الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

تقديره : لو كان معه آلهة إذا لذهب. وأكد العلّة بما هو قريب منها في المعنى وهو قوله (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) كما هو شأن الملوك فهذا التدبير المحكم الدائم والنظام الأحسن الذي هو على نسق واحد يدل على صانع واحد حكيم .. ثم هو تعالى شأنه نزّه مقامه السّامي عمّا يصفه به الجهلة وينسبه إليه السّفهاء فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من نسبة اتخاذ الولد إليه والشريك له تعالى.

٩٢ ـ (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...) أي عالم بما غاب وبما حضر وهو تعالى مختصّ بالعلم بهما ولو كان علمه بما حضر فقط فقد كان ناقصا من ناحية احتياجه إلى العلم بما غاب عنه ، والنقص والاحتياج من صفات الممكن لا الواجب بالذّات الذي هو غنيّ من جميع الجهات. والحاصل أن العلم بما كان وسيكون وبما لم يكن من مختصّات ذاته تعالى ومتفرّداته. وهذا دليل آخر على نفي الشريك لتوافقهم على تفرّده في هذا الوصف انحصاره به ، ولهذا رتّب عليه قوله (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزّه عن إشراكهم في علمه وقدرته وألوهيته ثم إنه تعالى علّم رسوله الدعاء للنّجاة من العذاب الذي قد يحيق بالكفار ورسم له نهجا معيّنا فقال تعالى :

* * *

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

٨١

٩٣ و ٩٤ ـ (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ...) أي إن كان ولا بدّ من أن تريني ما تعدهم من العذاب والنقمة (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا تعذبني معهم ولا تجعلني قرينا لهم لئلا يصيبني ما يصيبهم. وكلمة (إِمَّا) مركبّة من (إن) المخفّفة و (ما) الزائدة للتأكيد. وهذا الكلام إمّا للتواضع وهضم النفس واما للتعبد والإخبات وإما للتنبيه على أن نازلة العذاب قد تصيب من لا تقصير له ولا ذنب كما يشير إلى هذا قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). وتكرير النّد أو تصدير كلّ واحد من الشرط والجزاء به كاشف عن فضل التضرع ومزيّة الاستجارة وقد روي عن الحسن أن الله تعالى أخبر رسوله (ص) بنزول العذاب على كفرة قريش ولم يخبره أن وقوعه حين حياته أو بعد موته ، فلذا أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الدّعاء حتى إذا كان في حياته لا يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩٥ ـ (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ...) أي نحن (لَقادِرُونَ) على أن نريك العذاب الموعود والعقوبة التي وعدنا أن نعاقبهم بها ، لكن التأخير لمصلحة وحكمة اقتضته ، ويمكن أن يكون السبب فيه أن بعضهم أو بعض أعقابهم من يؤمن بالله ، أو ما دام النبيّ (ص) فيهم لم يعذب قومه لأنه رحمة للعالمين. والأكثر أن العذاب الموعود هو قضية واقعة بدر. وعلى هذا فالاحتمال الأخير في سبب التأخير غير محتمل إذ قيل هو فتح مكة الذي هو بعيد لأنه لم يكن عذابا عليهم وان صاروا أذلّاء أسراء وصاروا طلقاء أحرارا في حماية المسلمين إذ شملتهم رحمة النبيّ الأكرم الذي كان رحمة للعالمين فما وقع فيهم قتل ولا تبعيد ولا طال عليهم الأسر وقيل هذا الموعود وهو بعد النبي ، على ما يستفاد من الرّوايات التي وردت في ذيل الشريفة في محالها فليراجع. ثم بعد ذلك أمره سبحانه قائلا له :

٩٦ ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) أي ادفع كيدهم بالإغضاء والصّفح

٨٢

عن إساءة المسيء. وقد كان هذا في بدء الإسلام قبل الأمر بالقتال. وقيل معناه : ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه وأوضحها. وأقربها إلى الإجابة والقبول وقيل إن المراد بالأحسن هي كلمة التوحيد ، والسّيئة هي الشرك (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) اي بما يصفونك به من السحر والشعر والجنون ، أو المحذوف هو ياء المتكلّم (على قراءة : بما يصفون) أي ما يصفوننا من اتخاذنا الولد أو الشرك فلا يخصّك أمرهم ونحن نجازيهم قريبا. فالكريمة تسلية للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة بحفظه منهم ، ولذا أمره بالاستعاذة منهم أي من نزعات الشياطين. ومن نخساتهم ووساوسهم وبيّن كيفية الاستعاذة بقوله سبحانه وتعالى :

٩٧ ـ و ٩٨ ـ (قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ ...) أي قل على وجه الابتهال والتضرّع فإن الدعوة على هذا الوجه مطلوبة ومرغوبة فاستعذ (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) اي من الخطرات التي تخطر بقلب الإنسان ووساوسه (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يحوموا حولي في شيء من الأحوال.

* * *

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤))

٨٣

٩٩ و ١٠٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ...) كلمة (حَتَّى) متعلّقة ب (يَصِفُونَ) أي أن الكفّار يبقون على سوء ما هم عليه إلى أن يعاينوا ما أعدّ لهم من النكال حين يجيء إليهم الموت فيسألون الله الرجعة إلى دار الدنيا لأنها دار التكليف فيقول أحدهم (رَبِّ ارْجِعُونِ) مخاطبا الملائكة أو مستغيثا بالله سبحانه (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) أي عملا صالحا (فِيما تَرَكْتُ) من الطاعات وأداء الزكوات ، فيأتيه الجواب من قبل الله تعالى : (كَلَّا) كلمة ردع عن طلب الرجعة ، أي لا سبيل إلى إرجاعك. وقد روي عن النّبي (ص) أن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا له : أنرجعك إلى الدنيا؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول : ربّ ارجعوني. ويمكن أن يكون الجمع في الفعل (ارْجِعُونِ) تعظيم المخاطب على عادة العرب في تعظيم المخاطب كما قال سبحانه : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ) ، مع أن المخاطب شخص واحد. (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) لفرط تحسّره المتسلّط عليه ، وهو مجرّد لفظ لا حقيقة تترتّب عليه لأنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، فلا يجاب عليه. وقد قال الفتح بن يزيد الجرجاني : سألت الرّضا عليه‌السلام : هل لله تعالى علم بأمر معدوم لو وجد بأيّ كيفية ومن اي نوع يكون؟ قال (ع) : ويحك ، إن مسألتك لصعبة ، أما قرأت قوله عزوجل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ولعلا بعضهم على بعض؟ فقد عرف الذي لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان ويكون. وقال (ع) وهو يحكي قول الأشقياء : ربّي ارجعوني لعلّي أعمل صالحا فيما تركت ، كلّا إنها كلمة هو قائلها. وقال : ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون. فقد علم الشيء الذي لم يكن لو كان كيف يكونه وهو السميع البصير الخبير العليم (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وراء الإنسان هو خلفه ، وقد يجيء بمعنى القدّام ، فهو من الأضداد. ومعناه هنا هو القدّام ، والبرزخ الحاجز بين الشيئين ، ما بين الدّنيا والآخرة. وفي الحديث هو القبر. وفي الخصال عن السّجاد (ع) أنه تلا هذه الآية وقال : هو القبر ، وإن لهم فيها معيشة ضنكا ، والله إنّ القبر

٨٤

لروضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النّار وفي الكافي عن الصّادق (ع) أنه قيل له : إني سمعتك وأنت تقول : كلّ شيعتنا في الجنّة على ما كان منهم؟ قال : صدقتك كلّهم والله في الجنّة قيل إن الذنوب كثيرة ، فقال (ع) أما في القيامة فكلّكم في الجنة بشفاعة النّبيّ المطاع أو وصيّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكني والله أتخوّف عليكم في البرزخ في القبر منذ حين الموت إلى يوم القيامة.

١٠١ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ...) أي لا تنفعهم الأنساب بالتّعاطف والتراحم الذي يتولّد من النسبة ويفتخرون بها. وكلّ ذلك لا ينفع في ذلك اليوم إلّا التّقوى والعمل الصّالح (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل أحد أحدا عن حاله ومجاري أموره من فرط الحيرة واستيلاء الدّهشة بحيث يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وكلّهم مشغولون بأنفسهم. وهذه لا تتناقض مع قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عند النفخة الأولى في الصور.

١٠٢ و ١٠٣ و ١٠٤ ـ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ...) أي من رجحت موزونات أعماله الحسنة المبنيّة على عقائده الصحيحة ، فهو من الفائزين (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وإنّما تخفّ موازينه لخلوّها من العمل الصالح ولرجحان السيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) غبنوها بابطال أوقاتهم وأعمارهم في الدنيا وتضييع استعداداتهم وطاقاتهم التي كانت تكفل كمالهم فلم ينتفعوا بها ، فهم (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) يعذّبون فيها إلى أبد الأبد (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرقها أشد حرق بلهبها ، و (كالِحُونَ) مشوّهو الوجوه بتقلّص جلودها وتقلّص شفاههم عن أسنانهم ، أو عابسون. وعن مالك بن دينار ، أن غلاما في أوّل أمره كان من الفسّاق والفجار ، ففي يوم من الأيام كان يمشي في السّوق فرأى رأس غنم أخرج من التنّور فنظر اليه فرأى أن شفتيه قد كشحتا وأسنانه ظهرت فمرّ بخاطره أن وجوه أهل النار تكون بتلك الكيفية فشهق

٨٥

ووقع على الأرض إلى ثلاثة أيام ، فلما أفاق من غشوته تاب وصار من زهّاد زمانه بحيث صار مشهورا بزهده وتقواه وكان اسمه عتبة ولقبه غلام. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي (ص) في تفسير الآية الكريمة أن النار تشويهم فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرّته.

* * *

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

١٠٥ ـ (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ...) أي ألم تكن تقرأ عليكم آياتي في القرآن ، أو الحجج والبراهين الدالّة على وجود الصانع وتوحيده؟ ويقال لهم هذا تذكيرا بما قصّروا فيه بحق أنفسهم وتوبيخا لهم وتقريعا.

١٠٦ ـ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ...) الشّقوة والشّقاوة معناهما واحد ، وهو المضرّة اللاحقة بالعاقبة. والسعادة ضدّها وهي المنفعة التي تلحق بالعاقبة. والمعنى : استعلت علينا سيئاتنا التي

٨٦

أوجبت لنا الشقاوة. وقد قال الصادق عليه‌السلام : بأعمالهم شقوا ، وقد كانوا (ضالِّينَ) عن الحق والهدى فقالوا عند معاينة العذاب :

١٠٧ ـ (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ...) قيل هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار ، وبعد ذلك يسمع لهم زفير وشهيق كشهيق الحمار.

١٠٨ و ١٠٩ و ١١٠ و ١١١ ـ (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ...) أي اسكتوا ممقوتين خائبين مخيّبين ، وهذه مبالغة في إذلالهم وهو انهم وإظهار الغضب عليهم ، لأن منع الكلام عن المتكلّم فيه غاية مقته وإذلاله لا سيّما في خطاب فيه زجر كزجر الكلب في مقام زجره وتبعيده. فاخسأوا أيها الظالمون (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) المؤمنين بي (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) صدّقنا بكلماتك (فَاغْفِرْ لَنا) تجاوز عن ذنوبنا (وَارْحَمْنا) ارأف بنا (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) لأنك أرحم بالعبد من نفسه ومن أبيه وأمّه (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) جعلتم هؤلاء المؤمنين (سِخْرِيًّا) هزئتم بهم (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) وقد نسب الإنساء إلى المؤمنين وإن لم يفعلوا لأنهم كانوا السبب في ذلك ، فمن فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم حين كانوا يقولون : (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا) نسيتم ذكري وكذّبتم بهذا اليوم. وأكّد سبحانه ذلك بقوله : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم. وهذا العذاب هو جزاء سخريتكم وضحككم وتكذيبكم بيوم القيامة ، وأمّا جزاء المؤمنين ف (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ) بصبرهم على أذيّتكم لهم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) وقد كرر الضمير (هُمُ) للانحصار والمبالغة في كون الفوز بالمقصود والمطلوب لهم ، أي أنهم هم الظافرون بما أرادوا والناجون في الآخرة.

* * *

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣)

٨٧

قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

١١٢ و ١١٣ ـ (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ...) السائل هو (الله تعالى ، أو الملك المأمور بالسؤال للكفار في يوم البعث. وهذا سؤال توبيخ واستهزاء لمنكري البعث والحساب. ونصب (عَدَدَ) على التمييز من (كَمْ) ف (قالُوا) بفشل وخيبة : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم كانوا ينكرون الآخرة وانحصر اللّبث في الدنيا وقالوا لا إعادة بعد الموت ، فلما وقعوا في النار وأيقنوا أنها دائمة سألهم كم لبثتم في الأرض تهكّما وتوبيخا وتنبيها على أن ما ظنوه دائما فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه. فحينئذ تزداد حسرتهم على ما كانوا يعتقدونه في الدّنيا : وقولهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنّهم نسوا من كثرة العذاب وشدّته ، لا أنهم كذبوا تعمّدا. وقد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) يعنون الحفظة الذين يحصون أعمال العباد ويعدّون أيام أعمارهم وساعاتها وعدد تنفّسهم.

١١٤ ـ (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ...) هذا القول منه تعالى تصديق لهم في كون مكثهم في الدنيا يسيرا بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنم ، لكنه تصديق توبيخ على غفلتهم في دار الدّنيا على ما كانوا عليه من السرور والفرح والتوغّل في معاصي الله ونسيانهم ذكره تعالى ولعلهم لهذه الجهة قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم لا من باب النسيان أو بالاضافة إلى أن الإنسان إذا كان في النعيم تجيء أيام السرور في نظره قصيرة وإن كانت طويلة (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نسبة أيام سروركم في الدنيا إلى لبثكم وخلودكم في النار ، أو الدنيا بحذافيرها في جنب الآخرة.

* * *

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ

٨٨

الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

١١٥ ـ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) أي هل ظننتم أننا خلقناكم لا لغرض ولا لحكمة بل للهو واللعب وظننتم (أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) لمجازاة الأعمال؟ والاستفهام إنكاري يعني بل خلقكم للعبادة ومكافأة الأعمال ومجازاتها ولا بد من رجوعكم إلينا ، لذلك

عن الصّادق (ع) أنه قيل له خلقنا للفناء فقال : مه خلقنا للبقاء ، وكيف وجنّته لا تبيد وناره لا تخمد ، لكن نتحوّل من دار إلى دار.

١١٦ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ...) أي الذي يحق له الملك ، فإن كلّ مالك غيره هو مستعير منه (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي خالق السّرير الأعظم وصاحبه. والكريم هنا لعله صفة العرش بمعنى كثير الخير والبركات لأن كل خير وبركة ينزل من جهته ، واختصاص الرب تعالى به مع انه رب العالمين تعظيم لشأنه كقوله : رب البيت أو رب الملائكة. وقيل المراد به هو السّماوات بما فيها مع العرش.

١١٧ ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ ...) لأن الباطل لا برهان له ، فإن البرهان على الباطل باطل والباطل عدم (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) حيث إن عذاب المشرك يبلغ ما لا يقدر أحد على حسابه إلّا الله تعالى ثم بعد بيان حال المؤمنين والكفار أمر نبيّه (ص) بالانقطاع إليه وطلب غفرانه ورحمته فإنهما العاصمان عن كلّ المخاوف والآفات بقوله :

١١٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ...) وروي أن أول السورة وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أوّلها واتّعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح.

٨٩
٩٠

سورة النور

مدنية وآياتها ٦٤ نزلت بعد الحشر

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

١ ـ (سُورَةٌ أَنْزَلْناها ...) أي هذه سورة ، أو مبتدأ لخبر محذوف ، أي ممّا أوحينا إليك سورة (أَنْزَلْناها) من عالم القدس إليك (وَفَرَضْناها)

٩١

فرضنا أحكامها التي فيها (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدّلالة على وحدانيّتنا أو الحدود والأحكام من الحلال والحرام ومن جملتها قوله سبحانه :

٢ ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلخ ... مبتدأ والخبر : فاجلدوا ، أي من زنت من النّساء وزنى من الرّجال ، فيفيد العموم في الجنس (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) هذا حكم الأعزب غير المحصن أمّا المحصن فحدّه الرجم بالحجارة ويا لها من عدالة ظاهرة وحكمة باهرة فهلمّوا وانظروا كيف اليوم ينتهك المسلم حرمة أخيه المسلم ولا يجد قانونا يردعه ، ولا تشريعا يمنعه لأن القوانين الوضعية مجمعة على ترك الزاني بلا رادع ولا وازع حتى تفشّت بسبب ذلك الأمراض الخبيثة وانتشرت الأسقام وفتكت بالأجسام وما ذاك الّا لعدم تمسّكنا بديننا الحنيف واتّباع القانون السّماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيا لهفاه على ديننا السامي الذي جعلناه وراء ظهورنا بل تحت أقدامنا فابتلينا بما ابتلينا بأيدينا. الفاء لتضمّنهما معنى الشرط (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي رحمة في حكمه فتعطّلون حدّه أو تتسامحون فيه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي أن الإيمان يقتضي الحدّ في طاعة الله والاجتهاد في إقامة أحكامه ، فعن الأصبغ بن نباتة أن عمر أتي بخمسة نفر أخذوا في الزّنى فأمر أن يقام على كل واحد منهم الحدّ. وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام حاضرا فقال : يا عمر ليس هذا حكمهم. قال : فأقم أنت الحدّ عليهم. فقدّم واحدا منهم فضرب عنقه ، وقدّم الآخر فرجمه ، وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره. فتحيّر عمر وتعجّب النّاس من فعله. فقال له عمر : يا أبا الحسن خمسة نفر في قضية واحدة أقمت عليهم خمسة حدود وليس شيء منها يشبه الآخر؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أمّا الأول. فكان ذميّا فخرج عن ذمته ولم يكن له حدّ إلّا السّيف ، وأمّا الثاني فرجل محصن كان حدّه الرجم ، وأما الثالث فمسلم

٩٢

عازب وحدّه الجلد ، وأمّا الرّابع فعبد ضربناه نصف الحدّ ، وأما الخامس فمجنون مغلوب على عقله. وفي رواية ستّة نفر ، قال : وأطلق السّادس وهو مجنون مغلوب في عقله ، والخامس فكان ذلك الفعل منه شبهة فعزّرناه وأدّبناه (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن الباقر عليه‌السلام قال الطائفة الحاضرة هي الواحدة ، وقيل اثنان ، وقيل ثلاثة ، وأربعة أقلّها ، لأن أقل ما يثبت به الزنى شهادة أربعة. وقيل ليس لهم عدد محصور بل هو موكول إلى رأي الإمام ، والمقصود أن يحضر جماعة يقع بهم إذاعة الحدّ ليحصل الاعتبار.

٣ ـ (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) إلخ ... معناها أنّ الزنى لا يرغب فيه الصّلحاء غالبا وإنما يرغب الإنسان بمشاكله ومماثله ، وقدّم الزاني لأنّ الرجل هو الأصل في الرغبة والخطبة ، ولذا لم يقل : والزانية لا تنكح إلّا زانيا والحال أنّ قاعدة المقابلة تقتضي ذلك (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي صرفت الرغبة بالزنى عن المؤمنين. والتحريم هنا تنزيهيّ ، فقد نزّههم الله تبارك وتعالى عن إتيان الزنى لأنه يعرّض للتهمة ويطعن في النسب وقد دفعه الله عنهم.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) أي يقذفون العفائف بالزنى ، وكذلك الرجال إجماعا ، وتخصيص النساء هنا لخصوص الواقعة (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون على صحّة ما رموهنّ به من الزنى : أربعة شهداء عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك وإلّا فاجلدوا من رمى المحصنة ثمانين جلدة (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي في شيء قبل الجلد وبعده أبدا ما لم يتب (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) بفعل هذه الكبيرة.

٥ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ...) أي عن القذف بأن يكذّبوا أنفسهم (وَأَصْلَحُوا) عملهم فإنّ الله يغفر لهم.

* * *

٩٣

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

٦ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) : أي يقذفون (أَزْواجَهُمْ) بالزنى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) لمّا تقدّم حكم القذف للأجنبيّات أردفه بحكم القذف للزّوجات. ومعنى الآية أن الذين ينسبون الزنى إلى زوجاتهم ولم يكن لهم طريق إثبات بإقامة أربعة شهداء يشهدون لهم بصحة قولهم فلا بد لهم أن يشهدوا أربع مرات مرة بعد أخرى بأن يقولوا : أشهد بالله إنّي لمن الصّادقين فيما ذكرت عن هذه المرأة من الفجور ، فبهذه الشهادات بالله يدرأ عنه حدّ القاذف مع إضافة شهادة منه خامسة :

٧ ـ (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ...) أي والشهادة الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في شهادته عليها. قرئ بتخفيف أنّ ، ثم إنه يقول في المرة الخامسة لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين في الرّمي ، فيثبت على الزوجة حدّ الزّنى. ثم إنّها إن كانت تريد أن تدفع الحدّ عن نفسها قد بيّنه سبحانه بقوله :

٨ ـ (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ ...) : أي يدفع عنها الرّجم (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) تقول أربع مرات مرة بعد أخرى : أشهد بالله.

٩٤

٩ ـ (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها ...) : أي تشهد شهادة خامسة (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) أي عذابه عليّ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماني به من الزّنى. ثم يفرّق الحاكم بينهما ولا تحلّ له أبدا. وكان عليها العدّة من وقت لعانها.

١٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي بالنّهي عن الزنى والفواحش ، وإقامة الحدود وبالإمهال لتتوبوا وبالسّتر لئلّا تفتضحوا (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) يقبل التوبة (حَكِيمٌ) فيما يحكم. وحذف جواب لولا وهو ، لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ

٩٥

اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠))

١١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ...) أي بالكذب العظيم (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) لا تظنّوه أي الكذب أمرا سيئا لكم (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور ما نزل من القرآن في براءة ساحتكم وتشديد الوعيد في من تكلّم بهذا الأمر (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء ما اكتسب منه بقدر ما خاض فيه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي تحمّل معظمه (مِنْهُمْ) من الخائضين وهو عبد الله بن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه بين الناس عداوة لرسول الله (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا من جلده ووهنه وردّ شهادته في أنظار الناس وشهرته بالنفاق وغير هذه من المفاسد وفي الجوامع أنّ عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق وكانت قد خرجت لقضاء حاجة فرجعت طالبة له ، وحمل هودجها على بعيرها ظنا منهم أنّها في الهودج. وذلك أنّ عائشة كانت حديثة السّن خفيفة الجثّة بحيث ما كان يعرف هودجها هل هي فيه أم لا إلّا بدقة وخصوصا عند من لا يعتاد حمل هودجها فإنه لا يعرف أنها فيه أم لا. فلا يستبعد الأمر ، لكن كيف يتصوّر أن يتحرّك النبيّ (ص) ولا يستخبر حالها وأنها هل حملت مع الجيش أم لا ، فهذا مطلب آخر يمكن أن يجاب بأنه إذا أراد الله شيئا فتدابير العبد لا تردّه ، فإذا أراد سبحانه شيئا يقول له كن فيكون ، وفي قضية الإفك مصالح كثيرة. والحاصل حمل الهودج فلما عادت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا. وكان صفوان غالبا يتأخّر عن الجيش

٩٦

لتفحّص المعسكر حتى لا يفقد ولا يضيّع منهم شيء ، وبعد ما يطمئنّ بعدم فقدان شيء أو غفلة شخص من العسكر كان يتحرّك ويسير. فلمّا قرب إلى ذلك الموضع رأى شبحا فجاء حتّى وصل إليه فعرفها ، فسأل عن قضّيتها وأناخ بعيره حتّى ركبته وراح يسوقه حتّى لحقا بالجيش وقد نزلوا في قائم الظهيرة من شدّة الحرّ. وقال في الجوامع كذا رواه الزهري عن عائشة. وروت العامّة أنّها نزلت في عائشة بلا شكّ عندهم. أمّا الخاصة فإنّهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية أمّ إبراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما رمتها عائشة حين رأت أن النّبي حزن كثيرا لوفاة ابنه فقالت له عائشة ما الذي يحزنك عليه فما هو إلّا ابن جريح القبطي ، فبعث النبيّ عليّا إليه فرآه في البستان وقد كشف عن عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنّساء ، فأخبر بذلك النبيّ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحمد لله الذي صرف عنّا السّوء أهل البيت وهذا حاصل ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام ولعل النبيّ بعث عليّا ليظهر الحق ويبطل الباطل لا لقتله بمجرد قول عائشة ، ولمّا حسبوا أن بعض المؤمنين والمؤمنات ظنّوا سوءا في عائشة وصفوان وإن كانوا لم يظهروا ولم يتكلموا بشيء فالله تعالى وبّخهم على سكوتهم وعلى إنكار الإفك بقوله :

١٢ ـ (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ...) : أي هلّا حينما سمعتم بالإفك والكلام الباطل أنكرتم ذلك؟ وكان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول القاذف أن يكذّبوه وأن لا يسرعوا إلى التهمة بل يشتغلون بحسن الذكر لمن عرفوا طهارته ولم يظنّوا به إلّا خيرا لأنّه كأنفسهم ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : المؤمنون كنفس واحدة وقال تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تقتلوا أنفسكم ، والمراد بهما هو أنفس الغير لأن الإنسان العاقل لا يقتل نفسه حتى ينهى. والحاصل أن المؤمنين كنفس واحدة فيما يجري عليهم من الأمور فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنّما جرت على جماعتهم. وإنّما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة ومن المضمر إلى المظهر للمبالغة في التوبيخ وإشعارا بأن مقتضى الإيمان أن يظنّ المؤمنون بالمؤمنين خيرا ، وإذا ابتلي واحد منهم بسوء

٩٧

أن لا يطعنوا به ، بل لا بد وأن يدفعوا الطاعنين على قدر وسعهم كما يذبّون عن أنفسهم. وحاصل معنى الشريفة أنه كان على المؤمنين حينما سمعوا هذا الكلام أن يقيموا النكير وأن لا يقبلوه بل يظنّوا بعائشة وصفوان خيرا ، ويحملوا الأمر على أحسنه ويقولوا (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) كما يقول المستيقن المطّلع :

١٣ ـ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ...) : يعني هؤلاء الأفكة إذا كانوا صادقين في قولهم لماذا لا يجيئون على مدّعاهم ببيّنتهم ، بأربعة شهداء؟ (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا) ولن يأتوا بهم أبدا (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فلا بدّ من أن يجري عليهم حكم القذف لأنهم كاذبون.

١٤ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي لولا فضل الله عليكم في الدّنيا بأنواع النّعم التي من جملتها الإمهال للتّوبة ، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة (لَمَسَّكُمْ) بالفعل عاجلا (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي خضتم فيه (عَذابٌ عَظِيمٌ) دائم.

١٥ ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ...) أي يأخذه بعضكم عن بعض بالسّؤال عنه (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) بلا مساعدة من القلوب وبلا شعور منها به ، تقولون (ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) تحكون الخبر وتنقلونه جهلا منكم به وبلا حجّة ومن غير برهان (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً). أي سهلا لا إثم فيه ولا تبعة له (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) من حيث ترتّب العقوبات الكثيرة عليه لأنه موجب لإلحاق العار بأهل بيت النبوّة والاستخفاف بمنصب الرسالة والتّجاسر عليه ، وهذه من أعظم الكبائر فعقوبتها أعظم وأشدّ. والحاصل أنّه يستفاد من الكريمة أنّ القائلين بالإفك ارتكبوا أمورا ثلاثة يترتب على كل واحد منها مسّ العذاب العظيم. أحدها : تلقّي الإفك بالألسنة ، والثاني : التّحدّث به من غير تحقّق ، الثالث : الاستصغار بأمر تعلّق الحكم الإلهي بعظمه وخطره.

٩٨

١٦ ـ (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ...) أي هلّا قلتم حينما سمعتم قول الإفك (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) ما ينبغي ولا يصحّ لنا حكايته وذكره وإفشاء أمر ليس لنا العلم به ، حيث إن القذف حرام في الشريعة بآحاد الناس فكيف بأهل بيت الرّسالة وحريم سيّد البشر؟ (سُبْحانَكَ) هنا معناه التعجّب ممّن يقوله ، أو تنزيه له تعالى من أن تكون زوجة نبيّه (ص) فاجرة ، إذ فجور زوجته منفّر للطبائع عنه بخلاف كفرها وفسقها من غير هذه الناحية (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) لعظم المبهوت عليه وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٧ ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا ...) أي ينهاكم الله أو يحرّم عليكم العود (لِمِثْلِهِ أَبَداً) طول أعماركم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يمنع عنه. وفي هذا الكلام تقريع وتهييج على الاتّعاظ بوعظ الله والتأدّب بآدابه.

١٨ ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ...) الدّالة على الشّرائع ومحاسن الآداب كي تتّعظوا وتتأدّبوا (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال عباده كلّها (حَكِيمٌ) بتدابيره.

١٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ...) أي يفشو ويظهر الزنى والقبائح (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدّنيا بحدّ القذف والطرد والهتك (وَالْآخِرَةِ) بالنّار وغيرها من أنواع العذاب (وَاللهُ يَعْلَمُ) الأسرار والضّمائر ومصالح الأمور ومضارها (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ما يعلمه الله ولا علم لكم بعواقب الأمور وتواليها وتوابعها.

٢٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ...) تكرير الشريفة للمنّة بترك المعاجلة بالعقاب ، وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي لعاجلكم بالعقوبة أو ما زكى أحد منكم بقرينة الآية الشريفة الآتية. وجملة (أَنَّ اللهَ) عطف على جملة (فَضْلُ اللهِ).

* * *

٩٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

٢١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ...) أي لا تتبعوا آثاره ومسالكه من الإصغاء إلى البهتان والإفك والتلقّي منه وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فالنتيجة (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) تابعيه (بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الفحشاء هو أقبح القبائح وما أفرط في قبحه ، والمنكر ما أنكره الشرع والعقل. ويؤخذ من الشريفة أن أصدقاء السّوء الذين يزيّنون المعاصي والفجور ويسهّلون عظائم الأمور هم في حكم الشيطان في وجوب اجتنابهم والابتعاد عنهم (ما زَكى مِنْكُمْ) أي ما طهر من دنس الذّنوب (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) أي يطهّر بلطفه من يعلمه أنه أهل للطفه (وَاللهُ سَمِيعٌ) سامع مقالتهم (عَلِيمٌ) عالم بنيّاتهم.

٢٢ ـ (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ...) من الإيلاء بمعنى الحلف ومن ألى يألو بمعنى التقصير وكلا المعنيين يناسبان المقام. وفي بعض التفاسير أن أبا بكر حلف أن لا ينفق على ابن خالته مسطح مع كونه من فقراء المهاجرين ومن أهل بدر لأنّه كان من المتكلّمين في الإفك ، فالله تعالى أنزل الشريفة ، فعلى هذا يكون من الإيلاء (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) بالحسب

١٠٠