كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

الرابع : [المراد بالأولويّة وأنّها وجوبيّة]

المراد بالأولويّة في المقام هو الوجوب والتعين ، نظيرها في قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(١) ، إذ لا معنى للحكم بجواز الأمرين من العمل بالتأويل والرجوع إلى المرجحات بحيث يكون المجتهد مخيرا بينهما ، بل مع إمكان الجمع يتعين التأويل والأخذ بهما ، لأنّ دليلهم على فرض تماميّته يدل على التعيين ، وهذا إذا كان المراد الجمع الحقيقي المثمر في مقام العمل ، كما هو المفروض ، وأمّا الجمع التبرعي الذي يصنعه الشيخ في الإستبصار ، وهو الذي نسميه بالجمع الاحتمالي فهو على وجه الأولويّة لا التعيين ، لأنّه إذا بنى عمله على أحد الخبرين لرجحانه فالأولى أن لا يطرح الخبر الآخر بالمرّة ، بل يذره في سنبله ، ويجعل له محملا ، وإن لم يكن بانيا عليه في مقام العمل.

وقد يحمل على ما هو موافق لدليل آخر ، فهو وإن كان يبني عليه في عمله لكنّه في الحقيقة عامل بذلك الدليل ، وليس معوّلا على هذا الخبر المؤوّل ، كما هو واضح

الخامس : [المراد من الإمكان]

للإمكان صور :

أحدها (٢) : الإمكان العرفي ؛ وهو ما إذا حكم العرف ـ بعد ملاحظة الخبرين فرض صدورهما معا ـ بأنّ المراد منها كذا بالتأويل في أحدهما بإرجاعه إلى الآخر أو بالتأويل في كليهما بإرادة معنى ثالث منهما ، أو بحمل كل منهما على معنى آخر غير ما هو ظاهره بحيث يرتفع التنافي بينهما.

الثانية : الإمكان بشاهد من عقل أو نقل ، كما لو فرض عدم فهم العرف كونهما أو أحدهما قرينة على الآخر ، كما في الصورة الأولى ، لكن كان العقل حاكما ـ على فرض صدورهما معا ـ أنّه لا بدّ أن يكون المراد كذا ، أو كان هناك خبر ثالث شاهد للجمع مثلا ، إذا دلّ أحد الخبرين على القصر في أربعة فراسخ ، والآخر على الإتمام

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) ألفاظ الأعداد في نسخة (ب) كانت مذكرة.

١٢١

فيها ، وكان خبر ثالث يفصل بين الرجوع ليومه أو غيره (١) ، فهو شاهد للجمع.

ويمكن أن يفرض الشاهد حكما عرفيا ، بأن يكون هناك حكم تعبدي عرفي يوجب إرجاع أحد الظاهرين إلى الآخر ، أو كلّ إلى معنى آخر ، وإن لم يرتفع التعارض كما في الصورة الأولى ، والفرق بين هذا الحكم العرفي والعرفي (٢) السابق إنّما (٣) هناك يحكم عدم (٤) المعارضة ، ويجعل أحدهما قرينة على الآخر أو يجعل كلا منهما قرينة على ثالث ، وفي المقام لا يكون حاكما بالقرينة ، بل يوجب على سبيل الحكومة ، لأنّه لا بدّ أن يعمل على هذا الوجه.

وكذا الحكم العقلي تارة يكون على وجه القرينة (٥) ، وقد يكون على وجه الحكومة في العلاج فتدبر.

الثالثة : [الإمكان بالتأويل البعيد من غير شاهد ...] الإمكان بالتأويل البعيد من غير شاهد ، مع كون المعنى التأويلي متعينا على فرض قطعيّة الخبرين ، لكن لا بحيث يفهم عرفا بحيث يقال إنّه لا تعارض ولو مع لحاظ صدورهما ولا بحيث يحكم العقل بأنّ المراد ذلك جزما ، كما في الصورة الثانية.

الرابعة : [الصورة بحالها مع تعدد التأويل] الصورة بحالها مع تعدد التأويل ، ويكون أحد التأويل (٦) أقرب.

الخامسة : [الإمكان بالتأويل البعيد مع عدم تعينه ، وعدم الأقربيّة] الإمكان بالتأويل البعيد مع عدم تعينه ، وعدم الأقربيّة بحيث لو فرض صدورهما عدّ المحملين (٧).

ومحل الإشكال والنزاع الصور الثلاث الأخيرة ، وإلا فالأولان لا إشكال فيهما.

فتبين أن يكون الإمكان قد يكون عرفيّا (٨) وقد يكون عقليا ، وأنّ ظاهر العنوان هو الأعم منهما أعني العقلي الذي قد يكون عرفيا أيضا ، وقد لا يكون كما في الصور

__________________

(١) في نسخة (ب) : وغيره.

(٢) في نسخة (ب) : بدل «والعرفي» كتب : والفرض ...

(٣) في نسخة (ب) : أنّه إنّما.

(٤) في نسخة (ب) : بعدم.

(٥) في نسخة (ب) : القرينية.

(٦) في نسخة (ب) : وكون أحد التأويلات.

(٧) في نسخة (ب) : عدّا مجملين.

(٨) كلمة يكون الأولى زائدة ، وحقّ العبارة هكذا : فتبين أنّ الإمكان قد يكون عرفيا.

١٢٢

الثلاثة الأخيرة ، فما يظهر من بعض من أنّ المراد هو الإمكان العقلي وأنّه متّحد مع العرفي إذا كان المراد الجمع الدلالي دون العملي ، لأنّه لا بدّ أن يكون على وجه يستكشف من المراد ، ولا يمكن ذلك إلا إذا كان هناك شاهد من عقل أو عرف يكون قرينة على الجمع ، وإلا فلا يعقل الجمع إذا كانا متساويين في الظهور ، ولم يكن قرينة ، إذ ليس المدار على الاقتراح والتشهي في التأويل ، ولا كان جمعا عمليّا ولا دلاليا (١) ، فيه ما لا يخفى.

إذ مع التعارض وعدم القرينة يمكن عقلا الحمل على التأويل البعيد إذا كان متحدا ، بل وعلى أحد التأويلات المتعددة ، مع عدم مساعدة العرف والقرينة ، إلا أنّه لا يجوز شرعا لعدم الدليل ، ولو فرض دليل من إجماع وغيره على وجوب ذلك ، والبناء عليه لا بأس به ، ولا يخرج عن كونه جمعا دلاليا ، إذ ليس المراد منه إلا تشخيص المراد بالتأويل.

ولو لم يكن ذلك التأويل معتبرا ، فالإمكان العقلي غير الجواز الشرعي ، وما ذكره إنّما يساعد على عدم الجواز ، مع إنّه قائل بجوازه شرعا أيضا إذا فرض وجود الدليل حسبما عرفت ، وصاحب الغوالي يدعي الإجماع على ذلك ـ على ما يفهم من الجمود على ظاهر كلامه ـ وإن كان سيأتي أنّ مراده الإمكان العرفي ، وأنّه لا نزاع في البين.

والحاصل : إنّ من الواضح أنّ الإمكان العقلي غير العرفي وأنّه يمكن عقلا وجوب البناء على التأويل البعيد ، والحكم بكونه مرادا للشارع ، وإن كان متعددا ، ولا يرجع إلى الجمع العملي ، إذ مبناه على الإغماض عن التخصيص المراد ، وإبقاء كل من الظاهرين على حاله ، والمفروض أنّه في هذا الجمع يصرف الظاهر عن ظاهره.

__________________

(١) في النسخة هكذا : ولا كان جمعا عمليا لا دلاليا ...

١٢٣

السادس : [هل أنّ الحمل على التقيّة يعدّ وجها للجمع]

من الأمور أنّ الجمع بين الخبرين إمّا بارتكاب (١) التخصيص أو التقييد أو المجاز أو الإضمار أو النسخ ، أو نحو ذلك من أنحاء التأويل ، وهل من وجوهه الحمل على التقيّة أم لا؟ فلو فرض عدم إمكان الجمع بين الخبرين إلا بحمل أحدهما على التقيّة فهل يوحّد بينهما ، ويحمل على التقيّة إذا كان موافقا للعامة ، أو يرجع إلى المرجّحات ، ويظهر الثمر فيما لو كان الترجيح للخبر الموافق ، فعلى الرجوع إلى المرجّحات يؤخذ به ويطرح المخالف ، وعلى فرض الجمع يعمل بالمخالف ويحمل الموافق على التقيّة ، وأمّا لو فرض عدم الرجحان في البين إلا بمخالفة العامّة فلا يظهر ثمر عملي ، إذ على التقديرين يعمل بالخبر المخالف سواء قلنا بالجمع أو الترجيح ، نعم على الأول يحكم بصدور الخبر الموافق ، وعلى الثاني لا يحكم بصدوره أيضا ، ولعله يثمر في بعض المقامات كما سيجيء.

وكيف كان ؛ فظاهرهم الثاني ، إذ مع التساوي من جميع الجهات يقولون بالأخذ بالمخالف من باب الترجيح ، لا من باب الجمع ، ولازمهم أنّه مع وجود سائر المرجحات أيضا الأخذ بها دون الجمع ، إلا أنّه لو تمّ دليل القاعدة يقتضي (٢) الأول كما لا يخفى ، من غير فرق بين كون التقيّة تورية أو كذب تجوزا.

ودعوى أنّه على الثاني ليس من الجمع الدلالي ، إذ المفروض طرح ظاهره بالمرّة ، لا الأخذ بالمعنى التأويلي.

مدفوعة بأنّ الملاك الأخذ بسند الخبرين والحكم بصدورهما ، وتشخيص أنّ المراد كذا ، وإن كان بحمل أحد الظاهرين على عدم كونه مرادا (٣) فهذا أيضا نوع تأويل.

فإن قلت : لا معنى للحكم بصدور الخبر ثمّ حمله على التقيّة وطرحه من هذه الجهة.

__________________

(١) في نسخة (ب) : لا بارتكاب ...

(٢) الظاهر أنّه اقتضى ، أو لاقتضى ...

(٣) في نسخة (ب) : مرادا منه.

١٢٤

قلت : سيأتي أنّه لا مانع من ذلك ، فهو كما لو كان خبر لا معارض له مقرونا بأمارات صدوره تقيّة ، فإنّه يحكم بصدوره ، وإن لم يعمل بظاهره.

السابع : [أدلة اعتبار الخبر لا تتعرض للدلالة]

لا يخفى أنّ أدلة اعتبار أخبار الآحاد لا تقتضي أزيد من الأخذ بالسند ، وليست متعرضة لحال الدلالة ، وأنّ ظواهرها واجبة الأخذ أو لا؟ فإذا قال الراوي قال الإمام عليه‌السلام كذا .. ، فمعنى وجوب (١) تصديقه الحكم بأنّ الإمام عليه‌السلام قال كذا .. ، وأمّا أنّ ظاهر كلام (٢) الإمام عليه‌السلام واجب الأخذ فيحتاج إلى دليل آخر ، ولذا لم يحتمل أحد كون وجوب الأخذ بالظواهر من باب دلالة آية النبأ ، بل يتمسكون في اعتبارها ببناء العقلاء ، نعم وجوب الأخذ بالسند إنّما هو بلحاظ مدلول الخبر ، ووجوب الأخذ به ، لكن بعد معلوميّة كونه مدلولا أو الدليل (٣) على وجوب البناء على كونه مرادا ومدلولا ، وهذا واضح.

وهل يعتبر في شمول دليل الاعتبار للسند كون الخبر دالا فعلا ، وكون مدلوله واجب الأخذ به ، فلا يشمل الخبر المجمل والمحمول على التقيّة ، والمعلوم عدم جواز الأخذ بظاهره إذا لم يكن له معنى تأويلي متعيّن ، والأخبار المتعارضة ـ التي على فرض الأخذ بها ـ يحكم بإجمالها ، لتساوي ظهورها أو لا يعتبر ذلك؟ وجهان يظهر من المحقق الأنصاري قدس‌سره الأول ، والأقوى الثاني.

ودعوى أنّ معنى الحجيّة وجوب ترتيب الآثار ومع عدم ذلك لا معنى لها.

مدفوعة بأنّ معناها المرآتية الجعلية وهي من الأحكام الوضعية ولازمها وجوب الأخذ بالمؤدّى على كل فرض فهم المراد وعدم المانع لا الوجوب الفعلي ولا يعتبر في الجعل أزيد من هذه الشأنيّة.

ودعوى أنّه لا فائدة في هذا الجعل ، ويلزم اللغو في وجوب التصديق والحكم

__________________

(١) لا توجد كلمة «وجوب» في نسخة (ب).

(٢) في نسخة (ب) : كلامه.

(٣) الجملة معطوفة على ما سبق ، والمعنى : بعد معلوميّة كونه مدلولا ... وبعد قيام الدليل على وجوب البناء على كونه مرادا ومدلولا.

١٢٥

بالصدور مع عدم العمل بالمؤدى ، مع أن المعلوم أنّ الطرق معتبرة من باب المقدمة.

مدفوعة :

أوّلا : بإمكان الثمرة في مقام العمل فيما إذا نذر أن يحفظ مثلا عشرة أخبار معتبرة ؛ فيبرّ نذره بحفظ مثل هذا الخبر ، وكذا في وجوب احترامه أو نحو ذلك من الفوائد.

وثانيا : إنّه يمكن أن تكون هناك مصلحة في جعل طبيعة الخبر حجّة وإن لم يترتب عليه أثر عملي ، ومع الإغماض عن ذلك يمكن أن يكون من باب الإطراد وكون المصلحة في بعض الأفراد حكمة في جعل (١) الطبيعة ، فهو نظير جعل الطهارة والإباحة فيما لا يبتلي به المكلّف أصلا ، فأدلّة المباحات الواقعيّة والطهارة ونحوهما تشمل المباحات الواقعيّة في البراري التي ليست موردا لابتلاء المكلّف والمياه كذلك ، بل وكذا أدلّة أصل البراءة ، وقاعدة الطهارة تشمل هذه إذا كانت مشكوكة.

فالمقام نظير أن يجعل خبر العادل حجّة ، ولم يوجد عادل يخبر فإنّ الشأنيّة كافية ، وهذا واضح على القول باستقلال الأحكام الوضعيّة ، وعلى القول بالعدم أيضا يمكن أن يقال : المجعول هو الحكم الشأني ، وعلى تقدير فهم المراد وإذا لم يكن مانع من الجعل والمفروض أنّ الأدلة عامّة ، فتحكم بالعموم ؛ فتدبّر!.

الثامن : [شمول قاعدة الجمع للمتعارضين والخبر بلا معارض ..]

عنوان القاعدة في كلام صاحب الغوالي وغيره (٢) وإن كان في الخبرين المتعارضين إلا أنّ مناطها شامل لما إذا كان هناك خبر بلا معارض ، وعلم من الخارج من إجماع أو حكم عقل ، أو نحو ذلك ، عدم إرادة ظاهره ، فإنّه لا يطرح بالمرّة بل يؤخذ به ، ويعمل بتأويله ، بناء على تماميّة القاعدة ، لأنّ ملاكها وجوب العمل بالدليل مهما أمكن ، فيشمل المقام أيضا ، إلا أن يجعل مدركها الإجماع فلا يشمله بل لا يشمل غير الخبرين الظنيين من الدليلين المتعارضين.

لكنّك خبير بأنّ الإجماع لا يثمر ، بل المدار هو الأدلة الأخر ؛ على ما سيذكر ،

__________________

(١) في نسخة (ب) : حكمة لجعل.

(٢) كلمة «وغيره» لا توجد في نسخة (ب).

١٢٦

فعلى ما ذكرنا إذا كان خبر ظني السند محفوفا بأمارات التقيّة بحيث لو فرض صدوره كان على وجه التقيّة يكون كما لو علم صدوره ، وكذا إذا كان إجماع على عدم إرادة ظاهره ، بل يمكن أن يعدّ (١) الثاني من الجمع بين الدليلين ، وهو الخبر والإجماع بالأخذ بالثاني ، وحمل الخبر على معنى تأويلي.

والحاصل أنّ القاعدة بمناطها شاملة للخبرين ، والدليلين غير الخبرين ، والخبر الواحد بلا معارض ، إذا لم يمكن الأخذ بظاهره.

التاسع : [في أنّ الجمع موافق للأصل من جهة ومخالف له من جهة]

لا يخفى أنّ الجمع المذكور في القاعدة موافق للأصل من وجه ، ومخالف له من آخر ، وذلك لأنّه من حيث الأخذ بسند الخبرين موافق للأصل ، وهو عموم ما دلّ على حجيّة كل خبر بناء على عدم المانع من شموله لصورة التعارض مطلقا ، أو إذا أمكن إخراجهما من التنافي عرفا.

وأمّا من حيث الأخذ بالمعنى التأويلي كما هو مراد القائل بالجمع ، فمخالف له لأنّه خلاف مقتضى ظاهر كل منهما أو أحدهما ، ولا يجوز ذلك إلا بشاهد من عرف أو عقل أو نقل ، فدعوى كونه على خلاف القاعدة والأصل بقول مطلق ؛ لأنّ الأصل في المتعارضين التساقط والتوقف ، في غير محلها ، والحقّ ما عرفت وسيأتي تتمة الكلام.

[الكلام في تحقيق الحق في الجمع]

إذا عرفت هذه الأمور فنقول : إذا أمكن الجمع على وجه يساعد عليه العرف أو كان له شاهد من عقل أو نقل ، فهو واجب ومقدم على سائر أحكام التعارض من الترجيح أو التخيير والتساقط ونحوها ؛ وإلا فلا.

ولعلّ مراد القائلين بالجمع أيضا ذلك ، فيرتفع النزاع إلا إنّه بكل الوجوه المتقدمة (٢) مقدم ، وإلى ما ذكرنا ينظر ما ذكره جماعة من أنّ المراد من الإمكان في

__________________

(١) في النسخة : بعد الثاني ...

(٢) لعل المراد : على كل الوجوه المتقدمة.

١٢٧

القاعدة هو الإمكان العرفي دون العقلي ، وإلا لزم الهرج والمرج ، وأيضا الجمع بمجرّد الإمكان العقلي مخالف للاجماع والسيرة ، فإنّ العلماء من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم [...](١) يستعملون المرجّحات مع إمكان الجمع بالوجوه البعيدة ، مع إنّ ذلك مستلزم لحمل الأخبار العلاجيّة على الفرد النادر ؛ إذ قلّما لا يمكن الجمع بالتأويلات البعيدة.

وعلى هذا فيصح ما ذكره صاحب الغوالي من دعوى الإجماع ، إذ مع الإمكان العرفي يمكن دعوى الإجماع على وجوب الجمع.

وأمّا ما ذكره بعض من أنّه لا معنى للتفكيك بين الإمكانين ، وأنّ المراد منه في القاعدة هو العقلي ، وحمله على العرفي مبني على الخلط والاشتباه في معنى الجمع ، وأنّ أول من سلك هذا المسلك وحمله على العرفي الأستاذ البهبهاني «قدس سرّه ونوّر الله مرقده» (٢).

وليس الأمر كما زعموا ؛ إذ بعد البناء على كون المراد هو الجمع الدلالي لا تفاوت بين العقل والعرف ، إذ الجمع غير معقول مع عدم مساعدة القرينة ، إذ لا بدّ فيه من كونه على وجه يستكشف منه المراد ، ولا يمكن ذلك بدون القرينة ، إذ الحمل على بعض المحامل بدون الكاشف جمع عملي لا دلالي قد عرفت ما فيه من الخلط والاشتباه ، إذ لا شبهة في صدق الإمكان العقلي إلا فيما يمكن عرفا بمجرّد احتمال كون المراد كذا ، وإن لم يكن عليه دليل ولا شاهد ، إذ يمكن إرادة خلاف الظاهر بلا نصب قرينة ، ويمكن أن يكون هناك قرينة اختفت علينا ، فدعوى عدم الإمكان العقلي إلا فيما يمكن عرفا خلاف البديهة ، ولا يرجع إلى الجمع العملي كما عرفت سابقا.

هذا ولا فرق في وجوب الجمع مع الإمكان العرفي بين القطعيين سندا وغيرهما وإن كان يتفاوت الحال بينهما في غير صورة الامكان العرفي حيث إنّه لا يمكن في

__________________

(١) توجد كلمة غير مقروءة ، ولكنّ المفهوم منها : يكونوا أو يروا ...

(٢) هذه العبارة ما بين القوسين لا توجد في نسخة (ب).

١٢٨

القطعيين والمختلفين والمرجحات (١) السنديّة ولا يشملها الأخبار العلاجية.

وأيضا قطعيّة السند ربما تقتضي شيئا لا يمكن الحكم به في الظنيين ، وتوضيح (٢) الحال يقتضي فهم (٣) مبحثين :

__________________

(١) في نسخة (ب) هكذا : والمختلفين إعمال المرجحات ...

(٢) في نسخة ب : فتوضيح.

(٣) في نسخة (ب) : رسم.

١٢٩

البحث الأول : في تعارض القطعيين والمختلفين

فنقول : إذا تعارض خبران قطعيّان من حيث السند فإن كان لأحدهما قرينة على الآخر بحيث يكون قرينة عليه ، ويفهم منها عرفا معنى معيّنا ، فلا إشكال ، كما إذا كان أحدهما نصا والآخر ظاهرا ، أو أحدهما أظهر والآخر ظاهرا ، وأمّا إذا لم يساعد العرف على قرينة (١) أحدهما ، أو كل منهما للآخر ، فإمّا أن يكون المعنى التأويلي المحتمل متعينا أو متعددا ، ففي الصورة الأولى إذا علمنا بإرادة ذلك المعنى بعد ملاحظة قطعيّة سنديهما ، فلا إشكال في الأخذ به ، لكن لا من جهة (٢) اعتبار المعنى التأويلي من حيث هو ، بل من جهة العلم بالواقع ، وأمّا مع عدم العلم به بأن يكون ذلك المعنى متعينا في مقام التأويل بعد فرض عدم إرادة الظاهر وعدم مساعدة العرف عليه ، وعدم عدّه من مداليل اللفظ من حيث هو بعد صرفه عن ظاهره ، ولكن لم يكن معلوما إرادته واقعا ، لاحتمال عدم إرادة كلا الظاهرين مثلا ففي اعتباره وجواز الاعتماد عليه وجهان :

يظهر من المحقق الأنصاري قدس سرّه اعتباره ؛ لأنّه جعل قطعيّة الصدور قرينة على إرادة التأويل (٣) ، وكلامه مطلق شامل (٤) لما إذا لم يعلم كونه مرادا واقعيا ، ويمكن أن يقال بعدم اعتباره ، بل يمكن تنزيل كلامه قدس سرّه أيضا على مجرد بيان أنّ اللازم الحمل على التأويل.

وأمّا أنّ المعنى التأويلي معتبر أم لا ؛ فلا نظر إليه ، فيمكن أن ينزل على ما إذا كان المعنى التأويلي معلوما كونه مرادا واقعيّا ، وكيف كان فوجه الاعتبار أنّ ذلك المعنى إذا كان متعينا في مقام التأويل مع العلم بعدم إرادة الظاهر فيتعين الحمل عليه ، ولا يضر عدم حصول العلم بالواقع من جهة احتمال إلغاء كلا الظاهرين وعدم ارادة شيء منهما لمصلحة من المصالح ، ووجه عدم الاعتبار أنّ المفروض أنّه لا يعدّ معنى

__________________

(١) في نسخة (ب) : قرينية.

(٢) صحّحناها من نسخة (ب) ، وقد كانت في الأصل : من جهته.

(٣) فرائد الأصول : ٤ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) كانت الكلمة في الأصل «تأمل» ، وصحّحناها من نسخة (ب).

١٣٠

عرفيا للفظ ؛ لعدم القرينة عليه ، ومجرّد عدم محمل لا (١) للّفظ غيره (٢) لا يقتضي الحمل عليه بعد إمكان عدم إرادته (٣) من اللفظ واقعا ، وقطعيّة السند لا تقتضي أزيد من أنّ الظاهر غير مراد ، وأمّا أنّ المراد ما هو؟ فلا دليل عليه ؛ غاية الأمر أنّه متعين على فرض إرادة شيء ، وهذا لا يكفي.

والحاصل : إنّ اللازم الأخذ بما هو معلوم أنّه مراد واقعا أو كان من المداليل التي يساعد على فهمها العرف ، بحيث يحكم بمجرد العلم بعدم إرادة الظاهر أنّه هو المراد بمقتضى قواعد الاستعمال ، والمفروض أنّه ليس كذلك ؛ فلا وجه للأخذ به والبناء عليه (٤) ، فهو ممّا ليس عليه شاهد عقلي ، ولا فهم عرفي ، ولا يعلم كونه مطابقا للواقع.

هذا ولكنّ الأقوى الاعتبار ؛ لأنّ العرف وإن كان لا يساعد على إرادته أولا ، ومن حيث هو ؛ لفرض بعده وعدم قرينة عليه ، إلا أنّه بعد العلم بعدم إرادة الظاهر ، وفرض قطعيّة الصدور بجعله من المداليل للّفظ ، ولا يعتنى باحتمال عدم إرادة شيء من اللفظ أصلا ، وكون الفساد الكلام (٥) لمصلحة من المصالح مثلا : إذا قال أكرم زيدا ، وأيضا قال لا تكرم زيدا (٦) ، فالعرف وإن كان لا يساعد أولا على إرادة الإباحة من الطلبين لبعدها ؛ إلا أنّه إذا لاحظ قطعيّة الصدور وفرض العلم بعدم إرادة الكراهة أو الاستحباب يرجع ويقول بتعين إرادة الإباحة ، ولا يعني باحتمال عدم إرادتها واقعا بأن يكون إلغاء كلا الخطابين أو أحدهما مصلحة من المصالح ، وهذا مورد افتراق القطعيين أو الظنيين (٧) ، حيث إنّه في الظنيين لا يؤخذ بمثل هذا التأويل بل يرجع إلى المرجّحات السنديّة.

__________________

(١) لا توجد كلمة «لا» في نسخة (ب).

(٢) لعل المقصود أنّه لا يصح الحمل بمجرد عدم محمل للفظ غير ما هو موجود ، بل يحتاج الحمل إلى قرينة معينة بالإضافة للصارفة.

(٣) ويمكن إفادته.

(٤) لا توجد كلمة «عليه» في نسخة (ب).

(٥) في نسخة (ب) هكذا : وكون إلقاء ، وهو الأصح المناسب للسياق.

(٦) في نسخة (ب) هكذا : «وقال لا تكرم زيدا أيضا».

(٧) في نسخة (ب) : والظنيين.

١٣١

هذا ؛ ولكنّ فرض تعين التأويل نادر في الغاية ، إذ في الغالب المعنى التأويلي متعدد ، نعم كثيرا ما يكون أحد التأويلات أقرب ، وحال هذه الصورة أيضا حال صورة التعين كما لا يخفى! فالأقوى فيها أيضا الأخذ به ، وإن لم يعلم كونه مرادا واقعيّا.

هذا وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان التأويل متعددا ، ولم يكن بعضها أقرب فلا إشكال في أنّه لا يجوز الأخذ بأحد التأويلات اقتراحا ، والبناء عليه بدعوى أنّه جمع بين الدليلين بحسب الإمكان ، إذ لا دليل على ذلك أصلا ، إذ على فرض تماميّة الإجماع ـ الذي يدعيه صاحب الغوالي على ما يسند إليه ـ في الجمود على ظاهر كلامه لا ربط له بالمقام ، إذ قد عرفت أنّ كلامه مفروض في الخبرين الظنيين ولذا قال بالرجوع إلى المقبولة بعد عدم إمكان الجمع ، فهذه الصورة خارجة عن محل الإجماع ، ومناط القاعدة أيضا غير جار فيها ، إذ الأصل في الدليلين الإعمال مع الإمكان العرفي ، ومع تعدد الاحتمال لا إمكان عرفا.

ّ إذا لم نأخذ بالمعنى التأويلي إمّا لتعدده أو لعدم الاعتبار به في صورة التعين للوجه الذي ذكر فهل يحكم بالإجمال ويتساقط الظهوران ، والرجوع إلى الأصل في المسألة؟ أو يحكم بالتخيير بين الأخذ بهما؟ وجهان ؛ قوّى المحقق الأنصاري قدس‌سره ونوّر الله مرقده (١) الأوّل ؛ لعروض الإجمال بواسطة التعارض.

قلت : التحقيق أن يقال : إنّ اعتبار الظواهر إمّا من باب بناء العقلاء كما هو الحق أو من باب التعبّد الشرعي ؛ بدعوى أنّه من جهة الإجماع على العمل بها بين العلماء وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام الكاشف عن رضاهم عليهم‌السلام ، وعلى التقديرين : الحق التساقط والرجوع إلى الأصل ؛ لا لمجرّد الإجمال العرضي (٢) بسبب المعارضة ، بل لقصور الدليلين أيضا عن شمول صورة التعارض ، إذ القدر المسلّم من بناء العقلاء وإجماع الأصحاب والعلماء من العمل بالظواهر إنّما هو غير صورة المعارضة ، فلا وجه للحكم بالتخيير ، إذ ملاكه كون كل من الدليلين المتعارضين واجب العمل عينا حتى

__________________

(١) لا توجد في نسخة (ب) كلمة «ونوّر الله مرقده».

(٢) في النسخة : تعرضي ، وصحّحنا المتن من نسخة (ب).

١٣٢

يحكم العقل ـ بعد عدم إمكانه لأجل المزاحمة ـ بالعمل بهما بقدر الإمكان وهو التخيير بينهما ، والمفروض في المقام عدم شمول شيء من الدليلين لصورة المعارضة ، لأنّهما لبّيّان مجملان.

نعم ؛ لو كان على اعتباره دليل لفظي تعبدي أمكن دعوى شموله لصورة التعارض ، والحكم بالتخيير حسب القول به في تعارض الخبرين الظنيين من حيث السند ، لكنّه ليس كذلك ، مع إنّك ستعرف أنّ التخيير فيها أيضا إنّما هو من جهة الأخبار الغير الشاملة للمقام ، وإلا فبمقتضى القاعدة : الحق التساقط فيهما أيضا لعدم إمكان شمول دليل الاعتبار ـ ولو كان لفظيا ـ لصورة التعارض لعدم إمكان إيجاب العمل بهما عينا حتى يجري التخيير العقلي ، ولا أحدهما معينا ؛ لعدم المعين ، ولا مخيّرا ؛ لأنّه خلاف ظاهر الدليل ، إذ ظاهره وجوب العمل عينا ، مع إنّه مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين على ما سيأتي بيانه.

ثمّ ـ على فرض التخيير ـ لا إشكال في نفي الثالث وإثبات القدر المشترك فيما إذا قال أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، أو كان أحد الدليلين ظاهرا في الوجوب والآخر في الاستحباب فإنّ العالم الفاسق إمّا محرّم الإكرام أو واجبه ، ولا يمكن الحكم بإباحة إكرامه ، وكذا لا يجوز الحكم بالإباحة في الصورة الثانية ، بل يثبت مطلق الرجحان للموضوع المحكوم بوجوبه في أحد الخبرين ، واستحبابه في الآخر.

وأمّا على القول بالتساقط فهل ينفي الثالث فلا يجوز الرجوع إلا إلى الأصل الموافق لأحدهما؟ أو لا ؛ فيجوز الرجوع إلى الأصل وإن كان مخالفا لهما؟ وكذا هل يثبت القدر المشترك وهو مطلق الرجحان في المثال المذكور أو لا؟ لا إشكال فيما إذا علم إرادة أحد الظاهرين ، وشكّ في تعيينه ، لأنّ نفي الثالث وثبوت القدر المشترك (١) حينئذ معلوم ، وأمّا إذا احتمل عدم إرادة شيء منهما ، وإن لم يكن الاضطرار في التأويل إلا بالنسبة إلى أحدهما لا بعينه ، ففيه وجهان : من أنّ الظاهر إنّما يطرح بمقدار المعارضة ، والمفروض أنّ كلّا منهما معاضد للآخر في إثبات القدر المشترك ، والقدر المعلوم إنّما هو طرح أحد الظاهرين ، فيؤخذ بهما في نفي الثالث

__________________

(١) في نسخة (ب) : قدر مشترك.

١٣٣

وإثبات القدر المشترك ، ومن أنّه إذا لم يؤخذ بظاهرهما فلا دليل على ذلك ، لأنّ المفروض أنّ لكل واحد منهما ظهور واحد وهو مطروح بالمعارضة.

فإن قلت : إنّ الأمر إذا كان ظاهرا في الوجوب فيدل على أمرين : الرجحان والمنع من النقيض ، والدالّ على الاستحباب إنّما منع من المنع من النقيض ، فيبقى مطلق الرجحان ثابتا بلا معارض.

قلت : هذا فرع تعدد الظهور ؛ والمفروض اتحاده ، فمع إسقاطه لا يبقى شيء ، نعم إذا كان المعنى مركبا أمكن القول بدلالة اللفظ على جزءه بالتضمن إلا أنّه أيضا لا يثمر ، إذ مع عدم الأخذ بالمعنى المطابقي لا يبقى التضمني.

وأمّا دعوى أنّ القدر المسلم هو طرح أحد الظاهرين ، إذ هو القدر المضطر إليه ففيها أنّ ذلك لا يجدي بعد فرض تساقط الظهورين ، لعدم المعيّن لذلك ، فكلا الظاهرين مطروح ، وإن كان العلم بإرادة خلاف الظاهر مختصا بأحدهما لا بعينه ، إذ هو القدر المضطر إليه ، هذا إذا أريد إثبات القدر المشترك من جهة دلالة اللفظ ، وإن أريد إثباته من حيث كونه في ضمن الحكمين ؛ فهو فرع ثبوت أحدهما ، والمفروض عدم ثبوت شيء منهما.

والحاصل أنّ طريق إثباته أحد أمرين إمّا من جهة كونه في ضمن الحكمين ، وإمّا من جهة الدلالة اللفظيّة ، والأول فرع ثبوت أحدهما ، والثاني فرع تعدد الظهور ، هذا ولكنّ التحقيق هو الوجه الأول ، وهو الحكم بثبوت (١) القدر المشترك ، وذلك لأنّ الظهور وإن كان واحدا ، لكنّه في حكم التعدد ، فيمكن أن يعتبر من إحدى الحيثيتين دون الأخرى فنقول : ظهور اللفظ في الوجوب بما هو ظهور في الوجوب ليس بحجّة ، وبما هو ظهور في مطلق الرجحان حجّة ، نظير إثبات الزوجيّة التي هي معنى بسيط فيما إذا أقرّ بها الزوج وأنكرت المرأة ، فإنّها ثابتة بما هي موجبة للنفقة ومنفيّة بما هي موجبة (٢) لإرث الزوج من الزوجة ، ولوجوب التمكين منها ، ونحو ذلك.

وكما في التفكيك في مجاري الأصول بالنسبة إلى الآثار ، فإنّ الأصل قد يثبت

__________________

(١) في نسخة (ب) هكذا : وهو ثبوت.

(٢) لا توجد كلمة «موجبة» في نسخة (ب).

١٣٤

الموضوع بلحاظ أثر ولا يثبته بلحاظ أثر آخر ، ففيما نحن فيه الظهور الواحد مشمول للدليل باعتبار ، وليس مشمولا له باعتبار آخر ، وبتقرير آخر الدليل الظاهر في الوجوب ظاهر في الرجحان أيضا ضمنا ، بعين ظهوره في الوجوب ، وكذا الظاهر في الندب ، فهذا المدلول المطابقي بما هو مثبت للمعنى التضمني مشمول للدليل ، وبما هو مثبت للمطابقي غير مشمول ، وكذا الحال بالنسبة إلى المدلول الالتزامي ؛ فلا يلزم التفكيك ، إذ هو إنّما يكون إذا أخذنا بالمدلول التضمني أو الالتزامي من غير أخذ بالمطابقي ، وعلى ما بيّنا المأخوذ إنّما هو المطابقي إلا أنّه بلحاظ ثبوت حكم المدلول (١) التضمني أو الالتزامي (٢) ، وسيأتي تتمة بيان (٣) عند التكلم في الأصل في المتعارضين إن شاء الله.

هذا ولك أن تقول : إنّ ما ذكرت وإن كان ممكنا ؛ إلا أنّ الدليل لا يساعد عليه في المقام ، حيث إنّه ليس إلا بناء العقلاء ، وهم يحكمون بالإجمال ويطرحون الظاهر بالمرّة إلا في صورة العلم بإرادة أحد الظاهرين ، وهي خارجة عن محل الإشكال ، كما عرفت ، فما ذكرت إنّما يثمر فيما إذا كان دليل الاعتبار تعبديا شاملا لصورة المعارضة ؛ فتأمل! فإنّه يمكن دعوى أنّ العقلاء أيضا إنّما (٤) يطرحون الظاهر بمقدار المعارضة ، وبقدر الاضطرار ، فيحكمون بمقتضى القدر المشترك بين الظاهرين إذا لم يكن الاضطرار إلا إلى تأويل أحدهما لا بعينه ، فأثر القدر المشترك بين الدليلين وهو نفي الثالث وثبوت القدر المشترك ثابت عندهم.

وممّا ذكرنا ظهر حال الدليلين المختلفين في القطعيّة والظنيّة بحسب السند ، فإنّه إذا أمكن الجمع العرفي بينهما بأن كان أحدهما نصا أو أظهر والآخر ظاهرا يجمع بينهما ، ويجعل النص والأظهر قرينة على (٥) الظاهر ، من غير فرق بين أن يكون القطعي هو النص والأظهر أو الظاهر ، وإلا فلا دليل على الجمع والأخذ بالتأويل

__________________

(١) في النسخة : مدلول.

(٢) من قوله «من غير أخذ ـ إلى قوله أو الالتزامي» لا يوجد في النسخة (ب).

(٣) في نسخة (ب) : بيان لذلك ...

(٤) لا توجد هذه الكلمة في نسخة (ب).

(٥) في النسخة : عن ، وصحّحناه من نسخة (ب).

١٣٥

الذي لا يساعد عليه العرف ، نعم لا يحكم حينئذ بالإجمال كما في القطعيين بل يؤخذ بالقطعي ويطرح الظني ، لأنّ قطعيّة السند أولى بالمرجحيّة من الأعدليّة والأوثقيّة ونحوهما في تعارض الظنيين.

وأيضا في هذه الصورة لا يؤخذ بالمعنى التأويلي المتجدد (١) إن كان متعينا إذا كان بعيدا ، وإن قلنا بوجوب أخذه ما في القطعيين ، لعدم جريان الوجه الذي ذكرنا هناك ؛ من أنّ العرف بعد لحاظ القطعيّة يساعد على أخذه ويجعل القطعيّة قرينة عليه ، هذا ويخالف ما ذكرنا من تقديم النص والأظهر مطلقا وإن كان في مقابلهما ظاهر قطعي الصدور ما ذكروه في باب بناء العام على الخاص من الأقوال في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فإنّه أسند إلى جماعة المنع منه مطلقا ، وإلى بعضهم الجواز وعن بعض التفصيل بين العام المخصّص بقطعي متّصل أو منفصل ؛ فيجوز تخصيصه بخبر الواحد ، وبين غيره فلا ، وعن بعضهم التفصيل بين العام المخصّص بدليل منفصل ولو ظني غير الخبر فيجوز تخصيصه ، وبين غيره فلا ، واستدلّ المانع بوجوه يظهر من بعضها سريان المنع إلى كل قطعي الصدور ، وإن لم يكن عامّا كتابيا ، ومن بعضها الاختصاص بالكتاب ، فإنّ من أدلتهم :

أنّ الكتاب قطعي الصدور والخبر ظني فالقطعي لا يعارض بالظني.

ومنها : أنّه لو جاز التخصيص لجاز النسخ ؛ واللازم باطل بالاتفاق.

ومنها : قوله تعالى (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(٢) ، ولا ريب أنّ الكتاب أحسن من الخبر.

ومنها : الأخبار الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب.

وكيف كان فالحق ما ذكرنا من تقديم النص والأظهر مطلقا ، لأنّ التعارض بين الدلالتين لا بين السندين ، وهو بدوي ، وإلا فبعد التأمل يجعل النص والأظهر قرينة على المراد من الظاهر ، ومن ذلك يظهر أنّ الأخبار الدالّة على طرح ما يخالف الكتاب لا تشمل هذا الباب ، وهذا هو الصواب في الجواب ، لا ما في الفصول من

__________________

(١) في نسخة (ب) : التأويلي المتحد.

(٢) الزمر : ١٨.

١٣٦

أنّها معارضة بعموم ما دلّ على حجية أخبار الآحاد من الأخبار ، فإنّ هذه الأخبار حاكمة على تلك كما لا يخفى! فالأولى الاقتصار على ما ذكرنا ، وتمام الكلام في غير المقام.

والغرض التنبيه على أنّ ما ذكرنا من الجمع في هذه الصورة ليس موردها اللائق وإن كان هو الحق الذي لا محيص عنه.

١٣٧

تنبيهان : (١)

الأول : إذا كان دليل قطعي الصدور ظاهرا في مفاده ، وقام الإجماع على خلاف ظاهره ، فحاله حال القطعيين في أنّه يؤخذ فيه بالتأويل إن كان ممّا يساعد عليه العرف من الأول ، أو بعد لحاظ قطعيّة صدوره إن قلنا به ، وبالإجمال إن لم يكن كذلك ، وكذا إذا علم عدم إرادة ظاهره بغير الإجماع من حكم العقل أو نحوه.

ومن ذلك يظهر أنّه لو لم يكن النص أو الأظهر قرينة على إرادة معنى معين بل كان صارفا للظاهر عن ظهوره فقط ، يؤخذ بهما ويطرح الظاهر ، ولا يحمل على المعنى التأويلي ، بل يحكم بإجماله ، لكنّ هذا الفرض نادر ، إذ في الغالب يكون للنص قرينة معينة للمعنى التأويلي ، وفي الحقيقة هذا الفرض ليس من الجمع ، إذ لم يؤخذ بالدليل الظاهر ، بل هو من باب الترجيح في الدلالة فتدبر.

الثاني : قد عرفت سابقا أنّ تقديم النص أو الأظهر على الظاهر إنّما هو من باب التخصيص بلحاظ نفس مدلول العام والخاص ، ومن باب الورود أو الحكومة بلحاظ أصل الظهور ، ودليل اعتباره على التفصيل المذكور من كونه على وجه الورود ؛ إذا كان النص أو الأظهر قطعي الصدور .. مرددا (٢) بين الورود والحكومة ، إذا كان سنده ظنيا.

هذا على مذاق المحقق الأنصاري قدس‌سره وأنّه من باب الورود مطلقا ، وإن كان ظنيّا على مذاقنا من أنّ التعارض إنّما هو بين الدلالتين لا بين سند النص ودلالة الظاهر حسبما عرفت سابقا وسيأتي.

ولبعض الأعلام في المقام كلام وهو (٣) : إنّه إذا كان النص قطعي الصدور ففي كون تقديمه على الظاهر من باب الورود أو الحكومة أو الترجيح أو وجه رابع ؛ وجوه.

قد يقال بالأول ؛ لأنّ أصالة الحقيقة أو العموم إنّما تعتبر مع عدم القرينة ، وإذا كان

__________________

(١) قد كتب في النسخ «تنبيهات» ولكن لكونهما اثنين ـ فقط ـ فقد رسمنا الكلمة بالتثنية.

(٢) في نسخة (ب) : ومرددا.

(٣) بدائع الأفكار : ٤١١.

١٣٨

النص قطعيا كانت واردة ؛ نظير الدليل العلمي في قبال الأصول العمليّة.

ويزيّف بأنّ مناط الورود أن يكون الوارد مخرجا لمجراه عن موضوع المورود كما في الدليل (١) والأصول ، والنص لا يخرج مورده عن مدلول العام ، بل عن حكمه ، نعم ؛ هو وارد على دليل اعتباره ، لأنّ وجوب حمل اللفظ على ظاهره شرعا وعرفا معلق على عدم مجيء القرينة ، لكن أين هذا من ورود النص على الظاهر ، قال : ومن ذلك يظهر أنّه من باب الحكومة ، لأنّ اعتبار المحكوم موقوف على عدم مجيء الحاكم ، فإذا كان اعتبار أصالة العموم موقوفا على عدم مجيء المخصّص فيكون حاكما ، ثمّ ضعّفه بأنّ الحاكم ما كان مفسرا للمحكوم ، وهذا هو المائز بينه وبين غيره من أقسام التعارض ، وليس الخاصّ مفسّرا للعام ، ثمّ جعله من باب الترجيح ، وضعّفه أيضا بأنّ الترجيح فرع أن يكون الدليل له شأنيّة الحجيّة ، والظن النوعي غير قابل للتعبّد به مع القطع بالخلاف ، فالأوجه أن يقال إنّه وجه رابع وهو أنّه لا تكون أصالة العموم معتبرة ودليلا في قبال النص القطعي فهي ساقطة بعدم الاعتبار ، إذ هي معتبرة في حق الجاهل لا العالم بالحال.

قال : فما في رسالة الأستاذ العلامة قدس سرّه : من ورود بعض الأصول اللفظيّة على بعض كالخاصّ القطعي في مقابل العام ؛ غير واضح ، هذا.

وذكر في النص الظني السند (٢) ما نقلناه سابقا من أنّ التعارض وإن كان حينئذ بين سند النص ودليل اعتبار الظاهر ، وأنّ كلا منهما معلّق على عدم مجيء الدليل على الخلاف إلا أنّ دليل اعتبار السند لفظي قابل للتمسك بعمومه ، ودليل اعتبار الظاهر لبّي لا إطلاق فيه ، ويشترط في المتعارضين تساويهما في دليل الاعتبار إطلاقا وتقييدا ، وفي المقام لمّا كان أحدهما لفظيا والآخر لبيا ؛ كان الأول مقدما كما لو قلت إنّ النص حاكم نظرا إلى كون اعتبار الظاهر مشروطا عرفا على عدم (٣) مجيء الدليل على خلافه لم يمكن القلب والمعارضة (٤).

__________________

(١) في نسخة (ب) : الأدلة.

(٢) بدائع الأفكار : ٤١١.

(٣) الأفضل في العبارة : مشروطا بعدم ...

(٤) هذا جواب قوله : لمّا كان أحدهما ...

١٣٩

وإن شئت فقل : إنّه لا دليل على اعتبار أصالة الظهور حينئذ حتى يعارض دليل السند ، فهو مقدم عليه (١).

قلت : أمّا ما ذكره في النص الظني فقد عرفت الكلام عليه سابقا (٢) ، وأمّا ما ذكره في النص القطعي فلا يخفى ما فيه من التهافت ، إذ تارة يلاحظ نفس مدلول العام وتارة يلاحظ أصالة العموم ، والورود إنّما هو بلحاظ الثاني ، وقد اعترف به فلا وجه لإيراده على المحقق الأنصاري قدس‌سره ، ولا كجعله من القسم الرابع ؛ مع أنّ ما ذكره في بيانه مناف لما صرّح به في غير هذا المقام من أنّ العام والخاص من المتعارضين ، وأنّه لا وجه لما ذكره بعضهم من خروجها عن التعارض ، لأنّ المدار على الدليليّة الشأنيّة ، ولا ينافيه عدم الأخذ به فعلا في مقام المعارضة ، ولازمه كما ترى أنّ العام في المقام أيضا دليل في قبال الخاص ، إذ هو حجّة شأنا ، وإن كان الخاص مقدما عليه فلا تغفل.

والتحقيق ما عرفت سابقا من أنّ النص والأظهر واردان على ظهور العام مطلقا لأنّهما قرينتان عليه ، واعتباره معلّق على عدم القرينة ، ولا يلاحظ السند في شيء من الطرفين ، ومع الإغماض عن ذلك فالحق ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سرّه.

__________________

(١) أي أنّ لحاظ السند مقدم على لحاظ الظهور.

(٢) مرّ تحت عنوان البحث في تعارض القطعيين والمختلفين بعض الإشارة وسيأتي في البحث الثاني.

١٤٠