لأنّها حيث كانت من العقود الجائزة ، فيجوز الرجوع فيها ، ومجرّد الوصية الثانية رجوع فعليّ عن الأولى ، وإن لم يكن ملتفتا إليه (٤) ، وذلك لأنّ المال بعد باق على ملكه فلو

__________________

(١) الوافية : ٣٢٥.

(٢) في النسخة : أحكام.

(٣) كلمة غير واضحة ؛ ورسمنا ما يحتمل إرادته.

(٤) في النسخة : إليها ، وما كتبناه أصح ، لأنّ الضمير يرجع لقوله «رجوع» ، أي لم يكن ملتفتا ـ إلى كونه رجوعا.

١٥١

أوصى به لعمرو بعد ما أوصى لزيد تكون وصيته متعلقة بماله ، ولا يضره الوصيّة الأولى.

وكذا إذا أوصى به ثمّ وهبه أو باعه ، أو نحو ذلك من التصرفات المنافية فلا حاجة إلى قصد الرجوع ، ولا إلى الأظهرية أيضا ، فهذا المثال أجنبي عن المقام والكلام فيه معلوم ممّا ذكروه في باب الوصية فراجع.

هذا ؛ وأمّا الدعوى الثانية ، وهي عدم اعتبار الجمع في بقيّة الصور فنقول :

الكلام تارة في مقابل الأخبار العلاجيّة ، (١) ومع ملاحظتها بحيث لو لا الجمع

__________________

(١) من هنا إلى قوله : فتحصل .. ، مختلف في ألفاظه عن النسخة (ب) ، إلا أنّ المطلب متوافق بين النسختين على حسب الظاهر ، مع نقص في البين ، ونحن ننقله هنا للباحث فلعله يفهم منه غير ما في المتن :

أمّا مع ملاحظتها فلا إشكال في عدم تقدم الجمع على سائر أحكام التعارض ؛ لأنّ الأصل في الخبرين وإن كان هو الإعمال لأنّه مقتضي عموم ادلة اعتبارهما إلّا أنّ في الأخبار العلاجيّة علّق الرجوع إلى المرجّحات على صدق التعارض المتحقق في المقام بخلاف الصورة السابقة فلا بدّ من الرجوع إليها وإن أمكن رفع المعارضة بالأخذ بالسندين والحكم بالتأويل أو الإجمال ، مضافا إلى أنّه عليه عمل العلماء ، وأنّه لولاه لزم الهرج والمرج ، إذ ليس لنا مورد لا يمكن الجمع بالتأويل البعيد أو الحكم بالإجمال وهذا واضح ، فالأخبار العلاجيّة خاصّة بالنسبة إلى عموم دليل حجيّة الخبر الدال على وجوب الجمع.

وما عن بعض الأفاضل [لعله الوحيد في فوائده صفحة ٢٣٣] في مقام ردّ قاعدة الجمع في المقام من أنّ القاعدة على خلاف الأصل أولا ؛ وذلك لأنّ مقتضى الأصل في المتعارضين على فرض الطريقيّة التوقف ، وعلى فرض السببيّة التخيير في الأخذ بظاهر كلّ منهما ، وثانيا : أنّها معارضة بالأخبار العلاجيّة والنسبة بينهما عموم من وجه على فرض جعل الإمكان في القاعدة عنوانا للحكم ؛ إذ القاعدة خاصّة بصورة الإمكان ، وعامّة للخبرين والآيتين والمختلفين .. وغيرها ، والأخبار عامّة بالنسبة إلى الإمكان وعدمه ، وخاصة بالخبرين فلا بدّ من رفع هذه المعارضة بين القاعدة والأخبار ، فلا وجه لتقديم قاعدة الجمع عليها ، إذ نقول للقائل بالجمع إنّه لا بدّ من الجمع بين القاعدة والأخبار العلاجيّة أيضا بمقتضى مذهبك من وجوب الجمع وأنّ النسبة بينهما عموم مطلق ؛ لكون الأخبار أخص على فرض عدم جعل الإمكان عنوانا للحكم ، بل شرطا عقليّا للحكم ، إذ على هذا التقدير كأنّه قال يجب الجمع بين الدليلين ، والأخبار دلّت على وجوب الرجوع إلى المرجّحات في خصوص الخبرين .. غاية الأمر أنّ الإمكان شرط عقلي في القاعدة لا أنّه عنوان حتى يصير خاصا من جهته ، والأخبار العلاجيّة أخص ويجب تخصيص القاعدة بها ، فلا وجه ـ

١٥٢

__________________

للحكم بوجوب الجمع مهما أمكن.

مدفوع بما لا يخفى ؛ أمّا دعواه أنّ الجمع على خلاف الأصل ففيها : أنّ قاعدة الجمع إذا كانت مستفادة من عموم أدلّة الاعتبار فلا شكّ أنّ مقتضى العموم العمل بكل خبر يمكن العمل به فلا وجه للتوقف والتحير ونحو ذلك إلا بعد عدم إمكان العمل بالعموم وهو واضح ، وأمّا دعواه أنّها معارضة مع الأخبار العلاجيّة بالعموم من وجه فهي موقوفة على شمول القاعدة لغير الخبرين ، ويمكن منعه مع أنّه على فرضه ليست القاعدة عموما تعبديّا من الشارع بل هي مستفادة من خصوصيّات الموارد ففي الخبرين مستفادة من دليل اعتبار الخبر ، وفي الآيتين من عموم دليل حجيّة ظاهر الكتاب .. ونحو ذلك ، فهي خاصّة في هذه الجهة وفي جهة التعليق على الإمكان أيضا ، ولو جعل الإمكان شرطا عقليّا ، إذ هذا الشرط لا يعتبر في الأخبار العلاجيّة ، فلا وجه لدعوى العموم من وجه ولا للخصوصيّة من هذه الجهة بل قد عرفت أنّه ينبغي أن يقال إنّ الأخبار العلاجيّة أخص من دليل اعتبار الخبر حيث إنّه عام لوجوب الأخذ بكل خبر حتى المتعارضين مع فرض الإمكان ، والأخبار العلاجيّة تدل على أنّه إذا صدقت المعارضة فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات وهذا واضح ، والفاضل المذكور كأنّه تخيل أنّ هذه القاعدة أعني هذه العبارة صادرة عن الإمام عليه‌السلام ، ولو من جهة الكشف عنها بالإجماع.

وأنت خبير بما فيه ، وكيف كان ؛ فمع ملاحظة الأخبار العلاجيّة لا ينبغي التأمل في عدم تقدم الجمع إذا لم يساعد عليه العرف ، بحيث لم يعد الخبرين معه خارجين عن التعارض ، كما هو المفروض ، وأمّا مع الإغماض عنها ، فهل القاعدة مقدّمة أو الحكم بالتوقف أو التساقط أو التخيير على المذاهب؟ التحقيق أن يقال : إنّه لا وجه للجمع مطلقا ، سواء أخذ بالتأويل البعيد أو حكم بالإجمال ، وذلك لأنّ مقتضى عموم ذلك الاعتبار وإن كان هو الأخذ بالسندين والمفروض أنّ لحاظ الدلالة خارج عن ذلك العموم ، ومقتضاه الأخذ بهما ثمّ الحكم على حسب ما يقتضيه كما في القطعيين من حيث الصدور ، إلا أنّا نقول : شمول العموم من حيث السند لا يثمر في مقصود الجامع من الأخذ بالتأويل البعيد ؛ لأنّ المفروض أنّ العرف لا يجعل هذا التأويل معنى اللفظ ، فغاية الأمر الحكم بأنّ هذا قول الإمام عليه‌السلام ، ولكن لا يجوز العمل على طبق التأويل ، ولا يجوز الحكم بالإجمال من جهة أنّ شيئا منها لا يمكن أن يصير سببا لإجمال الآخر ؛ لأنّه فرع مساعدة العرف على جعله قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وإن لم يعين ذلك المعنى والمفروض عدم مساعدته ، وحينئذ فنقول : إذا فرضنا أنّ العقل يحكم في الخبرين الذين لا يمكن الأخذ بهما بظاهرهما ولا بتأويلهما مثلا بالتساقط فهو حاكم في المقام ، ولا مانع منه ، فالحكم بشمول العموم على هذا الوجه لم ينفع في رفع اليد عن حكم العقل بالتساقط ، بل القاعدة العقليّة الحاكمة بالتساقط وعدم الاعتبار جارية لتحقق موضوعها ، وكذا إذا كان حكم العقل بالتخيير أو التوقف أو نحو ذلك.

والحاصل : أنّ مقتضى القاعدة العقليّة في الخبرين الذين لم يمكن العمل بهما إمّا لكونهما نصين متخالفين أو ظاهرين كذلك ، ولم يمكن حملهما على خلاف ظاهرهما ؛ لعدم عدّه معنى لهما ـ

١٥٣

كانت هي المرجع ، وتارة مع الإغماض عنها ، والتكلم في مقابل ما تقتضيه القاعدة في تعارض الخبرين مع عدم إمكان الجمع : من التوقف أو التساقط أو التخيير أو الترجيح ، وبعبارة أخرى : تارة نتكلم على فرض وجود الأخبار العلاجيّة كما هو الواقع ، وتارة نتكلم في مقتضى القاعدة على فرض عدم وجودها ، بحيث يكون المرجع لو لا الجمع القاعدة العقليّة في تعارض الخبرين ، وتظهر الثمرة في تعارض ما لا تشمله الأخبار العلاجيّة من سائر الأدلة.

أمّا على الأول فلا إشكال في عدم الجمع والرجوع إلى تلك الأخبار ، لأنّ الأصل في الأولين وإن كان هو الإعمال ، لأنّه مقتضى عموم أدلّة اعتبارهما ، ولازمه الجمع بين السندين ، والأخذ بالتأويل البعيد ، أو الحكم بالإجمال إلا أنّ في الأخبار المذكورة علّق الرجوع إلى المرجحات أو التخيير على التعارض الصادق في المقام ،

__________________

ولا يجعل أحدهما موجبا لإجمال الآخر هو التساقط أو نحوه ، وفي المقام قد فرضنا تحقق هذا الموضوع ، فشأنيّة شمول العموم لم تنفع ، فهذه القاعدة العقليّة نظير الأخبار العلاجيّة الواردة على قاعدة الجمع ، غاية الأمر أنّ الأخبار واردة عليها وإن كانت جارية لولاها ، والقاعدة العقليّة واردة من جهة أنّ جريانها لم يثمر في رفع موضوع الحكم العقلي.

فإن قلت : إذا فرضت أنّ دليل الحجيّة من حيث هو شامل لهما فيكونان كالقطعيين ، فلا بدّ من الأخذ بالتأويل البعيد أو الحكم بالإجمال ، فتسليم شمول الدليل من حيث هو وعدم الحكم بمقتضاه لا وجه له ، بل هو تناقض ؛ لأنّك تحكم بالشمول ثمّ ترجع وتقول الحكم بالتساقط أي بعدم الشمول.

قلت : فرق بين المقام والقطعيين إذا سلّمنا الأخذ فيهما بالمعنى التأويلي ، وإن كان بعيدا مع عدم العلم بالواقع معه ، وذلك لأنّ في القطعيين لمّا لم يكن بدّ إلا الأخذ بخلاف الظاهر فالمعنى التأويلي البعيد يصير بحكم العرف معنى للّفظ ، فالعرف في أول الأمر لا يجعله معنى اللفظ ، لكن بعد ملاحظة قطعيّة السند وعدم البدّ من حمله على هذا المعنى بجعله معنى له ، بخلاف المفروض في المقام حيث إنّ العرف لما يحتمل أن لا يكونا صادرين ، فلا يجعل التأويل معنى للّفظ بمجرد ورود دليل الاعتبار ، ففي القطعيين القطع بالصدور يصير قرينة لا بمعنى أنّ نفس القطع قرينة ، بل بمعنى أنّ الظاهر المقطوع من حيث إنّه مقطوع قرينة ، وهذا المعنى غير متحقق في الظنيين فقرينيّة كل من الظاهرين للآخر بالنسبة إلى المعنى التأويلي البعيد الذي لا يساعد عليه العرف في أول الأمر منوطة بقطعيّة كلّ منهما ، ووصف القطع له دخل في ذلك فلا يرد أنّ دليل الحجية إذا شمل كلّا منهما فيكون بحكم الشارع مثل القطع ؛ لأنّ حكم الشارع لا يحدث صفة القطع والقرينيّة منوطة بها ، إلا أنّ نفس الظاهر قرينة ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس قرينة من حيث هو في نظر العرف ...

١٥٤

وهي أخص من عموم أدلّة الاعتبار ، فلا بدّ من تخصيصها بها ، بخلاف الصورة السابقة ، لما عرفت من أنّ المنساق من الأخبار التعارض الذي يوجب الحيرة ، وهي منتفية فيها ، هذا مضافا إلى أنّ عليه عمل العلماء ، وأنّه لو لاه لزم الهرج والمرج مع أنّه يستلزم حمل الأخبار العلاجيّة على الفرد النادر ، إذ [تحقق] مورد لا يمكن الجمع [فيه] ولو بالتأويل البعيد ، ولو اقتراحا في غاية الندرة.

هذا ؛ ولبعض الأعلام في ردّ قاعدة الجمع في المقام كلام وهو : إنّ القاعدة على خلاف الأصل أولا ؛ حيث إنّ مقتضى الأصل في المتعارضين على الطريقيّة التوقف وعلى السببيّة التساقط أو التخيير.

وثانيا : إنّها معارضة بالأخبار العلاجيّة ؛ إمّا بالعموم من وجه إذا جعلنا الإمكان في القاعدة عنوانا للحكم ، إذ هي خاصة حينئذ بصورة الإمكان ، وعامّة للخبرين والآيتين والمختلفتين وغيرهما ، والأخبار خاصّة بالخبرين وعامّة من حيث الإمكان وعدمه ، وإمّا بالعموم المطلق إذا جعلنا الإمكان قيدا عقليّا لا عنوانا ، فكأنّه قيل :

يجب الجمع بين الدليلين ، فيكون العنوان مطلق الجمع إلا أنّ الإمكان شرط عقلي كما في سائر التكاليف المطلقة ؛ المقيّدة بحكم العقل بالإمكان ، فعلى الأول لا يمكن الأخذ بالخبرين (١) إلا بعد علاج التعارض بينهما وبين الأخبار ، وعلى الثاني يجب الأخذ بالأخبار لأخصيتها من حيث اختصاص الخبرين.

قلت : أمّا حديث مخالفتها للأصل فقد عرفت ما فيه ، إذ مقتضى عموم أدلّة اعتبار الأخبار الأخذ مهما أمكن ، نعم الأخذ بالمعنى التأويلي خلاف الأصل ، لأنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره يحتاج إلى قرينة ، فمقتضى الأصل الأخذ بالسندين بتصديق العادلين والحكم بالإجمال.

وأمّا ما ذكره في بيان العموم من وجه ففيه : إنّه لو لوحظ معقد الإجماع عليها في كلام صاحب الغوالي فهو خاص بالخبرين ، ولو أغمض عنه فلا شكّ أنّها ليست عامّا تعبديا من جانب الشارع ، بل هي مستفادة من خصوصيات الموارد ، ففي الخبرين من دليل اعتبار أخبار الآحاد ، وفي الآيتين من دليل اعتبار ظواهر الكتاب وهكذا ..

__________________

(١) كلمة غير واضحة ، وقد كتبنا ما احتملناه فيها.

١٥٥

فلا بدّ في ملاحظة النسبة من ملاحظة كل دليل دليل ، فلا وجه لجعلها أعمّ من الأخبار من هذا الوجه ، بل الوجه في الأعميّة شمول أدلّة الاعتبار لغير صورة التعارض بعد كونها هي الطرف لمعارضة الأخبار العلاجيّة ، لا نفس القاعدة.

هذا ؛ وأمّا ما ذكره من الفرق بين جعل الإمكان عنوانا وشرطا عقليّا ؛ فلا وجه له بعد كونه مأخوذا في القاعدة بلا إشكال ، نعم لو صدر من الإمام عليه‌السلام قوله عليه‌السلام اجمع بين الدليلين من غير تقييد بشيء تمّ ما ذكره ، وليس (١).

والإجماع على فرض صدقه وكشفه مقيّد بالإمكان ، فالوجه في ردّ القاعدة في الصورة المذكورة ما ذكرناه.

وأمّا على الثاني ؛ وهو الإغماض عن الأخبار العلاجيّة ، فالحق أيضا عدم الجمع ، وتقديم القاعدة العقليّة الحاكمة بالرجوع إلى الأصل في المتعارضين من التساقط أو التوقف أو التخيير ، وإلحاق المقام بما لا يمكن فيه الجمع أصلا ، كما في النصّين ، ويمكن تقريره بوجهين :

أحدهما : أن يقال إنّ مقتضى عموم دليل الاعتبار وإن كان هو الأخذ بالسندين والمفروض أنّ لحاظ الدلالة خارج عن ذلك العموم ، ولازمه الأخذ بهما ثمّ الحكم على حسب ما يقتضيه ؛ كما في القطعيين بحسب الصدور ، إلا أنّ شمول العموم لا يثمر في مقصود الجامع من الأخذ بالتأويل البعيد ، بعد عدم مساعدة العرف عليه ، والأخذ بهما والحكم بالإجمال وإن كان ممكنا إلا أنّه خارج عن مقصوده ، ومع ذلك لا وجه له ، إذ هو فرع كون كلّ من الخبرين قرينة على عدم إرادة الظاهر من الآخر والمفروض عدم ذلك أيضا ، والدلالة لازمة للسند ، فلا يمكن الأخذ بهما بحسب القاعدة.

فعموم دليل السند مقيّد بإمكان الأخذ ، وهو فرع كون كل قرينة على الآخر إمّا بإرادة المعنى التأويلي ، وإمّا في الحكم بعدم إرادة الظاهر ، وإن لم يتعين المراد ولازمه الإجمال ، والمفروض عدم صلاحيتهما للقرينة في نظرهم ، لشيء من الوجهين ، وإذا لم يمكن الأخذ بهما فيتعين الرجوع إلى القاعدة العقليّة ، وموضوعها

__________________

(١) المعنى أنّه لمّا لم يصدر من الإمام مثل هذا التعبير صريحا فلا يتم ما ذكره.

١٥٦

أعم من عدم الإمكان عقلا ؛ كما في النصين ، وعدم الإمكان عرفا ؛ كما في المقام فهي نظير الأخبار العلاجيّة في ورودها على دليل الأخذ بالسند.

فإن قلت : بعد ما فرضت أنّ دليل الاعتبار ليس ناظرا إلى الأخذ بالسند فلا مانع منه ، وبعد الأخذ به يصير كمقطوعي الصدور في الأخذ بالمعنى التأويلي ، وإن كان بعيدا إذا كان واحدا ، أو الإجمال إن كان متعددا.

قلت : في القطعيين لمّا لم يكن محيص إلا الأخذ بخلاف الظاهر ، فالعرف يعين المعنى البعيد ، ويجعله معنى اللفظ ، بخلاف المقام فإنّه لما يحتمل عدم صدور أحدهما أو كليهما ، لا يجعله معناه ، ففي القطعيين الصدور بقيد القطع قرينة لا نفسه ؛ حتى يقال بعد الحكم التعبدي بالصدور لا بدّ من جعله قرينة ، فصفة القطع لها مدخليّة في القرينة ، بل يظهر من المحقق الانصاري قدس سرّه أنها نفسها قرينة ؛ لكنّ الحق ما قلنا من أنّ القرينة هي الصدور بشرط القطع لا القطع ، ولا نفس الصدور.

فتحصل أنّ دليل الاعتبار (١) من حيث هو لا مانع من شموله إلا أنّه لما لم ينفع في الأخذ بالمعنى التأويلي ، ولا في الحكم بالإجمال (٢) ؛ لتوقف كلّ منهما على جعل كل من الخبرين قرينة على الآخر ، ولا يحكم العرف بذلك وجب الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة العقليّة.

ويمكن أن يقال على بعد : إنّ دليل الاعتبار شامل فعلا لكل من السندين إلا أنّه يرجع إلى حكم العقل في ظاهريهما ، فيحكم بالتساقط أو التوقف أو التخيير ، والفرق بينه وبين السابق أنّه على السابق لا يؤخذ بشيء من السندين على التساقط ، ويؤخذ بأحدهما على التخيير ، وفي هذا الوجه يؤخذ بهما ويحكم بتساقط الظهورين ، أو يقال بالتخيير فيها.

الثاني : أن يقال إنّ عموم دليل الأخذ بالسند معارض بعموم دليل الأخذ بالظاهر ، إذ الأخذ بظواهر ألفاظ الإمام عليه‌السلام واجب ؛ إمّا لدليل تعبدي ، وإمّا لبناء العقلاء بعد

__________________

(١) في نسخة (ب) : الحجية.

(٢) بعده في نسخة (ب) : فيجري حكم العقل بالتساقط بمعنى أنّ العقل يحكم فيه بعدم الشمول ، وإن شئت قلت ...

١٥٧

إحراز الظهور ، كما هو المفروض بالنسبة إلى كل من الخبرين ، ولازم الجمع بين السندين طرح الظهورين المفروض وجوب الأخذ بهما ، في حدّ نفسهما ولا دليل على الترجيح.

وبعبارة أخرى : الأمر دائر بين العمل بأحد العمومين ، ولا مرجح في البين ، فلا يمكن الجمع.

فإن قلت : (١) وجوب الأخذ بالظاهر فرع شمول العموم للسند ، لأنّ الأخذ به متأخر عنه إذا لم يثبت صدور الكلام عن الإمام عليه‌السلام لا يثبت وجوب الأخذ بظاهره ، فالسند مقدّم طبعا ، فيشمله الدليل ، وبعده لا يبقى محل للأخذ بالظاهر.

قلت : التقدم الطبعي في الوجود الخارجي لا ينفع ؛ بعد كون العمومين في عرض واحد ، إذ كما أنّ الأخذ بقول المخبر واجب كذلك الأخذ بظاهر قول الإمام عليه‌السلام واجب ، غاية الأمر أنّه لا يصير قول الإمام عليه‌السلام إلا بعد الأخذ بالسند ، وإلا فهذا التكليف ثابت في حدّ نفسه ، والأخذ بالسندين مستلزم لطرحه.

فإن قلت : إذا كان التمانع في الدلالتين فيتعين طرح العموم فيهما ، لا في السندين لعدم المانع لهما من حيث هما ، ألا ترى أنّه إذا كان هناك تكليفان مترتبان ولم يمكن العمل بهما ، يتعين طرح الثاني منهما ، كما إذا وجب إكرام العلماء ، ووجب كون الإكرام على وجه مخصوص ، فمع عدم إمكان الامتثال في الخصوصيّة يطرح التكليف الثاني ، ويؤخذ بأصل وجوب الإكرام إذا كان من قبيل التكليف في التكليف.

قلت : غرضنا أنّ التمانع في الدلالتين يسري إلى السندين ، ويدور الأمر بين أحد التخصيصين بعد وجود الاقتضاء لكل من العامين من حيث هما ، ومجرّد كون موضوع أحدهما متفرعا على الآخر لا يثمر شيئا ، ألا ترى أنّه لو قال كل مشكوك المائية ماء ، وقال أيضا كل ماء طاهر ، وكان هناك مائع مشكوك المائيّة والطهارة بحيث علم أنّه إمّا ليس بماء أو ليس بطاهر على فرض المائيّة ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحد العمومين ، ولا ترجيح في البين.

__________________

(١) في نسخة (ب) : بدل «فإن قلت» كتب «ودعوى أنّ».

١٥٨

ففي المقام أيضا لا ندري أنّ الشارع جعل في حقنا ما يؤمن الحكمين ، نعم لو علم جعل كل من الحكمين ، ولم يمكن العمل بهما من باب التزاحم أمكن أن يكون الثاني متعينا للطرح إذا كان عدم الإمكان من جهته ، والمقام ليس من باب تزاحم الحكمين ، بل من باب تعارض العمومين والعلم الإجمالي بأحد التخصيصين ، وليس غرضنا أنّ التعارض إنّما يكون بين سند كل خبر ودلالة الآخر ، حتى يقال إنّ ذلك خلاف بنائنا ، بل الغرض أنّه إذا وقع التعارض بين السندين بلحاظ الدلالتين فلا يمكن الأخذ بالسندين ، بمقتضى عموم دليل اعتبارهما ، لأنّه مستلزم لطرح ما دلّ على عموم الآخر على الأخذ به ، وإن لم يتعين موضوعه قبل الأخذ بالسندين ، إذ يكفيه مجرّد وجود الخبر الظاهر في حدّ نفسه ، وإن لم يعلم كونه صادرا فلا يتوقف على العلم بصدور أحد الخبرين ، وكونه قدرا متيقنا على تقديري الجمع والطرح حسبما يقرره المحقق الأنصاري قدس سرّه كما ستعرف ، فما ذكره لا حاجة إليه ، مع أنّه غير تامّ كما سيأتي إن شاء الله.

فإن قلت : لازم ما ذكرت من الدوران عدم الجمع في النص والظاهر أيضا ، إذ الأخذ بالسندين مستلزم لطرح ظهور الظاهر الذي هو واجب الأخذ في حدّ نفسه ، وكذا الحال في الأظهر والظاهر.

قلت : لا نسلم ذلك ، إذ العمل بالظاهر إنّما يجب إذا لم يكن هناك قرينة على الخلاف ، والنص والأظهر صالحان للقرينيّة ، فلا يلزم من الجمع طرح الظاهر بلا دليل ؛ بخلاف المقام ، فإنّ المفروض عدم صلاحيّة كلّ منهما لقرينيّة الآخر ، فيلزم طرح الظهور بلا قرينة ، فتبيّن أنّه مع الإغماض عن الأخبار العلاجيّة أيضا لا يتمّ دليل الجمع ، ففي غير الخبرين ممّا لا تشمله الأخبار العلاجيّة أيضا ، مقتضى القاعدة الرجوع إلى الأصل في المتعارضين في غير صورة الجمع العرفي والجمع بالشاهد ، فأفهم واغتنم واستقم!.

[أدلة القول بالجمع مطلقا]

هذا واستدلّ للقول بالجمع مطلقا بوجوه :

١٥٩

أحدها : الإجماع المنقول في كلام صاحب الغوالي (١) ، وقد عرفت حاله.

الثاني (٢) إنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة ، وعلى جزئه تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم طرح دلالة تبعيّة ، وعلى تقدير الطرح يلزم طرح دلالة أصليّة ، والأول أولى (٣).

وفيه : أنّه إن كان الغرض الجمع الذي يساعد عليه العرف ، كما في العام والخاص ونحوهما ، فهو حقّ ؛ لكن لما ذكرنا ، لا للأولويّة المذكورة ، وإن كان غرضه مطلق الجمع فلا ، والأولويّة المذكورة يمكن منعها ، وعلى فرضها لا دليل على اعتبارها ، إذ لا ترجع إلى أظهريّة أحد الدليلين وقرينيّته على الآخر.

هذا : واعترض العلّامة ـ في محكي النهاية (٤) ـ على الدليل المذكور بأنّ في الجمع عملا بدلالتين تبعيتين ، وفي الطرح بأصليّة وتبعيّة ، وهو الأولى.

وردّه السيّد العميد في شرح التهذيب بأنّ أولويّة الأخذ بتبعيّة وأصليّة ، إنّما تسلم إذا كانا من دليلين ، أمّا إذا كانا من دليل واحد ، وكان التبعيّان من دليلين فلا ، لأنّه مستلزم لتعطيل اللفظ الآخر وإلغائه بالكليّة ، ومن المعلوم أنّ التأويل أولى من التعطيل.

وأورد في الفصول (٥) على أصل الدليل والاعتراض والردّ :

أمّا على الأول : فبأنّ حجيّة الأولويّة المذكورة لا بينة ولا مبينة ، فيتجه عليها وعلى الأولويّة في أصل القاعدة المنع.

وأمّا على الثاني : فبأنّه لا يتمّ في العام والخاص أولا ، إذ في الجمع أيضا عمل بدلالة أصليّة وهي دلالة الخاص ، وتبعيته وهي دلالة العام بالنسبة إلى ما عدا الخاص ، وبأنّه لا تعدّد في الدلالة المأخوذة من دليل واحد ثانيا ، بل هي دلالة واحدة

__________________

(١) عوالي اللئالي : ٤ / ١٣٦.

(٢) لم يرد هذا الوجه في النسخة (ب) ، واقتصر فيها على الأول والثالث بجعله برقم الثاني.

(٣) ذكره العلّامة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٣ ، ونقله في الفصول : ٤٢٥ ، القوانين : ٢ / ٢٧٩ ، مناهج الأصول : ٣١٢.

(٤) نهاية الوصول : ٤٥٣.

(٥) الفصول الغرويّة : ٤٢٥.

١٦٠