كتاب التّعارض

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي

كتاب التّعارض

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي


المحقق: الشيخ حلمي عبد الرؤوف السنان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8901-05-8
الصفحات: ٦٢٥

حينئذ.

مدفوعة ؛ بأنّ اعتباره ليس من باب الإجماع ؛ بل هو ثابت من الأدلة اللفظيّة العامّة الشاملة لهذه الصورة أيضا.

ودعوى أنّ اعتبار الظواهر إنّما هو لبناء العقلاء وهي شاملة لهذه الصورة فيبقى التعارض.

مدفوعة بأنّ البناء المذكور إنّما يعتبر إذا لم يكن هناك ردع وهو موجود ، ولورود النواهي بعدم العمل بالظن ، فانحصر الأمر في اعتباره في الإجماع ، ويتمّ البيان المذكور في دفع (١) المعارضة.

قلت : أمّا ما ذكره في الإيراد على الحكومة فيرد عليه : أنّا لو أغمضنا عمّا ذكرنا من أنّ بناء العقلاء من قبيل حكم العقل بل هو حكم عقلي إجمالي ، ولا يكون إلا بعد إحراز الموضوع بجميع خصوصيّاته ، فيكون في الحقيقة من قبيل التعليق ، يمكن (٢) أن يقال إنّ من نوع حكم العقلاء هو صورة الاحتمال والشك ، فعند الشك في المخصّص يبنون على عدمه ، ولو من باب أنّه مقيّد للنص النوعي ، وطريق إلى عدمه واقعا ، لأنّ الغالب مع إرادة خلاف الظاهر نصب القرينة الظاهرة ، أو لغير ذلك ، فإذا أمر الشارع بالعمل بالمخصّص وجعل احتمال عدمه كالعدم ، فيرتفع الاحتمال الذي هو موضوع البناء المذكور تنزيلا ، وهذا هو الحكومة كما في سائر الموارد.

ولا فرق بين الخاص الناصّ أو الأظهر وبين المفسر اللفظي ، فكما أنّ دليل اعتبار الثاني يوجب الحكومة على ما كان في قباله من الظهور أو الأصل العقلائي المعتبر من باب الطريقيّة ، فكذا الأول ، فمجرّد كون الأصل المذكور من الطرق لا ينفي الحكومة بعد إمكان كون اعتباره معلّقا على عدم المخصص الواقعي ، وكون دليل اعتبار الخاص مثّلنا (٣) له شرعا ، وهذا واضح.

وأمّا ما ذكره من تحقق التعليق من الطرفين ؛ ففيه : إنّ التعليق في الظهور إنّما هو في

__________________

(١) في نسخة (ب) : رفع.

(٢) جواب لو أغمضنا.

(٣) في نسخة (ب) : مثبتا.

١٠١

أصل دليل اعتباره بخلاف التعليق في الطرف الآخر ، فإنّه ليس كذلك غاية الأمر أنّه مع وجود المعارض المساوي أو الأقوى لا يعمل به ، لأجل المعارضة ، لا لقصور الاعتبار ، ومن المعلوم أنّ الأوّل لا يعد معارضا ، فالمقام نظير تعارض ظهور الإطلاق مع ظهور العموم ، فإنّه لا إشكال أنّه لا يقاومه ، إذ يرتفع موضوعه بالعموم ، لأنّ ظهوره معلّق على عدم البيان والعام بيان ، وكون العموم أيضا معتبرا ، إذا لم يكن معارض ، لا يثمر في تحقق المعارضة بينهما.

ففي المقام إذا كان الظهور اللفظي في أصل اعتباره معلّقا على عدم ورود المخصّص المعتبر ، فبمجرّد وجوده يرتفع موضوع الاعتبار ، وإن شئت فقل : إنّه معلق على عدم وجود مثل هذا الخبر الظني ، فلا معنى بعد ذلك لأخذ المعارضة بينهما ، وهذا أيضا واضح.

وأمّا [ما] ذكره من منع اعتبار بناء العقلاء في المقام ـ على فرض تسليم كونه معلقا لوجود النواهي الرادعة ـ ففيه : إنّه لا تكفي في الردع ، ولذا نرى عمل الكل بالظواهر المذكورة مع اطلاعهم على تلك النواهي وإجماعهم على العمل بها ، ليس إلا لأجل بنائهم من حيث هم عقلاء ، فلا يكون من الإجماع المصطلح ، فلا وجه للتعليق به (١) مع أنّه على فرضه لا يتم المطلب بالبيان الذي ذكره ، إذ كما أنّه لا إجماع على العمل بالظهور في المقام فكذا لا إجماع على العمل بعموم دليل اعتبار سند المخصص ، ولا فرق بين ذلك العموم والعموم الذي في قبال المخصص.

والحاصل : أنّ ما ذكره في دفع المعارضة بأنّ دليل الأصل هو الإجماع وهو لبّي ودليل اعتبار المخصص لفظي لا قصور فيه ، فيعمل به ويمنع شمول الإجماع للمقام ، فيبقى دليل السّند بلا معارض ، لا يتم إلا إذا كان هناك إجماع على اعتبار العموم في دليل الاعتبار في خصوص المقام ، إذ هو أيضا من الظواهر اللفظيّة ، وهو ممنوع ، فلا يمكن إتمام المطلب بالتمسّك بالإجماع ، مع أنّه على فرضه يمكن دعوى تحقق الإجماع على العمل بالظواهر كليّة ، بحيث يكون معقده عامّا نظير الأدلة اللفظيّة ، ومعه أيضا تبقى المعارضة بحالها ، فلا مخلص إلا ما ذكرنا ، أو ما ذكره المحقق

__________________

(١) في نسخة (ب) : للتعلق به.

١٠٢

المذكور من الحكومة أو الورود.

بقي شيء وهو أنّه ربّما يقول قائل : إنّ لازم البيان الذي ذكره المحقق المذكور أن تكون جميع التخصيصات والتقييدات من باب الورود أو الحكومة ، فأين التخصيص الذي حكم سابقا بأنّه من باب حكم العقل.

والجواب : إنّ للعامّ لحاظين : لحاظ نفس مدلوله ، ولحاظ كون ظاهره معتبرا من باب الأصل أو الظهور النوعي ، وكذا للخاص لحاظين : لحاظ نفسه ولحاظ دليل اعتباره ، فبلحاظ نفس المدلولين الخاص مخصّص ، وبلحاظ اعتبار ظهور العام عند الشك في التخصيص المعبّر عنه بالأصل اللفظي ، واعتبار ذلك الخاص بدليله يكون من باب الورود أو الحكومة ، فقوله لا تكرم زيدا بالنسبة إلى نفس قوله أكرم العلماء تخصيص ، وبالنسبة إلى أنّ مقتضى الأصل حمل العلماء على العموم ، وإرادة جميع الأفراد حتى زيد حكومة أو ورود ، لأنّه كالدليل الاجتهادي في مقابل الأصل العملي ، فأصالة العموم شيء ونفس مدلول قوله أكرم العلماء شيء آخر ؛ هذا.

ولكن يبقى أنّه على هذا لا حاجة إلى أن يقال : إنّ تقديم الخاص على العام من باب حكم العقل حسبما ذكر في بيان الفرق بين الحكومة والتخصيص ، فتأمل!

مع أنّه يمكن أن يقال : لا يعقل هنا شيئين ، بل هو شيء واحد ، وهو ظهور العام في الجميع ، وأيضا يمكن تصوير هذا المعنى بالنسبة إلى الأصول العمليّة أيضا ، بأن يقال : تقديم الدليل الاجتهادي على مدلول قوله إذا شككت فابن على كذا تخصيص ، وبالنسبة (١) إلى كون الحكم كذا (٢) عند الشك حكومة ، مع أنّهم لا يسمّونه تخصيصا إلا مسامحة.

إلا أن يقال : فرق بين المقامين ؛ فإنّ مدلول الأصل العملي ليس الحكم عند الشك ، بخلاف العموم ، فإنّ مدلول العام هو الأفراد ، والحكم بكون الجميع مرادا عند الشك هو المراد بالأصل.

__________________

(١) في النسخة (ب) : بالنسبة.

(٢) كلمة «كذا» لا توجد في نسخة (ب).

١٠٣

الثالث : من الأمور في المقدمة [متعلق التعارض]

إنّ التعارض يكون بين الآيتين والخبرين القطعيين من حيث السند والظنيين من حيث السند أو الدلالة ، والأمارتين من الأمارات المعتبرة على اختلافها ، والمختلفتين في المذكورات ، والأصلين اللفظيين أو العمليين ، وإن كان عقد الباب لخصوص تعارض الخبرين الظنيين من حيث السند ، لمكان اختصاص الأخبار العلاجيّة بها ، ويمكن تعميمها إلى الخبرين القطعيين من حيث السند فقط ، والمختلفين ، وستأتي الإشارة إليه ، ولعلّه إلى هذا نظر صاحب المعالم حيث قال (١) :

إنّ تعارض الأدلّة الظنيّة لمّا كان عندنا منحصرا في الأخبار ، لا جرم كانت وجوه الترجيح كلّها راجعة إليها ، وذلك لأنّ غير الأخبار من سائر الأمارات ليست معتبرة عنده ، وتعارض الخبر الظني مع الكتاب غير مقصود بالبحث في المقام ، فلا يرد عليه عدم الانحصار.

ويمكن أن يكون نظره إلى الأدلة الظنيّة من جميع الجهات ، فتخرج الصورة المذكورة.

وكيف كان .. [فقد] ذكر المحقق القمي تبعا للقوم أنّه لا تعارض بين القطعيين ، ولا بين قطعي وظني ، وإنّما يتحقق بين الظنيين ، ومرادهم القطعي من جميع الجهات ، كما هو واضح ، وأورد عليه صاحب الفصول بأنّه يمكن التعارض بين القطعي والظني الشأني ، وإن أريد الفعلي فلا يتحقق في الظنيين أيضا ، وإن أريد من الظني في الظنيين (٢) الشأني ، وفي القطعي والظني الفعلي لزم التفكيك واختلال النظم.

قلت : وهو كما قال ؛ إذ المراد تعارض ما يكون دليلا في حدّ نفسه وإن وجب رفع اليد عنه بواسطة المعارض الأقوى ، والظني الشأني في مقابل القطعي وإن كان واجب الطرح إلا أنّه يصدق عليه أنّه دليل عارض دليلا آخر ، غاية الأمر أنّه قدّم عليه من باب الترجيح ، وبمجرّد ذلك لا يخرج عن صدق التعارض ، وإلا ففي جميع

__________________

(١) معالم أصول الدين : ٣٩١ ، و ٢٥٠ طبعة أخرى بتحقيق محمد علي البقال.

(٢) بعدها في نسخة (ب) : الفعلي وفي القطعي والظني الشأني.

١٠٤

مقامات الترجيح المرجوح ليس بدليل ، لكن لا من حيث هو ، بل بسبب المعارضة.

فلا وجه لما (١) أورد عليه بعض بأن الظني الشأني لا اعتبار به في مقابل القطع ، ولعلّه يريد (٢) أنّ حجيته مشروطة بعدم القطع على الخلاف.

وفيه : إنّ هذا الشرط لم يؤخذ في دليل اعتباره ، بل هو معلوم من الخارج ومعلوم أنّ ما هو معلوم أعم من وجود القطع على خلافه أو ما هو بمنزلة القطع فتخرج جميع صور الترجيحات عن التعارض ، فالحق أنّه لا يعتبر في التعارض أزيد من كون الدليل معتبرا من حيث هو ، ولذا النص القطعي السند يعارض العام ويقدم عليه.

وأيضا من المعروف أنّ حكم العقل بعدم الجبر يقدم على الآيات الظاهرة فيه ، ويقال إنّها معارضة بحكم العقل ، فعدم الاعتبار من جهة وجود المعارض المقدّم لا ينافي التعارض.

هذا وتحقيق المطلب يقتضي رسم أمرين :

الأول : قد عرفت أنّ تعارض الدليلين لا يكون إلا إذا كان دليل اعتبارهما شاملا لصورة المعارضة ، ولو بمقتضى ظاهر العموم ، بحيث لو قطع النظر عن وجود المعارض كان دليلا معتبرا ، فلو كان أحد الدليلين أو كلاهما مشروطا بشرط ينتفي بمجرّد المعارضة لم يكن من باب تعارض الدليلين.

الثاني : الدليل قد يكون صفة القطع كما هو الشأن في الأدلة القطعيّة من جميع الجهات ، وقد يكون صفة لظن الفعل ؛ كما هو الحال على القول بالظن المطلق عند القائلين به ، وقد يكون أمرا من شأنه إفادة الظن ؛ لكن بشرط الظن الفعلي ، وقد يكون كذلك بشرط عدم الفعلي على الخلاف ، أو بشرط عدم المعارض المعتبر ، وقد يكون كذلك مطلقا ، كالأخبار عند بعض ، وكظواهر الألفاظ عند بعض ، وليس لنا دليل معتبر من حيث إفادة نوعه القطع وإن لم يكن مفيدا له فعلا ، وإن كان يمكن تصويره كما إذا فرض حصول القطع غالبا من إخبار خمسة مثلا ، فيكون معتبرا من أجل كونه كذلك ، وإن لم يفده فعلا ، فعلى هذا حجيّة الأدلة القطعيّة إنّما هي بلحاظ

__________________

(١) سقطت كلمة «لما» من نسخة (ب).

(٢) في نسخة (ب) : يريد.

١٠٥

صفة القطع ، بمعنى أنّه هو الحجّة دون ما يفيده بخلاف الأدلة الظنيّة ، فإنّه قد يكون الحجّة الشيء المفيد للظن فعلا أو نوعا ، وقد يكون نفس الصفة من غير نظر إلى ما تفيده.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا يتصور التعارض في الأحكام العقليّة ، لأنّ العقل لا يحكم إلا بعد العلم بجميع ما هو المناط ، وحينئذ ففي صورة التعارض لا يحكم بحجية أحدهما معينا أو بعدمهما معا ، فلا يبقى الدليلان على الدليليّة حين المعارضة ، سواء كانا قطعيين أو ظنيين.

فإن قلت : يمكن أن يحكم العقل باعتبار طبيعة الخبر أو طبيعة الظن النوعي فيتعارض فردان منها.

قلت : لا بدّ له أن يعين من الأول أحدهما أو يقيدها بصورة عدم المعارضة ، وكذا الحال بالنسبة إلى ما يكون معتبرا من باب بناء العقلاء ، فإنّه حكم عقلي إجمالي ، نعم إذا كان أحد الدليلين شرعيا أمكن وقوع المعارضة ، وكذا لا يتصور التعارض بين القطعيين من جميع الجهات ، وإن كانا شرعيين ، لعدم إمكان حصول القطع من الطرفين ، والقطع الشأني لا اعتبار به ، وحينئذ فتعارض الدليلين المفيدين للقطع مع الإغماض عن المعارض لا يعدّ من تعارض الدليلين حقيقة ، لخروجهما أو أحدهما عن الدليليّة بواسطة عدم حصول القطع الفعلي ، وكذا بين القطعي والظني الفعلي أو الشأني المقيّد بعدم المعارض ، أو الظن على الخلاف ، لأنّ القطع على الخلاف يسقطه عن الدليليّة الشأنيّة ، وكذا بين الظنيين الفعليين أو الظني الفعلي مع الشأني المقيّد ، فانحصر الأمر في تعارض القطعي مع الظني الشأني المطلق والظنيين إذا كان أحدهما أو كلاهما شأنيا غير مقيّد.

ومن ذلك ظهر أنّه لا يتصور تعارض الدليليّة في الظن المطلق بناء على القول به ، لأنّهم اعتبروا الظن الفعلي ، إلا أن يريد (١) الفعليّة من غير جهة المعارضة ، كما يمكن أن يستظهر من المحقق القمي رحمه‌الله كما لا يخفى على من راجع كلماته خصوصا في

__________________

(١) في نسخة (ب) : يريدوا.

١٠٦

هذا الباب (١).

هذا ولكنّ التحقيق أنّ نتيجة دليل الانسداد ؛ على فرض تماميّة حجيّة الأمارات المفيدة للظن نوعا إذا كانت من الأمارات والطرق العقلائيّة مثل الأخبار دون صفة الظن من أي طريق حصل ، وحينئذ فيتصور التعارض ، إلا أنّه لمّا كان من الأحكام العقليّة فلا يكون من تعارض الدليلين حسبما عرفت إلا على القول بالكشف ، فإنّه على القول بالحكومة العقل يعين من الأول ما هو الحجّة ، فلا يتصور التعارض.

فإن قلت : فعلى هذا يسقط باب التعادل والترجيح ، مع أنّ القائلين بالظن المطلق أيضا يبحثون عنه.

قلت : بحثهم إنّما هو لتحصيل الظن ؛ فإنّ ملاحظة المرجّحات الواردة في الأخبار توجب حصول صفة الظن في أحد الخبرين ، ففرضهم من البحث تعيين أسباب الظن وتحصيله لا العمل على طبقها تعبدا ، فإنّه فرع القول بحجيّة الأخبار من باب الظن الخاص.

الرابع (٢) : [في إمكان التعارض عقلا بين الدليلين]

اختلفوا في إمكان التعارض بين الدليلين عقلا وعدمه ، وفي جواز وقوعه شرعا وعدمه ، بعد ما اتفقوا على إمكان وقوعه في الأمارات المنصوبة على الموضوعات كاليدين والبيّنتين ، وقولي اللغويين ، ونحو ذلك ؛ فالمعروف على إمكانه عقلا ، وبعضهم على امتناعه ، ومنهم من أنكر إمكان التعادل على ما استظهر منه (٣) صاحب الفصول.

ومنهم من أنكر وقوع التعارض شرعا ، واستدلّ لعدم الإمكان عقلا بأنّه يؤدي إلى الجمع بين المتنافيين ، ولعدم جواز وقوعه شرعا بأنّه مع العمل بها يلزم التكليف بالمحال ، لأدائه إلى اجتماع حكمين متضادين في موضوع واحد ، ومع ترك العمل

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ / ١٧٩ ، ٢ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) هذا هو الأمر الرابع من أمور المقدمة.

(٣) في نسخة (ب) : استظهره.

١٠٧

بهما يلزم العبث في جعلهما ، ومع ترك العمل بأحدهما يلزم الترجيح بلا مرجّح ، ولعدم إمكان التعادل بأنّه لا يجوز تبليغ الشريعة على وجه يؤدي إلى وصول أمارتين متعارضتين.

وغرض المستدل وإن كان نفي أصل التعارض إلا أنّ لازم دليله كما استظهره صاحب الفصول نفي التعارض على وجه التعادل ، إذ مع وجود الترجيح لأحدهما لا محذور ، فإنّه يخرج الآخر عن الحجيّة الفعليّة ، فلا يلزم قصور في التبليغ ، والظاهر أنّ نظر المانع عقلا إلى أنّه لا يعقل جعل الشارع لكلا الدليلين واقعا ، وأنّ ما كان في نظر المجتهد كذلك يكشف عن عدم كون كليهما أو أحدهما حجّة ، فغرضه أنّه لا يعقل تعارض الأمارتين الواقعيتين (١) ، ونظر المانع لجوازه شرعا إلى أنّه وإن كان يمكن عقلا إلا أنّه يؤدي إلى ما يكون قبيحا ؛ وهو العبث في الجعل والترجيح بلا مرجح ، فهو أيضا ناف للإمكان ، لكن بمعنى الإمكان الوقوعي لا (٢) الذاتي ، والأول ناف للإمكان الذاتي ، ونظر النافي للتعادل إلى أنّ الأمارتين المتعادلتين في نظر المجتهد لا بدّ وأن يكون مع إحداهما مرجّح ومزيّة توجب تقديمها ، وإن لم يصل إليه المجتهد.

وكيف كان فالتحقيق أن يقال : لا إشكال في إمكان التعارض في نظر المجتهد ، وكذا إمكان التعادل بأن يكون هناك أمارة معتبرة بحسب الأدلة وأخرى كذلك ، وكان مؤداهما متنافيا ، غاية الأمر أنّه لو قلنا بعدم إمكان جعلها من الشارع نلتزم بأنّ المعتبر واقعا وعند الشارع إحداهما ، أو ليس واحدة منهما ، وهو مشاهد بالوجدان ، إذ مقتضى الأدلة حجيّة الخبر مطلقا ، وقد يتعارض فردان منه ، وقد يتعارض الخبر مع الإجماع المنقول ، وهما حجّتان في نظر المجتهد ، بمقتضى عموم الأدلة ، وهذا واضح.

وأمّا إمكان ذلك واقعا بمعنى كونهما في الواقع واجبتي (٣) العمل (٤) ، وإنّما منع

__________________

(١) في النسخ : الواقعيين.

(٢) لا توجد كلمة «لا» في نسخة (ب).

(٣) في النسخة : واجب ؛ وما ذكرنا أصح لرجوع اللفظ للأمارتين.

(٤) في النسخة (ب) : واجب العمل في الواقع.

١٠٨

منه التعارض أو عدم إمكانه ، وأنّ التعارض يكشف عن كون إحداهما أو كليهما خارجة عن تحت الدليل الدال على الاعتبار ، وأنّ الشارع لم يحكم بوجوب العمل بكليهما ، فهو محلّ إشكال.

ويمكن أن يوجه المنع بناء على كون الأمارات حجّة من باب الطريقيّة والمرآتيّة ، وذلك لأنّه لا يعقل إراءة الواقع من طريقين مخالفين ، مع أنّه واحد ، إذ هو مؤدّ إلى التناقض ، إذ مآل ذلك يرجع إلى أنّ الواقع في هذه الواقعة الشخصيّة مدلول قول زيد ، وهو الإباحة مثلا ، ومدلول قول عمرو هو الحرمة ، وهذا غير معقول ، فكما لا يعقل أن يقول هذا مباح واقعا ، كذلك لا يعقل أن يقول اعمل بقول زيد ، واحكم بصدق مؤداه ، واعمل بقول عمرو واحكم بصدق مؤدّاه ، والمفروض أنّ أحدهما يقول إنّه مباح والآخر يقول إنّه حرام ، والسرّ في ذلك أنّ جعل الطريق ليس إلا لبيان جعل مؤدّاه واقعا ، فهو عبارة أخرى عن بيان نفس الحكم ، وكونه حكما ظاهريا لا يجدي ؛ بعد كون اللسان لسان بيان الواقع ، والأخذ على أنّه الواقع.

ومن ذلك يظهر أنّ المانع ليس كذب أحدهما ، وعدم مطابقته للواقع حتى يقال لا يعتبر في نصب الطريق إصابة الواقع ، وإلا لزم عدم شمول الدليل لما هو كذب واقعا ، بل المانع هو لزوم التناقض ، فجعل الخبر الكاذب والحكم بوجوب أخذه على أنّه الواقع لا مانع منه ، وأمّا الحكم بأخذ خبرين متنافيين والحكم يكون (١) مؤدى كل منهما هو الواقع ، فهو غير جائز.

ومن ذلك ظهر أنّه لا وجه لما أجاب به في الفصول (٢) عن لزوم التناقض بأنّه : لا ملازمة بين كون الأمارة واقعيّة وبين ثبوت مقتضاه واقعا ، إذ يجوز التخلّف عن الواقع مع كونها حجّة ومعتبرة عند الشارع ؛ وذلك لأنّا نريد (٣) إثبات التناقض في الواقع ، بل إثباته في نفس هذا الجعل على أنّه الواقع ، فنقول : إيجاب العمل بكل منهما على أنّه الواقع عبارة أخرى عن الحكم بحرمة الشيء وإباحته مثلا ، وإن كان الواقع في علم

__________________

(١) في نسخة (ب) : بكون.

(٢) الفصول الغرويّة : ٤٢١.

(٣) الظاهر أنّ استقامة العبارة تتم بإضافة كلمة : لا ، أي لا نريد ...

١٠٩

الله شيئا ثالثا.

ودعوى : أنّه يرجع إلى التخيير في مقام العمل مدفوعة بأنّ هذا التخيير فرع لإمكان إيجاب العمل بهما من حيث هو ، حتى يحكم العقل بعد عجز المكلّف بوجوب العمل بهما بقدر الإمكان ، وهو أحدهما ، نظير تزاحم الواجبين ، ونحن نقول : لا يمكن ذلك ، نعم يمكن حكم الشارع من الأول بالتخيير بينهما ، لا من حيث إنّه مقتضى التعارض ، وهذا غير ما هو محل البحث.

والحاصل : إنّا نقول إنّ كل واحد من الدليلين وإن كان مشمولا لدليل اعتباره بحسب الظاهر ، إلا أنّ الحجّة الواقعيّة لا يمكن أن تكون كليهما ، بحيث لو فرض محالا إمكان العمل بها (١) كان واجبا ، بل المقام نظير ما نقول في مثل قوله أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من أنّ العالم الفاسق إمّا مراد من العموم الأول ، أو الثاني ، ولا يمكن أن يكون مرادا منهما ، وإلا لزم التناقض ؛ غاية الأمر أنّ كلّا من العامّين شامل له ، هذا كله بناء على الطريقيّة.

وأمّا بناء على الموضوعيّة والسببيّة ؛ فيمكن كونهما واجبي العمل واقعا ، إذ على هذا يكون نظير تزاحم الواجبين ، فإنّ الملحوظ حينئذ ليس جهة الكشف عن الواقع والعمل على أنّه هو ، بل من جهة أنّ في العمل بقول العادل مصلحة فإذا تعارضا يكون من قبيل تزاحم الواجبين ، وكذا الحال في الأصول العمليّة.

هذا ويمكن المنع بناء على السببيّة في الأخبار أيضا ، إذ الظاهر (٢) أنّ حيثيّة البدليّة عن الواقع ملحوظة في العمل بهما ، ولا يعقل جعل بدلين متخالفين لمبدل واحد ، نعم لا مانع في الأصول أصلا.

فإن قلت : فعلى هذا يلزم عدم الحاجة إلى باب التعارض والتعادل ، وتخطئة جميع العلماء في ذكرهم التعارض وأحكامه؟

قلت : لا ؛ بل يبقى جميع ما ذكروه في محلّه ؛ غاية الأمر أنّ الدليلين لا يمكن

__________________

(١) في نسخة (ب) : بهما.

(٢) في النسخة : إذا ظاهر.

١١٠

كونها حجّتين واقعتين (١) ، وإلا فمقتضى عموم الأدلة حجيّة كل منهما ، فيرجع البحث إلى أنّه إذا تعارض دليلان معتبران بظاهر الأدلة فما حكمهما ، وأنّه هل يحكم بالتخيير أو الترجيح أو التساقط أو غير ذلك ، هذا غاية توجيه القول بالمنع.

ومع ذلك فالإنصاف إمكان كونهما حجّتين واقعيّتين ، ولو على القول بالطريقيّة ، وذلك لأنّ لازم جعل الطريق ، وإن كان جعل مؤداه ، إلا أنّ ذلك إنّما يوجب التناقض إذا كان في القضيّة الشخصيّة بأن يقول صدّق زيدا في قوله الفلاني وصدق عمرا كذلك ، وأمّا إذا كان بنحو العموم على وجه القضيّة الطبيعيّة ، فلا يعد من التناقض (٢) ، ألا ترى أنّه لو قال أنقذ زيدا وأنقذ عمرو مع عدم إمكانهما معا يعدّ من التكليف بما لا يطاق ، ولو قال أنقذ الغريق لا يعدّ منه ، لأنّه يرجع إلى أنّ طبيعة إنقاذ الغريق واجبة.

ففي المقام نقول : إنّ الغرض من قوله صدّق العادل جعل طبيعة قول العادل بمنزلة العلم في كونه كاشفا عن الواقع ، ويكون فيه مصلحة ، وهو الكشف الغالبي عن الواقع ، فهذه المصلحة أوجبت جعل الشارع له حجّة ، وإيجابه العمل عليه بحيث لو فرض إمكان العمل بهما معا كان (٣) واجبا ، كما على القول بالسببية ، غاية الأمر أنّ المصلحة بناء على الطريقيّة ليست إلا الإيصال الغالبي ، وليس اللازم من ذلك وجوب العمل فعلا بكل منهما في صورة التعارض ، حتى يلزم التناقض أو التكليف بالمحال.

وبالجملة فرق بين جعل المؤدّى أولا على وجه التناقض كأن يقول : أفعل ولا تفعل وبين تعليق الحكم على موضوع ، وربّما ينجر إليه ، فإنّه يمكن كون ذلك الموضوع مقتضيا لذلك الحكم على وجه العموم ، بحيث يكون لازمه التزاحم في بعض المقامات ، فعنوان تصديق العادل فيه مصلحة الإيصال إلى الواقع ، ويمكن أن يجعل كاشفا عنه تعبدا ، أو أن نجرّ (٤) لزوم التناقض في صورة التعارض ، إذ لا محذور فيه ، بعد أن كان العقل أو النقل حاكما حينئذ بالتخيير أو التساقط ، ونحو ذلك.

__________________

(١) في نسخة (ب) : كونهما حجتين واقعيّتين.

(٢) في نسخة (ب) : التعارض.

(٣) في نسخة (ب) : لكان.

(٤) في نسخة (ب) : ينجرّ إلى.

١١١

كيف؟ ولو كان (١) من التناقض لم يكن فرق بين الموضوعات والأحكام ، ولا بين مكلّف واحد ومكلّفين ، إذ لا فرق في عدم إمكان إراءة الواقع بطريقين متخالفين بين أن يكون لمكلّف واحد أو لمكلّفين أو في زمانين ، ولازم ذلك عدم إمكان حجيّة دليل لمجتهد وحجيّة معارضه لمجتهد آخر ، أو لذلك المجتهد في زمان آخر ، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى.

هذا ولما أشرنا سابقا إلى أنّ لكلّ من التعارض وقسميه أحكاما تخصه فلا بدّ من التكلّم في مقامات :

__________________

(١) في نسخة (ب) : ولو كان هذا ...

١١٢

[المقام الأول]

[في أحكام التعارض]

فاعلم (١) أنّه ذكر جماعة أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن خير من الطرح ، وأنّ الرجوع إلى سائر أحكام التعارض إنّما هو في صورة لا يمكن الجمع بينهما ، بل عن صاحب الغوالي دعوى الإجماع عليه (٢) ، قال على ما حكي عنه (٣) : إنّ كل حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أولا البحث عن معناهما ، وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات ، فاحرص عليه ، واجتهد في تحصيله ، فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله ، بإجماع العلماء ، وإن لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك جهة ، فارجع إلى العمل بهذا الحديث ـ يعني مقبولة عمر بن حنظلة ـ (٤) ؛ وتحقيق الحال في هذا المقال يقتضي ذكر أمور :

الأول : [بيان صورتي الجمع]

إنّ الجمع بين الدليلين يتصور على وجهين :

أحدهما الجمع الدلالي ؛ وهو التصرف في الدلالة بحيث يرجع أحدهما إلى الآخر أو كلاهما إلى معنى ثالث ، بحيث يرتفع التنافي بينهما بعد التصرف.

الثاني : الجمع العملي ؛ بأن يؤخذ بهما في مقام العمل مع إبقاء دلالتهما على حالها لا مجرّد العمل بهما ، ولو كان بالتصرف في دلالتهما ، فإنّ التصرف في الدلالة مقدمة للعمل ، وكلّ جمع دلالي يستتبع العمل ، فالمراد بالجمع العملي هو العمل بهما ، ولو بالتبعيض في مدلولهما ، مع الإغماض عن التصرف في دلالتهما ، مثلا إذا قال أكرم العلماء وقال أيضا لا تكرم العلماء فمرّة يقال المراد بالعلماء في الأوّل

__________________

(١) في النسخة : واعلم.

(٢) غوالي اللئالي : ٤ / ١٣٦.

(٣) المصدر نفسه ؛

(٤) عوالي اللئالي : ٤ / ١٣٦.

١١٣

العدول ، وفي الثاني الفسّاق ، ويبني عمله على ذلك ، وتارة يقال المراد بالعلماء وإن كان هو الجميع في الخبرين ، إلا أنّه في مقام العمل يؤخذ بالبعض في كل من الحكمين ، فالأول جمع دلالي والثاني عملي ، كما في تعارض البينتين في ملكيّة الدار مثلا ، فإنّه لا يتصرف في لفظ البينتين ، بل يعمل بهما ويحكم بتنصيف الدار.

ومن المعلوم أنّ مورد الجمع العملي ما إذا كان المتعلّق في كليهما أو أحدهما عاما ذا أفراد أو مركبا ذا أجزاء فلا يجري (١) في البسيط كالحرمة والحليّة والزوجيّة والحريّة ونحوها ، إذ التبعيض من حيث الزمان لا دخل له بالجمع العملي بمعنى أنّه معلوم العدم ؛ بأن يحكم بالحرمة في يوم ، وبالحليّة في آخر ، عملا بالخبرين الدال أحدهما على إحداهما ، والآخر على الأخرى.

ومن ذلك يظهر بيان الجمعين مفهوما ومصداقا ، لاختلاف المناط والملاك فيهما ، إذ العمل اللازم للتصرف في الدلالة ليس من الجمع العملي كما عرفت ، حتى يكون مصداقا لهما ، نعم بينهما بحسب المورد عموم من وجه ، بمعنى أنّ في بعض الموارد يمكن الجمع الدلالي دون العملي ، وفي بعضها عكس ذلك ، وفي بعضها يمكن كل منهما.

فمورد الاجتماع المثال المتقدم ، ومثل قوله أكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا ، إذ لو أبقى دلالتها على حالها ، وعمل بقوله لا تكرم زيدا ، فقد عمل بهما معا في الجملة ، فهو جمع عملي ، ولو قلنا إنّ المراد من العلماء من عدا زيد ، فهو جمع دلالي ، ومورد افتراق الأول ما إذا دلّ أحد الخبرين على العشر في الرضاع ، والآخر على عدمه ، واعتبار خمس عشرة رضعة (٢) ، فإنّه (٣) لا يمكن الجمع العملي ، إذ الحرمة ليست قابلة للتبعيض إلا بحسب الزمان ، وهو معلوم العدم ، ومورد افتراق الثاني تعارض النصين والأصلين ، حيث لا يمكن التصرف في دلالتهما.

ويمكن الجمع العملي بينهما إذا كان المتعلّق فيهما أو في أحدهما قابلا للتبعيض

__________________

(١) العارة في المتن مشوشة.

(٢) في النسخ : رضعات.

(٣) بعدها في النسخة (ب) هكذا : يمكن الجمع الدلالي ولا ...

١١٤

، والمراد بالجمع في كلام الجماعة الجمع الدلالي دون العملي ، فمع عدم إمكان الأول يرجع إلى سائر قواعد التعارض من التخيير والترجيح .. ونحو ذلك ، وإن أمكن الجمع العملي ، وذلك لأنّ محل كلامهم تعارض أدلّة الأحكام ، والجمع العملي فيها خلاف الإجماع كما سيأتي ، مع أنّه موجب للهرج والمرج ، مضافا إلى أنّ ظاهر كلام صاحب الغوالي ذلك ، حيث قال (١) : يجب البحث عن معناهما ، وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، هذا (٢) مع إنّ المعلوم أنّ غرضهم من هذه القاعدة أنّه إذا أمكن رفع التنافي بين الخبرين بحيث يخرجا (٣) عن التعارض وجب ذلك ، ويكون مقدما على التخيير والترجيح ، والجمع العملي ليس دافعا للتنافي كما هو واضح ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ مرادهم من الجمع في هذه القضيّة خصوص الجمع الدلالي لا العملي ، ولا الأعم منهما.

هذا مضافا إلى أنّ ظاهر أدلّتهم أيضا ذلك ، كما لا يخفى على من لاحظها ، فظهر تطابق جميع مشخصات محلّ النزاع فيما ذكرنا ، فإنّ تشخيصه إمّا بالعنوان ، وهو في المقام ظاهر فيما قلنا ، وإمّا بالأدلة أيضا ، وهي دالّة كذلك ، وإمّا بالثمرات وهي أيضا دالّة على ذلك ، لما عرفت من أنّ الغرض بيان أنّ إجراء قواعد التعارض إنّما هو بعد عدم امكان رفع التنافي بالحمل والتأويل في الدلالات ، نعم ذكر الشهيد الثاني من فروع القاعدة الجمع بين البينين بالتبعيض ، وهو جمع عملي ، لكن يمكن أن يكون غرضه جريان مناط القاعدة فيها لا نفسها.

وكيف كان فالمراد ما ذكرنا ، وإن كان مع قطع النظر عمّا ذكرنا يمكن إرادة الأعم من الأمرين بأن يكون المراد أعم من الدليلين في الأحكام والأمارتين في الموضوعات ، ويكون المراد أنّه إذا أمكن العمل بالدليلين (٤) والأمارتين سواء كان بالتصرف فيهما بإرجاع أحدهما إلى الآخر أو كليهما إلى ثالث ، أو مع إبقاء كل منهما على ظاهره ، أو نصوصيّته ، والعمل بهما في الجملة ؛ وجب وقدّم على الطرح ،

__________________

(١) عوالي اللئالي : ٤ / ١٣٦.

(٢) لا توجد هذه الكلمة في نسخة (ب) ؛ وكتب محلها : الخ.

(٣) في النسخة : خرجا.

(٤) من قوله «بأن يكون ـ إلى قوله ـ بالدليلين» لا يوجد في نسخة (ب).

١١٥

ويلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ الجامع القريب موجود وهو مجرّد العمل بهما حسبما ذكرنا.

ومن ذلك ظهر ما في كلام بعض حيث إنّه قال ما محصّله : إنّ مرادهم من الجمع في القضية المذكورة مشتبه ، ولا يعلم أنّه الجمع العملي أو الدلالي ، وذلك لأنّه لا يمكن تشخيصه بالعنوان لإجماله ، ولا بالأدلة التي أقاموها لاختلافها في ذلك ، حيث إنّ دليل العلّامة (١) من أنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة .. إلى آخره ؛ ناظر إلى الجمع الدلالي ، وما ذكره الشهيد في التمهيد (٢) من أنّ الأصل في الدليلين الإعمال ناظر إلى الجمع العملي ، والثمرة أيضا مختلفة لا يمكن تشخيص المراد بها ، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقن ، وهو الجمع الدلالي العملي ، بأن يكون ممّا يتصرف في مدلوله ويتبعض من حيث العمل ، كالتخصيص والتقييد في العام والخاص والمطلق والمقيّد.

وذلك لأنّ النسبة بين الجمعين وإن كانت بالتباين من حيث المفهوم ، إلا أنّها (٣) بحسب الصدق بينهما عموم من وجه ، إذ قد يتصادقان كما في العام والخاص ، وقد يتفارق الدلالي ؛ كما لو حمل أحد الدليلين على ما لا يترتب عليه حكم شرعي في مقام العمل كحمل أخبار التوقف في مسألة أصل (٤) البراءة على زمان الحضور ، أو على أصول الدين ، وحمل أخبار البراءة على زمان الغيبة ، أو غير أصول الدين ، وكذا حمل أخبار التوقف في علاج المتعارضين على زمان الحضور ، وحمل أخبار التخيير على زمان الغيبة ، فإنّ هذا الجمع جمع دلالي وليس عمليا ، إذ لا تتعلق أخبار التوقف حينئذ بعمل المكلّف الذي في زمان الغيبة ، كالجموع التبرعيّة للشيخ في الإستبصار.

وقد يتفارق العملي عن الدلالي كما فيما لا يمكن حمله على خلاف دلالته كالنصّين إذا أمكن التبعيض فيهما في مقام العمل ، وبينها بحسب المورد عموم

__________________

(١) ذكره في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٣ ، وحكاه عنه : قوانين الأصول : ٢ / ٢٧٩.

(٢) تمهيد القواعد : ٢٨٣.

(٣) في نسخة (ب) : أنّهما.

(٤) لا توجد هذه الكلمة «أصل» في نسخة (ب).

١١٦

مطلق ، إذ الجمع الدلالي أخصّ من العملي ، إذ الجمع العملي يتصور في كل مقام بخلاف الدلالي لعدم جريانه في النصّين ، أو الخبرين المتساويين في جهات التأويل ، وحينئذ فمقتضى القاعدة بعد اجمال المراد الحمل على القدر المتيقن ، والأخذ به ، وهو مورد التصادق.

ثمّ قال : لكنّ النظر الدقيق يقتضي تباينهما كليّا لأنّ مقتضى الجمع العملي التبعيض في العمل ، والجمع الدلالي قد لا يكون مستلزما للتبعيض ، كحمل العام على الخاص ، إذ هو طرح لظهور العموم ، وأخذ بتمام مدلول الخاص ، فليس جمعا عمليّا ، وإنّما هو دلالي فقط ، وأيضا قد لا يكون في الجمع الدلالي تبعيض (١) أصلا كما في حمل الأمر على الاستحباب في مقابل نفي البأس ، نعم قد يكون الجمع تبعيضا في كل منهما ، كالجمع بين المتباينين بحمل كل منهما على بعض الأفراد ، إلا أنّه أيضا لا ينطبق على الجمع العملي ، لأنّ مقتضاه التبعيض على وجه مخصوص بخلاف الجمع الدلالي ، فإنّه لا بدّ فيه من الحمل على بعض معين بوجه مخصوص.

وحاصل غرضه أنّه لا يمكن أن يكون المراد مورد التصادق أي القدر المتيقن ولا الأعم ؛ لعدم التصادق وعدم الجامع بين الجمعين.

قلت : فيه :

أولا : إنّك قد عرفت أنّه لا إجمال في المراد ، وأنّ المشخصات الثلاثة متطابقة على أنّه الجمع الدلالي ، مع أنّه على فرض الشك فالجمع الدلالي هو القدر المتيقن إذ لا ينبغي التأمل في عدم إرادة خصوص العملي.

وثانيا : إرادة القدر المشترك والأعم ممكن ، والجامع القريب موجود وإن كانا متباينين بحسب المصداق أيضا بالتبيين الذي ذكرناه.

وثالثا : إنّ ما ذكره في بيان المباينة لا وجه له ، إذ لا يلزم في الجمع العملي التبعيض في كلا الطرفين ؛ بل يكفي إذا كان في أحدهما كما في العام والخاص المطلقين ، وأيضا كون التبعيض في الجمع الدلالي على وجه مخصوص لا يقتضي

__________________

(١) في النسخ : بتبعيض.

١١٧

المباينة (١) ، مع أنّه قد يكون التبعيض في العملي أيضا متعينا فيما يكون مقتضى الجمع الدلالي ، فلم يلزم عدم التصادق ، فالأولى أن يقال : إنّ ملاكها (٢) مختلف حسبما ذكرنا ، إذ ليس المراد من الجمع العملي مجرّد العمل بها بل العمل مع إبقاء الدلالة على حالها ، ومن المعلوم أنّه مباين للتصرف في الدلالة كما هو مقتضى الجمع الدلالي.

ورابعا : ما ذكره من تفارق الجمع (٣) الدلالي من أخبار التوقف والبراءة والتخيير ؛ فيه أنّ عمل كل شيء بحسبه ، فإذا حمل أخبار التوقف على زمان الحضور فعمله بها أن لا تلزم (٤) بمقتضاه في زمان الغيبة ، وكذا حملها على أصول الدين ، إذ يلزم حينئذ بالتوقف فيها فهذا عمل بها.

وأمّا (٥) مسألة الجمع التبرعي فلا دخل لها بما نحن فيه ، إذ ليس هو جمعا دلاليّا بل هو احتمال الجمع ، وإلا ففي الحقيقة يطرح الخبر المرجوح ، وبعد الطرح والأخذ بالراجح يقول لعلّ المراد من ذلك الخبر أيضا ما لا ينافي هذا.

وخامسا : قد عرفت أنّ بين الجمعين بحسب المورد عموم من وجه لا مطلق ، كيف؟ وبعض الموارد يمكن الجمع الدلالي دون العملي ، كما إذا كان المتعلّق أمرا بسيطا ، مع أنّ هذا مناف لجعلهما (٦) بحسب المصداق (٧) عامّين من وجه ، إذ بمقتضى ما ذكره في مثال أخبار التوقف والبراءة لا يمكن الجمع العملي ، ويمكن الدلالي.

__________________

(١) في النسخة : المبايعة.

(٢) في نسخة (ب) : ملاكهما.

(٣) في نسخة (ب) : من تفارق في الجمع ...

(٤) في نسخة (ب) : يلتزم بمقتضاها.

(٥) كلمة «أمّا» لا توجد في نسخة (ب).

(٦) في النسخة : بجعلهما.

(٧) في نسخة (ب) : الصدق.

١١٨

الثاني (١) : [المراد من الطرح]

إنّ المراد من الطرح في هذه القضية أعمّ من طرح أحدهما معينا بسبب (٢) مزيّة في الآخر ، أو مخيّرا لأجل التعادل ، ومن (٣) طرحهما لأجل التوقف والتساقط ، بناء على أنّ الأصل في المتعارضين ذلك ، أو لأجل عدم إمكان جعل المتعارضين ، فهذه القاعدة على فرض تماميّتها ليست مخصوصة ببعض المباني دون بعض ، بل هي جارية على جميع المذاهب والمباني ، والفرض أنّ الرجوع إلى أحكام التعارض من التخيير أو التوقف والتساقط أو الترجيح فرع عدم إمكان الجمع ، ومعه فالحكم واحد عند الجميع ، وهو الأخذ بالخبرين ورفع التنافي من المتعيّن ، إذ أنّ دائرة القاعدة مع لحاظ الأخبار العلاجيّة أضيق منها على فرض عدم لحاظها ، إذ مع لحاظها يمكن أن يقال (٤) : وإن كان مقتضى القاعدة الجمع بالتأويل البعيد ، إلا أنّ الأخبار العلاجيّة تقتضي عدم الجمع إذا صدق التعارض عرفا ، واستقرّ هذا الصدق ، وهذه بخلاف ما لو أغمضنا عنها ، فإنّ اللازم بناء على تماميّة القاعدة الأخذ بكل ما يصدق عليه الجمع ، فدائرتها في قبال التوقف والتساقط اللذين يقتضيهما الأصل والقاعدة أوسع منها في قبال الأخبار العلاجيّة.

إلا أن يدعى أنّ الأخبار أيضا منصرفة إلى صورة عدم إمكان الجمع ، ولو بالتأويل البعيد ، وهو كما ترى.

وكيف كان ؛ فالغرض أنّ نظر القائل بالجمع ليس إلى خصوص ما لو قلنا على فرض عدم الجمع بالرجوع إلى الأخبار العلاجيّة كما في كلام صاحب الغوالي.

ثمّ إنّه (٥) لا وجه لجعل الأخبار المذكورة معارضة للقاعدة بالعموم من وجه ، بدعوى أنّها أعمّ من الأخبار الظنيّة وغيرها ، والأخبار أعمّ مما كان الجمع ممكنا أو لا أو مطلقا ، بدعوى أنّ الإمكان المأخوذ في القاعدة من قبيل الشروط لا لعنوان ،

__________________

(١) الثاني من الأمور التي يتم بها مقتضى التحقيق في حال التعارض.

(٢) في نسخة (ب) : بحسب.

(٣) في نسخة (ب) : أو من.

(٤) في النسخة كلمة غير مقروءة ، ولكن أثبتناها من نسخة (ب).

(٥) في النّسخ : ان.

١١٩

فالقاعدة أعم ممّا كان الجمع ممكنا أو لا ، إلا أنّ الإمكان شرط فيها ، نظير القدرة في سائر التكاليف ، وذلك لأنّه لا إشكال في أن الأخبار مقدّمة على القاعدة ، إذ هي بمنزلة الأصل العملي كما يظهر من أدلّتها ، ولا فرق بين أن تكون النسبة عموما مطلقا أو من وجه ، مع أنّ جعل النسبة عموما مطلقا بالتقريب المذكور كما ترى ، إذ لا ينبغي التأمل في كون الإمكان قيدا في القاعدة ، وعنوانا لها ، وكأن القائل تخيّل أنّه ورد خبر عن الإمام عليه‌السلام بأنّ الجمع أولى من الطرح ، وإلا فلا تأمل في كون الإمكان عنوانا فيها ، فالقائل بالجمع معترف بأنّ الواجب هو الرجوع إلى الأخبار العلاجيّة ، إلا أنّه يدعي قصرها على صورة استقرار المعارضة ، وعدم إمكان رفعها بالتأويل والإرجاع.

الثالث : [بيان مورد القاعدة بحسب السند]

ظاهر عنوانهم للقاعدة أنّ كلامهم في الخبرين الظنيين بحسب السند ، لا القطعيين ، ولا المختلفين ، لكنّ الدليل الذي ذكروه يجري فيها أيضا ، إذ في القطعيين بحسب السند الظنيين بحسب الدلالة ، والمختلفين أيضا ؛ يمكن أن يقال الأصل إعمال الدليل ـ أي الظاهر ـ مهما أمكن ، فإذا أمكن حمل أحد العامّين على الآخر أو كليهما على ثالث وجب ، وكذا مقتضى الدليل الآخر ، بل هو أولى بالجريان.

فإن قلت : إذا طرحت الظاهر فكيف أعملته مع أنّ الدليل هو الظهور ، ولم يحصل الأخذ به.

قلت : لا أقول الأصل في الظهور الإعمال حتى يقال المفروض طرحه ، بل أقول الدليل الظاهر الأصل إعماله ، ولو بحمله على خلاف ظاهره فإنّا لو لم نأخذ بالتأويل كنّا قد طرحنا الدليل ، بخلاف ما إذا أخذنا بتأويله ، مع أنّه لو حمل العام على بعض أفراده فقد أخذ بظهوره في الجملة ، إذ الظهور ليس أمرا لا يقبل التبعيض بحسب الأفراد ، نعم في بعض التأويلات لم يؤخذ بالظهور أصلا ، كما إذا حمل الأمر على الاستحباب ، وكيف كان فالقاعدة جارية في الجميع ، بل تجري في النصين القطعيين من حيث السند ، إذا أمكن الجمع بينهما ، بجعل أحدهما ناسخا للآخر.

١٢٠