تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)

[سورة الحجر : ٩]

٥
٦

كلمة الناشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله على ما وفّق له من الطاعة ، وذاد عنه من المعصية ، ونسأله لمنّته تماما وبحبله اعتصاما ، والصلاة والسلام على رسوله الذي صدع بالحق ، ونصح للخلق ، وهدى إلى الرشد.

قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران : ٧].

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ، والمحدّث الذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان ـ زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى ... فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم ، فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء [نهج البلاغة : ١٧٤].

فالقرآن الكريم حبل الله المتين ، وسببه الأمين ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم وتفسير القرآن من أوائل العلوم في أصول الشريعة والتي اهتم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ أول زمن التنزيل ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص أشد الحرص على تعليم أصحابه معاني الآيات القرآنية وكل ما يتعلق بعلوم ومفاهيم القرآن. وكان في الطليعة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام حيث كان يأخذ علوم القرآن وأحكامه ومفاهيمه وأسباب نزوله من نبعه ليكون محفوظا ومتداركا من السهو أو النسيان أو العبث. وقد قال الإمام علي عليه‌السلام في ذلك «علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب» (١). وقد برع الكثير من الصحابة في التفسير بعد أن تتلمذوا على يد أمير المؤمنين عليه‌السلام كعبد الله بن عباس ، وعلى هذا فإنّ التفسير من العلوم التي تفرّد بها البيت النبوي ابتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام علي عليه‌السلام وامتدادا بالأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، فأخذ منهم هذا العلم من زامنهم ومن جاء بعدهم حتى وصل إلينا بالشكل الذي نراه.

وكتاب تبيين القرآن للإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي «قدس‌سره» هو تفسير مختصر للقرآن فيه توضيح للكلمات القرآنية كان الإمام الراحل قد

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٩ ، ص ١٨٣ ، ط مؤسسة الوفاء.

٧

خلص إلى تأليفه في كربلاء المقدسة سنة ١٣٨٩ ه‍ وهو واحد من مؤلفاته الكثيرة ضمن اهتماماته الواسعة بالقرآن الكريم وعلومه وأحكامه ومفاهيمه ، منها مثالا لا على سبيل الحصر :

الفقه : حول القرآن الحكيم ـ سلسلة القصص الحق ٥٠ جزء ـ تقريب القرآن إلى الأذهان ٣٠ جزء ـ توضيح القرآن ٣ مجلدات ، مخطوط ـ قصص الأنبياء من القرآن الكريم والروايات ، مخطوط ـ التفسير الموضوعي للقرآن ١٠ مجلدات ، مخطوط ـ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ـ الجنة والنهار في القرآن ، مخطوط ـ توضيح آيات الجنة والنار ، مخطوط ـ متى جمع القرآن؟ ـ القرآن حياة ، مخطوط ـ لما ذا يحاربون القرآن؟ ـ عاشوراء والقرآن المهجور ـ الإله والكون في القرآن ، مخطوط ـ الرسالة والخلافة في القرآن ، مخطوط ـ العبادة والطاعة في القرآن ، مخطوط ـ الأحكام والأخلاق في القرآن ، مخطوط ـ الإيمان والقرآن في القرآن ، مخطوط ـ بيان التجويد ـ أهمية القرآن الكريم ، مخطوط ـ القرآن منهج وسلوك ، مخطوط ـ القرآن يتحدى ، مخطوط ـ.

وضمن اهتمامات دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع في الأخذ بما هو مفيد ونافع إن شاء الله كان اختياره في طبع هذا الكتاب مع مجموعة اخرى من مؤلفات الإمام محمد الشيرازي قدس الله نفسه الزكية ، والذي كان العمل فيه وقد بلغنا نبأ المصاب الأليم بفقده (رضوان الله عليه) فمن واقع المصاب المؤلم بفقده كان عملنا الدؤوب لإتمام طبعه وبالشكل المميّز ، ليكون له قرّة عين عند جده الرسول الأعظم صاحب التنزيل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

مع الحرص أن لا يفوتنا تسجيل الشكر والعرفان (لمؤسسة المستقبل للثقافة والإعلام) لمجهودهم المثاب في إخراج هذا الكتاب النافع.

وحيث روي أنه ينادي يوم القيامة «ألا انّ كل حارث مبتلى من حرثه وعاقبة عمله ، غير حرثة القرآن» (١) فلنكن من حرثته والمهتدين إليه والعاملين بأحكامه.

والله نسأل أن يتقبل منا ويعطينا ما نأمله من الأجر.

الناشر

بيروت ـ لبنان

١ / صفر / ١٤٢٣ ه

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ١٧٦.

٨

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد ، هذا مختصر في توضيح بعض الكلمات القرآنية ، سميته (تبيين القرآن) وأسال الله سبحانه العصمة والتمام والثواب ، وهو المستعان.

كربلاء المقدسة

٢٧ / جمادى الأولى / ١٣٨٩ ه‍

محمد الشيرازي

٩

١ : سورة الفاتحة

مكية وقيل نزلت ثانيا بالمدينة وآياتها سبع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) عالم الإنسان والحيوان والملك والجن وغيرهم.

[٣ ـ ٤] (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الجزاء.

[٥ ـ ٧] (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) في حال كونهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الذين ضلوا من الطريق.

١٠

٢ : سورة البقرة

مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الم) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢] (ذلِكَ) الإشارة إلى البعيد للتعظيم (الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ليس محل الشك (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم هم الذين يهتدون بالقرآن.

[٣ ـ ٥] (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ما غاب عن حواسهم ، كالله سبحانه (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) هداية جاءتهم من ربهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

١١

[٦ ـ ٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كفرا بعناد (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي علّم قلوبهم وطبع عليها بعلامة الانحراف (وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أي غطاء (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

[٨ ـ ٩] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعملون عمل المخادع الذي ظاهره يخالف باطنه ، فإن ظاهرهم الإيمان وباطنهم الكفر (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ نتيجة الخداع ترجع إليهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي لا يفهمون أنهم يخدعون أنفسهم.

[١٠] (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) تشبيه للانحراف عن الهدى بالانحراف عن الصحة (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) لأن القرآن سبب زيادة الانحراف القلبي فيهم بجحده وترك العمل به (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) كذبوا بأنهم مؤمنون.

[١١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) المنافق يفسد في الأرض بسبب نفاقه (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) نصلح أمور دنيانا ونصلح غيرنا بسبب الوقوف أمام تفشي الإسلام بين الناس.

[١٢] (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فإن المنافق يفسد نفسه ويفسد غيره (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

[١٣] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) ظاهرا وباطنا (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) إذ يفعلون فعلا يتجنبه المؤمنون والكفار (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

[١٤] (وَإِذا لَقُوا) من (لقي) بمعنى الملاقاة (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) المنافقين الذين هم أشباههم في النفاق (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) منافقون أمثالكم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بالمؤمنين ، حيث نظر لهم الإيمان.

[١٥] (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يفعل بهم فعل المستهزئ ، لأنه يعاملهم في الدنيا معاملة المؤمن ، وفي الآخرة معاملة الكافر (وَيَمُدُّهُمْ) يقويهم ويعطيهم القدرة ، وإمداد الله تعالى بتركهم ليفعلوا ما يشاءون (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) العمه في البصيرة كالعمي في البصر.

[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أعطوا الهدى وأخذوا الضلالة بدله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فهم ضالون عن الطريق ، وبالآخرة خاسرون في تجارتهم.

١٢

[١٧ ـ ١٨] (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) أي طلب الضياء بإشعال النار (فَلَمَّا أَضاءَتْ) النار (ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فكما إن الذي استوقد ثم طفئت ناره ، يبقى في الظلمة ويتحسر ، كذلك المنافق ، فإنه بإسلامه الظاهري يعامل في الدنيا معاملة المؤمن ، فتضيء ظاهر دنياه بإسلامه هذا ، ثم إذا مات وقع في ظلمة العذاب. (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) جمع أصم وأبكم وأعمى ، وهو الذي لا يسمع ولا يتمكن من التكلم ولا يبصر ، والمنافق هذا حاله ، لأنه لا ينتفع بسمعه في قبول الهداية ، ولا بلسانه في نشر الهداية ، ولا ببصره في رؤية الآيات (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) عن نفاقهم.

[١٩ ـ ٢٠] (أَوْ) مثلهم والهداية (كَصَيِّبٍ) فالهداية كالمطر الشديد (مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ) فإن السحاب المتراكم يوجب ظلمة الفضاء (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ) أي الذين ابتلوا بهذا المطر (أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) أي من خشية أن تخلع الصواعق قلوبهم ، إذا سمعوا صوتها (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي إن جعلهم الأصابع في الآذان ، من جهة خوفهم من الموت بسبب صوت الصاعقة (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) إحاطة علم وقدرة ، فجعل أصابعهم في آذانهم ، لا يدفع عنهم الموت ، وهذا مثل المنافق عند بزوغ شمس الإسلام ، حيث إن في الإسلام ظلمات للمنافق ، وهو ما إذا غلب الكفار فكأنه ظلمة له لتظاهره بالإسلام ، أو إذا أمر الإسلام بالجهاد فالمنافق في ظلمة حيرته فلا يتمكن من توطيد نفسه للقتل لعدم إسلامه ولا يمكنه التخلف خوفا من كشف أمره ، ورعد وهو تهديدات الإسلام لمن خالف ، وبرق وهو ما إذا تقدم المسلمون ، كأنه برق ينير الطريق ، والمنافق لا يريد سماع التهديدات لئلا يظهر الخوف على وجهه ، فيتبين نفاقه. (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ) أي يعمي ، لأن الباطل لا يتمكن أن يرى تقدم الحق (أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي ساروا في ضوء الإسلام إلى الأمام (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) بأن غلب الكفار (قامُوا) أي وقفوا في مكانهم لا يعلمون للإسلام (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فكما أن الله قادر بأن يعمي ببريق البرق ، ويصم بصوت الرعد الذين أصابهم الصيب ، كذلك الله قادر أن يفعل ذلك بالمنافق ، بمعنى إن أمره بيد الله ، ولا ينفع الحذر عن ضرره بالإسلام (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

[٢١] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي إن الخلق لأجل التقوى.

[٢٢] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) كالفرش مهيأ لمصالحكم (وَالسَّماءَ بِناءً) كسقف البيت الواقي لأهله (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ) بالماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أمثالا ، أي لا تشركوا بالله ، فإن الله وحده خلقكم وهيأ لكم كل شيء (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي والحال أنتم تعرفون أن الله خلقكم ورزقكم دون غيره.

[٢٣] (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) شك (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي في شك من صدق القرآن (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) أي الذين يشهدون أن القرآن ليس من عند الله ، أدعوهم ليساعدوكم في الإتيان بمثل سورة (مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن القرآن ليس كلام الله.

[٢٤] (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) بإتيان مثل سورة (وَلَنْ تَفْعَلُوا) هذا إخبار بأنهم لا يقدرون من الإتيان بمثل سورة (فَاتَّقُوا النَّارَ) أي لا تكفروا ، لأن الكفر عاقبته النار (الَّتِي وَقُودُهَا) أي الذي يشعلها ، عوض قطع الخشب والعود (النَّاسُ) للتهويل (وَالْحِجارَةُ) للتشديد والدلالة على عظمة النار (أُعِدَّتْ) هيئت (لِلْكافِرِينَ).

١٣

[٢٥] (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت أشجارها ، فإن الجنة هي البستان (الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) أي من تلك الجنات (مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا) أي مثل هذا الرزق (الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا ، فأن ثمار الجنة كثمار الدنيا في أصلها وان اختلفت في الخصوصيات ، والإنسان ينشرح بما ألفه أكثر (وَأُتُوا) أي يؤتى لهم (بِهِ) أي بالرزق (مُتَشابِهاً) يشبه بعض الرزق بعضا (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) لا يرين دما ولا وساخة ومطهرة أخلاقهن عن الرذائل (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) يبقون في الجنة إلى الأبد.

[٢٦] (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أي لا يخجل ولا يمتنع (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) أي : أيّ نوع من المثل ، وهذا جواب ما قال الكفار بأن الله لما ذا يمثل بالأشياء الحقيرة كالعنكبوت وشبهها (بَعُوضَةً) بدل (ما) وهي البق (فَما فَوْقَها) أي أكبر من البعوضة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي المثل (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي إن الله إنما مثل مثالا صحيحا ، وإن لم تدرك عقولهم وجه المثال (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي بهذا المثل (يُضِلُّ بِهِ) أي إن فائدة هذه الأمثال ، امتحان الناس ، فيضل الذي في قلبه مرض ، ويهدي الإنسان المستقيم ، وإضلال الله عبارة عن تركه العبد حتى يضل ، كما تقول : أفسد فلان ولده ، إذا ترك ولده حتى فسد (كَثِيراً) أي كثيرا من الناس (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الخارجين عن جادة الاستقامة ، فإن من كانت نفسه منحرفة يضل بمجرد شبهة أو إشكال.

[٢٧] (الَّذِينَ) صفة الفاسقين (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) المعاهدة التي أخذها الله بسبب أنبيائه عن الناس ، بأن يطيعوه (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي استحكام العهد المأخوذ منهم بسبب الأنبياء عليهم‌السلام (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) بدل (ما) أي ما أمر الله بوصله ، مثلا يقطع الرحم ، وقد أمر الله بوصلها (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) كالتاجر الذي خسر رأس ماله ، فإنهم يخسرون حياتهم وعمرهم.

[٢٨] (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ) أي والحال أنكم كنتم (أَمْواتاً) لا حياة لكم ، فإن الطعام الذي يأكله الأبوان فينقلب منيا ثم آدميا ، لا حياة له (فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في الآخرة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ترجعون إلى جزائه وحسابه.

[٢٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي قصد إلى بناء السماء (فَسَوَّاهُنَ) خلقهن (سَبْعَ سَماواتٍ) أي مدارات للأجرام (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

١٤

[٣٠] (وَإِذْ قالَ) أي اذكر يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول (رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ) أي أريد أن أجعل (فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي إنسانا يخلف الخلق الذي كان سابقا ، أو خلفا لي يمثلني في الأرض وهم الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي يريق الدم الحرام ، وقد علمت الملائكة أن طبيعة الأرض طبيعة فساد وقتل (وَنَحْنُ) أي اجعل الخليفة منا ، فإنا لا نفسد ، بل (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي ننزهك تنزيها من سنخ الحمد ، فإن من حمد الله تعالى فقد نزهه ، كقولك ننزهك بذكر فضائلك ، أو ننزهك متلبسين بحمدك فإن التنزيه هو التبرئة عما لا يليق به ، والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري (وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نطهر الأرض من الأدناس لأجلك ، من (قدّسه) إذا ذكر طهارته عن الأدناس (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أعلم أن من بين البشر أناس كرام ، وأخلق الخليفة لأجل أولئك الطاهرين وهم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها عليهم‌السلام.

[٣١] (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وحيث أراد الله تعالى إعلام الملائكة بأن خلق آدم إنما هو لفضله ، وإنه قابل لما ليسوا بقابلين له ، علمه أسامي الأشياء والحقائق فتعلمها ، لكن الملائكة لم يكونوا قابلين لهذا التعلم ، كالولد الفطن الذي يتعلم بما لا يتعلمه الولد غير الذكي ، فإن الإنسان خلق من العناصر المختلفة القابلة لإدراكات ليست الملائكة قابلة لها ، ولذا كان الإنسان الصالح أفضل من الملائكة (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي مسميات تلك الأسماء (عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي) أخبروني (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) إشارة إلى المسميات ، وهذا كقولك : علمت زيدا أسماء الأدوية ، ثم عرضت الأدوية عليه وقلت له أخبرني بأسماء هذه الأدوية (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم بأنكم أحق بالخلافة من آدم.

[٣٢] (قالُوا) أي الملائكة (سُبْحانَكَ) أنت منزه لا تفعل غير الصلاح ، فخلقك لآدم واستخلافك إياه فيه مصلحة (لا عِلْمَ لَنا) بأسماء هؤلاء (إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) فإنك لم تركب فينا ما نتعلم بسببه هذه الأسماء (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) فأنت أعلم بمصلحة استخلاف آدم (الْحَكِيمُ) الذي تضع كل شيء في موضعه اللائق به.

[٣٣] (قالَ) الله سبحانه (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أخبر الملائكة (بِأَسْمائِهِمْ) بأسماء هؤلاء (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أخبر آدم عليه‌السلام الملائكة بأسماء هؤلاء (قالَ) الله للملائكة بعد ظهور تفوق آدم عليه‌السلام عليهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب عنكم ، فإن فضل آدم كان غائبا عليهم وهم يجهلونه ، أو كل شيء غائب سواء كان في السماء أو في الأرض (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي تظهرون من عدم الاحتياج إلى خلق آدم (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي تخفون في نفوسكم من إرادتكم أن أجعل منكم خليفة.

[٣٤] (وَإِذْ) أي اذكر يا رسول الله الزمان الذي (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أي امتنع من السجود (وَاسْتَكْبَرَ) أي تكبر حيث رأى نفسه وزعم انه أشرف من آدم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) بسبب هذا الإباء.

[٣٥] (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) حواء (الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً) أي أكلا واسعا مباركا لكثرة أرزاق الجنة (حَيْثُ شِئْتُما) أي : من أي مكان من الجنة (وَلا تَقْرَبا) بالأكل من (هذِهِ الشَّجَرَةَ) شجرة خاصة قيل : هي الحنطة ، وقد كان النهي عن أكلها للامتحان (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) إذا أكلتما من هذه الشجرة.

[٣٦] (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) أي حملهما على الزلة والسقوط بسبب وسوسته (عَنْها) أي عن الجنة حيث أكلا من الشجرة

١٥

(فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من الخيرات (وَقُلْنَا) لآدم وحواء والشيطان (اهْبِطُوا) من هذه الجنة الرفيعة المرتبة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فإن الشياطين أعداء الرجال والنساء وكذا العكس ، (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) محل استقرار (وَمَتاعٌ) أي تمتع في الأرض بالنعم (إِلى حِينٍ) أي حين الوفاة ، أو حين انقضاء الدين (١).

[٣٧] (فَتَلَقَّى) أخذ (آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ليقولها ، فيتوب الله عليه ببركة تلك الكلمات ، وهي أسامي الخمسة الطيبة : محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (فَتابَ) الله (تعالى) عليه بسبب تلك الكلمات لما قالها آدم عليه‌السلام ، وكان أثر توبته على آدم وحوّاء عليهم‌السلام أن رضي عنهما ، وإن لم يرجعهما إلى الجنّة (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) كثير التوبة ، أي في قبول التوبة (الرَّحِيمُ) بعباده وقد كان عمل آدم عليه‌السلام ترك الأولى ، لا أنه معصية حقيقية كما حقق في علم أصول الدين.

__________________

(١) ربما يكون المراد انقضاء التكليف.

١٦

[٣٨] (قُلْنَا اهْبِطُوا) أي انزلوا يا آدم وحواء والشيطان (مِنْها) أي من الجنة (جَمِيعاً فَإِمَّا) (ما) زائدة أي إن (يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي هداية ، كالقرآن وسائر الكتب السماوية (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إذ لمن آمن بالله وعمل صالحا ، الأمن في الدنيا والآخرة ، والمخاوف التي يراها ليست مخاوف بالنسبة إلى ما يراه الكفار من العذاب والنار (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الخوف لمكروه مترقب ، والحزن لمكروه واصل.

[٣٩ ـ ٤٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) إسرائيل لقب يعقوب عليه‌السلام بمعنى عبد الله ، وبنو إسرائيل هم اليهود (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ببعث الأنبياء فيكم وجعل ملوك منكم (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) الذي أخذت منكم بالإيمان والطاعة (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) بإعطائكم خير الدنيا وسعادة الآخرة (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي خافوني.

[٤١] (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) أي القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ) أي في مقدمة الكافرين (بِهِ) أي بما أنزلت من القرآن (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) بأن لا تؤمنوا بالآيات لأجل رئاسة زائلة في الدنيا (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) أي خافوا منّي ، فآمنوا واعملوا صالحا.

[٤٢] (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) بأن تضعوا لباس الباطل على الحق ، فتقولون للحق أنه باطل (وَتَكْتُمُوا) أي تخفوا (الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه حق.

[٤٣] (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) قيل إن صلاة اليهود لا ركوع فيها ولذا أمروا بالصلاة بلفظ الركوع.

[٤٤] (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الإيمان والتقوى (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي لا تفعلون البر (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فأنتم أولى بالبرّ من الجهّال (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا عقل لكم يمنعكم عن هذه الأعمال.

[٤٥ ـ ٤٦] (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها) الاستعانة بالصبر والصلاة (لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) إشارة إلى أن مجرد الظن كاف في البعث على الإيمان (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي يرون جزاءه (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ) أي إلى حسابه وجزائه (راجِعُونَ).

[٤٧] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) في زمان موسى عليه‌السلام فإن كل مؤمن في زمان نبيّه أفضل من سائر العالمين.

[٤٨] (وَاتَّقُوا) أي خافوا (يَوْماً) هو يوم القيامة (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي إن في ذلك اليوم جزاء كل إنسان لنفسه ، لا أن يعطى جزاء إنسان لإنسان آخر (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) أي من النفس (شَفاعَةٌ) إلا بإذن الله (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي فدية تعادله ليفك الإنسان بسبب ذلك العدل عن العذاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لا ينصر أحد أحدا عن عذاب الله ليدفع عن المجرم.

١٧

[٤٩] (وَإِذْ) واذكروا يا بني إسرائيل زمان (نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) يظلمونكم بعذاب سيئ (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يبقونهن أحياء للاستمتاع بهن واستخدامهن ، وذلك حين أخبر فرعون بولادة موسى عليه‌السلام فإنه أخذ يذبح الأولاد ويبقي النساء ، لأجل أن لا يولد موسى فيكون سببا لذهاب مملكته (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ) امتحان (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) لعل الله ابتلاهم بذلك ، لما كانوا يخالفون أوامر الله المنزلة على الأنبياء السابقين على موسى عليه‌السلام.

[٥٠] (وَإِذْ) واذكروا يا بني إسرائيل زمان (فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي جعلنا ماء البحر فرقة فرقة ، لتمروا من وسطها إلى اليابسة (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إلى غرقهم.

[٥١ ـ ٥٢] (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وعدنا موسى عليه‌السلام أن يأتي إلى الطور أربعين ليلة ، لأعطيه التوراة لأجلكم (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) عبدتموه (مِنْ بَعْدِهِ) حين غاب موسى عليه‌السلام (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الجرم الذي أجرمتموه بعبادة العجل (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لي بسبب هذا العفو.

[٥٣] (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) أي التوراة الفارق بين الحق والباطل ، وهو عطف بيان للكتاب (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بسبب التدبر في الكتاب.

[٥٤] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي بعبادتكم له (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) خالقكم (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ورد أنهم أمروا بقتل بعضهم بعضا ، وكان ذلك القتل توبة لكل من القاتل والمقتول (ذلِكُمْ) القتل لأجل التوبة (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) خالقكم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بعد أن قتل بعضكم بعضا (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

[٥٥] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) إيمانا كاملا (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) حيث جاءتهم صاعقة فأحرقتهم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) حين جاءتكم الصاعقة.

[٥٦ ـ ٥٧] (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أحييناكم (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أي السحاب ، بأن جاء السحاب فوق رؤوسهم ـ حين كانوا في الصحراء ـ لئلا تؤذيهم الشمس (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ) لأجل طعامكم ، حيث لم يكن لكم طعام في الصحراء (الْمَنَ) مادة حلوة كالترنجبين (وَالسَّلْوى) طير يسمى السماني (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي إن بني إسرائيل بكفرهم وانحرافهم لم يظلموا الله تعالى ، فإن من كفر يظلم نفسه.

١٨

[٥٨] (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) وذلك بعد أن خرجوا من البحر ، وبقوا في التيه مدة مديدة بلا مأوى ، والمراد بالقرية بيت المقدس كما قيل (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أي واسعا ، لأنه يوجد في المدينة مختلف أنواع الطعام (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) أي اسجدوا لله حين تدخلون باب القرية (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي اللهم حط ذنوبنا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) إن فعلتم كما أمرتم (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) علاوة على غفران الخطايا.

[٥٩] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا : حنطة حمراء خير لنا ، عوض أن يقولوا : حطة (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله.

[٦٠] (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) أي طلب السقياء والماء ، حين كانوا في التيه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) كان حجر هناك (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) أي كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر (مَشْرَبَهُمْ) مكان شربهم ، لأنهم ما كانوا يريدون شرب الجميع من مشرب واحد لما بينهم من العداء (كُلُوا) قلنا لهم كلوا من المن والسلوى (وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثو مجاوزة الحد في الفساد.

[٦١] (وَإِذْ قُلْتُمْ) حال كنتم في التيه (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) المن والسلوى فقط (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) الخضروات (وَقِثَّائِها) الخيار (وَفُومِها) الثوم (وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أي إن المن والسلوى خير مما طلبتم فكيف تتركون الأحسن وتريدون الأسوأ (اهْبِطُوا مِصْراً) أي انزلوا في قرية من القرى الموجودة في التيه ، وذلك قبل أن يدخلوا الأرض المقدسة (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) فإن في المدينة توجد أنواع الأطعمة (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) فهم أذلاء فقراء النفس ، لا يشبعون من المال مهما أثروا ، وهذه الذلة باقية إلى الآن ، إلا بحبل من الحكومات الكبار ، ولجشع في نفوسهم ، ومعنى الضرب : طبعهم بهذا الطابع (وَباؤُ) أي رجعوا (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي وعليهم الغضب فكأنهم ذهبوا إلى موسى ورجعوا بغضب الله (ذلِكَ) هذا الضرب والغضب (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) صفة توضيحية (ذلِكَ) أي الكفر والقتل (بِما عَصَوْا) أي بسبب أنهم عصاة (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يتجاوزون حدود العقل والشرع.

١٩

[٦٢] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) أي اليهود (وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) دين خاص ، ولعلهم انشعبوا من أهل الكتاب (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) أي كل هذه الطوائف الموجودين فعلا إن آمنوا بالله إيمانا صادقا ـ أي أسلموا ـ وعملوا صالحا (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم تفسيره (١).

[٦٣] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) عهدكم الشديد بالعمل بما في التوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) جبل ناجى الله عليه موسى ثم قلعه الله سبحانه وجعله فوقهم ، وهددهم إن لم يقبلوا الدين ، أوقعه عليهم وأهلكهم بسببه (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أعطيناكم من الأحكام والشرائع (بِقُوَّةٍ) بجد وعزم (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي ما في الكتاب الذي آتيناكم ، بأن لا تنسوه وتتركوه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) النار والعقاب ، فإن العامل بالأحكام تتكون فيه ملكة التقوى.

[٦٤] (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن العمل بالأحكام (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الميثاق (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم للتوبة (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسرتم آخرتكم ودنياكم.

[٦٥] (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أيها اليهود المعاصرون لنزول القرآن وما بعده (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ) جاوزوا أوامر الله (فِي السَّبْتِ) فإنهم نهوا عن الصيد في السبت ، فاحتال بعضهم بحفر سواقي فكانت الأسماك تأتي إلى تلك السواقي في السبت فيأخذونها في يوم الأحد ويقولون : لم نصد في السبت (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) جمع قرد ، فقد مسخهم الله قردا (خاسِئِينَ) مبعدين ومطرودين عن رحمة الله.

[٦٦] (فَجَعَلْناها) أي تلك العقوبة (نَكالاً) أي رادعا وزجرا (لِما بَيْنَ يَدَيْها) أي يدي تلك العقوبة ، أي للذين عاصروا المسخ ورأوه بعينهم (وَما خَلْفَها) أي الذين يأتون بعد تلك العقوبة ، ليعلموا أن جزاء المعتدي المسخ (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي تخويفا لمن يتقي ويخاف من الله ، ليعرف أنه جزاء العاصي.

[٦٧] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وذلك أنه قتل شخص فلم يعرف قاتله ، فتحاكموا إلى موسى عليه‌السلام فأمرهم أن يذبحوا بقرة ، ويضربوا الميت ببعضها ، ليحيي القتيل ويخبر عن قاتله (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي أتريد الاستهزاء والسخرية بنا ، وإلا فما ربط القتيل بذبح البقرة ، (قالَ) موسى عليه‌السلام (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فإن الجاهل يستهزئ.

[٦٨ ـ ٦٩] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي اطلب من الله تعالى (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تلك البقرة وما صفتها (قالَ) موسى عليه‌السلام (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) لا مسنة (وَلا بِكْرٌ) ولا فتية (عَوانٌ) متوسط العمر بين المسنة والفتية (بَيْنَ ذلِكَ) أي بين ذين العمرين (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) أي لون البقرة (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ) أي حسن الصفرة (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تبعث السرور في قلب من يراها لكل هذه الصفات الحسنة أو كانت الصفرة بحيث تجلو القلب.

__________________

(١) الخوف هو المكروه المترقب ، والحزن المكروه الواصل.

٢٠