الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

٦٣ ـ ٦٧ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ ...) هذه الشريفة والآيات الثلاث بعدها جرت في بيان قدرته الكاملة وسلطته التامّة النافذة عزّ وعلا ، وأنه تعالى لطيف في أفعاله ، خبير بتدبير خلقه ، وأنه مالك لكلّ شيء. فهو جلّت قدرته (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) فصارت الأرض (مُخْضَرَّةً) بالأعشاب والنباتات والأشجار ، وهو مالك (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهو (الْغَنِيُ) عن خلقه (الْحَمِيدُ) المحمود في كل شأنه ، يحمد على السرّاء والضرّاء ، وهو (سَخَّرَ) لنا (ما فِي الْأَرْضِ) وأجرى الفلك في البحر ، ويمسك السماء أن (تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) فتدمّرها رأفة منه بعباده ولطفا بهم ، كما أنه تعالى هو المحيي المميت المعيد بعد الموت ، ولكنّ الإنسان (لَكَفُورٌ) بهذه النّعم التي منحه الله سبحانه إياها.

* * *

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)

٤١

 أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

٦٧ ـ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ...) أي قرّرنا وعيّنّا لجميع أهل الأديان شريعة ودينا ومنهجا (هُمْ ناسِكُوهُ) يذهبون إليه ويدينون به وعاملون به (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) فلا يجوز لهم أن ينازعوك ويجادلوك في أمر الدّين حيث إنهم جاهلون به فليس لهم المنازعة معك ، إذ لا سبيل للجاهل البحث مع العالم في أمر لا يعرفه ولا يعلم به ، ولا للعالم أن ينازعه ولا سيما إذا كان عنودا وجحودا ، فإن البحث والمناظرة ينفع مع طالب الحق لا مع أهل المراء والعناد الذين أشربت قلوبهم جحد وإنكار الحق ، فلا تعتن بمجادلتهم ومنازعتهم (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي اشتغل بالأعمال التي أنت مأمور بها كالدّعوة إلى التوحيد والعبادة لله سبحانه سواء قبلوها أو لا (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) اي أنت على طريق الحق الثابت الذي ليس لهم أن ينازعوك فيه ، فإن شريعتك ناسخة للشّرائع المتقدّمة وعلى جميع أهل الملل والشّرائع أن يتّبعوك ويهتدوا بهداك طوعا أو كرها رغما لأنوفهم وغصبا عنهم.

٦٨ ـ (وَإِنْ جادَلُوكَ ...) أي إذا ناقشوك بعد الآيات والحجج وظهور الحق وإلزامهم ، فإن القاعدة تقتضي أن لا تجيبهم. إلّا أن عدم الجواب لمّا كان مخالفا لتأليف قلوبهم فأجبهم بكلمة واحدة (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يعرف حالكم ويجازيكم بأعمالكم على طبق علمه بها ، وهذا تخويف لهم منه تعالى بلسان رسوله وفيه رفق وتحبيب وتأليف.

٦٩ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) أي هو سبحانه يحكم يوم القيامة فيما اختلفتم به من أمر الدّين.

٧٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ ...) هذه الكريمة تسلية للنبيّ لأنه يعرف أن الله

٤٢

علمه محيط بعجائب العلويّات وغرائب السّفليّات وليس شيء يخفى عليه ، وكل ما كان من أمور السّماوات والأرضين هو مكتوب في كتابه المحفوظ قبل أن يوجد في عالم الإيجاد ويحدث فيه. فنحن عالمون بمجادلة كفار قريش ومنازعتهم معك فلا يتطرّق إلى قلبك من أعمالهم وأقوالهم شيء ، حيث إنّا نجازيهم وننتقم منهم (إِنَّ ذلِكَ) العلم بجميع الأشياء الثابتة في العوالم أعمّ من العلويات والسفليات وإثباتها في اللوح المحفوظ (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) علينا أمر سهل حيث إن علمه الذي هو من لوازم ذاته ومن مقتضياتها متعلّق بجميع المعلومات على السّواء وقدرته شاملة لجميع المقدورات على حدّ واحد.

* * *

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

٧١ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي يخضعون للأصنام ونحوها من غير علم ضروري بجواز عبادتهم ولا استدلاليّ عقليّ ولا نقليّ بل محض جهل وتقليد بإقرارهم واعترافهم بذلك : إنّا وجدنا آباءنا على هذا وإنا على آثارهم لمقتدون ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) اي ليس للمشركين من يدفع العذاب عنهم ، ويشفع لهم وينصرهم في محنتهم.

٤٣

٧٢ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت عليهم واضحات الدّلالة على دعاوى رسلنا وأنبيائنا ترى في وجوه الكافرين (الْمُنْكَرَ) مصدر ميميّ بمعنى الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام والمراد هو أثر الإنكار وهو عبوس الوجه وتقطيبه (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي يبطشون ويأخذونهم بفتك وصولة وشدّة. فقل لهم : هل أعرّفكم أنا (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي من غيظكم على التّالين (النَّارُ) يحتمل أن تكون النار خبرا لمبتدإ محذوف بقرينة المقام أي هو النار ، أو هذه النار. أو تكون مبتدأ وقوله وعدها الله خبرها.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤))

٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ...) أي سماع تدبّر وتفكّر حتى تتنبّهوا وتستيقظوا بأنّكم أشرف المخلوقات ، فكيف تخضعون وتعبدون أخسّها وأدناها وهو ما أنتم تنحتونه وتصنعونه فوا حسرتاه على ما فرّطتم في جنب الله .. ثم انه تعالى إتماما للحجّة يبين لهم المثل ويقول : إن الأصنام التي تعبدونها (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي ليسوا بقادرين على خلق ذباب وإيجاده مع صغر حجمه وجثته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. هذا وثانيا كفى في عجزها أنها (إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي لو سلب الذباب مما على آلهتهم التي يعبدونها من الطّيب والعسل الذي كانوا يضمخونهما به لا تستطيع تلك الآلهة استرجاعه منه ـ رغم ضعفه وحقارته وكثرتها وعظم جثتها وقيل ان الأصنام التي كانوا يعبدونها ونصبوها

٤٤

حوالي الكعبة كانت ثلاثمئة وستين صنما وكانوا يلطّخونها بالطّيب وهو خلوقها أي خلوق الكعبة وبالعسل. فالذباب كان يدخل عليها ويأكله فإذا جاؤوا يرون أن العسل والطّيب قد أكلا فيسرّون بذلك ويهلهلون ويصفّقون ويقولون زعما منهم إن الآلهة قد أكلتهما (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي العابد والمعبود أو الذباب والأصنام.

٧٤ ـ (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) أي ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا الأصنام شركاء له مع غاية ضعفها وكمال قدرته سبحانه ، كما أشار إليه بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) اي قادر على خلق الأشياء كلها وغالب عليها وليس شيء يغلبه. قال الشيخ ابو بكر الواسطي لا يعرف قدره الا هو فانه لا سنخيّة ولا نسبة بينه تعالى وبين ما سواه ، ما للطّين وربّ العالمين ونعم ما قيل : اعتصام الورى بمغفرتك ، عجز الواصفون عن صفتك تب علينا فإنّنا بشر ، ما عرفناك حقّ معرفتك.

وروي أنه : لا تتفكّروا في ذات الله ، وتفكّروا في آلائه. وفيه دلالة واضحة على ما قال به الشيخ.

* * *

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

٧٥ و ٧٦ ـ (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ...) فهو وحده سبحانه يختار من بين ملائكته رسلا يحملون الوحي إلى من يختارهم من بين الناس رسلا للبشر ، وهو (سَمِيعٌ) شديد السمع لما يقوله الكافرون

٤٥

والمنافقون (بَصِيرٌ) شديد البصر لما يفعلونه من معاندتك ومقاتلتك من أجل كفرهم (يَعْلَمُ) يعرف بدقة متناهية (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما فعلوه سابقا وما سيفعلونه آتيا (إِلَى اللهِ تُرْجَعُ) تعود (الْأُمُورُ) كلّها فيحكم فيها ويجازي عليها الجزاء العادل.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

٧٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) خطاب منه تعالى للمؤمنين اعتناء بهم ليركعوا له ويسجدوا إجلالا لعظمته ، وليعبدوا ربّهم وخالقهم من أجل أن يكونوا من المصلحين الناجحين الفائزين بمرضاته.

٧٨ ـ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ ...) الجهاد على أقسام ثلاثة : الأول ما هو المعروف من الجهاد مع أعداء الدّين ، وهو الظاهر من الآيات والروايات ولو أطلق على غير هذا يكون بقرينة. والثاني الجهاد مع النفس الأمّارة ، أي مخالفتها في مشتهياتها من أوامرها ونواهيها ، وهذا هو الجهاد الأكبر الذي يخاف منه وترتعد منه الفرائص وتقشعرّ منه الجلود وتندكّ منه الجبال وتكبّ عنده الرجال أعاذنا الله من النّفس الأمّارة. والثالث : هو الجهاد بمعنى

٤٦

إتيان العبد وإقدامه في مقام إطاعة ربّه بجدّ النفس وخلوصها عن شوائب الرّياء والسّمعة وتمام الخشوع وكمال الخضوع بحيث كأنه يرى ربّه تعالى وإن لم يكن يراه ، فهو متيقن بأن خالقه يراه. وهذا لعلّه الذي يسمّى بجهاد الحق ، وبعض يسمّونه برتبة الإحسان أي جهاد رتبة الإحسان ، وهذا اصطلاح منه. فإن من أتى هكذا بطاعة ربّه وعبده حقّ عبادته فهو ممّن أحسن طاعة ربّه ، أي أطاعه إطاعة حسنة. فهو تعالى يجزيه جزاء الإحسان كما قال : هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟ فلا مشاحّة في اصطلاحه (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي انه تعالى لم يضيق عليكم أمر الدّين فلن يكلّفكم ما لا تطيقونه حيث إنه رخّص عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة ونحوها فلا عذر لكم في تركه (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) نصب الملّة يمكن أن يكون بتقدير أخصّ أو أعني أو بتقدير حرف جر أي بنزع الخافض ، وملّة إبراهيم دينه لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وانّما سماه أبا للجميع لان حرمته على المسلمين كحرمة الوالد على أولاده ، كما قال نبيّنا صلوات الله عليه وآله : أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة ، وقال سبحانه : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، مضافا إلى أنه قيل إن العرب من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وأكثر العجم من ولد إسحاق ، وهما ابنا إبراهيم عليهم‌السلام جميعا ، فالغالب عليهم أنهم أولاده (مِنْ قَبْلُ) أي قبل نزول القرآن وذلك مذكور في الكتب السماويّة التي مضت (وَفِي هذا) ففي هذا القرآن خاصة ، أيضا بيان أن أباكم إبراهيم عليه‌السلام و (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) يوم دعا الله لنبيّكم ولكم (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) الجارّ متعلّق (بسماكم) ومعناه : ليكون محمد يوم القيامة شاهدا عليكم بأنه بلّغكم ، أو شاهدا بطاعتكم أو بعصيانكم (وَتَكُونُوا) أيّها المسلمون (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغ رسلهم إليهم بما جاء من عند ربّهم ، فحافظوا على صلواتكم ، وأدّوا زكواتكم (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) تمسّكوا بدينه فإنه خير طريق لنجاتكم (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولّي أموركم ، وهو

٤٧

(فَنِعْمَ الْمَوْلى) السيد المتصرف الرؤوف بعباده (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) المعين على بلوغ الفوز في الدارين. والحمد لله وحده.

* * *

٤٨

سورة المؤمنون

مكية وآياتها ١١٨ نزلت بعد الأنبياء

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ...) الفلاح هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما طلبوا. وقد للتحقيق وتقريب الماضي من الحال لأنها

٤٩

إذا دخلت على الماضي دلّت على الإثبات والدّوام ولذا فهي مقرّبة له منه. ثم إنه تعالى لما اطّلع على أن المؤمنين كانوا راجين للفوز والنجاة ، بشّرهم بذلك بتصدير تلك السّورة بقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، وأخذ في بيان أوصافهم ، فبدأ بالصّلاة التي هي من أهمّ الطاعات فقال تعالى :

٢ ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ ...) فابتدأ بهذه الصفة الشريفة فقال : الذين هم في صلاتهم (خاشِعُونَ) فيستفاد أن المطلوب في الصلاة هو صفة الخضوع والخشوع ، أي التوجّه التام إلى المعبود الحقيقي ، وهذا هو الذي عبّر عنه في الروايات بروح الصّلاة وقال بعض الأكابر من المحققين : إن المصلّي لا بدّ أن يتوجه إلى معبوده بحيث لا يرى إلّا إياه حتى لا يرى نفسه ، ولذا جاء في الخبر الصحيح أنّ أمير المؤمنين في يوم أحد أصابته سهام كثيرة ومن غاية الوجع كانوا لا يقدرون على إخراجها فوصل الخبر إلى فاطمة الزهراء (ع) فقالت : إذا شرع في صلاته فاعملوا به ما شئتم. فلما دخل في الصلاة جاؤوا بجرّاح فأخرجها من بدنه الشريف ولما فرغ من صلاته رأى الدماء على مصلّاه فسأل منه فبيّنوا له الأمر ، فقال بأبي وأمّي فو الله الذي نفسي بيده ما التفتّ في أيّ زمان شرعتم وأيّ وقت فرغتم. وهذه هي حقيقة الصلاة فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وعن النبيّ صلوات الله عليه أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فيستفاد من هذا أن الخشوع في الصلاة يكون بالقلب وبالجوارح كلّها.

٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ...) اللغو كلّ كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والشتم والهزء والغناء والملاهي ، فالمؤمنون لا يقاربون اللّغو فضلا عن فعله.

٤ و ٥ و ٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ...) أي مع إيمانهم وإقامتهم للصلاة وبعدهم عن اللّغو والباطل ، هم يؤتون الزكاة لمستحقيها ، و (هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) يحفظون أنفسهم من تعاطي الزّنى والمحرّمات الجنسية

٥٠

ولا يأتون سوى أزواجهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي الإماء التي يملكونها بالحلال ، وكذلك ما يملك حقّ مباشرته بالمتعة كما في القمّي (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يلامون ولا يؤاخذون في ذلك لأنه قد أحلّه الله تعالى لهم.

٧ ـ (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ...) ومن قصد غير زوجته الدائمة ، أو غير أمته بملك اليمين ، أو غير الزوجة بالمتعة المحلّلة (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المتجاوزون لما ذكره الله تعالى من وجوه الحلال في إباحة الفروج الثلاثة المذكورة. فهؤلاء يكونون من المعتدين على ما شرع الله من حدّ الشرع الذي عيّن الحلال في النكاح.

٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ...) أي يراعون الأمانات ويحفظونها ويصونونها كما سنّ الله سبحانه ، والأمانات ضربان : أمانات الله ، وأمانات العباد. وما بين الله وعباده هي العبادات : كالصلاة والصوم وغيرهما ، وما بين العباد هي مثل الودائع والعواري والشهادات وأمثالها ، وهي كثيرة. وأما العهد فعلى ثلاثة أضرب : أوامر الله تعالى ، ونذور الإنسان ، والعقود الجارية بين الناس ، فيجب على الإنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات والعهود والقيام بحفظ ما يتولّاه منها.

٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ...) ذكر الصلوات مرّة ثانية للاهتمام بإقامتها مع المحافظة على أوقاتها وحدودها المعيّنة ، وبأن تؤدّى في أول أوقاتها.

١٠ و ١١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ ...) أي أن الموصوفين في الآيات السابقة الذين أفلحوا في أعمالهم يفوزون بإرث الفردوس في الجنة ، والفردوس روضة من روضات الجنة وهي أعلى طبقاتها. والقمي عن الصّادق عليه‌السلام قال : ما خلق الله خلقا إلّا جعل له في الجنة منزلا وفي النار منزلا ، فإذا سكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة أشرفوا فيشرفون على أهل النار فترفع لهم منازلهم فيها ثم يقال لهم هذه

٥١

منازلكم التي في النار لو عصيتم الله لدخلتموها ، قال : فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة في ذلك اليوم فرحا لما صرف عنهم من العذاب. ثم ينادي مناد يا أهل النار ارفعوا رؤوسكم فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنة وما فيها من النعيم فيقال لهم : هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها ، قال فلو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار حزنا فيورث هؤلاء منازل هؤلاء وذلك قول الله عزوجل أولئك هم الوارثون إلخ.

وفي المجمع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما منكم من أحد إلّا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ، ثم إنه تعالى لما ذكر لأهل الايمان نعم الجنة من الفردوس والخلود بل نفس الجنة بما فيها وهو أعظم من كل نعمة أراد أن ينبّههم إلى أكبر نعمة من النعم الدنيوية وأجلّها وهو إيجادهم وإعطائهم الوجود على أحسن وجه وأجمل صورة وأكمل خلقة فقال سبحانه وتعالى :

* * *

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)

٥٢

وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) أي هذا النوع من الحيوان أو المراد آدم (مِنْ سُلالَةٍ) أي صفوة سلّت من الكدر (مِنْ طِينٍ) حاصلة منه صفة لسلالة أو أن (مِنْ) بيانية ، أو متعلق بمذكور وهو سلالة لأنها في معنى مسلولة ، والحاصل يحتمل أن يكون المراد بالإنسان هو أبو البشر فإنه مخلوق من صفوة وخلاصة مسلولة من طين وأن يكون المراد هو الجنس لأنهم خلقوا من نطف استلّت وانتزعت موادّها من طين حيث إن النّطف محصولة من النباتات وهي صفوة الأجزاء الأرضية كما قال تعالى منها خلقناكم. وقيل إن المراد بالطين هو آدم عليه‌السلام لأنه في بدء أمره كان طينا مصوّرا ولمّا نفخ فيه الروح صار إنسانا ذا لحم ، ودم وعظام وأعصابا ، والمراد بالسلالة نسله.

١٣ ـ (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ...) أي جعلنا الإنسان يعني جوهره أو السلالة على تأويلها بالمسلول. فتذكير الضمير بواحد من التأويلين لا بأس به ويحتمل أن يكون المضاف محذوفا أي جعلنا نسله من نطفة فنصب (نُطْفَةً) بنزع الجارّ وحذفه (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي في مستقرّ حصين وهو الرحم.

١٤ و ١٥ و ١٦ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ...) أي قطعة دم جامد ،

٥٣

و (مُضْغَةً) قطعة لحم كأنّه ممضّغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) جعلناها صلبة قوية (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي من بقايا المضغة ، أو لحما جديدا فخلقنا في اللحم عروقا وأعصابا وأوتارا وعضلات. قيل ان اختلاف العواطف وليد التحوّلات في مقام الخليقة وليس ببعيد لأن تلك التحوّلات لا بد أن تكون لمصلحة ، وإلّا فهو تعالى قادر على خلق البشر بلا احتياج الى هذه الاستحالات (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) اي نفخنا فيه من روحنا فصار إنسانا كاملا ناطقا سميعا بصيرا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وليعلم أن المخلوقين على ثلاثة أقسام : إمّا روحاني محض وهو الملك فانه نور بحت ومنزّه عن صفة الشهوة والغضب وغيرهما من الصّفات التي تلازم الجسميّة. وإمّا جسماني محض كالنّباتات والمعدنيّات. وإما مركب من الجسماني والروحاني وهو على قسمين : إما الغالب فيه هو الروحانية فهو الجنّ وإمّا العكس فهو الإنس. والحاصل أن الله تعالى بقدرته الكاملة بلّغ الإنسان بعد تكميله المراتب السبع إلى حدّ الانسانية ، وأول المراتب كونه سلالة والثاني النطفة والثالث العلقة والرابع المضغة والخامس العظام والسادس اللحم. وهذه الست مربوطة بعالم تكامل الجسد ، والسابع إيلاج الروح وفي هذه المرتبة قال سبحانه (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) لأن بين عالم الرّوح والجسد بلا روح بونا بعيدا بل تباينا ، فأين التراب وربّ الأرباب وأين الثرى والثرّيا ولذا كان التركيب بين الروح والجسد من أعجب العجائب وأغرب الغرائب فإن الروح علوي نوراني ، والجسد سفليّ ظلماني. والروح أمر لطيف والجسد شيء كثيف والروح يدرك الأمور المعنوية ويتلذذ بها والجسم لا يدرك غير المحسوسات ويتلذذ بالشهوات إلخ ... فالتركيب بينهما قريب بالمجال فهو تعالى أظهر في هذا الهيكل قدرته الكاملة وحكمته الباهرة والدليل على عظم خلق الإنسان واهتمامه تعالى بشأنه أنه ما أثنى على نفسه في خلق العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والسماوات بما فيها من الكواكب والعجائب والأرضين وما فيها من مظاهر القدرة والعظمة بمثل ما مدح واثنى على ذاته المقدسة في خلق

٥٤

الإنسان وخصوصا في هذه الآية الكريمة التي تشير إلى هذا كما لا يخفى على أولى النّهى ، ولمّا بيّن سبحانه وتعالى في الآيتين الكريمتين أحوال بني آدم وارتقاءهم من مرتبة إلى مرتبة وانتقالهم من مقام إلى مقام ، علم أنه ليس له لسان حتى يحمده ويثني عليه بما يستحقه وعلى ما ينبغي لمقام القدس والقدم فلذا هو جلّ وعلا نيابة عن مخلوقه ولطفا منه بهم ، أثنى على ذاته المقدّسة بثناء هو يستحقّه ويستوجبه فقال (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي تقدّس ، وأحسن الخالقين صفته تعالى. وفي التوحيد ، عن الرّضا عليه‌السلام أنه سئل وغير الخالق الجليل خالق؟ فقال عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى قال فتبارك الله أحسن الخالقين ، وقد أخبر أن في عباده خالقين وغير خالقين منهم عيسى بن مريم خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، والسّامريّ خلق لهم عجلا جسدا له خوار ، فلذا جاء بصيغة التفضيل. ولو كان الخلق منحصرا به تعالى لكان مجيئه بصيغة التفضيل لغوا. وأما تأويله بغير التفضيل فخلاف الظاهر ولا سيّما أن أدلّ الأدلة على الشيء وقوعه كما مثّلناه آنفا. وأمّا العطف في الكريمة في بعض مواضعها بثمّ ، وفي الآخر بالفاء فلنكتة وهي أن العطف بثمّ في آية ١٣ لأن وصول السلالة من الطين الى حدّ النّطفة على حسب قواعد الطّبيعة يطول فالإتيان بثمّ الّتي للتّراخي للإشارة الى هذه الجهة ، وكذلك في الآية ١٤ الّتي جيء فيها بثمّ لتلك النكتة ، أي للتّنبيه على أن بلوغ النطفة إلى مستقرّ حصين من ظهر الرجل إذا كان المراد بالقرار هو الرحم وصيرورته فيه إلى مرتبة العلقة على موازين الأسباب العادية قهرا يحتاج إلى مضيّ مدّة مديدة. نعم المراتب الثلاث البعديّة أمور لا تحتاج إلى طول زمان ولذا أتى فيها بالفاء التي وضعت لإفادة التعقيب بلا مهلة. وأما قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً) آخر حيث أتى فيه بثم فلأن خلقه العلقة مضغة والمضغة عظاما وتغطية العظام لحما حتى يستأهل لولوج الرّوح فيه تحتاج إلى مدة طويلة ، وهكذا في الكريمتين المذكورتين بعد تلك الآيات الشارحة لأحوال الإنسان من بدو نشوئه وحدوثه إلى ختم خلقه وتماميّته فإن مرتبة موته بعد طيّ المراتب القبلية ربّما يطول إلى مائة

٥٥

وعشرين سنة أو أكثر بمراتب كثيرة من المدّة المزبورة ومن بعد الموت والفناء من تلك الدار الفانية إلى زمان البعث ويوم الحشر وهو يوم البقاء إلى ما شاء الله فكان العطف بثمّ على ما ينبغي لأنه الموضوع لإفادة التّراخي. فمثل تلك النكت والرموز في الآيات المباركة أكثر من أن تحصى. اللهمّ نبّهنا وفهّمنا ما في كتابك من الأمور الدّقيقة اللّطيفة.

١٧ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ...) أي سبع سماوات ، جمع طريقة ، لأنها طرق الملائكة على ما قيل. أو المراد سبع طبقات بعضها فوق بعض وتسمّى الطبقة التي فوق طبقة أخرى طريقة (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) أي المخلوق جميعا لم نكن (غافِلِينَ) أي تاركين تدبيرهم.

١٨ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ...) أي بمقدار يوافق المصلحة ، أو بتقدير يعمّ نفعه ويؤمن ضرره (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي أثبتناه فيها مددا للينابيع والآبار (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي إذهابه وإفنائه بتصعيد أو تعميق بحيث يتعذّر الاستفادة منه واستخراجه واستنباطه. ولو فعلناه لهلك جميع الحيوانات ولفنيت النباتات ، فنبّه سبحانه بذلك على عظيم نعمته على خلقه بإنزال المطر من السّماء وإثباته في الجبال وهي منابع المياه.

١٩ ـ (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ ...) أي أوجدناها بالمطر وانّما خصّ النخيل والأعناب لأنّها ثمار الحجاز من المدينة والطّائف فذكّرهم بالنّعم الّتي عرفوها وهي النخيل والأعناب. ولكثرة منافع هذين النوعين للناس فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ) اي في الجنات الفواكه الكثيرة من أصناف مختلفة.

٢٠ ـ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ ...) أي وانشأنا لكم بذلك المطر شجر الزيتون ، وخصّ بالذكر لما فيه من العبرة بأنه لا يتعاهده إنسان بالسّقى. وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدّهن الذي تعظم به المنفعة. والطّور اسم جبل ، وسيناء اسم للمكان الذي به هذا الجبل في أصحّ

٥٦

الأقوال وسينا وسينين واحد ، وقيل هما اسمان للجبل وهو جبل بفلسطين وقيل بين مصر وأيلة ومنه نودي موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام. وقرئ سيناء بكسر السين ونسبة خروجها إلى جبل سيناء لأن الشجرة فيه كثيرة ومنه انتشرت في البلاد وانبسطت فيها فيمكن أن يقال أن منبتها الأصيل كان هناك وهذه منفعة من منافع تلك الأرض المقدسة والجبل المبارك (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي تنبت تلك الشجرة المباركة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج ويوقد منه وكونه صبغا أي أداما ، فإن فيه يصبغ الخبز أي يغمس فيه ويؤكل وهذا الذي جعله جامعا للوصفين ، وهو الزيت الذي يعصر من الزيتون ، وثمرة تلك الشجرة التي سماها خالقها بالشجرة المباركة في قوله جلّ وعلا : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) إلخ ... والحاصل أن هذه الأشجار المباركات لعظم منافعها وكثرتها خصّها الله عزوجل بالذكر في مقام بيان نعمه الجليلة على عباده. ومن النعم الّتي خصّها الله تعالى بالذكر للاهتمام بشأنه هي الانعام كما قال :

٢١ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ...) أي فيها دلالة تستدلون بها على قدرة الله تعالى ومن جملتها قوله تعالى (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) من ظهورها فإن عليها تركبون وتأخذون أصوافها وشعورها وأوبارها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من لحومها ودسومها وشحومها وألياتها.

٢٢ ـ (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ ...) أي على بعضها من الإبل والبقر في البرّ والأكثر على أن المراد من مرجع الضمير في عليها هو الإبل لمناسبتها مع الفلك ، ولذا أطلق على الإبل سفينة البرّ كما في قول ذي الرمة ، سفينة برّ تحت خدّي زمامها (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي الإبل والفلك تحملكم في البرّ والبحر وهذه من النعم العظيمة التي لا بد من شكر منعمها وهو الله الذي خلقها. وكانوا قبل هذه النعم يحملون أثقالهم على ظهورهم الى بلاد لم يكونوا بالغيها إلّا بشقّ الأنفس. فالفلك كالإبل في الانتفاع من جهة

٥٧

الحمل وبهذا الوجه جمع بين النعمتين من الإبل والفلك ، وهذا كقوله ، وحملناهم في البر والبحر أي على الإبل والفلك ولما كان البيان في ذكر شمول نعمه على الخلق أتبعه بذكر عمدة انعامه عليهم بإرسال الرّسل فقال تعالى :

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

٥٨

٢٣ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً ...) أي من المرسلين في الأمم الماضية هو نوح ، وهو آدم الثاني لأن الناس بعد الغرق ، من أولاده غالبا على ما أشرنا سابقا والحاصل أنه بعد إرساله عليه‌السلام دعا قومه إلى عبادة الله وإلى توحيده وخوّفهم بقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه ويهلككم؟ فلم يسمعوا دعاءه بل نسبوه إلى الجنون كما أشار سبحانه في الآية الكريمة ٢٥.

٢٤ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) لم يسمعوا كلامه ونصحه ، بل قال الملأ : الجماعة الكافرون من قومه ما هذا ما هذا (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) هو إنسان مثلكم ولا يفرق عنكم ، بل (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) يريد أن يجعل نفسه أفضل منكم مرتبة وأعلى مقاما مع أنه منكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يرسل رسولا فعلا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) من عنده يبلّغون الناس ما يجيئون به من عند ربّهم (ما سَمِعْنا بِهذا) بمثل هذا القول الذي يحمله نوح (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) فلم يقل لنا آباؤنا شيئا يثبت أن الرسول يكون من البشر.

٢٥ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ...) نوح هذا به جنون اعتراه حتى ادّعى هذه الدعوى (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) انتظروا به واصبروا (حَتَّى حِينٍ) إلى وقت ما ، ليذهب جنونه أو يموت ، أو يقضى بيننا وبينه.

٢٦ و ٢٧ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ...) بعد هذا العناد الشديد من قومه ، دعا نوح ربّه أن ينصره على قومه الذين كذّبوا قوله ورفضوا دعوته وسخروا به فدعاه أن يعينه بإهلاكهم (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أنزلنا عليه وحيا من عندنا (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) ابدأ بصناعة السفينة مقدّمة لإهلاك قومك بأعيننا : بمنظر ومرأى منا حتى نراعيك ونحفظك من أن تخطئ فيه أو يفسد عليك مفسد ، أي لا بدّ وأن يكون عملك للسفينة نصب أعيننا (فَأَوْحَيْنا) بأمرنا وتعليمنا كيف تصنع (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بنزول العذاب

٥٩

(وَفارَ التَّنُّورُ) أي أن العلامة بيني وبينك بزمان نزول العذاب هو فوران الماء ونبعه من التنّور. فإذا رأيت الماء يفور منه فاركب أنت ومن آمن بك ـ ومن العجيب أن الذي يخبرك بنبع الماء من التنّور ، هي امرأتك حتى يكون سبب الغرق من موضع الحرق!. فمن كان هذه قدرته ينبغي أن يعبد ويخضع له لا ما يبول الثعلب على رأسه ولا يقدر أن يدفعه. (فَاسْلُكْ فِيها) أي فأدخل فيها (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) اي تأكيد بالدّعاء بإنجائهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) هذه الجملة علة للنهي عن الدّعاء بالإنجاء ، لأنّه قضى عليهم بالغرق كابنه كنعان وأمه واغلة.

٢٨ و ٢٩ ـ (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ ...) يعني إذا صعدت إلى (الْفُلْكِ) أي السفينة ، واستقرّيتم عليها (فَقُلِ) داعيا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) احمد ربّك واشكره لأنه خلّصكم من الذين ظلموكم وسخروا منكم واستخفّوا بكم (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي حين نزولك. وفي الفقيه قال النبي (ص) لعلي (ع) يا علي إذا نزلت منزلا فقل : ألّلهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين وقرئ بفتح الميم وكسر الزاي ، أي إنزالا مباركا أو نزولا مباركا وذلك تمام النجاة. وقيل المنزل المبارك هو السفينة لأنها سبب النجاة ، وقيل المكان المبارك بالمياه والشجر وكثرة النعم هو المراد بالمنزل المبارك الذي دعا للنزول فيه. وبناء على ضمّ الميم كان مصدرا ميميّا بمعنى الإنزال كما فسّرناه أوّلا وثانيا.

٣٠ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ...) أي في إغراق قوم نوح ونجاته وأهله إلّا من سبق عليه القول بإهلاكه من أهله ونجاة المؤمنين به (لَآياتٍ) لأهل العبرة والهداية (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) كلمة إن مخفّفة والمراد بالمبتلين أي المختبرين والممتحنين من عبادنا ليتذكروا أو المصابين قوم نوح بالبلاء العظيم والعذاب الشديد

* * *

٦٠